الجمعة، 26 يونيو 2015

حدث في العاشر من رمضان

في العاشرمن رمضان في السنة الثامنة للهجرة، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصد مكة في عشرة آلاف، بعد أن نقضت قريش صلح الحديبية، واستخلف على المدينة أبا رُهْم كلثوم بن حصين الغفاري، وفيما يلي وصف لبعض ما جرى في هذا الصدد مستقى بعضه من سيرة ابن هشام، وأغلبه من مغازي الواقدي وله أمثال تعضده في كتب السيرة.
لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العَرْج، وهو واد يبعد 110 كيلاً جنوبي المدينة، نظر إلى كلبةٍ تهِرِّ عن أولادها، وهُنَّ حولها يرضعنها، فأمر جميل بن سراقة رضي الله عنه أن يقوم حذاءها، لا يَعرِض لها أحدٌ من الجيش، ولا لأولادها، فلما كانوا بين العرج والطُّلوب أُتوا بعين - جاسوس - من هوازن، فاستخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره أن هوازن أرسلته يستطلع خبر الرسول إن كان يغزوها، وأنها تجمع له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حسبنا الله ونعم الوكيل. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد أن يحبسه لئلا يذهب فيشيع الخبر في الناس.
وخرج رسول الله صائماً، حتى بلغ الكَديدَ بين عُسفان وأَمَج، وبلغه أن الناس شق عليهم الصيام، وقيل له: إنما ينظرون فيما فعلت، فلما استوى على راحلته بعد العصر دعا بإناء من لبن، أو ماء، فوضعه على راحلته ليراه الناس، فشرب فأفطر، فناوله رجلا إلى جنبه فشرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس صام، فقال: أولئك العصاة، أولئك العصاة. فلم يزل مفطرا حتى انسلخ الشهر.
وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن صيام، فنزلنا منزلاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفِطرُ أقوى لكم. وكانت رخصةً، فمنّا من صام، ومنا من أفطر، ثم نزلنا منزلاً آخر، فقال: إنكم مصبّحو عدوكم، والفِطر أقوى لكم، فأفطِروا. فكانت عزيمة، فأفطرنا.
فلما نزل مَرّ الظَّهْران، ومعه من بني سليم ألف رجل، ومن مُزَيْنة ألف رجل، ومن غِفار أربعمئة، ومن أسلم أربعمئة، وطوائف من قيس وأسد وتميم وغيرهم، ومن سائر القبائل أيضاً جموع.
وقد أخفى الله تعالى عن قريش الخبر لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أنهم وجسون خائفون؛ وقد خرج أبو سفيان بن حرب، وبُديل بن ورقاء، وحكم بن حزام، يتجسسون الأخبار.
وكان العباس بن عبد المطلب هاجر في تلك الأيام، فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحُليفة، فبعث ثِقْلَه إلى المدينة، وانصرف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غازيا، فالعباس من المهاجرين من قبل الفتح، ورُويَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: هجرتك يا عم آخر هجرة، كما أن نبوتي آخر نبوة.
وذُكر أيضاً أن أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وهو ابن عم الرسول وأخاه من الرضاعة، ومعه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، أخو أم سلمة أم المؤمنين، لقياه بنِيق العُقاب مهاجرَين؛ فاستأذنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يأذن لهما، وتألم مما كان عليه أبو سفيان من عداوة له، فكلمته أم سلمة فأذن لهما، فأسلما.
فلما نزلوا بمَر الظهران أسفِت نفس العباس على ذهاب قريش، إن فجئهم الجيش قبل أن يأخذوا لأنفسهم فيستأمنوا، فركب بغلة النبي صلى الله عليه وسلم ونهض، فلما أتى الأراك وهو يطمع أن يرى حطّاباً أو صاحب غنم يأتي مكة فينذرهم؛ فبينما هو يمشي كذلك، إذ سمع صوت أبي سفيان وبديل بن ورقاء، وهما يتساءلان وقد رأيا نيران عسكر النبي صلى الله عليه وسلم، وبُديل يقول لأبي سفيان: هذه والله نيران خُزاعة. فيقول له أبو سفيان: خزاعة أقل وأذل من أن تكون لها هذه النيران. فلما سمع العباس كلامه ناداه: يا أبا حنظلة. فميز أبو سفيان صوته، فقال: أبو الفضل؟ قال: نعم. فقال له أبو سفيان: ما الشأن فداك أبي وأمي؟ فقال له العباس: ويحك يا أبا سفيان، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، واصباح قريش! فقال له أبو سفيان: وما الحيلة؟ فقال له العباس: والله إن ظفر بك ليقتلنك، فارتدِفْ خلفي وانهض معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأردفه العباس، فأتى به العسكر، فلما مر على نار عمر، نظر عمر إلى أبي سفيان فميزه، فقال: أبو سفيان عدو الله، الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد. ثم خرج يشتد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسابقه العباس، فسبقه العباس على البغلة، وكان عمر بطيئاً في الجري، فدخل العباس ودخل عمر على أثره، فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بلا عقد، فأذن لي أضرب عنقه. فقال العباس: يا رسول الله، قد أجرتُه. فرادّه عمرُ الكلام، فقال العباس: مهلاً يا عمر، فلو كان من بني عَدي بن كعب ما قلتَ هذا، ولكنه من بني عبد مَناف. فقال عمر: مهلاً، فوالله لإسلامُك يوم أسلمتَ  كان أحب إليّ من إسلام الخطاب لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفتُ أن إسلامَك كان أحبَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب.
وروي عن ابن عباس عن العباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: اذهب به، فقد أجرته لك، فليبت عندك حتى تغدو به علينا إذا أصبحت. قال العباس: فلما أصبحت غدوت به، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ويحك، يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟ قال: بأبي أنت، ما أحلمك وأكرمك وأعظم عفوك، قد كان يقع في نفسي أنه لو كان مع الله إله لقد أغنى عني شيئا بعد. قال: يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ قال بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأعظم عفوك أما هذه؛ فوالله إن في النفس منها لشيئا بعد. قال العباس فقلت: ويحك، اشهد أن لا إله إلا الله واشهد أن محمدا عبده ورسوله قبل - والله - أن تُقتل! فقال: فشهد شهادة الحق، فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. فقال العباس: : يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر، فاجعل له شيئاً. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: من دخل دار حَكيم بن حِزام فهو آمن - وهى بأسفل مكة - ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن - وهى بأعلى مكة - ومن أغلق بابه فهو آمن
فلما جاء الصبح قام المسلمون إلى طُهورهم، فقال أبو سفيان: يا أبا الفضل! ما للناس؟ أُمِروا فيَّ بشيء؟ قال: لا، ولكنهم قاموا إلى الصلاة، وأمر العباس أبا سفيان فتوضأ، وذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة كبّر وكبّر الناس، ثم ركع، فركعوا، ثم رفع، فرفعوا، ثم سجد فسجدوا، فقال أبو سفيان: ما رأيت كاليوم طاعة! قومٌ جَمَعَهم من ههنا وههنا، ولا فارس الأكارم، ولا الروم ذات القرون بأطوع منهم له، يا أبا الفضل أصبح ابن أخيك والله عظيم الملك، فقال العباس: إنه ليس بملك، ولكنها النبوة، قال: أوَ ذاك.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس بعد ما خرج: احبِسه بمضيق الوادي إلى خَطْم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها. وعبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، أشبه ما يكون بالعروض العسكرية اليوم، ومرت القبائل على قادتها، والكتائب على راياتها، فكان أول من قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد في بني سليم، وهم ألف، قال  أبو سفيان: من هؤلاء؟ قال العباس: خالد بن الوليد. قال: الغلام؟ قال نعم. فلما حاذى خالد العباس وإلى جنبه أبو سفيان، كبر ثلاثا، ثم مضوا، ثم مر على إثره الزبير بن العوام في خمسمئة، منهم مهاجرون وأفناء العرب، ومعه راية سوداء، فلما حاذى أبا سفيان كبر ثلاثا وكبر أصحابه، فقال: من هذا؟ قال: الزبير بن العوام. قال ابن أختك؟ قال نعم. ومر بنو غفار في ثلاثمئة يحمل رايتهم أبو ذر الغفاري فلما حاذوه كبروا ثلاثا، قال: يا أبا الفضل من هؤلاء؟ قال: بنو غِفار. قال: مالي ولبني غفار. ثم مضت أسلم في أربعمئة فلما حاذوه كبروا ثلاثا، قال: من هؤلاء؟ قال أسلم. قال: يا أبا الفضل مالي ولأسلم ما كان بيننا وبينها مَرَة قط. قال العباس: هم قوم مسلمون دخلوا في الإسلام. ثم مرت بنو عمرو بن كعب في خمسمئة، قال: من هؤلاء؟ قال: بنو كعب بن عمرو. قال: نعم، هؤلاء حلفاء محمد فلما حاذوه كبروا ثلاثا، ثم مرت مُزينة في ألف فيها ثلاثة ألوية وفيها مئة فرس يحمل ألويتها النعمان بن مقرن، وبلال بن الحارث، وعبد الله بن عمرو، فلما حاذوه كبروا، فقال: من هؤلاء؟ قال مزينة. قال: يا أبا الفضل مالي ولمزينة قد جاءتني تُقَعْقِعُ من شواهقها. ثم مرت جهينة في ثمانمئة مع قادتها، فيها أربعة ألوية، فلما حاذوه كبروا ثلاثا، ثم مرت كنانة، بنو ليث، وضمرة وسعد بن بكر في مئتين، فلما حاذوه كبروا ثلاثا، فقال: من هؤلاء؟ قال: بنو بكر. قال: نعم؛ أهل شؤم والله! الذين غزانا محمد بسببهم، أما والله ما شُووِرتُ فيه ولا علمتُه، ولقد كنت له كارها حيث بلغني، ولكنه أمرٌ حُم قال: العباس قد خار الله لك في غزو محمد صلى الله عليه وسلم، ودخلتم في الإسلام كافة. ثم مرت أشجع،  وهم آخر من مر وهم ثلثمئة معهم لواءان، فقال أبو سفيان: هؤلاء كانوا أشد العرب على محمد! فقال العباس: أدخل الله الإسلام في قلوبهم، فهذا من فضل الله عز وجل.
فسكت ثم قال: ما مضى بعد محمد؟ قال العباس: لم يمض بعد؛ لو رأيت الكتيبة التي فيها محمد صلى الله عليه وسلم رأيت الحديد والخيل والرجال وما ليس لأحد به طاقة قال: أظن والله يا أبا الفضل ومن له بهؤلاء طاقة؟ فلما طلعت كتيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم الخضراء طلع سواد وغبرة من سنابك الخيل، وجعل الناس يمرون، كل ذلك يقول: ما مر محمد؟ فيقول العباس: لا. حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير على ناقته القصواء بين أبي بكر وأُسيد بن حضير وهو يحدثهما، قال العباس: هذا رسول الله في كتيبته الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار، فيها الرايات والألوية، مع كل بطن من الأنصار راية، ولواء في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق ولعمر بن الخطاب رضي الله عنه فيها زجل، وعليه الحديد، بصوت عال وهو يزعجها، فقال أبو سفيان: يا أبا الفضل من هذا المتكلم؟ قال: عمر بن الخطاب. قال: لقد أمِرَ أمرُ بني عدي بعد - والله - قلة وذلة. فقال العباس: يا أبا سفيان، إن الله يرفع من يشاء بما يشاء، وإن عمر ممن رفعه الإسلام. ويقال كان في الكتيبة ألف دارع.
وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رايته سعد بن عبادة وهو أمام الكتيبة، فلما مر سعد براية النبي صلى الله عليه وسلم نادى: يا أبا سفيان؛ اليوم يوم الملحمة! اليوم تستحل الُحرمة! اليوم أذل الله قريشا! فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا حاذى أبا سفيان ناداه: يا رسول الله أمرت بقتل قومك؟ زعم سعد ومن معه حين مر بنا قال: يا أبا سفيان؛ اليوم يوم الملحمة! اليوم تستحل الُحرمة! اليوم أذل الله قريشا! وإني أُنشدك الله في قومك، فأنت أبر الناس وأرحم الناس وأوصل الناس.
قال عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان: يا رسول الله ما نأمن سعدا أن يكون منه في قريش صولة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اليوم يوم المرحمة، اليومَ أعز الله فيه قريشا. وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد فعزله وجعل اللواء إلى قيس بن سعد، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اللواء لم يخرج من سعد حين صار لابنه، فأبى سعد أن يسلِّم اللواء إلا بأمارة من النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمامته، فعرفها سعد فدفع اللواء إلى ابنه قيس.
قال العباس لأبي سفيان: فانْجُ ويحك فأدرك قومك قبل أن يُدخَل عليهم. فخرج أبو سفيان فتقدم الناس كلهم حتى دخل من كُداء، حتى انتهى إلى هند بنت عتبة، فأخذت برأسه فقالت: ما وراءك؟ قال هذا محمد في عشرة آلاف عليهم الحديد وقد جعل لي: من دخل داري فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن طرح السلاح فهو آمن. قالت: قبحك الله رسولَ قوم! وجعل يصرخ بمكة: يا معشر قريش، ويحكم إنه قد جاء ما لا قبل لكم به؛ هذا محمد في عشرة آلاف عليهم الحديد فأسلِموا، قالوا: قبحك الله وافد قوم! وجعلت هند تقول: اقتلوا وافدكم هذا، قبحك الله وافد قوم. ويقول أبو سفيان: ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم، رأيتُ ما لم تروا رأيت الرجال والكراع والسلاح، فلا لأحد بهذا طاقة.
وقد كان صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو قد دعوا إلى قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضَوَى إليهم ناس من قريش وناس من بني بكر وهُذيل، وتلبسوا السلاح ويقسمون بالله لا يدخلها محمد عنوة أبدا، فكان رجل من بني الديل يقال له حماس بن قيس بن خالد الديلي، لما سمع برسول الله جلس يصلح سلاحه فقالت له: امرأته لمن تُعِد هذا؟ قال لمحمد وأصحابه، فإني أرجو أن أخدُمَك منهم خادما فإنك إليه محتاجة. قالت: ويحك، لا تفعل ولا تقاتل محمدا، والله ليضلن هذا عنك لو رأيت محمدا وأصحابه. قال: سترين.
وانتهى المسلمون إلى ذي طُوى، فوقفوا ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تلاحق الناس، وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء وهو على ناقته القصواء معتجرا بشقة بُرد حِبرة، وإن عُثنونه ليمس واسطة الرحل أو يقرب منه تواضعا لله تعالى حين رأى ما رأى من فتح الله وكثرة المسلمين، ثم قال: العيشُ عيش الآخرة. قال: وجعلت الخيل تمعج بذي طوى في كل وجه، ثم ثابت وسكنت حيث توسطهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل من الأنصار إلى جنبه فقال: كيف قال حسان بن ثابت؟ فقال:
عدمنا خيلنا إن لم تروها ... تثير النقع من كتفي كَداء
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام أن يدخل من كُدى، وأمر خالد بن الوليد أن يدخل من الليط، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل من كَداء، والراية مع ابنه قيس، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل من أذاخر.
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال، وأمر بقتل ستة نفر وأربع نسوة؛ عكرمة بن أبي جهل، وهبار بن الأسود، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، ومِقْيَس بن صُبابة الليثي، والحويرث بن نقيذ، وعبد الله بن هلال بن خطل الأدرمي، وهند بنت عتبة بن ربيعة، وسارة مولاة عمرو بن هاشم، وقينتين لأبي خطل.
فلما دخل خالد بن الوليد وجد جمعا من قريش وأحابيشها قد جمعوا له، فيهم صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، فمنعوه الدخول وشهروا السلاح ورموا بالنبل وقالوا: لا تدخلها عنوة أبدا! فصاح خالد بن الوليد في أصحابه وقاتلهم فقتل منهم أربعة وعشرين رجلا من قريش، وأربعة من هذيل، وانهزموا أقبح الانهزام حتى قتلوا بالـحَزورة وهم مولّون في كل وجه، وانطلقت طائفة منهم فوق رءوس الجبال واتبعهم المسلمون، فجعل أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام يصيحان: يا معشر قريش، علام تقتلون أنفسكم؟ من دخل داره فهو آمن، ومن وضع السلاح فهو آمن. فجعل الناس يقتحمون الدور ويغلقون عليهم، ويطرحون السلاح في الطرق حتى يأخذها المسلمون.
ولما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثنية أذاخر نظر إلى البارقة فقال ما هذه البارقة. ألم أنه عن القتال؟ قيل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد قوتل ولو لم يقاتل ما قاتل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قضى الله خيرا
وأقبل حماس بن خالد منهزما حتى أتى بيته فدقه ففتحت له امرأته فدخل وقد ذهبت روحه، فقالت: أين الخادم الذي وعدتني؟ ما زلت منتظرتك منذ اليوم! تسخر به قال: دعي عنك، أغلقي بابي، فإنه من أغلق بابه فهو آمن. قالت: ويحك ألم أنهك عن قتال محمد؟ وقلتُ لك: ما رأيته يقاتلكم من مرة إلا ظهر عليكم، وما بابنا؟ قال: إنه لا يفتح على أحد بابه.
قال جابر بن عبد الله: كنت ممن لزم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلت معه يوم الفتح من أذاخر، فلما أشرف على أذاخر نظر إلى بيوت مكة، ووقف عليها فحمد الله وأثنى عليه ونظر إلى موضع قبته فقال: هذا منزلنا يا جابر حيث تقاسمت علينا قريش في كفرها. قال جابر: فذكرت حديثا كنت أسمعه منه صلى الله عليه وسلم قبل ذلك بالمدينة: منزلنا غدا إن شاء الله إذا فتح الله علينا مكة في الخيف، حين تقاسموا علي الكفر، وكنا بالأبطح وجاه شعب أبي طالب حيث حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنو هاشم ثلاث سنين.
ويتباين المؤرخون في يوم فتح مكة فمنهم من يقول كان في الثالث عشر من رمضان ومنهم من يقول في العشرين من رمضان.
وضرب أبو رافع لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبة بالحجون من أدَم، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى القبة ومعه أم سلمة ميمونة، فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا تنزل منزلك من الشعب؟ قال فهل ترك لنا عقيل بمكة رباعاً؟ وكان عقيل بن أبي طالب قد باع منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنزل إخوته من الرجال والنساء بمكة، فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فانزل في بعض بيوت مكة في غير منازلك فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لا أدخل البيوت. فلم يزل مضطربا بالحجون لم يدخل بيتا، وكان يأتي لكل صلاة إلى المسجد من الحجون.
وكانت أم هانئ بنت أبي طالب تحت هبيرة بن أبي وهب المخزومي، فلما كان يوم الفتح دخل عليها حموان لها؛ عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، والحارث بن هشام، فاستجارا بها وقالا: نحن في جوارك؟ فقالت: نعم أنتما في جواري. قالت أم هانئ: فهما عندي إذ دخل عليٌّ فارسا، مدججا في الحديد، ولا أعرفه فقلت له: أنا بنت عم رسول الله صلى الله عليه وسلم! قالت: فكف عني وأسفر عن وجهه فإذا علي عليه السلام، فقلت: أخي. فاعتنقته وسلمت عليه، ونظر إليهما فشهر السيف عليهما، فقلت: أخي من بين الناس يصنع بي هذا! وألقيت عليهما ثوبا، وقال: تجيرين المشركين؟ وحِلتُ دونهما فقلتُ: والله لتبدأن بي قبلهما. قالت: فخرج ولم يَكَدْ فأغلقت عليهما بيتا، وقلت: لا تخافا.
فذهبت إلى خباء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبطحاء فلم أجده ووجدت فيه فاطمة فقلت: ماذا لقيت من ابن أمي علي؟ أجرت حموين لي من المشركين فتفلَّت عليهما ليقتلهما!؟ فكانت أشد علي من زوجها وقالت: تجيرين المشركين؟ قالت: إلى أن طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه رهجة الغبار فقال: مرحبا بفاختة أم هانئ. وعليه ثوب واحد فقلت: ماذا لقيت من ابن أمي علي؟ ما كدت أنفلت منه؛ أجرت حموين لي من المشركين فتفلت عليهما ليقتلهما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كان ذاك قد أمَّنا من أمََنت، وأجرنا من أجرت. ثم أمر فاطمة فسكبت له غسلا فاغتسل ثم صلى ثمان ركعات في ثوب واحد ملتحفا به، وذلك ضحى في فتح مكة.
ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزله ساعة من النهار، واطمأن واغتسل، ثم دعا براحلته القصواء فأدنيت إلى باب قبته ودعا للبس السلاح والمغفر على رأسه وقد صُف له الناس، فركب براحلته، ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة فرآها ومعه المسلمون، تقدم على راحلته، فاستلم الركن بمحجنه، وكبر فكبر المسلمون لتكبيره، فرجّعوا التكبير حتى ارتجت مكة تكبيرا، حتى جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير إليهم اسكتوا، والمشركون فوق الجبال ينظرون، ثم طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت على راحلته آخذ بزمامها محمد بن مسلمة وحول الكعبة ثلاثمئة صنم وستون صنما مرصصة بالرصاص وكان هُبل أعظمها، وهو وِجاهُ الكعبة على بابها، وإساف ونائلة حيث ينحرون ويذبحون الذبائح، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما مر بصنم منها يشير بقضيب في يده ويقول: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا. فيقع الصنم لوجهه.
قالوا: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس ناحية من المسجد والناس حوله، ثم أرسل بلالا إلى عثمان بن طلحة يأتيه بمفتاح الكعبة، وكان عثمان قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص مسلما قبل الفتح،  فجاء بلال إلى عثمان فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تأتي بمفتاح الكعبة. قال عثمان: نعم. فخرج عثمان إلى أمه وهي بنت شيبة، ورجع بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال نعم، ثم جلس بلال مع الناس، فقال عثمان لأمه والمفتاح يومئذ عندها: يا أمه أعطني المفتاح فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرسل إلي وأمرني أن آتي به إليه. فقالت أمه: أعيذك بالله أن تكون الذي تذهب مأثرة قومه على يديه. قال: فوالله لتدفعنه إلي أو ليأتينك غيري فيأخذه منك. فأدخلته في حجزتها وقالت أي رجل يدخل يده هاهنا؟ فبينا هم على ذلك وهو يكلمها إذ سمعت صوت أبي بكر  وعمر في الدار وعمر رافع صوته حين رأى إبطاء عثمان يا عثمان اخرج إلي، فقالت أمه: يا بني خذ المفتاح فأن تأخذه أنت أحب  إلي من أن يأخذه تيم وعدي. فأخذه عثمان فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فناوله إياه.
قال أسامة بن زيد: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة فرأى فيها صورا، فأمرني أن آتيه في الدلو بماء فيبل الثوب ويضرب به الصور، ويقول قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون. وأمر رسول صلى الله عليه وسلم بالكعبة فغلقت عليه ومعه أسامة بن زيد. وبلال بن رباح، وعثمان بن طلحة، فمكث فيها ما شاء الله،  ثم صلى ركعتين، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمفتاح في يده، ووقف على الباب خالد بن الوليد يذب الناس عن الباب، حتى خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشرف على الناس وقد ليط بهم حول الكعبة فهم جلوس.
وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم خطبة أعلن فيها العفو العام ليحل محل الأمان السابق، ثم عدَّد فيها كثيراً من قواعد التي ينبغي أن يسير عليها المجتمع في العلاقات المالية والاجتماعية وشؤون البيئة، قال صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ماذا تقولون، وماذا تظنون؟ قالوا: نقول خيرا ونظن خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم، وقد قدَرَت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإني أقول كما قال أخي يوسف ﴿لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، ألا إن كل ربا في الجاهلية أو دم أو مال أو مأثرة فهو تحت قدمي هاتين، إلا سِدانة البيت وسقاية الحاج، ألا وفي قتيل العصا والسوط الخطأ شِبه العَمد الدية مغلظة مئة ناقة منها أربعون في بطونها أولادها، إن الله قد أذهب نخوة الجاهلية وتكبرها بآبائها، كلكم من آدم وآدم من تراب، وأكرمكم عند الله أتقاكم، ألا إن الله حرَّم مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام بحرمة الله لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد كائن بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من النهار - يقصرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده هكذا - لا يُنفَّر صيدُها ولا يُعضد عِضاهُها، ولا تحل لُقَطتها إلا لمنشد، ولا يختلى خلاها. فقال العباس وكان شيخا مجربا: إلا الإذخِرَ يا رسول الله، فإنه لا بد منه إنه للقبر وطهور البيوت. قال فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة ثم قال: إلا الإذخر فإنه حلال.
وتابع رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولا وصية لوارث، وإن الولد للفراش وللعاهر الحجر، ولا يحل لامرأة تعطي من مالها إلا بإذن زوجها، والمسلم أخو المسلم، والمسلمون إخوة، والمسلمون يد واحدة على من سواهم، تتكافأ دماؤهم، يرد عليهم أقصاهم، ويعقد عليهم أدناهم، ومُشدِّهم على مُضعِفهم، وميسرتُهم على قاعدهم، ولا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده، ولا يتوارث أهل ملتين مختلفتين، ولا جَلَب، ولا جَنَب، ولا تؤخذ صدقات المسلمين إلا في بيوتهم وبأفنيتهم، ولا تنكح المرأة على عمتها وخالتها، والبينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، ولا تسافر امرأة مسيرة ثلاث إلا مع ذي محرم، ولا صلاة بعد العصر وبعد الصبح، وأنهاكم عن صيام يومين يوم الأضحى ويوم الفطر، وعن لِبستين؛ لا يحتب أحدكم في ثوب واحد يفضي بعورته إلى السماء، ولا يشتمل الصماء ولا إخالكم إلا وقد عرفتموها.
ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه المفتاح، فتنحى ناحية المسجد فجلس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض السقاية من العباس، وقبض المفتاح من عثمان، فلما جلس قال: ادعوا إلي عثمان. فدعي له عثمان بن أبي طلحة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعثمان يوما، وهو يدعوه إلى الإسلام ومع عثمان المفتاح، فقال: لعلك سترى هذا المفتاح بيدي أضعه حيث شئت. فقال عثمان: لقد هلكتْ إذا قريشُ وذلت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل عَمُرت وعزَّت يومئذ. قال عثمان: فلما دعاني بعد أخذه المفتاح ذكرت قولة ما كان قال، فأقبلت فاستقبلته ببشر واستقبلني ببشر، ثم قال: خذوها يا بني أبي طلحة تالدة خالدة، لا ينزعها إلا ظالم، يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته، فكلوا بالمعروف. قال عثمان: فلما وليت ناداني فرجعت إليه، فقال: ألم يكن الذي قلت لك؟ فذكرت قوله لي بمكة فقلت: بلى، أشهد أنك رسول الله.
ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم السقاية إلى العباس فكان العباس يليها دون بني عبد المطلب في الجاهلية وولده بعدهم، فكانت بيد عبد الله بن عباس بعد أبيه لا ينازعهم فيها منازع ولا يتكلم فيها متكلم، وكان للعباس مال بالطائف، كرم كان يحمل زبيبه إليها فينبذ في الجاهلية والإسلام ثم كان عبد الله بن عباس يفعل مثل ذلك ثم كان علي بن عبد الله بن عباس يفعل مثل ذلك إلى اليوم.

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer