الجمعة، 17 أبريل 2015

حدث في السادس والعشرين من جمادى الآخرة

في السادس والعشرين من جمادي الآخرة من سنة 1250، توفى في صنعاء، عن 73 سنة، الإمام المجتهد المحدث المؤرخ الشوكاني، محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني، نسبة إلى هجرة شوكان، وهي قرية من قرى خولان بينها وبين صنعاء دون مسافة يوم، قال عنها الشوكاني: معمورة بأهل الفضل والصلاح والدين من قديم الأزمان.
ولد الشوكاني في 28 من ذي القعدة سنة 1172 لأسرة علم تنتمي إلى المذهب الزيدي، وتولى والده، المولود نحو سنة 1130 والمتوفى سنة 1211، القضاء في صنعاء للإمام المهدي العباس بن الحسين فبقي فيه 40 سنة، وولد الابن في شوكان حين أتاها أبوه زائراً، واتسم الوالد بالقناعة والبساطة والتقشف؛ مات وهو لا يملك بيتاً يسكنه، وقد اهتم الوالد بأن يتوجه ولده لطلب العلم فقام بإعانته ورعايته المادية والمعنوية ليتفرغ لذلك بكليته، فأرسله للمكتب في صنعاء حيث ختم حفظ القرآن والتجويد، ثم حفظ أحد المتون الأساسية في فقه الزيدية وهو كتاب الأزهار في فقه الأئمة الاطهار، من تأليف الإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى بن المرتضى، المولود سنة 775  والمتوفى سنة 840، وألفه وهو مسجون قبل إمامته، ودرس الشوكاني كذلك مختصرات أخرى في التجويد والأدب والنحو والفرائض والعروض، وكان يحب المطالعة فطالع في صغره كثيراً من كتب التاريخ والأدب.
ولما ترك المكتب وأقبل على طلب العلم، قرأ على والده شرح كتاب الأزهار لابن مفتاح، عبد الله بن أبي القاسم، المتوفى سنة 877، وبعد والده قرأ على عدد من أعلام المشايخ في عصره ودرس عليهم النحو واللغة والبلاغة والفقه والمواريث والحساب والمساحة وعلوم الحديث، وقرأ عليهم الصحيحين وعدداً من كتب السنن وشروحها، ونورد ترجمة مختصرة لبعض مشايخه، مرتبين على سني الوفاة، مستقاة مما أورده هو في كتابه الماتع البدر الطالع، مع الإشارة أنهم جميعاً من المذهب الزيدي، وقد توسعت في ذلك ليأخذ القارئ الكريم فكرة عن أعلام المذهب الزيدي في تلك الحقبة وما اتسموا به من علم وزهد وعمل، ولنرى تقارب هذا المذهب كثيراً في أصوله وسلوكه مع مذاهب أهل السنة.
فمنهم أحمد بن عامر الحدائى ثم الصنعاني، المتوفى سنة 1197 في أرض السبعين، وقد قرأ عليه الشوكاني الأزهار وشرْحَه مرتين والفرائض وشرْحَها للناظري، وقال عنه: كان زاهدا متقللا، مواظبا على الطاعات، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، يغضب إذا بلغه ما يخالف الشرع، وفيه سلامة صدر زائدة، وكان مواظبا على التدريس لا يمنعه منه مانع، فإنه يقع المطر العظيم الذي يمنع من خروج من هو في سن الشباب، فلا يكون ذلك عذرا لدى صاحب الترجمة، لرغبته في الخير وحرصه على إفادة الطلبة.
ومنهم السيد إسماعيل بن الحسن بن أحمد بن الحسن ين الإمام القاسم بن محمد، المولود بعد سنة 1120 والمتوفى سنة 1206، قرأ عليه ملحة الإعراب للحريري وشرحها، وقال عنه الشوكاني: له مشاركة قوية في علم الصرف والمعاني والبيان والأصول، وكان رحمه الله يواظب على التدريس مع ضعفه وعلو سنه وكنت أراه يقعد للتدريس وقد أثر فيه البرد مع الحركة تأثيرا قويا، وكانت له فيَّ عناية كاملة.
ومنهم السيد عبد القادر بن أحمد المولود سنة 1135 والمتوفى سنة 1207، والذي درس عليه الشوكاني الصحيحين وشروحهما، والسنن وشروحهما، وسمع منه الأحاديث المسلسلة، وبعض المنتقى في أحاديث الأحكام عن خير الأنام لابن تيمية الجد مجد الدين عبد السلام بن عبد الله، ودرس عليه كذلك اللغة والعروض والفقه، قال الشوكاني عنه: شيخنا الإمام المحدث الحافظ المسند المجتهد المطلق، وكانت القراءات جميعها يجري فيها من المباحث الجارية على نمط الاجتهاد في الإصدار والإيراد ما تُشد إليه الرحال، وربما أنجر البحث إلى تحرير رسائل مطولة، وكنت أحرر ما يظهر لى فى بعض المسائل، وأعرضه عليه، فان وافق ما لديه من اجتهاده فى تلك المسئلة قرظه، وإن لم يوافق كتب عليه، ثم أكتب على ما كتبه، ثم كذلك ... وهو رحمه الله من جملة من رغبني في تأليف شرح على المنتقى، فشرعت فيه في حياته، وعرضت عليه كراريس من أوله، فقال: إذا كمل على هذه الكيفية كان في نحو عشرين مجلدا، وأهل العصر لا يرغبون فيما بلغ من التطويل الى دون هذا المقدار! ثم أرشدني إلى الاختصار، ففعلت فكمل بحمد الله، وبيضته في أربع مجلدات، ولم يكمل إلا بعد موته بنحو ثلاث سنين.
ومنهم الحسن بن اسماعيل بن الحسن بن محمد المغربي، نسبة إلى مغارب صنعاء، ثم الصنعاني، المولود بعد سنة 1140 والمتوفى سنة 1208، قرأ عليه الشوكاني البلاغة والمنطق والحديث وشرحه، وقال عنه: كان رحمه الله زاهدا ورعا عفيفا متواضعا متقشفا لا يعد نفسه في العلماء، ولا يرى له حقا على تلامذته فضلا عن غيرهم، ولا يتصنع في ملبوس، بل يقتصر على عمامة صغيرة وقميص وسراويل وثوب يضعه على جنبيه، ويقضى حاجته من الأسواق، ويقود دابته ويسقيها بنفسه، واستمر على حاله الجميل لا يزداد إلا تواضعا وتصاغرا وتحقيرا لنفسه وهكذا فليصنع من أراد الوصول إلى ثمرة العلم والبلوغ إلى فائدته الأخروية، والحاصل أنه من العلماء الذين اذا رأيتهم ذكرت الله عز وجل، وكان رحمه الله يقبل علي إقبالا زائدا، ويعينني على الطلب بكتبه، وهو من جملة من أرشدني إلى شرح المنتقى، وشرعت فيه في حياته بل شرحت أكثره وأتممته بعد موته، وكان كثيرا ما يتحدث في غيبتي أنه يخشى عليَّ من عوارض العلم الموجبة للاشتغال عنه فما أصدق حدسه وأوقع فراسته فإني ابتليت بالقضاء بعد موته بدون سنة.
ومنهم القاسم بن يحيى الخولاني ثم الصنعاني، المولود سنة 1162 والمتوفى سنة 1209، درس عليه الشوكاني في أوائل طلبه العلم، وأخذ عنه النحو والصرف والمنطق والأصول وآداب البحث والمصطلح، قال عنه الشوكاني: شيخنا العلامة الأكبر، كان رحمه الله يطارحني في البحث مطارحة المستفيد تواضعا منه، ثم ترافقنا في الطلب على شيخنا السيد العلامة عبد القادر بن أحمد وعلى شيخنا العلامة الحسن بن إسماعيل المغربي، وجرت بيني وبينه مباحثات في مسائل تشتمل عليها رسائل، ولم تر عيناي مثله في التواضع وعدم التلفت إلى مناصب الدنيا مع قلة ذات يده وكثرة مكارمه.
ومنهم السيد عبد الرحمن بن قاسم المداني، المتوفى سنة 1211 وقد قارب التسعين، أخذ عنه شرح الأزهار في الفقه الزيدي في مرحلة كان فيها الشوكاني قد قدّم طلب علم الفقه على غيره، وقال عنه: كان زاهدا ورعا متقللا، عفيفا حسن الأخلاق، جميل المحاضرة، راغبا في الفوائد العلمية، بحيث أنه صار عاجزا لا يمشى إلا متوكيا على العصا، وكان إذا لقيني قام واعتمد على العصا ثم باحثنى بمباحث فقهية دقيقة.
ومنهم أحمد بن محمد بن أحمد بن مطهر القابلي، المولود سنة 1158 والمتوفى سنة 1227، وقد لازمه الشوكاني 13 سنة يدرس عليه كذلك الفقه والفرائض قراءة بحث وإتقان وتحرير وتقرير، وقال عنه: شيخ شيوخ الفروع بلا مدافع، عكف عليه الطلبة وانتفعوا به، وتنافسوا في الأخذ عنه، وصارت تلامذته شيوخا ومفتيين وحكاما، وله عافاه الله قدره على حسن التعبير وجودة التصوير مع فصاحة لسان ورجاحة عقل وجمال صورة ووفور حظ عند جميع الخلق، لا ترد له شفاعة، ولا يكسر له جاه، وقد خُطِب للأعمال الكبيرة فقبل منها ما فيه السلامة فى دينه ودنياه، وأرجع ما عداه، واجتمع له من ذلك دنيا عريضة صانه الله بها عن الوقوع فيما لا يشتهى من التورطات.
ومنهم عبد الله بن إسماعيل بن حسن بن هادي النهمي، المولود بعد 1150، والمتوفى سنة 1228، درس عليه النحو والصرف و المنطق والمعاني والبيان والأصول، قال عنه الشوكاني: وله عناية تامة بتخريج الطلبة، والمواظبة على التدريس وتوسيع الأخذ وجلب الفوائد إليهم بكل ممكن، ولا يمل حتى يمل الطالب، وكان يؤثرني على الطلبة وإذا انقطعت القراءة يوما أو يومين لعذر تأسف على ذلك. ويتحدث الشوكاني كيف استاء الشيخ لما تركه إلى غيره، ويلمح إلى خصومة وقعت في بداية ذلك، وضرب عنها الصفح الشوكاني، ولما ارتفع قدره وخمل ذكر أستاذه كان يبره ويحسن إليه، وفي هذا ملمح من شخصيته الطيبة الكريمة، قال الشوكاني: ولما فرغت من القراءة عليه، ولم يبق عنده ما يوجب البقاء، وقرأت على من له خبرة بما لم يكن لديه من العلوم، لم تطب نفسه بذلك في الباطن لا في الظاهر، وحال تحرير هذه الأحرف قد فتر عزمه عن التدريس ولم يبق للطلبة رغوب إليه، وصار معظم اشتغاله بما لابد منه من أمر المعاش مع ركة حاله لاطفه الله، ولم أزل راعيا لحقه معظما لشأنه معرضا عما بدر منه مما سلف، وأبلغ الطاقة في جلب الخير إليه بحسب الإمكان.
وبدأ الشوكاني في التدريس وهو لا يزال طالباً حيث فرّغ جزءاً من وقته لإفادة الطلبة فكانوا يأخذون عنه في كل يوم زيادة على عشرة دروس في التفسير والحديث والأصول والنحو والصرف والمعاني والبيان والمنطق والفقه والجدل والعروض، ولم يقتصر في تدريسه على العلوم الذي أخذها عن مشايخه، بل درس علوماً قرأها بنفسه مثل علم الرياضيات والطبيعة والهيئة، والتدريس كما يعلم مزاولوه يشحذ الهمم ويجلو الغامض ويوضح الملتبس.
وابتدأ الشوكاني وهو في العشرين من عمره يفتي في صنعاء ومن يرد إليها، واشتهر بالفتوى فصارت تدور عليه من العوام والخواص والحاضر والبادي وشيوخه إذ ذاك أحياء، وهذا شرف كبير ومرتبة عظيمة، وكان لا يأخذ على الفتيا شيئا تنزها فإذا عوتب في ذلك قال أنا أخذت العلم بلا ثمن فأريد إنفاقه كذلك.
وقرر الشوكاني قبل أن يبلغ الثلاثين أن يترك التقليد ويجتهد رأيه اجتهادا مطلقا غير مقيد، وقد جرَّ هذا عليه عداوات الحاسدين والمستنكرين، قال عن هذا: قد جفاني جماعة من الذين لا يعرفون الحقائق لصدور اجتهادات مني مخالفة لما ألفوه وعرفوه، وهذا دأبهم سلفا عن خلف، لا يزالون يعادون من بلغ رتبة الاجتهاد، وخالف ما دبوا عليه ودرجوا من مذاهب الآباء والأجداد. وإذا أحببت أيها القارئ الكريم مزيداً من منهج الشوكاني في هذا فراجع في كتابه البدر الطالع ترجمة الإمام ابن الوزير، محمد بن إبراهيم، المولود سنة 775 والمتوفى سنة 840.
تولى الشوكاني وهو في السابعة والثلاثين القضاء للإمام المنصور بالله الزيدي، وذلك عندما توفي في سنة 1209 القاضي يحيى بن صالح الشجري السحولي،  عن 75 سنة، ولم يكن قبول الشوكاني لهذا المنصب الذي يلي الإمام في الدولة إلا بعد تردد، فقد خُلق عالماً بحاثة، وأدرك أن المنصب سيشغله عما نذر نفسه له، وننقل هنا بتصرف بعض ما قاله الشوكاني في البدر الطالع:
فلما مات فى ذلك التاريخ، وكنت إذ ذاك مشتغلا بالتدريس في علوم الاجتهاد والإفتاء والتصنيف، منجمعا عن الناس، لاسيما أهل الأمر وأرباب الدولة، فإني لا أتصل بأحد منهم كائنا من كان، ولم يكن لى رغبة فى سوى العلوم، وكنت أدرس الطلبة في اليوم الواحد نحو ثلاثة عشر درسا ... فلم أشعر إلا بطُلاَّب لي من الخليفة بعد موت القاضي المذكور بنحو أسبوع، فعزمت إلى مقامه العالي فذكر لي أنه قد رجح قيامي مقام القاضي المذكور، فاعتذرت له بما كنت فيه من الاشتغال بالعلم، فقال: القيام بالأمرين ممكن، وليس المراد إلا القيام بفصل ما يصل من الخصومات إلى ديوانه العالي في يوميّ اجتماع الحكام فيه، فقلت: سيقع منى الاستخارة لله، والاستشارة لأهل الفضل، وما اختاره الله ففيه الخير.
فلما فارقته ما زلت مترددا نحو أسبوع ولكنه وفد إليَّ غالبُ من ينتسب إلى العلم في مدينة صنعاء وأجمعوا على أن الإجابة واجبة، وأنهم يخشون أن يدخل في هذا المنصب الذي إليه مرجع الأحكام الشرعية في جميع الأقطار اليمنية من لا يوثق بدينه وعلمه، وأكثروا من هذا، وأرسلوا إليّ بالرسائل المطولة، فقبلت مستعينا بالله ومتكلا عليه، ولم يقع التوقف على مباشرة الخصومات في اليومين فقط، بل انثال الناس من كل محل، فاستغرقت في ذلك جميع الأوقات إلا لحظات يسيرة قد أفرغتها للنظر فى شئ من كتب العلم أو لشئ من التحصيل وتتميم ما قد كنت شرعت فيه، واشتغل الذهن شغلة كبيرة، وتكدر الخاطر تكدرا زايدا، ولا سيما وأنا لا أعرف الأمور الاصطلاحية في هذا الشأن، ولم أحضر عند قاض في خصومة ولا في غيرها، بل كنت لا أحضر في مجالس الخصومة عند والدي رحمه الله من أيام الصغر فما بعدها، ولكن شرح الله الصدر وأعان على القيام بذلك الشأن، ومولانا الخليفة حفظه الله ما ترك شيئا من التعظيم إلا وفعله، وكان يجلني إجلالا عظيما وينفذ الشريعة على قرابته وأعوانه بل على نفسه... وأسأل الله بحوله وطَوله أن يرشدني إلى مراضيه، ويحول بيني وبين معاصيه، وييسر لى الخير حيث كان، ويدفع عنى الشر، ويقيمني في مقام العدل، ويختار لي ما فيه الخير في الدين والدنيا.
وهنا أنتهز الفرصة لأقدم أنموذجاً عن أئمة الزيدية الحاكمين في تلك الفترة، والذي من أهم صفاتهم عند الزيدية العدل والفقه الشرعي، فأورد شيئاً من ترجمة الإمام المنصور بالله الزيدي، العباس بن الحسين، مختصرة مما أورده الشوكاني نفسه: ولد سنة 1151 في ولاية والده الإمام المهدي بالله، وتولى الإمامة بعد وفاته في سنة 1189، فبايعه العلماء والحكام آل الإمام وسائر الناس على اختلاف طبقاتهم، ولم يتخلف عنه أحد، وفرحوا به واغتبطوا بخلافته وأحبهم وأحبوه، وهو آخذ من علم الشرع بنصيب، قرأ قبل مصير الخلافة إليه في الفقه والنحو على العلامة الحسن بن علي حنش الذي صار وزيرا له، وله شغف شديد بالكتب النفيسة ومطالعتها، بحيث لا يقف في مكان إلا وعنده منها عدة، وله في التواضع ما لا يصدِّق بذلك إلا من تاخمه وجالسه، فإنه لا يعد نفسه إلا كأحد الناس، ثم له من حسن الأخلاق أوفر حظ وأكرم نصيب، وهو مجبول على الغريزتين اللتين يحبهما الله ورسوله الكرم والشجاعة، مع ما جبل عليه من حسن النية وكرم الطوية، وتفويض الأمور إلى خالقه، والوقوف تحت المشيئة، وبهذا السبب ظفره الله بمن يناويه ونصره على جميع من يعاديه فلم تقم لباغ عليه قايمة.
ثم يتحدث الشوكاني عن اتباع الشرع وتواطئ الحاشية لإخفاء الأمور عن الإمام، فيقول: وإذا وقع في جانب الرعية ما لا يناسب الشرع فهو بسبب من غيره، وأما هو فلا يحب إلا الخير ولا يريد إلا العدل، وإذا اتضح له ذلك أبطله ولم يرض به، وكثيرا ما يخفى عليه ذلك بسبب مصانعة بعض من يتصل به للبعض الآخر، فمن هذه الحيثية قد يقع أمر لا يريده ولا يرضى به، وقد اشتُهِر هذا بين الناس حتى لا يقع التوجع منه في شئ أبدا، بل لجميع الرعية فيه غاية المحبة بحيث أنه مرض في بعض السنين فكانوا يجتمعون ويبكون ويدعون له بالبقاء، وقل أن يتفق مثل هذا لأحد من الأئمة والسلاطين في المتقدمين والمتأخرين.
ولما توفي المنصور في سنة 1224 وتمت بيعة ابنه المتوكل أحمد، كان الشوكاني بصفته القاضي أول من بايعه ثم تولى أخذ البيعة له من أخوته وأعمامه وسائر آل الإمام القاسم  وجميع أعيان العلماء والرؤساء، ولما توفى المتوكل في سنة 1231 قام بعده ابنه عبد الله وتلقب بالمهدي، وكان الشوكاني كذلك أول من بايعه ثم أخذ له البيعة من الأمراء والحكام والأعيان.
ومن فوائد الشوكاني في القضاء حفظاً لحقوق النساء الضعيفات من المتسلطين الطامعين، ما ذكره في ترجمته للقاضي السيد هاشم بن يحيى ابن القاسم، المولود سنة 1104 والمتوفى سنة 1158: كان يرى أن إقرارات النساء لقرابتهن وتمليكهن لهم وإباحتهن ونحو ذلك لا يصح عنده، لضعف إدراكهن وعدم خبرتهن، ووصل إليه بعض أهل صنعاء بقريبة له وقد كتب مرقوما تضمن أنها ملَّكته أموالا، وجاء بجماعة يعرِّفونها فقرأ عليها ذلك المرقوم فأقرت به، فقال لها: هل معك خاتم في يدك؟ قالت: نعم، قال: أريد أنظر إليه. فأعطته خاتماً كان بإصبعها فقال لها: وهذا اجعليه من جملة التمليك. فقالت: لا أفعل، إنه لي! وكرر ذلك عليها فلم تقبل. قال: فعلمتُ من ذلك أن المرأة لا تعد ما غاب عنها ملكا لها. ثم مزق المكتوب.
ثم أبدى الشوكاني رأيه في ذلك: لا ريب أن غالب النساء ينخدعن ويفعلن لا سيما للقرابة كما يريدونه بأدنى ترغيب أو ترهيب، خصوصا المحجبات، وقد يوجد فيهن نادرا من لها من كمال الإدراك ومعرفات التصرفات وحقائق الأمور ما للرجال الكملاء، وقد رأيت من ذلك عجائب وغرائب، والذي ينبغي الاعتماد عليه والوقوف عنده: هو البحث عن حال المرأة التى وقع منها ، فإن كانت ممارِسة للتصرفات ومطلعة على حقائق الأمور، وفيها من الشدة والرشد ما يذهب معه مظنة التغرير عليها، فتصرفها صحيح كتصرف الرجال، وإن لم يكن كذلك فالحكم باطل، لأن وصاياها التى لا تتعلق بقربة تخصها من حج أو صدقة أو كفارة أو الواجب وكذلك تخصيصها لبعض القرابة دون بعض بنذر أو هبة أو تمليك أو إقرار يظهر فيه التوليج، وأما تصرفاتها بالبيع إلى الغير والمعاوضة فالظاهر الصحة، وإذا ادعت الغبن كانت دعواها مقبولة وإن طابقت الواقع، ولا يحل دفعها بمجرد كونها مكلفة متولية للبيع ولا غبن على مكلف، فإنها بمن ليس بمكلف أشبه إلا في النادر.
نشأ الشوكاني في بيئة ومن أسرة تلتزم المذهب الزيدي، ودرس على كبار علمائه، وهو يحترمهم ويقر لهم بالإمامية والفضل، ويثني على السابق واللاحق منهم الثناء العطر، ويقول في ترجمته لابن الوزير: وكيف يمكن شرح حال من يزاحم أئمة المذاهب الأربعة فمَن بعدهم من الأئمة المجتهدين في اجتهاداتهم، ويضايق أئمة الأشعرية والمعتزلة في مقالاتهم، ويتكلم في الحديث بكلام أئمته المعتبرين مع إحاطته بحفظ غالب المتون ومعرفة رجال الأسانيد شخصا وحالا وزمانا ومكانا، وتبحره في جميع العلوم العقلية والنقلية على حد يقصر عنه الوصف ...  ولو لقيه الحافظ ابن حجر بعد أن تبحر في العلوم لأطال عنان قلمه في الثناء عليه، فإنه يثني على من هو دونه بمراحل... وكذلك السخاوي لو وقف على العواصم والقواصم لرأى فيها ما يملأ عينيه وقلبه، ولطال عنان قلمه في ترجمته، ولكن لعله بلغه الاسم دون المسمى.
ثم يتأسف الشوكاني أن لا يهتم علماء السنة بعلماء الزيدية فيعطوهم حقهم من التقدير والاعتبار، فيقول: ولا ريب أن علماء الطوائف لا يكثرون العناية بأهل هذه الديار لاعتقادهم في الزيدية ما لا مقتضى له إلا مجرد التقليد لمن لم يطلع على الأحوال، فإن في ديار الزيدية من أئمة الكتاب والسنة عددا يجاوز الوصف، يتقيدون بالعمل بنصوص الأدلة، ويعتمدون على ما صح في الأمهات الحديثية، وما يلتحق بها من دواوين الإسلام المشتملة على سنة سيد الأنام، ولا يرفعون إلى التقليد رأسا، لا يشوبون دينهم بشئ من البدع التى لا يخلو أهل مذهب من المذاهب من شيء منها، بل هم على نمط السلف الصالح في العمل بما يدل عليه كتاب الله، وما صح من سنة رسول الله، مع كثرة اشتغالهم بالعلوم التى هي آلات علم الكتاب والسنة من نحو وصرف وبيان وأصول ولغة، وعدم إخلالهم بما عدا ذلك من العلوم العقلية، ولو لم يكن لهم من المزية إلا التقيد بنصوص الكتاب والسنة وطرح التقليد، فإن هذه خصيصة خص الله بها أهل هذه الديار في هذه الأزمنة الأخيرة، ولا توجد في غيرهم إلا نادرا.
ولكن يصعب أن نعد الشوكاني من الزيدية وإن انتمى إليهم، فهو، كما أشرنا من قبل ونذكره فيما بعد،  يعتبر نفسه مجتهداً مستقلا تمام الاستقلال لا يلتزم مسبقاً برأي لمن سبقوه من العلماء والفقهاء.
واحترام الصحابة جميعاً هو نهج أصيل عند الزيدية، ولكن بعضهم قد يحيدون عنه بتأثير من لا خلاق له من مشايخهم والساعين وراء استقطاب الجماهير من خلال إثارة الغوغاء بالتطرف الأجوف فيهاجمون بعض الصحابة رضوان الله عليهم مسايرين في ذلك للرافضة من الشيعة، وقد تصدى لهذه الظاهرة الإمام الشوكاني فألف في سنة 1208 رسالة أسماها إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي، ونقل فيها إجماع أئمة الزيدية من ثلاث عشرة طريقة على عدم ذكر الصحابة بسب أوما يقاربه، فتعرض الشوكاني لغضب أولئك المتاجرين بأعراض صحابة رسول الله، قال عن ذلك في البدر الطالع: فقامت قائمة جماعة من الرافضة الذين بصنعاء المخالفين لمذاهب أهل البيت، فجالوا وصالوا وتعصبوا وتحزبوا، وأجابوا بأجوبة ليس فيها إلا محض السباب والمشاتمة، وكتبوا أبحاثا نقلوها من كتب الإمامية والجارودية، وكثرت الأجوبة حتى جاوزت العشرين وأكثرها لا يُعرف صاحبه، واشتغل الناس بذلك أياما، وزاد الشر وعظمت الفتنة، فلم يبق صغير ولا كبير ولا إمام ولا مأموم الا وعنده من ذلك شئ وأعانهم على ذلك جماعة ممن له صولة ودولة... وكل من عنده أدنى معرفة يعلم أنى لم أذكر فيها إلا مجرد الذب عن أعراض الصحابة الذين هم خير القرون، مقتصرا على نصوص الأئمة من أهل البيت، ليكون ذلك أوقع في نفوس من يكذب عليهم وينسب الى مذاهبهم ما هم منه برآء، ولكن كان أهل العلم يخافون على أنفسهم ويحمون أعراضهم فيسكتون عن العامة، وكثير منهم كان يصوِّبهم مداراة لهم، وهذه الدسيسة هي الموجبة لاضطهاد علماء اليمن وتسلط العامة عليهم وخمول ذكرهم وسقوط مراتبهم، لأنهم يكتمون الحق، فإذا تكلم به واحد منهم وثارت عليه العامة صانعوهم وداهنوهم وأوهموهم إنهم على الصواب، فيتجرأون بهذه الذريعة على وضع مقادير العلماء وهضم شأنهم، ولو تكلموا بالصواب، أو نصروا من يتكلم به، أو عرَّفوا العامة إذا سألوهم الحق وزجروهم عن الاشتغال بما ليس من شأنهم، لكانوا يدا واحدة على الحق، ولم يستطع العامة ومن يلتحق بهم من جهلة المتفقهة إثارة شئ من الفتن، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفي نفس الموضوع يتحدث الشوكاني عن فتنة طائفية بين أهل السنة وبين الزيدية وقعت في صنعاء  سنة 1216 بتدبير من بعض رجال الدولة لغرض دنيوي سياسي، وكان محراكها شيخه في علم الفرائض والوصايا والمساحة، السيد يحيى بن محمد الحوثي، وقد رغبت في إيرادها لما تعطيه من صورة حول العصر والقضية وحول الشوكاني كذلك، وأنقل بتصرف هنا شيئاً مما أورده عنها في البدر الطالع:
وهو رجل خاشع متواضع كثير الأذكار سليم الصدر إلى غاية يعتريه في بعض الأحوال حدة مفرطة ... أقعده بعض أهل الدولة ممن يتظاهر بالتشيع، مع الجهل المفرط والرفض باطنا، على كرسي أكابر العلماء المتصدرين للوعظ في جامع صنعاء، وأمره أن يملي على العامة كتاب تفريج الكروب في مناقب علي كرم الله وجهه، ولكن لم يتوقف صاحب الترجمة على ما فيه، بل جاوز ذلك إلى سب بعض السلف مطابقة لغرض من حَمَلَه على ذلك لقصد الإغاظة لبعض أهل الدولة المنتسبين إلى بني أمية، كل ذلك لما بين الرجلين من المنافسة على الدنيا والقُرب من الدولة وعلى جمع الحطام، فكان صاحب الترجمة يصرخ باللعن على الكرسي فيصرخ معه من يحضر لديه من العامة، وهم جمع جم وسبب حضورهم هو النظر إلى ما كان يسرج من الشمع وإلى الكرسي لبعد عهدهم به، وليسوا ممن يرغب في العلم، فكان يرتج الجامع ويكثر الرهج ويرتفع الصراخ، ومع هذا فصاحب الترجمة لا يفهم ما في الكتاب لفظا ولا معنى، بل يصحف تصحيفا كثيرا، ويلحن لحنا فاحشا ويعبر بالعبارات التى يعتادها العامة ويتحاورون بها في الأسواق.
فلما بلغ ذلك مولانا خليفة أشار إلى عامل الأوقاف أن يأمر صاحب الترجمة أن يرجع إلى مسجده، فحضر العامة تلك الليلة على العادة ومعهم جماعة من الفقهاء الذين وقع الظلم بهذا الاسم بإطلاقه عليهم فإنه أجهل من العامة، فلما لم يحضر صاحب الترجمة في الوقت المعتاد لذلك وهو قبل صلاة العشاء ثاروا في الجامع ورفعوا أصواتهم باللعن، ومنعوا من إقامة صلاة العشاء، ثم انضم إليهم من في نفسه دغل للدولة أو متستر بالرفض، ثم اقتدى بهم سائر العامة فخرجوا من الجامع يصرخون في الشوارع بلعن الأموات والأحياء، وقد صاروا ألوفا مؤلفة، ثم قصدوا بيوت بعض الفقهاء فرجموها وأرادوا قتل بعضهم فهربوا.
ثم بعد ذلك عزم هؤلاء العامة وقد تكاثف عددهم إلى بيت السيد علي بن إبراهيم ورجموه وأفزعوا في هذه البيوت أطفالا ونساء وهتكوا حرما، وكان السبب في رجمهم بيته أنه كان في تلك الأيام يتصدر للوعظ في الجامع، ولم يكن رافضيا لعانا، ثم عزموا جميعا وهم يصرخون إلى بيت الوزير الحسن بن عثمان العلفي وإلى بيت الوزير الحسن بن علي حنش، والبيتان متجاوران فرجموهما، وسبب رجم بيت الأول كونه أموي النسب، ورجم بيت الآخر كونه متظهرا بالسنة متبريا من الرفض، واستمروا على ذلك نحو أربع ساعات، ثم بعد ذلك غار بعض أولاد الخليفة وأصحابه فكفوهم فانكفوا وقد فعلوا ما لايفعله مؤمن ولا كافر.
وفي اليوم الآخر أرسل الخليفة حفظه الله للوزير والأمراء، وقد حصل الخوف العظيم من ثورة العامة، فاستشارني فأشرت عليه أن الصواب المبادرة بحبس جماعة من المتصدرين في الجامع للتشويش على العوام وإيهامهم أن الناس فيهم من هو منحرف عن العترة، وأن التظاهر بما يتظاهرون به من اللعن ليس المقصود به إلا إغاظة المنحرفين، ونحو هذا من الخيالات التى لا حامل لهم عليها إلا طلب المعاش والرياسة والتحبب إلى العامة، وكان من أشدهم في ذلك السيد إسماعيل بن عز الدين النعمي، فإنه كان رافضيا جلدا مع كونه جاهلا جهلا مركبا، وفيه حدة تفضي به إلى نوع من الجنون، وصار يجمع مؤلفات من كتب الرافضة ويمليها في الجامع على من هو أجهل منه، ويسعى في تفريق المسلمين ويوهمهم أن أكابر العلماء وأعيانهم ناصبة يبغضون عليا كرم الله وجهه، ومع هذا فهو لا يدري بنحو ولا صرف ولا أصول ولا فروع ولا تفسير ولا حديث، بل هو كصاحب الترجمة في التعطل عن المعارف العلمية لكن صاحب الترجمة يعرف فنا من فنون العلم كما قدمنا، وأما هذا فلا يعرف شيئا إلا مجرد المطالعة لمؤلفات الرافضة الإمامية ونحوهم الذين هم أجهل منه.
ثم أشرت عليه حفظه الله أن يتتبع من وقع منه الرجم ومن فعل تلك الأفاعيل، فوقع البحث الكلي منه ومن خواصه، فمن تبين أنه منهم أودع الحبس والقيد، وأرسل بجماعة منهم إلى حبس زيلع وجماعة إلى حبس كمران، وأما صاحب الترجمة ومن شابههه في هذا المسلك فإنه حبس نحو شهرين ثم أطلق هو ومن معه، ووقى الله شرالفتنة بالحزم الواقع بعد أن وجلت القلوب وخاف الناس، وبعد هذه الواقعة بنحو سنة عول صاحب الترجمة في أن يكون أحد أعوان الشرع ومن جملة من يحضر لدى، فأذنت له وصار يعتاش بما يحصل له من أجرة تحرير الورق، وذلك خير له مما كان فيه إن شاء الله.
وابتدأ الشوكاني رحلته المديدة مع التأليف في سن مبكرة نسبياً، كما رأينا أنه باشر شرح المنتقى لابن تيمية الجد قبل وفاة شيخه العلامة عبد القادر بن أحمد في سنة 1208، ويضيق المجال عن تعداد مصنفاته التي تزيد على مائة كتاب ورسالة، ولكن نشير إلى أهمها:
كتاب نيل الأوطار من أسرار منتقى الأخبار، وهو الشرح الذي أشرنا إليه من قبل، وكان يقول: إنه لم يرض عن شيء من مؤلفاته سواه لما هو عليه من التحرير البليغ. وتتبدى فيه شخصيته الاجتهادية التي لا تتقيد باجتهاد الأسلاف، ويقول في مقدمة الكتاب: فدونك يا من لم يذهب ببصر بصيرته أقوال الرجال، ولا تدنست فطرة عرفانه بالقيل والقال، شرحا يشرح الصدور، ويمشي على سنن الدليل وإن خالف الجمهور، وإني معترف بأن الخطأ والزلل، هما الغالبان على من خلقه الله من عجل، ولكني قد نصرت ما أظنه الحق بمقدار ما بلغت إليه الملَكة، ورُضت النفس حتى صفت عن قذر التعصب الذي هو بلا ريب الهلكة.
ومن بابة هذا الكتاب، كتابه أدب الطلب ومنتهى الأرب، الذي حققه الأستاذ يحيى عبد الله السريحي، وهو بمثابة منهج يضعه الشوكاني لطالب العلم ليسلك طريق الاجتهاد ويبتعد عن التقليد، ويتضح فيه منهجه الاجتهادي الذي لا يأخذ بالاعتبار غير السنة النبوية، ويعرض عن القياس والإجماع وغيرها من أصول الفقه الرئيسة والفرعية.
كتاب فتح القدير؛ الجامع بين فني الرواية والدراية من التفسير، وهو تفسيره للقرآن الكريم، ويعتمد فيه على الحديث والفقه واللغة، دون إطالة وإغراب أو اختصار وإخلال، في ترتيب جامع واضح ولغة سلسلة مريحة، وقد قوبل على مؤلفه سنة 1235.
كتاب إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، في أصول الفقه، وهو تقعيد لمنهج الشوكاني المتفرد في الاجتهاد، وقد صنفه كما قال في المقدمة تداركاً فقد: صار كثير من أهل العلم واقعا في الرأي، رافعا له أعظم راية، وهو يظن أنه لم يعمل بغير علم الرواية، حملني ذلك على هذا التصنيف، في هذا العلم الشريف، قاصدا به إيضاح راجحه من مرجوحه، وبيان سقيمه من صحيحه، موضحا لما يصلح منه للرد إليه، وما لا يصلح للتعويل عليه، ليكون العالم على بصيرة في علمه يتضح له بها الصواب، ولا يبقى بينه وبين درك الحق الحقيق بالقبول الحجاب.
كتاب البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، وهو كتاب ماتع مفيد، صنفه الشوكاني في سنة 1213، ورجع إليه بعد ذلك بأكثر من 20 سنة فأضاف عليه وذكر وفيات من توفوا فيما مضى، وقد ترجم فيه لأعلام العرب والعجم من علماء وزهاد وسلاطين وأمراء، وتراجمه لأهل اليمن فيها توسع يثرينا بصورة دقيقة عن الحالة العلمية والسياسية في اليمن في حقبته، أما تراجمه لغيرهم فأغلبها مختصر ولكنها وافية تماماً في استعيابها لمعالم حياتهم، وهذا من نباهة ودقة هذا العالم الكبير.
ومن ناحية أخرى يظهر الكتاب طبع الإنصاف والسماحة الذي اتسم بها الشوكاني وهما خصلتان أساسيتان لدى المؤرخ العادل الصادق، وقال هو في ذلك: صنت هذا الكتاب عن ذكر المعايب، وطهرته عن نشر المثالب، لا كما يفعله كثير من المترجمين من الاستكثار من ذلك، فإن الغيبة قبيحة إذا كانت بفلتات اللسان التى لا تحفظ ولا يبقى أثرها بل تنسى في ساعتها، فكيف بها إذا حررت بالأقلام وبقيت أعواما، ولا سيما إذا لم يتعلق بها غرض الجرح والتعديل، فإنها من حصايد الألسنة التى تكب صاحبها على منخره في نار جهنم، نسأل الله السلامة.
وأذكر مثالا على ذلك ما أورده في ترجمة أمير كوكبان السيد شرف الدين بن أحمد، والذي اختلف معه الشوكاني بصفته القاضي الأول في اليمن، في مسائل فقهية وأخرى إجرائية تتعلق بالقضاء، ولكنه أنصفه فقال: وما كنت أود له التصميم فى مثل هذا الأمور الشرعية فإنه كثير المحاسن لولا هذه الخصلة التى كادت تغطي على محاسنه... ولكنه ليس ممن يناظر في المسائل ويعارض في الدلائل. ثم يقول: وهو محبوب عند رعيته، وذلك دليل عدله فيهم. ثم يروي الشوكاني أن الإمام غزا كوكبان وجعل عليها غير هذا الأمير الذي وضعه تحت الإقامة الجبرية في صنعاء، فسنحت الفرصة للشوكاني ليلتقي بخصمه السابق، ويقول: وعند الاجتماع به فى كثير من الأوقات لا سيما بعد دخوله صنعاء في الحضرة الإمامية، وجدت فيه من الظرافة واللطافة وحسن المحاضرة وجميل المعاشرة وقوة الدين وكثرة العبادة ما يفوق الوصف، وما زلت أعول على مولانا الإمام حفظ الله بإرجاعه بلاده على ما كان عليه، وكثّرت في ذلك حتى ألهمه الله إلى ذلك، فلله الحمد. أي أن الشوكاني رحمه الله سعى في إعادة هذا الأمير إلى إمارة كوكبان، وهذا من تمام فضله ومروءته.
كتاب السيل الجرار على حدائق الأزهار، وهو آخر مؤلفاته، وهو كتاب فقه يشتمل على تقرير ما دل عليه الدليل، ودفع ما خالفه، والتعرض لما ينبغي التعرض له والاعتراض عليه من شروح الكتاب السابقة، وكان يكتبه عند تصنيفه البدر الطالع فقال عنه: وهذا الكتاب، إن أعان الله على تمامه، فسيعرف قدره من يعترف بالفضائل، وما وهب الله لعباده من الخير.
سار الشوكاني على منهج والده في العزلة والبساطة، فعاش كما يقول: منجمعا عن بني الدنيا، لم يقف بباب أمير ولا قاض، ولا صحب أحدا من أهل الدنيا، ولا خضع لمطلب من مطالبها، بل كان مشتغلا في جميع أوقاته بالعلم درسا وتدريسا وإفتاء وتصنيفا، عائشا في كنف والده رحمه الله، راغبا في مجالسة أهل العلم والأدب وملاقاتهم والاستفادة منهم وإفادتهم، وهو يختم ترجمته الذاتية في البدر الطالع بدعاء في غاية الرقة والتصوف، يقول فيه: وهو الآن يسأل الله الذي لا إله إلا هو الحليم الكريم رب العرش العظيم، أن ينزع حب الدنيا من قلبه حتى ينظر إلى الحقيقة فيفوز بنيل دقائق الطريقة. اللهم اجذبه إلى جنابك العلىِّ جذبة يصحى عندها من سكر غروره، افتح له خوخة يتخلص بها عن حجابه المظلم إلى المعارف الحقة، ولا تخرجه من هذه الدنيا إلا بعد أن يسبح في بحار حبك، ويغسل أدران قلبه بمياه قربك. وفي هذا الصدد ينبغي أن نذكر أن الشوكاني قد تلقى في سنة 1234 الذكر على الطريقة النقشبندية الصوفية من السبد عبد الوهاب بن محمد الحسني الموصلى عندما زار صنعاء واتصل به.
كان الشوكاني شاعراً، وأي فقيه في اليمن ليس بشاعر؟ ولكن شعره يجيء في مناسبات كالمطارحات الأدبية والفقهية والمراسلات الإخوانية والتعازي والمدائح لمشايخه، وقد جمع ما كتبه من الأشعار لنفسه وما كُتب به إليه في نحو مجلد، ومن شعره يفتخر:

ولي سلف فوق المجرة خيموا ... سرادقهم من دونه كل كوكب
وما بي عن أوساطهم من تخلف ... ولا ركبوا في مجدهم غير مركبي
ولكنها الأيام يلبسها الفتى ... على قدر من غالب أو مغلب
وإني امرؤ أما نِجاري فخالص ... وأما فِعالي فاسأل الدهر واكتب
ولست بلَّباس لثوب مزور ... ولكن ضوء الشمس غير محجب
وإن فتى يغشى الدنايا وبيته ... على قمة العليا فتى غير معتب
هذه سيرة إمام مجتهد مأجور مشكور، ونختم ببيتين من شعره:
أنا راض بما قضى ... واقف تحت حكمه
سائل أن أفوز بالخير ... من حسن ختمه

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer