الجمعة، 22 فبراير 2013

حدث في الرابع عشر من ربيع الآخر


في الرابع عشر من ربيع الآخر من سنة 529 قُتِل في دمشق، عن 23 عاماً، ملك دمشق، شمس الملوك، إسماعيل بن بوري بن الأتابك طُغتكين التركي.
وقُتِل شمس الملوك بأمر والدته التي رأته قد تمادى في غيه وكثر فساده وتواطأ مع الفرنج على بلاد المسلمين، فأمرت غلمانها أن يقتلوه، فقتلوه وأجلست أخاه شهاب الدين محمود بن بوري مكانه، ثم قتل أخوه هذا سنة 533.
وسيرة شمس الملوك وأسرته تعطي فكرة عن حقبة سادت المشرق العربي بل العالم الإسلامي قبل سيطرة نور الدين زنكي ومن بعده صلاح الدين على المشرق العربي، وهي حقبة أشبه ما تكون بما كان عليه أمراء الطوائف في الأندلس من تناحر وحروب واستعانة بالفرنج، ولو لم يقيض الله لها نور الدين زنكي لكانت العاقبة وخيمة.
ولد شمس الملوك في سنة 506، لأب ينتمي إلى أسرة من الملوك الشجعان المجاهدين، وأم صالحة تقية عالمة مدبرة حازمة.
أما أمه فهي الخاتون زُمُرد بنت الأمير جاولي بن عبد الله، الملقبة بصفوة الملك، وهي أخت ملك: دقاق بن تتش الذي ملك دمشق وتوفي سنة 497، وزوجة ملك: بوري بن طغتكين، وأم ملكين إسماعيل ومحمود ابني بوري.
سمعت الحديث واستنسخت الكتب. وحفظت القرآن، وبنت بدمشق مدرسة كبيرة تسمى الخاتونية البرانية -  وقد دَرَست - ووقفتها على الحنفية، وكانت كبيرة القدر وافرة الحرمة، وبعد وفاة زوجها في سنة 526 تزوجها الأتابك قسيم الملك زنكي والد نور الدين في سنة 532 مؤملاً أن يأخذ بسببها دمشق، فلم يظفر بذلك، بل ذهبت إليه إلى حلب ثم عادت إلى دمشق بعد وفاته سنة 541، ثم تقلبت بها الأحوال، فتوجهت إلى بغداد، ثم إلى مكة، وجاورت بالمدينة، وقل ما بيدها، فكانت تغربل القمح والشعير وتطحن وتتقوت بأجرة ذلك، إلى أن توفيت سنة 557 ودفنت بالبقيع.
وكان  جده طُغتِكين الملقب بظهير الدين من مماليك الملك تاج الدولة تُتُش بن ألب أرسلان السلجوقي، وكان مقرّباً من تتش حتى إنه أعتقه وزوّجه بأم ولده دقاق، وكان تتش قد تملك دمشق سنة 471، ثم قُتِل تتش في معركة في إيران مع ابن أخيه بَركْيَارُوق في سنة 488، وخلَّف ولدين: أحدهما فخر الملوك رضوان، والآخر شمس الملوك أبو نصر دُقاق، فاستقل رضوان بمملكة حلب، ودقاق بمملكة دمشق، وصار طغتكين أتابك ملكها دقاق بن تتش، والأتابك: لفظه تركية مركبة من أتا: وهو الأب، وبك: وهو الأمير، وكان الأتابك يكلف من قبل السلطان الحاكم بالوصاية على واحد أو أكثر من أبنائه الذين لم يبلغوا سن الرشد.
ولما مات دقاق سنة 497 أوصى أن يكون طغتكين أيضاً القائم بدولته، وملك دمشقَ بعده ابنُه تُتُش وعمره 12 عاماً، فقام طغتكين بأمره، ثم أراد أن يتولى الملك رجل فاستقدم أخاً لدقاق يدعى أرتاش، وكان مسجوناً ببعلبك، ونصبه ملكاً على دمشق، فبقي ثلاثة أشهر، ثم تضايق من طغتكين وأراد القضاء عليه، فذهب بجهله إلى الملك الفرنجي بغدوين صاحب القدس Baldwin I، لكي ينصره، فلم يستجب له، فتوجّه شرقاً إلى العراق فهلك في رحلته.
وتملك ظهير الدين طغتكين دمشق وبقي فيها إلى أن أدركته الوفاة سنة 522، فكان عملياً حاكماً لدمشق مدة 35 عاماً، وكان عاقلاً خبيراً، حسن السيرة في رعيته، مؤثراً للعدل، شهماً مهيباً، ظهيراً للدين مثل اسمه، شديداً على الفرنج والمفسدين، كثير الغزوات والجهاد للفرنج، وتحالف مع ملوك المدن الإسلامية من حوله في الموصل وماردين، ومع الفاطميين في مصر لمقاومة الفرنج ودفع اعتدائهم، ولما توفي حزن عليه أهل دمشق بأسرهم.
ونذكر على سبيل المثال إحدى الوقائع التي خاضها هذا القائد الشجاع، ففي سنة 510 جاء إلى دمشق سيف الدين آقسنقر البرسقي صاحب الموصل مع بعض عسكره لمعونة ظهير الدين على الفرنج، وبالغ طغتكين في إكرامه وتعظيمه.
وصادف في ذلك الوقت ورود الخبر أن الفرنج في طرابلس ينوون مهاجمة سهل البقاع، فاجتمع رأي طغتكين وآقسنقر على مهاجمتهم على الفور، فسارا بقواتهما وأغذا السير ليلاً ونهاراً بحيث هجموا عليهم بغتة وهم في مخيمهم، فلم يتمكنوا من ركوب خيلهم ولا أخذ سلاحهم، فمنحهم الله النصر عليهم، وقتلوا كثيراً من الرجالة وأغلبهم من المزراعين والعمال الذي حشروا لهذا الهجوم، وأسروا وجوه فرسانهم، وأفلت منهم مقدمهم بدران بن صنجيل Bertrand son of Raymond St. Gillesونفر يسير ممن نجا به جواده، وقُدِرَ عدد القتلى من الفرنج بما يزيد على ثلاثة آلاف نفس، ولم يقتل من المسلمين أحد، وعاد ظهير الدين وسيف الدين آقسنقر في عسكريهما إلى دمشق مسرورين بالظفر ووصلا البلد بالأسرى ورؤوس القتلى، وخرج الناس من البلد لمشاهدتهم وحمدوا الله على النصر المبين.
وأقام آقسنقر البرسقي أياماً بعد ذلك، وتوجه عائداً إلى بلده بعد استحكام المودة والمصافاة بينه وبين ظهير الدين، واتفقا على الاعتضاد في الجهاد متى حدث أمر أو حزب خطب.
وملك بعد طُغتكين ابنُه بوري أكبر أولاده بوصية منه، وتولى بوري الملك وعمره 44 عاماً، وكان كذلك كثير الجهاد، شجاعاً، مقداماً، سدَّ مسد أبيه، وتفوق عليه، ومن أول التحديات التي واجهها تحالف الإسماعيلية مع الفرنج والذي كادت معه أن تقع دمشق بيد الفرنج.
وكان أحد دعاة الإسماعيلية ويدعى بهرام الأسدآبادي قد جاء إلى الشام وتقرب من طغتكين حتى ولاّه بانياس، وملك بهرام بعدها عدّة حصون بساحل الشام، وأقام له داعياً بدمشق فكثر أتباعه بها، وصار منهم طاهر بن سعد المزدقاني وزير طغتكين وابنه بوري، وقُتِل بهرام في معركة مع قبائل عربية في وادي التيم، فتولى الحكم من بعده إسماعيل العجمي.
وجرت مراسلات بين الفرنج والإسماعيليين على أن يسلِّم الوزير المزدقاني دمشق  للفرنج ويعوّضوهم عنها بصور، وقرر مع الباطنيّة بدمشق أن يغلقوا أبواب الجامع والناس في الصلاة، ووعد الفرنج أن يهجموا على البلد ساعتئذ، وبلغت أخبار المؤامرة بوري فقتل الوزير وعلّق رأسه على باب دمشق، وقتل أشياعه فيها، وعين وزيراً له من خيار الناس هو أحمد بن عبد الرزاق الملقب بكريم الملك، وتوفي في سنة 525.
ولما سمع  إسماعيل الداعي المقيم ببانياس بفشل المؤامرة ومقتل أشياعه، أُسقِط في يده وانخذل وذل، وأدرك أن لا نجاة له إن أقام ببانياس، فأنفذ إلى الفرنج يبذل لهم تسليم بانياس إليهم ليأمن بهم، فسلمها إليهم وذهب هو وجماعة إلى أراضي الفرنج، على غاية من الذلة، ثم مات إسماعيل بعلة الذَرَب في سنة 524.
وحشد الفرنج جيشاً يتكون من قوات من إمارات الرها وأنطاكية وطرابلس والساحل، وقدر عدده بما يزيد على ستين ألف فارس وراجل وأكثرهم الرجالة، واستعد لهم بوري بعسكره وضم له قوات من البادية والتركمان، وأرسل في طلب النجدات من العراق، ووصل الجيش الفرنجي وخيم بظاهر دمشق ولكنه لم يهاجمها ولم يشتبك مع جيش بوري، فاستغرب ذلك بوري واستطلع الخبر فعرف أنهم يعانون من نقص في الأعلاف وأنهم سيروا قوات إلى سهول حوران لتأتيهم بها مع أمداد من الفرنج في فلسطين، فجرد بوري قوة مشتركة من عناصر جيشه وأرسلها على وجه السرعة إلى حوران فاشتبكت معهم في معركة قاسية وتم لها النصر في النهاية، ولما بلغ خبر الكسرة إلى الفرنج المعسكرين خارج دمشق بادروا بالانسحاب وحرقوا ما لم يستطيعوا حمله، وانطلق الجيش وراءهم فقتلوا وأسروا.
وكان ابن الصباح مقدم الإسماعيلية في قلعة الألموت بإيران قد ندب طائفة لقتل بوري بعد فتكه بأتباعه في دمشق، وفي سنة 525 وثب شخصان يرتديان زي الجند على بوري، فضربه أحدهما يقصد رأسه، فجرحه في رقبته جرحا سليما، وضربه الآخر بسكين في خاصرته، فمرت بين الجلد واللحم، وشفي بوري من الجراح، ثم ما لبث أن توفي بعد ذلك بسنة، ويعزو المؤرخون وفاته في سنة 526 إلى أن جرحه قد انتقض عليه، ووصى بوري بالملك بعده لولده شمس الملوك إسماعيل، ووصى بمدينة بعلبك وأعمالها لولده شمس الدولة محمد.
تملك شمس الملوك بعد وفاة أبيه في سنة 526، وكان في العشرين من عمره، وأظهر عزيمة ماضية وشجاعة فائقة في بسط سلطانه وتوطيد ملكه واستعادة ما فقده والده من البلاد، فلم يمض على توليه الحكم أربعة شهور إلا وشنَّ أول حملاته واستولى على حصن اللبوة وحصن رأس، ثم حاصر أخاه في بعلبك.
وكان سبب ذلك أنه بلغه أن أخاه شمس الدولة محمداً، صاحب بعلبك، قد راسل مستحفظي الحصن واستمالهما إليه، فسلما الحصنين إليه، وجعل فيهما من الجند ما يكفيهما، فلم يُظهر شمس الملوك تأثراً بذلك  بل راسل أخاه بلطف يقبح هذه الحال، ويطلب أن يعيدهما إليه، فلم يفعل، فأغضى على ذلك، وتجهز من غير أن يعلم أحداً.
وخلال أيام سار هو وعسكره شمالاً ثم اتجه غرباً فلم يشعر من بحصن اللبوة إلا وقد نزل عليهم، وزحف لوقته، فلم يتمكنوا من نصب منجنيق ولا غيره، فطلبوا الأمان، فبذله لهم، وتسلم الحصن من يومه، وسار من آخر النهار إلى حصن راس، فبغتهم، فاستسلموا،  وتسلم الحصن وجعل في الحصنين من يحفظهما.
ثم رحل إلى بعلبك وحصرها، وفيها أخوه شمس الدولة محمد، وقد استعد، وجمع في الحصن ما يحتاج إليه من رجال وذخائر، فحصرهم شمس الملوك، وزحف في الفارس والراجل، وقاتله أهل البلد على السور، ثم زحف عدة مرات، فملك البلد بعد قتال شديد وقتلى كثيرة، وبقي الحصن وفيه أخوه، فقاتله ونصب المنجانيق ولازم القتال، فلما رأى أخوه شمس الدولة شدة الأمر أرسل يبذل الطاعة، ويسأل أن يُقَرَّ على ما بيده، وجعله أبوه باسمه، فأجابه إلى مطلوبه، وأقر عليه بعلبك وأعمالها، وتحالفوا وعاد شمس الملوك إلى دمشق وقد استقامت له الأمور.
وبعد شهرين وفي أوائل سنة 527 اتجه شمس الملوك لاستعادة حصن بانياس الذي كانت الإسماعيلية قد تنازلت عنه للفرنج سنة 523، وواته الفرصة بسرعة لأن الفرنج نقضوا الهدنة التي بينه وبينهم واستضعفوه وطمعوا فيه، فتعرضوا إلى أموال جماعة من تجار دمشق بمدينة بيروت وأخذوها، فشكا التجار إلى شمس الملوك، فراسل الفرنج في إعادة ما أخذوه، وكرر القول فيه، فلم يردوا شيئاً، فحملته الأنفة والغيظ من هذه الحالة على أن جمع عسكره وتأهب، ولا يعلم أحد أين يريد.
ثم سار ونزل على بانياس، وقاتلها لساعته، وزحف إليها زحفاً متتابعاً، وكانوا غير متأهبين، وليس فيها من المقاتلة من يقوم بها، واقترب بنفسه من سور المدينة وترجل عن جواده فترجل الجنود بأَسْرِهم لترجله، ورشقوا المدافعين على السور بالنشاب فاستتروا ولم يبق أحد يظهر برأسه عليه لكثرة الرماة، ووصلوا إلى السور فنقبوه ودخلوا البلد عنوة، والتجأ من كان من جند الفرنج إلى الحصن وتحصنوا به، فقتل من البلد كثير من الفرنج، وأسر كثير، ونهبت الأموال، وقاتل شمس الدين القلعة قتالاً شديداً ليلاً ونهاراً، فملكها بعد يومين بالأمان، وعاد إلى دمشق ظافراً بعد حوالي عشرة أيام من خروجه، وكان الفرنج لما سمعوا نزوله على بانياس شرعوا يجمعون عسكراً يسيرون به إليه، فأتاهم خبر فتحها، فتركوا ذلك.
وبعد قرابة ستة أشهر شنَّ شمس الملوك حملة أخرى أخذ فيها مدينة حماة وقلعتها، وكانت تخضع للأتابك زنكي بن آقسنقر والد نور الدين، أخذها سنة 523 من والده بوري بن طغتكين وأسر في حينها أخاه سونج بن بوري.

فقد بلغ شمس الملوك أن الخليفة المسترشد بالله في بغداد قد توجه لحصار الموصل عاصمة زنكي وقاعدة ملكه، فاستغل فرصة انشغال الخواطر بهذا الحدث وترقبها لنتائجه، فسار بجيشه في همة وعزيمة في رمضان إليها، ولم يصغ لإجماع حاشيته على الإشارة له بتركها لأن والي حماة كان - إزاء أخبار حصار سيده في الموصل - قد تحصن واستكثر من الرجال والذخائر.
ولما وصل إليها في يوم العيد زحف إليها من وقته، فتحصنوا منه وقاتلوه فعاد عنهم ذلك اليوم، فلما كان الغد بكر إليهم وزحف إلى البلد من جوانبه فملكه قهراً وعنوة، وطلب من به الأمان فأمنَّهم، وحصر القلعة، فعجز الوالي بها عن حفظها فسلمها إليه، فاستولى عليها وعلى ما بها من ذخائر وسلاح وغير ذلك، وتابع استغلال انتصاره في ضم بلد آخر مهم في المنطقة، وهو قلعة شيزر وبها صاحبها من بني منقذ فحصرها ونهب نواحيها، فراسله صاحبها وصانعه بمال حمله إليه، ثم عاد شمس الملوك إلى دمشق بعد هذه الحملة التي دامت قرابة الشهر.
ولم يمض شهران حتى شن حملة جديدة في أول سنة 528 على جبل الشقيف المطل على بيروت وصيدا، وكان بيد الضحاك بن جندل رئيس وادي التيم، قد تغلب عليه وامتنع به، فتحاماه المسلمون والفرنج، يحتمي على كل طائفة بالأخرى، فسار شمس الملوك إليه وأخذه منه في أيام، وعَظُمَ أخذُه على الفرنج لأن الضحاك كان لا يتعرض لشيء من بلادهم المجاورة له.
وأراد الفرنج ردع شمس الملوك، فقرروا شن حملة على حوران في جنوبي دمشق ومصدر الغلال الرئيس في المنطقة، فجمعوا عساكرهم وساروا إلى حوران فخربوا ما استطاعوا الوصول إليه، ونهبوا ما أمكنهم نهبه نهبة عظيمة.
وكان شمس الملوك على معرفة باستعدادهم وحشدهم، فجمع جيوشه وحضر عنده جمع كثير من التركمان وغيرهم، فنزل بإزاء الفرنج، وجرت بينهم مناوشة عدة أيام، ثم إنه غافل الفرنج وهاجم منطقة الجليل الأعلى في حركة ذكية جسورة، ذلك أنه اختار مجموعة منتخبة من عسكره، وترك الباقي قبالة الفرنج، وقصد - وهم لا يشعرون - طبرية والناصرة وعكا وما يجاورها من البلاد، فنهب وخرب وأحرق وأهلك أكثر البلاد وسبى النساء والذرية، وامتلأت أيدي من معه من الغنائم.
واتصل الخبر بالفرنج، فانزعجوا ورحلوا في الحال لا يلوي أخ على أخيه، وتجنب شمس الملوك الاصطدام مع الفرنج الموتورين، وعاد إلى عسكره على غير الطريق الذي سلكه الفرنج، فوصل سالماً ووصل الفرنج إلى بلادهم ورأوها خراباً ففت في أعضادهم، وعادوا فراسلوه بطلب تجديد الهدنة، فوافقهم على ذلك وجددت في أواخر سنة 528.
على أن هذا القائد الشاب، على شجاعته وإقدامه، كان حاكماً سيئاً يعامل رعيته بالشدة والعسف، ويصادر العمال وغيرهم من أعيان البلد، ويبالغ في العقوبات لاستخراج الأموال، وظهر منه بخل زائد ودناءة نفس بحيث أنه لا يأنف من أخذ الشيء الحقير بالعدوان، فكرهه أهل بيته وأصحابه ورعيته.
وبسبب ذلك تعرض شمس الملوك في اوائل سنة 528 لمحاولة اغتيال قام بها أيلبا أحد مماليك جده طُغتِكين، وذلك حين خرج إلى الصيد بناحية صيدنايا غربي دمشق، فقد انتهز أيلبا انفراد شمس الملوك عن غلمانه وخواصه، فجرى إليه وهو على فرسه وضربه بالسيف يريد قطع رأسه، فانقلب السيف من يده ولم يعمل شيئاً، ورمى شمس الملوك بنفسه إلى الأرض في الحال، فضربه القاتل ثانيةً فوقعت الضربة في عنق الفرس فقتلته، ثم وصل الحرس وتوافدوا، فانهزم  القاتل وأنهض في أثره من الخيل من يتعقبه ويطلبه، فلحقوه فجرح جماعةً بالنشاب إلى أن أمسكوه فلما أحضروه إلى شمس الملوك وقرره وسأله: ما الذي حملك على هذا الفعل؟ فقال: لم أفعله إلا تقرباً إلى الله تعالى بقتلك وراحة الناس منك لأنك قد ظلمت المساكين والضعفاء من الناس والصناع والمتعيشين والفلاحين وامتهنت العسكر والرعية. وذكر القاتل جماعةً من الغلمان أبرياء أوقعهم في التهمة بأنهم وافقوه على هذا، فقَبَض عليهم شمس الملوك وأضافهم إليه وقتل الجميع في الحال، ثم اتهم أخاه الكبير سونج بأنه كان وراء محاولة اغتياله فقتله بأن سجنه في بيت ومنع عنه الطعام حتى مات.
واستهجن الناس قتل هؤلاء الغلمان بقول الجاني من غير بينة قامت ولا دلالة ظهرت، وأنه اتهم أخاه سونج وقتله أشنع قتلة، وزاد في استياء الناس أن شمس الملوك استخدم كردياً من ناحية حمص يعرف ببدران الكافر، لا يعرف الإسلام ولا قوانينه، ولا الدين وشروطه، ولا يرقب في مؤمن إلاًّ ولا ذمة، كان يستخرج مال المصادَرين من كبار الموظفين والأغنياء بأساليب قبيحة وأنواع مستبشعة في التهديد والعقوبات.
ويبدو أن شمس الملوك بعد هذه الحوادث قد سيطرت عليه هواجس نفسية سوداوية، فبدأ يتوهم خيانة كل من حوله، ونصحته أمه فتهددها بالقتل، وتبين أنه نقل كل أمواله من دمشق إلى قلعة صرخد في حوران، وكان أمير الموصل عماد الدين زنكي لا يزال يطمح إلى الاستيلاء على دمشق، فلما عرف بهذه الأخبار عزم على قصدها وبلغت الأخبار بذلك إلى دمشق، فكتب شمس الملوك إلى عماد الدين زنكي، يحثه على سرعة الوصول إليها ليسلمها إليه طائعاً بشرط أن يمكنه من الانتقام من كل من يكرهه من المقدمين والأمراء والأعيان بإهلاكهم وأخذ أموالهم وإخراجهم من منازلهم، كل ذلك لما سيطر عليه من الأوهام والهذيان النفسي، ولما تردد زنكي في الاستجابة لهذه الدعوة غير المتوقعة، تابع في إرسال الرسل إلى زنكي يحثه على الوصول إليه وكتب له بيده يقول: إن تأخرت في المجيء سلمت دمشق إلى الفرنج بما فيها!
فسار زنكي إلى دمشق، وظهر خبر مسيره فيها فامتعض أصحاب أبيه وجده لذلك وأقلقهم، وأنهوا الحال لوالدته فساءها وأشفقت منه، ووعدتهم بالراحة من هذا الأمر، ثم إنها ارتقبت فرصة خلوه من غلمانه، فلما أمكنتها أمرت غلمانها بقتله فقتل في الرابع عشر من ربيع الآخر من سنة 529، وأمرت بإلقاءه في موضع من الدار ليشاهده غلمانه وأصحابه، فلما رأوه قتيلاً سُّروا لمصرعه وبالراحة من شره.
وتملك بعد شمس الملوك أخوه محمود الملقب بشهاب الدين، ولم يمض أسبوعان إلا وقد وصل زنكي إلى دمشق، وكان لما عبر الفرات أرسل رسلاً إلى دمشق لترتيب تسليمها، فوصلوا وقد فات الأمر، إلا أن أخاه محمود أكرمهم وأحسن إليهم وأعادهم بأجمل جواب، وعرَّف زنكي قتل شمس الملوك، وأن الملك قد استقر له والكلمة متفقة على طاعته، فلم يحفل زنكي بهذا الجواب، وسار إلى دمشق فنازلها، وأجفل أهل النواحي إلى دمشق، واجتمعوا فيها على محاربته.
وزحف زنكي على دمشق فقاتله أهلها فرأى قوة ظاهرة وشجاعة عظيمة واتفاقاً تاماً على محاربته، وبينما هو يحاصرها وصل أبو بكر بن بشر الجزري رسولاً من الخليفة المسترشد بالله بخُلَعٍ له ويأمره بصلح صاحب دمشق والرحيل عنها، فصالحه ورحل.
ولم تمض شهور حتى وقعت اضطرابات في سنة 530 عندما قام الأمير بزواش الأتابكي بقتل الحاجب يوسف بن فيروز، وكان أكبر حاجب في الدولة البورية، وكان الحاجب قد خاف على نفسه من شمس الملوك، وهرب منه إلى تدمر، فلما كانت هذه السنة التمس أن يرجع إلى دمشق، فتوجس الأمراء والمماليك من عودته لأنه كان يسيء إليهم ويعاملهم أقبح معاملة، وكان له دور شرير بعد محاولة اغتيال شمس الملوك، إذ أشار عليه بقتل بعض الأبرياء وبقتل أخيه سونج، فصاروا كلهم له أعداء مبغضين.
فلما طلب الآن الحضور إلى دمشق بدأ في إصلاح علاقاته معهم، وحلف لهم أنه لا يتولى من الأمور شيئاً، ولكنه ما إن عاد حتى بدأ يتدخل في كثير من الأمور، فاتفقوا على قتله، فقتله بزواش ثم انزوى مع المماليك إلى ظاهر دمشق وطالبوا بتغيير كثير من الأمور، فأجابهم محمود إلى بعضها، فلم يقبلوا منه وساروا إلى بعلبك فصاروا مع أخيه شمس الدولة محمد، والتحق بهم كثير من التركمان وغيرهم، وشرعوا في العيث والفساد، واقتضت الحال مراسلتهم وملاطفتهم وإجابتهم إلى ما طلبوا، وصار بزاوش مقدم العسكر وإليه الحل والعقد.
وفي سنة 532 أرسل عماد الدين زنكي إلى شهاب الدين يخطب إليه أمه زمرد خاتون ليتزوجها، وحُمِلتْ خاتون إليه في رمضان، ويعتقد بعض المؤرخين أن ما حمله على التزوج بها ما رأى من تحكمها في دمشق فظن أنه يملك البلد بالاتصال بها، فلما تزوجها خاب أمله ولم يحصل على شيء، فأعرض عنها.
ولم يطل الأمر بأخيه محمود فقد قتل في أواخر سنة 533، قتله ثلاثة من غلمانه غيلة على فراشه، فجاء أخوه جمال الدين محمد بن بوري من بعلبك وكان صاحبها، فملك دمشق وأقام بها إلى أن توفي سنة 534، وتولى بعده الحكم ابنه مجير الدين أبق بن محمد بن بوري بن طغتكين، إلى أن نزل عليها نور الدين محمود بن زنكي في سنة 549 وأخذها منه، فانتهى بذلك حكم الأسرة في دمشق.

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer