الجمعة، 29 مايو 2015

حدث في الحادي عشر من شعبان

في الحادي عشر من شعبان من عام 734 توفي في القاهرة، عن 63 سنة، أبو الفتح فتح الدين ابن سيد الناس، محمد بن محمد بن محمد بن أحمد اليَعْمَرِي الربعي، الحافظ المؤرخ الأديب الشاعر، واليعمري نسبة إلى قبيلة تدعى يَعْمَر.
ولد فتح الدين ابن سيد الناس في القاهرة سنة 671 لأسرة إشبيلية الأصل، من بيت رئاسة فيها، وولد والده ببجاية سنة 645، وكان جده محمد أحد الحفاظ المحدّثين المشهورين، وبه خُتم هذا الشأن بالمغرب، وتوفي سنة 659، وكذلك كان والده محدثاً حافظاً، ورحل من الأندلس إلى الديار المصرية وبصحبته نسخه المعتمدة من أمهات الكتب الحديثية مثل مصنف ابن أبي شيبة ومسنده، ومصنف عبد الرزاق، والمحلى لابن حزم، والتمهيد والاستيعاب والاستذكار، وتاريخ ابن أبي خيثمة ومسند البزار، وكان عالماً باللغة والعربية وله نظم، وولي مشيخة المدرسة الكاملية وتوفي سنة 705، عن 60 سنة، وقد آلت كتبه النفيسة هذه إلى ابنه فتح الدين.
والطريف أن الأب، وهو محمد بن محمد، كان له أربعة أولاد سماهم كلهم محمد، وهم أبو سعد، وأبو سعيد ، وأبو القاسم، ثم أبو الفتح صاحبنا في هذه المقالة، وكان حريصاً على أن يسير أولاده على درب العلم والتعلم، فأحضرهم مجالس التحديث، ولهم جميعاً مشاركة في العلم والحديث، رحم الله الجميع.
وسار بفتح الدين والدُه في طلب العلم وهو رضيع، فقد أتى به في سنة مولده إلى المحدث نجيب الدين عبد اللطيف بن عبد المنعم الحراني، المولود سنة 587 والمتوفى سنة 672،  فقبله وأجلسه على فخذه وكناه أبا الفتح، وسمع ابن سيد الناس من أخيه عز الدين الحراني، عبد العزيز بن عبد المنعم، مسند الديار المصرية، المولود سنة 594 والمتوفى سنة 686.
وأحضره والده وهو في الرابعة ليسمع على قاضي القضاة شمس الدين المقدسي الحنبلي، محمد بن إبراهيم بن أبي السرور المولود بدمشق سنة 603 والمتوفى بالقاهرة سنة 676، وسمع على شهاب الدين ابن الخيمي، محمد بن عبد المنعم الأنصاري اليمني ثم المصري، المتوفى سنة 685 عن أكثر من 82 سنة، وكان من أهم مروياته جامع الترمذي، وكان صاحب علم وأمانة، معروفاً بالأجوبة المسكتة والحلم البالغ، وإلا أن الأدب والشعر غلبا عليه فصار الشاعر المقدم في شعراء عصره.
وسمع ابن سيد الناس كذلك على قطب الدين القسطلاني،  المولود سنة 614 والمتوفى سنة 686، شيخ دار الحديث الكاملية بالقاهرة إلى أن توفي، وعلى عز الدين الحراني، عبد العزيز بن عبد المنعم، مسند الديار المصرية، المولود سنة 594 والمتوفى سنة 686.
ودرس ابن سيد الناس النحو على الشيخ الأمام العلامة الحجة بهاء الدين أبي عبد الله محمد بن إبراهيم ابن النحاس، شيخ العربية بالديار المصرية، المولود بحلب سنة 627 والمتوفى بالقاهرة سنة 698، وأتقن أبوالفتح ابن سيد الناس كتابة الخط العربي على القاعدة المغربية والمشرقية، وذلك دون أن يأخذه عن أحد، قال تلميذه الصفدي: ولم أر فيمن عاصرته مَن كَتَب النُسَخ وخرّج التخاريج والحواشي أحلى ولا أظرف ولا آنق من الشيخ فتح الدين بن سيد الناس... كان خطه أبهج من حدائق الأزهار، وآنق من صفحات الخدود المطرز وردها بآس العذار... سريع الكتابة، كتب ختمة في جمعة، وكان يكتب السيرة التي له في عشرين يوماً وهي مجلدان كبيران.
وكان ابن سيد الناس ماهراً في التجليد وترميم الكتب القديمة، قال عنه الصفدي: ولم أر مثل الشيخ فتح الدين بن سيد الناس من يحكم ترقيق الأجزاء وترميمها.
ورحل أبو الفتح ابن سيد الناس إلى دمشق في سنة 690 ليسمع من محدث كبير معمر هو فخر الدين أبو الحسن علي بن أحمد بن قدامة المقدسي، المولود سنة 596، ويعرف بابن البخاري نظراً لأن أباه أقام ببخارى مدة في طلب العلم، فلما دخل دمشق في ثالث ربيع الآخر ذهب إلى قاضي القضاة شهاب الدين ليسلم عليه، وقال: قدمت للسماع من ابن البخاري. فقال: أول أمس دفناه. فتألم لموته وفواته السماع منه، لعلو إسناده بالسماع المتصل برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الإمام الذهبي: وهو آخر من كان في الدنيا بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية رجال ثقات. ولكنه لم يفته السماع من محدث معمر آخر هو مسند الشام تقي الدين الواسطي، إبراهيم بن علي، المولود سنة 602 والمتوفى سنة 692.
والتقى كذلك بالإمام المقرئ عز الدين الفاروثي، أحمد بن إبراهيم، المولود بفاروث بواسط في العراق سنة 614 والمتوفى بواسط سنة 694، والذي جاور بمكة فترة ثم انتقل منها إلى دمشق سنة 691، فروى بها الكثير وأقرأ القراءات، قال ابن سيد الناس عنه: الشيخ الإمام شيخ المشايخ، ومن له في كل فضل اليد الطولى والقدم الراسخ... كان ممن قرأ القرآن بالحروف، وازدحم الناس على القراءة عليه، والفوز بما لديه، وطلب الحديث قديما، ولم يزل لذلك مديما، وللسنة النبوية خديما. ثم يقول عن أناشيد شيخه العراقية: وكان في التذكير مقدما، وبالمواعظ الحسنة معلما، تنسلي إليه معاني الأدب في مواعظه وغيرها من كل حدب، سجية عراقية تمازج النسيم، وتعطر أسحارها من أشجارها على كل شميم، يرتجلها كيف يشاء، ولا يؤجل الأشياء، ناولته يوما استدعاء إجازة ليكتب عليه، فكتب مرتجلا:

أجزت لهم رواية كل شئ ... سماعا كان لي أو مستجازا
وما نوولته ايضا إذا ما ... توخوا في روايته احترازا
وما قد قلته نظما ونثرا ... فقد أضحى الجميع لهم مجازا

والتقى فتح الدين في هذه الرحلة بالإمام الحاقظ المزي، جمال الدين يوسف بن عبد الرحمن المزي، المولود بظاهر حلب سنة 654 والمتوفى بدمشق سنة 742، ودله على اللقاء بشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم  ابن تيمية، المولود سنة 661 والمتوفى سنة 742، قال ابن سيد الناس: ووجدت بدمشق من أهل العلم الإمام المقدم، والحافظ الذي فاق من تأخر من أقرانه ومن تقدم، أبا الحجاج المزي، بحر هذا العلم الزاخر، وحَبره القائل من رآه: كم ترك الأوائل للأواخر! أحفظ الناس للتراجم، وأعلم الناس بالرواة من أعارب وأعاجم، لا يخص بمعرفته مصرا دون مصر، ولا ينفرد علمه بأهل عصر دون عصر...وهو في اللغة أيضا إمام...فكنت أحرص على فوائده لأحرز منها ما أحرز... وهو الذي حداني على رؤية شيخ الإسلام ابن تيمية، فألفيته ممن أدرك من العلوم حظا، وكاد يستوعب السنن والآثار حفظا، إن تكلم في التفسير فهو حامل رايته، أو أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، أو ذاكر في الحديث فهو صاحب علمه، وذو روايته.
والتقى الإمامُ الذهبي، المتوفى سنة 748، بابن سيد الناس وقال عنه في المعجم المختص: العلامة الأديب البارع المتفنن هو أحد أئمة هذا الشأن، كتب بخطه المليح كثيرا، وخرَّج وصنف وعلل، وفرَّع وأصَل، وقال الشعر البديع، وكان حلو النادرة، كيس المحاضرة، جالسته وسمعت بقراءته وأجاز لي مروياته، عليه مآخذ في دينه وهديه، والله يصلحه وإياي... وكان أثريا في المعتقد، يحب الله ورسوله.
وأخذ ابن سيد الناس علم الحديث عن الإمام ابن دقيق العيد القشيري القوصي، محمد بن علي، المولود سنة 625والمتوفى بالقاهرة سنة 702، والذي عدّه الإمام الذهيي أحد أربعة من أحفظ من رأى، وقال عنه: أفقههم في الحديث. ولازمه ابن سيد الناس فترة طويلة، وصار معيداً في درسه، وكان ابن دقيق العيد إذا ذكر أحداً من الصحابة والرجال في درسه قال: ايش ترجمة هذا يا أبا الفتح؟ فيأخذ ابن سيد الناس في الكلام ويسرد والناس سكوت والشيخ مصغ إلى ما يقول.
أما فتح الدين بن سيد الناس فيقول عن شيخه: لم أر مثله فيمن رأيت، ولا حملت عن أجلَّ منه فيمن رويت، قرأت عليه جملة من المحصول وكنت مستملي تصانيفه والمتصدر لإفادة طلبته بدار الحديث من جهته، وكان للعلوم جامعا، وفي فنونها بارعا، لا يشق له غبار، ولا يجري معه سواه في مضمار... كان حَسَن الاستنباط للأحكام والمعاني من السنة والكتاب، بلب يسحر الألباب، وفكر يفتح له ما يستغلق على غيره من الأبواب، مستعيناً على ذلك بما رواه من العلوم، ولم يزل حافظاً للسانه، مقبلاً على شأنه، ونفع نفسه على العلم وقصرها، ولو شاء العاد أن يحصر كلماته لحصرها، وله تخلق، وبكرامات الصالحين تحقق، وعلامات العارفين تعلق.
ولعل الانسجام بين ابن سيد الناس وشيخه ابن دقيق العيد كان لتشابههما في المزاج، فقد كان ابن دقيق العيد على جلالة قدره في العلم والفقه، خفيف الروح لطيف المعشر، شاعراً حاضر البديهة، نقادة للشعر وأساليب البلاغة، ومن طرف آخر كان لا يحرم نفسه من متع الدنيا الحلال، على نسك وورع.
وأخذ ابن سيد الناس كذلك الحديث عن الحافظ البارع شرف الدين الدمياطي، عبد المؤمن بن خلف الشافعي، المولود سنة 613 والمتوفى سنة 705،  وكان مليح الهيئة، حسن الأخلاق، بساماً فصيحاً، نحوياً لغوياً، مقرئاً، سريع القراءة، جيد العبارة، كثير التفنن، صحيح الكتب، مكثراً مفيداً، حلو المذاكرة.
وأصبح ابن سيد الناس من كبار المحدثين في عصره، ليس فقط لكثرة من روى عنهم وقد قاربوا الألف، بل لاجتهاداته وترجيحاته وتقعيداته وتعقباته في هذا العلم، وولي مشيخة دار الحديث الظاهرية بالقاهرة، ودرَّس صحيح البخاري فيها، وأخذ عنه الألوف من طلاب العلم والحديث في عصره، وممن أخذوا عنه وعُرفوا به الحافظ علاء الدين مُغْلَطاي، مغلطاي بن قليج بن عبد الله البَكْرَجي، المولود سنة 689 والمتوفى سنة 762، والذي حلَّ محل شيخه في مشيخة دار الحديث الظاهرية.
وممن أخذ كذلك عن ابن سيد الناس الأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير بدر الدين جنكلي ابن البابا الحنبلي، المولود سنة 697 والمتوفى سنة 741، والذي تخرج على يد الحافظ فتح الدين، وعنه أخذ معرفة الناس وأيامهم وطبقاتهم وأسماء الرجال، وكان أولاً قد اشتغل بمذهب أبي حنيفة، ثم إنه تمذهب للإمام أحمد بن حنبل، وله بيتان لطيفان:

بك استجار الحنبلي ... محمد بن جنكلي
فاغفر له ذنوبه ... فأنت ذو التفضل

وكان ابن سيد الناس يخالط أمراء المماليك، وبخاصة الصالحين من أهل العلم منهم، ولعل أكبرهم هو الأمير علم الدين الدواداري، المولود سنة بعد 620 والمتوفى سنة 699، والذي كان مهيبا، حسن الخَلق والخُلق، عالما فاضلا، حافظا لكتاب الله، دارساً للفقه، وحصل له عناية بالحديث، فسمع الكثير، وكتب بخطه، وحصَّل الأصول، وكان إذا خرج إلى غزوة خرج وإلى جانبه شخص يقرأ عليه جزءا فيه أحاديث الجهاد، وكان الشيخ فتح الدين خصيصا به ينام عنده ويسامره، وكان سبب اختصاص فتح الدين به أن الأمير سأل الحافظ المحدث شرف الدين الدمياطي عن وفاة البخاري، فما استحضر تأريخها، ثم إنه سأل فتح الدين عن ذلك فأجابه فحظي عنده وقرَّبه، فقيل له: إن هذا تلميذ الشيخ شرف الدين، فقال: وليكن.
وكان ابن سيد الناس على علاقة طيبة بالأمير الكبير أرغون بن عبد الله الناصري نائب السلطنة في مصر ثم نائب حلب، المتوفى بها سنة 731، وله من العمر بضع وأربعون سنة، وكان عالماً بالفقه خطاطاً متقناً، جمّاعة للكتب، جمع منها جمعاً ما جمعه أحد من أبناء جنسه، وعلم الناس رغبته في الكتب فهرعوا إليه بها، وبلغ الأمير أرغون مرتبة الإفتاء في المذهب الحنفي، قال عنه ابن سيد الناس: كان أرغون يعرف مذهب أبي حنيفة ودقائقه، ويقصر فهمه في الحساب إلى الغاية. وكان الأمير معجباً بالشيخ ابن سيد الناس يسعى في مصالحه لدى الدولة.
والتقى بابن سيد الناس القاضي أبو البقاء البلوي، خالد بن عيسى، المتوفى بعد سنة 767، في رحلته من الأندلس إلى المشرق، وروى عنه بيتين في كتابه تاج المفرق في تحلية علماء المشرق، هما:

بالله إن جزتَ بواد الأراك ... وقبلت عيدانُه الخضر فاك
فابعث إلى المملوك من بعضها ... فإنني والله مالي سواك

لابن سيد الناس تصانيف عديدة مفيدة، من أهمها: عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسِير، وهو كتاب جامع لكل من سبقه في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد لقيه العلماء بالاستحسان وصار من الكتب المتداولة المعتمدة في السيرة، وحيث ذكر فيه أسانيد الأخبار فإن الكتاب أصبح طويلاً على من لا يهتم بالسند، ولذلك اختصره استكمالا للفائدة منه وسماه نور العيون في تلخيص سيرة الأمين المأمون، وعلق على المختصر من بعده سبط ابن العجمي برهان الدين، إبراهيم بن محمد بن خليل الحلبي، المولود سنة 753 والمتوفى سنة 841، وسمى تعليقه: نور النبراس في شرح سيرة ابن سيد الناس. وجاء من بعده شمس الدين محمد بن يونس الشافعي، المتوفى سنة 845، فنظمه شعراً، ونظم عيون الأثر شعراً فتح الدين ابن الشهيد، محمد بن إبراهيم، المولود سنة 728 والمتوفى سنة 793، نظمها في بضعة عشر ألف بيت، وسماها الفتح القريب في سيرة الحبيب.
ولابن سيد الناس ديوان في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم أسماه: بشرى اللبيب بذكر الحبيب، وله في الفقه: الدر النثير على أجوبة الشيخ أبي الحسن الصغير، وصنف كتاباً أسماه الفوح الشذى في شرح الترمذي، شرح فيه دون الثلث من كتاب الترمذي إلى كتاب الصلاة، قال ابن حجر: ولو اقتصر على فن الحديث من الكلام على الأسانيد لكمل، لكن قصده ان يتبع شيخه ابن دقيق العيد، فوقف دون ما يريد. ثم كمَّله الحافظ زين الدين عبد الرحيم العراقي المولود سنة 725 والمتوفى سنة 806، وله كتاب المقامات العلية في الكرامات الجلية، وكما جمع في قصيدة ميمية أسماء ما يقرب من 200 ممن مدحوا الرسول صلى الله عليه وسلم من رجال الصحابة ونسائهم، ثم شرحها في كتاب أسماه منح المدح. رتبهم فيه على حروف المعجم.
وكان من معاصري ابن سيد الناس الأديب المؤرخ صلاح الدين الصفدي، خليل بن أيبك، صاحب التاريخ العظيم، الوافي بالوفيات، المولود بصفد سنة 696 والمتوفى بها سنة 764، والذي لازم ابن سيد الناس في المدرسة الظاهرية قرابة سنتين، وأخذ عنه الأدب، واستفاد منه كثيراً في تراجم كتابه الوافي بالوفيات، وتبادل الأستاذ مع تلميذه مراسلات أدبية أوردها الصفدي في أكثر من 15 صفحة من كتابه ألحان السواجع، ولما ترجم له قال عنه: كان حافظا بارعا متفننا في البلاغة، ناظما مترسلا، حسن النمط جدا، حسن المحاورة، لطيف العبارة.
وذكر الصفدي أمراً كان يفعله ابن سيد الناس، قال: وأقمت عنده بالظاهرية قريباً من سنتين، فكنت أراه يصلي كل صلاة مرات كثيرة، فسألته عن ذلك فقال: خطر لي أن أصلي كل صلاة مرتين ففعلت، ثم ثلاثاً ففعلت وسهل علي، ثم أربعاً ففعلت، قال: وأشك هل قال خمساً. وعلق الشوكاني في البدر الطالع على هذه القصة تعليقاً موفقاً، قال: وهذا وإن كان فيه الاستكثار من الصلاة التى هي خير موضوع وأجمل مرفوع، لكن الأَولى أن يتعود التنفل بعد الفرائض على غير صفة الفريضة، فإن حديث النهي عن أن تُصلي صلاة في يوم مرتين، ربما كان شاملا لمثل صورة هذه الصلاة، ولعله جعله خاصا بتكرير الفريضة بنية الافتراض.
وطلب الصفدي في رسالة من ابن سيد الناس أن يجيزه، فكتب له الجواب بالإجازة، ونورد هنا جانباً منها لما ورد فيها من أدب وتواضع، ولإذنه له بالإصلاح والتغيير: فكأنما ألزمتَني أن أتجاوز حدي، لولا أن الإقرار بأن الرواية عن الإقران نهج مهيع، والاعتراف بأن للكبير من بحر الصغير الاغتراف وأن لم يكن مشرعه ذاك المشرع، فنَعَم قد أجزت لك ما رويتُه من أنواع العلوم على الشرط المعروف والعرف المعلوم، وما تضمنه الاستدعاء الرقيم، بخطك الكريم... من فنون الأدب التي باعك فيها من باعي أمدَّ، وسهمك في مراميها من سهمي أسد، وأذنت لك في إصلاح ما تعثر عليه من الزلل والوهم، والخلل الصادر عن غفلة اعترت النقل أو وهلة اعترضت الفهم، فيما صدر عن قريحتي القريحة من النثر والنظم، وفيما تراه من استبدال لفظ بغيره مما لعله أنجى من المرهوب، أو أنجع في نيل المطلوب، أو أجرى في سنن الفصاحة على الأسلوب، وقد أجزت لك إجازة خاصة يرى جوازها بعض من لا يرى جواز الإجازة العامة أن تروي عني ما لي من تصنيف أبقيته، في أي معنى انتقيته... تبركاً بالدخول في هذه الحلبة، وتمسكاً باقتفاء السلف في ارتقاء هذه الرتبة، واقبالاً من نشر السنة على ما هو أمنية المتمني، وامتثالاً لقوله عليه أفضل الصلاة والسلام بلغوا عني.
وعلى خلاف أغلب علماء عصره لم يكن فتح الدين ابن سيد الناس على وفاق مع متصوفة عصره، وذلك لأن أغلبهم اتخذوا التصوف حرفة ومظاهر، وأصبحت الموالد التي يقيمونها مواسم للفساد والمعاصي، كما يذكرذلك المؤرخون، وله فيهم أبيات هجو مقذعة، ومما قاله يعيب عليهم الموالد:

يا عصبة ما ضرّ دين محمدٍ ... وسعى إلى إفساده إلا هيْ
دفٌ ومزمارٌ ونغمة شادن ... أرأيتَ قطّ عبادةً بملاهِ؟!

ويورد مؤرخو تلك الحقبة إلى أمور يأخذونها على فتح الدين ابن سيد الناس، وقد سبق قول الإمام الذهبي عنه: عليه مآخذ في دينه وهديه، والله يصلحه وإياي. وقال كمال الدين الأدفوي، المولود سنة 685 والمتوفى سنة 748، في البدر السافر: وخالط أهل السَفه وشُرَّاب الُمدام، فوقع في الملام، ورُشِق بسهام الكلام، والناس مقارن، والقرين يكرم ويهان باعتبار المقارَن... ثم قال بعد ذلك: ولم يخلف بعده في القاهرة ومصر من يقوم بفنونه مقامه، ولا من يبلغ في ذلك مرامه، أعقبه الله السلامة في دار الإقامة.
وهذه المزاعم لا تنسجم مع ما استعرضناه من علمه وفضله، ولعلها عائدة إلى اختلاطه ببعض الأمراء الذين يرى بعض العلماء الابتعاد عنهم بل مقاطعتهم، ولعلها عائدة إلى خروجه أحياناً عما يلتزم العلماء به من وقار ورزانة، لأن الصفدي يقول عنه: ولو كان اشتغاله بقدر ذهنه كان قد بلغ الغاية القصوى، ولكنه كان فيه لعب، على أنه ما خلف مثله لإنه كان متناسب الفضائل.
وقد جاء الجواب على هذه المزاعم عند وفاته رحمه الله، فقد وافته منيته دون أن يكون معروفاً عند ملك مصر آنذاك الملك الناصر محمد بن قلاوون، المولد سنة 684 والذي أمضى في الحكم بضعاً وعشرين سنة قبل ذلك، فقد روى المؤرخون أن الملك الناصر رأى جنازته حافلة، فسأل القاضي الشافعي جلال الدين القزويني عنه، فذكر له مقداره، وكان الأمير ناظر الجيوش يكره ابن سيد الناس، فقال للناصر إنه كان مع ذلك يعاشر الأمراء والوزراء قديماً، ويشرب عندهم. فذكر ذلك الناصر لجلال الدين القزويني وللقاضي المالكي تقي الدين الأخنائي، فبرآه من ذلك وشهدا بعدالته ونزاهته وعفته.
لا نجد في كتب التراجم المتوفرة ذكراً لزواج أو أولاد فتح الدين ابن سيد الناس، وهي تلم لماماً بذكر إخوته، ثم لا نجد بعده ذكراً لأفراد بارزين من أسرة ابن سيد الناس هذه في العلم أو الأدب أو السياسة، فكأنها انتهت بوفاته، ولله عاقبة الأمور.
كان ابن سيد الناس شاعراً بالبديهة، لم يدرس العَروض على شيخ، بل درسه بنفسه في أسبوع فتعلمه وألف فيه مصنفاً، وكان يتمتع بروح لطيفة ونفس شاعرية، ولذا كانت أشعاره رقيقة رائقة، منسجمة الألفاظ، مع جودة بديهته، وكان غزله أفضل من مديحه، ومن ذلك قوله في أول قصيدة مديح:

تعلَقها وما عقَدَ التمائم ... وشابَ وحبُها في القلب دائم
وطارَحَها الغرامَ بها فقالت: ... علمتُ، فقال: ماذا فعل عالم؟!

وقال أيضاً:

يا كاتم الشوق إن الدمع مبديه ... حتى يعيد زمانَ الوصل مبديه
أصبو إلى البان بانت عنه هاجرتي ... تعللاً بليالي وصلِها فيه
عصرٌ مضى وجلابيب الصبا قُشُب ... لم يبق من طيبه إلا تمنيه

وله في الغزل:

تمنيني الأيام منك بخلسة ... فكم عندها عما تمني عوائق
متى وعدت بالوصل فالوعد كاذب ... وإن وعدت بالهجر فالوعد صادق

وقال أيضاً:

صرفت الناس عن بالي ... فحبل ودادهم بالي
وحبل الله معتصَمي ... به علَّقت آمالي
فمن يسلو الورى طُراً ... فإني ذلك السالي
فلا وجهي لذي جاه ... ولا ميلي لذي مال

وقال في التعفف:

إن غض من فقرنا قوم وقد مُنحوا ... فكل حزب بما أوتوه قد فرحوا
إن هم أضاعوا لحفظ المال دينهم ... فإن ما خسروا أضعاف ما ربحوا

وله يناجي الله عزوجل:

فقري لمعروفك المعروف يغنيني ... يا من أرجيه والتقصير يرجيني
إن أوبقتني الخطايا عن مدى شرف ... نجا بإداركه الناجون من دوني
أو غض من أملي ما ساء من عملي ... فإن لي حسن ظن فيك يكفيني

توفي ابن سيد الناس بالقاهرة دون سابق مرض، وخرج في جنازته القضاة والأمراء والجند والفقهاء والعوام وتأسف الناس عليه، ودفن بالقرافة، وكان قد قال في ختام رسالة كتبها إلى تلميذه صلاح الدين الصفدي في صفد قبيل وفاته:

إن نعشْ نلتقي وإلا فما ... أشغل من مات عن جميع الأنام

ورثاه الصفدي بقصيدة طويلة منها:

ما بعد فقدك لي أنس أرجيه ... ولا سرور من الدنيا أقضيه
إن مت بعدك من وجد ومن حزن ... فحق فضلك عندي من يوفيه
ومن يعلِّم فيك الوُرْقَ إن جهلت ... نواحها أو تناسته فتمليه
أما لطافة أنفاس النسيم فقد ... نسيتُها غير لطف كنت تبديه
وإن ترشفتُ عذب الماء أذكرني ... زُلاله خُلُقاً قد كنت تحويه
يا حافظاً ضاع نشْرُ العلم منه إلى ... أن كاد يعرفه من لا يسميه
حفظت سنة خير المرسلين فما ... أراك تمسي مضاعاً عند باريه
وهل يخيب - معاذ الله - سعي فتى ... في سنة المصطفى أفنى لياليه
يكفيه ما خطه في الصحف من مدح النبي ... يكفيه هذا القدر يكفيه
يا رحمتاه لشرح الترمذي فمن ... يضم غربته فينا ويؤويه
من للقريض فلم أعرف له أحداً ... سواه رقت به فينا حواشيه
ما كان ذاك الذي تلقاه ينظمه ... شعراً ولكه سحر يعانيه
ومن يمر على القرطاس راحته ... فينبت الزهر غضاً في نواحيه
ما كل من خط في طَرس وسوَّده ... بالحبر تغدو به بيضاً لياليه
ولا تَخلْ كل من في كفه قلم ... إذا دعاه إلى معنى يلبيه
هيهات ما كان فتح الدين حين مضى ... والله إلا فريداً في معاليه

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer