الأحد، 27 ديسمبر 2015

حدث في الخامس عشر من ربيع الأول



في الخامس عشر من ربيع الأول من عام 773= 26 أيلول/سبتمبر 1371 وقعت أول مواجهة عسكرية كبيرة بين الدولة العثمانية وبين الصرب، وذلك في معركة تشيرمانون التي نشبت على نهر ماريتسا الواقع عند ملتقى حدود اليونان وبلغاريا، ولذا يقال لهذه المعركة كذلك معركة ماريتسا، وانتهت المعركة بانتصار العثمانيين انتصاراً حاسماً فتح الطريق أمامهم للتقدم عبر وديان نهر ماريتسا والسيطرة عى شمال وغرب شبه جزيرة البلقان.

ووقعت المعركة في عهد السلطان مراد الأول، المولود سنة 726=1326، والذي يعد ثالث سلاطين بني عثمان والذي تولى السلطنة سنة 761=1360، بعد وفاة والده أورخان عن 81 سنة وحكم دام 35 سنة.

وورث السلطان مراد الأول مملكة لم تكن تسيطر إلا على ما يمثل اليوم أواسط تركيا، وكانت عاصمتها بورصة، وكانت أقوى الدول المجاورة لها دولة القَرَمَان التركمانية، ويقال لها كذلك: قره مان، وكانت تخاف من الدولة العثمانية الفتية الصاعدة، وكان ملكها علاء الدين يحرض أمراء الأقاليم الآخرين على قتال العثمانيين، فافتتح مراد عهده بأن قضى على التهديد الذي يواجهه في الشرق من دولة القرمان ودسائسها، وهاجمها واستولى على عاصمتها أنقرة، وأبرم الصلح مع ملكها وزوجه ابنته نيلوفر عربوناً لهذا الصلح، وتركه على مملكته.

وفي السنة التالية شن السلطان مراد الأول حملة عسكرية في تراقيا قادها مربيه السابق لالا شاهين، واللالا تعني مربي السلطان، واستولى في سنة 1361 على مدينة أدريانبول التي سماها أدرنة وجعلها عاصمته، وصارت الدولة العثمانية متاخمة للإمارات المستقلة في صربيا وبلغاريا وألبانيا، وفتحت سيطرة مراد الأول على وادي نهر ماريتسا الطريق أمامه إلى ممالك وسط البلقان، ذلك أن نهر ماريتسا ينبع من جبال ريلا في غربي بلغاريا ويتجه إلى أدرنة شرقاً ثم منها يتجه جنوباً حتى يصب في بحر إيجة، ويشكل الحدود الفاصلة بين بلغاريا وبين اليونان، ويجدر بالذكر أن دوق البندقية أرسل سفيرين إلى السلطان مراد ليهنئه بفتح أدرنة.

وإزاء هذا الخطر المحتوم دعا البابا أوربان الخامس إلى حملة صليبية، وتحالف على التصدي للتوسع العثماني ملوك المجر وصربيا والبوسنة ورومانيا، فأعدوا جيشاً كبيراً في سنة 1364 اقترب حتى صار بمرأى العين من أدرنة، ولكن واليها حاجي بك بادرهم بالهجوم وانتهت حملتهم بهزيمة منكرة، واضطر حكام بلغاريا أن يقبلوا بالتبعية للسلطان العثماني، ، وفي سنة 1365 وقعت جمهورية راجوزا معاهدة سلام وتجارة مع السلطان مراد الخامس، كانت أول معاهدة بين العثمانيين وبين دولة مسيحية، وراجوزا هي اليوم ميناء دوبروفنيك في كرواتيا، وكانت مركزاً تجارياً هاماً في البحر الأدرياتكي للبندقية والكرواتيين.

وهكذا أصبحت الدولة البيزنطية في وضع لا تحسد عليه، ففضلاً عن كونها أصبحت محصورة في رقعة صغيرة من الأرض، فقد صارت عاصمتها العريقة القسطنطينية محاطة بالترك من جهة الغرب الأوروبي، وفصلت عن باقي الأمارات المسيحية الصغيرة التي كانت تتقاسم شبه جزيرة البلقان، وفي سنة 1365 خاطر  الإمبراطور البيزنطي يوحنا بالايولوقس الخامس، فترك القسطنطينية في عهدة ابنه أندرونيقوس، وذهب إلى الملك الهنغاري لويس الكبير طالباً منه العون في مواجهة العثمانيين، ولكن لويس لم يكن يثق بالإمبراطور فرده خائباً، وفي طريق عودته إلى بلده قام البلغار بحجز الإمبراطور طالبين فدية لكي يطلقوا سراحه، ولم يظهر ابنه أية حماسة ليفك أسر أبيه، ولكن ابن خالته أماديوس السادس كونت سافوي شن هجوماً على البلغار وأجبرهم على إطلاق الإمبراطور.

ونصح أماديوس الإمبراطور أن يذهب إلى روما ويطلب العون من البابا أوربان الخامس، فأخذ بنصيحته وأمضى في روما 5 شهور دون نتيجة ملموسة، وحيث كانت له تجربة مماثلة قبل 15 سنة لقي فيها تجاوباً فاتراً لكون كنيسته الأرثوذكسية لا تتبع البابا في روما، عرض الإمبراطور هذه المرة أن يتحول إلى الكاثوليكية مقابل الدعم البابوي، وكان طريق عودته إلى القسطنطينية يمر بميناء البندقية، فاحتجزته حكومتها لكونه مديناً لها بمبالغ تخلَّف عن سدادها، فتنازل لهم عن جزيرة في بحر إيجة مقابل الدين وبعض المال الذي كان بأمس الحاجة إليه، وجرى كل هذا وابنه في القسطنطينية لا يكترث بما يجري لوالده، ولم يعد يوحنا الخامس إلى عاصمته إلا بعد قرابة 5 سنوات، وعاد إليها خائب الأمل محطم النفس.

وأثناء غياب الإمبراطور تحرك أماديوس السادس كونت سافوي على رأس حملة صليبية، وجاء من فرنسا ومعه صهر الإمبراطور حاكم جزيرة ليسبوس في بحر إيجة، والتي كانت تابعة لجمهورية جنوا في إيطاليا، واحتلت الحملة مدينة جاليبولي على الضفة الغربية الأوروبية للدردنيل، ولكن السلطان مراد الأول استعادها منهم في السنة القادمة، وجعلها قاعدة انطلاق لغزواته في البلقان.

وكانت صربيا يحكمها منذ سنة 768=1366 ملكان هما الملك فوكاشين مرنيافجفيتش والملك ستيفان أُورْوش، وأعد فوكاشين في آخر سنة 772=1371 جيشاً من 70.000 جندي وسار به نحو شقودرة، وهي اليوم في شمال غربي ألبانيا، ولكنه لما اقترب منها جاءته الأخبار أن هناك جيشاً عثمانيا قادماً من الشرق، فاتجه شرقاً لقتاله، وكان في مخططه أن ينتهز فرصة غياب مراد الأول الذي كان يحاصر مدينة بيجا قرب بورصة، فيتابع مسيره إلى أدرنة ليحاصرها ويستولي عليها، وفي ليلة 15 ربيع الأول سنة 773 خيم بجيشه في مكان يدعى تشيرمانون على ضفاف نهر ماريتسا، ويعرف اليوم باسم أورمِنيو في اليونان.

وكان الجيش العثماني بقيادة اللالا شاهين باشا، الذي كان نائب السلطان في ولاية الروم، ويعرف باسم بيلر بيّ روم إيلي، وكان مع لالا شاهين القائد العثماني ذي الأصل اليوناني الغازي إيفرينوس، وتتباين الأقوال في تقدير عدد الجيش العثماني حتى تصل به إلى 10.000 جندي، ولكنه على الأصح 800 جندي، وإزاء التفوق العددي الكبير للجيش الصربي قرر القائدان استغلال الليل للقيام بهجوم مباغت يقوم به فرسان العثمانيين ويليهم في الهجوم المشاة، وكان خيالة العثمانيين مشهورين بمهارتهم في الهجمات الصاعقة المعتمدة على الكر والفر، فقسموا فرسانهم إلى عدة أقسام ليهاجموا مخيمات الجيش من كل الجهات، ونجحت خطتهم في مفاجأة الجيش الصرب النائم مفاجأة تامة، فدبت الفوضى في صفوف الجيش الصربي وبادر جنوده بالفرار، وقتل في المعركة الملك فوكاشين وأخوه وولي عهده يوحنا، وتتالت هجمات الأتراك على الجيش الصربي المهزوم، والذي هرب أفراده من سيوف الأتراك ليموتوا غرقاً في نهر ماريتسا، وكانت خسائر الصرب جسيمة جداً حتى إن مكان المعركة صار يعرف باسم: هلاك الصرب.

وردعت نتائج المعركة في تشيرمانون بلغاريا عن التفكير في حرب العثمانيين، ورضي القيصر البلغاري إيفان شيشمان أن يكون تحت السيادة العثمانية، وزوج أخته المدعوة ثَمار كيرا من السلطان مراد في سنة 1373، وهكذا أصبح مراد الأول آمنا من أن يأتيه تهديد من الشرق وأصبح بمقدوره حشد أكبر من قواته إزاء الصرب في الجبهة الغربية.

ومن ناحية أخرى قضت المعركة على مملكة صربيا المستقلة الموحدة، وتقاسم ما بقي منها أمراء الصرب الذين لم يستطيعوا أو لم يريدوا أن يتفقوا على خليفة للملك فوكاشين بعد أن مات الملك أُورْوش بعد 4 شهور من معركة ماريتسا، وشهدت صربيا تنافساً على المُلك بين ماركو كراليفيتش ابن الملك القتيل فوكاشين وبين الأمير لازار ريبليانوفيتش أمير منطقة مورافيا في شمال صربيا، ولجأ ماركو للسلطان مراد لينال عرش والده، وقبل بالسيادة العثمانية على منطقته، وتضمن ذلك كالمعتاد تعهده بتقديم عدد من الجنود ليقاتلوا في صفوف جيش السلطان مراد.

ومن ناحية أخرى فتحت المعركة الطريق أمام العثمانيين للاتجاه جنوباً والاستيلاء على شمال وشرق اليونان لتصل حدود دولتهم إلى بحر إيجة، واتجهوا كذلك شمالاً للسيطرة على مقدونيا التي احتلوها في نفس السنة، وتوالى سقوط المدن والمناطق في البلقان، وسقطت صوفيا عاصمة بلغاريا في سنة 1385، وبحلول سنة 1388 كان العثمانيون قد احتلوا كل المناطق الواقعة جنوب نهر الدانوب باستثناء البوسنة وألبانيا واليونان وجزء من رومانيا وقلعة بلغراد التي بقيت عصيّة عليهم، ولم يعد بمقدور أحد أن يتصدى لهم سوى الهنغار في الشمال.

ومع التوسع في البلقان حدث تطور آخر في القسطنطينية في سنة 1373 أدى بالإمبراطور البيزنطي يوحنا بالايولوقس الخامس للقبول بالتبعية للدولة العثمانية، ذلك أنه بعد عودته من رحلته عاقب ابنه الكبير أندرونيقوس على تخليه عنه أثناء السفر، فحرمه من ولاية العهد وأعطاها لابنه الأصغر مانويل، وفي نفس الوقت تمرد صاووجي ابن السلطان مراد على والده، متفقاً مع المتمرد البيزنطي ولسبب متشابه، ذلك أن السلطان مراد حرمه من ولاية العهد ومنحها لابنه بايزيد.

وأرسل السلطان مراد جيشاً قضى على تمرد الأميرين، وفقأ أعينهما بعد القبض عليهما، وبذلك صارت له دالة على الإمبراطور، ولكن الأمير أندرونيقوس ما لبث أن عاد فأطاح بوالده في سنة 1376 وسجنه مع أخيه مانويل، وبسبب مساعدة السلطان مراد له، تنازل له عن مدينة جاليبولي، ولكن والده استطاع أن يستعيد عرشه في سنة 1379 بمساعدة عثمانية كذلك، وأصبح من الناحية العملية تابعاً للسلطان العثماني.

وفي سنة 1382 قام الأمير مانويل بالتمرد على والده بحجة أنه رضي بالسيادة العثمانية، وهرب مانويل إلى سالونيك حيث أنشأ مملكة مستقلة هاجم منها العثمانيين، فأرسل السلطان مراد وزيره خير الدين قره خليل باشا في سنة 1383 فحاصر سالونيك مدة أربع سنوات حتى استسلم مانويل في سنة 1387 للسلطان مراد الذي أرسله ليعيش في البلاط العثماني في بورصة.

وإلى جانب توسعه في البلقان واصل السلطان مراد توسعة مملكته في الأناضول، واستعمل في سبيل ذلك وسائل المصاهرة والإغراءات المادية والتهديد العسكري والحرب، واستطاع أن يمد سلطانه إلى توقاد، ثم تخلى الأمير حميد أوغلو أمير كرميان مقابل مبلغ من المال عن نصف أراضي إمارته، وزوج السلطان مراد ابنه بايزيد بابنة الأمير حميد، الذي قدم للسلطان مراد مدينة كوتاهية هدية في زواج ابنته، وبذلك دق مراد الأول إسفيناً بين كرميان وبين إمارة القرمان التي أصبح يحاصرها من الشمال ومن الغرب، وما لبث حكام هذه الإمارات أن اعترفوا بالسيادة العثمانية باستثناء القرمان.

وكان إمارة القرمان تحتفظ بعلاقات طيبة مع السلطنة المملوكية في مصر، وتدعي أنها تحت سيادتها، ولكن مراد الأول سحب البساط من تحتها عندما عقد في سنة 1386 معاهدة صداقة مع السلطان المملوكي، وارتكب أمير القرمان وصهر مراد الأول خطأً قاتلاً في نفس السنة عندما احتل بلدة كان مراد الأول قد حصل عليها من أمير كرميان، وكانت ذريعته في احتلاها أنها تابعة له في الأصل.

ولم يتردد السلطان مراد في انتهاز الفرصة التي قدمها له علاء الدين بك، فسار على رأس جيش تعداده 70.000 جندي، ولما التقى الجيشان، قام ابنه وولي عهده بايزيد بتحريك قواته بسرعة خاطفة أوقعت بقوات القرمان التي تشتت على الفور، ومن هنا اكتسب بايزيد لقب: يلدرِم، أي البرق. وجاءت ابنة السلطان ترجوه العفو عن زوجها فعفا عنه، فجاء وقبل يد السلطان، وكان لذلك مغزاه الكبير لدى حكام الإمارات في الأناضول التي أصبح السلطان مراد سيده دون منازع، وأصبح كذلك يسيطر على الطريق التجاري الهام الذي يصل الأناضول بالبحر المتوسط.

وفي سنة 1388 وقعت معركة في بلوشنيك قرب نيش في صربيا، وأوقعت فيها القوات الصربية والبوسنية والبلغارية هزيمة قوية بالجيش العثماني الذي كان يقوده اللالا شاهين، وخسر في المعركة نصف جيشه؛ 15.000 جندي، وأنعشت هذه الهزيمة آمال البلقانيين في إمكان انتصارهم على العثمانيين، وخيل لهم بعد هذه الهزيمة أن ميزان القوى قد اعتدل أو رجح إلى جانبهم.

وبعد الهزيمة العثمانية ارتد القيصر البلغاري إيفان شيشمان عن قبوله السيادة العثمانية، ونقض اتفاقه الذي يُلزِمُه أن يقدم للسلطان ما يطلبه منه من جنود وفقاً لتقاليد تلك الحقبة، وتحصن شيشمان في تارنوفو فأرسل السلطان جيشاً يقوده الوزير علي باشا إلى شمال جبال البلقان، واستولى الجيش على المدن واحدة تلو الأخرى، فغادر شيشمان تارنوفو إلى نيقوبول، ولكن الجيش العثماني أدركه وحصره فيها، وجرت مفاوضات بين الطرفين توصلا فيها إلى أن يعفو السلطان مراد عن شيشمان ويتركه في منصبه، ولكن بشروط أقسى كثير من السابق، فإلى جانب إلزامه بتجديد قبوله للسيادة العثمانية، ألزمه السلطان بأن يتنازل عن مدينة سليسترا التي كانت أكبر مدينة بلغارية على نهر الدانوب.

ولكن شيشمان تلكأ في الموافقة على تلك الشروط، فقد شجعه الأمراء من جيرانه على رفض السيادة العثمانية، ووعدوه بالمساعدة والمدد، فما كان من الجيش العثماني إلا أن باشر الحصار بجدية، ولما طلب شيشمان من جيرانه أن يساعدوه، عاد فارغ اليدين، فعاد للتفاوض مع السلطان مراد الذي ما عاد يثق بهذا المتقلب، ولذا أضاف إلى الشروط شرطاً يتضمن أن تتمركز القوات العثمانية في  المدن البلغارية الهامة.

وبعد انتصارهم في بلوشنيك قام الصرب والبوسنيون بالدعوة لحملة صليبية جديدة، وجمعوا جيشاً قاده الأمير الزعيم الصربي لازار ريبليانوفيتش، يساعده تورتكو ملك البوسنة، وشارك في الحملة أمراء هنغاريا وبولندا ورومانيا وبلغاريا، والتقى هذا الجيش مع الجيش العثماني الذي قاده مراد الأول ومعه ابنه بايزيد، وجرت المعركة في  عند سهول كوسوفو في 3 رجب سنة 791 = 1389، وكاد النصر أن يكون حليف الصرب عندما دب الاضطراب في الجيش العثماني بسبب مقتل السلطان مراد.

فقد ادعى أمير صربي يدعى ميلوس أوبيليج أنه انشق عن الجيش الصربي ويريد مقابلة السلطان مراد ليعرض عليه أمراً لا يطلع عليه سواها، فلما وصل إلى السلطان طعنه بخنجر كان يخفيه، ونال السلطان مراد الشهادة التي تمناها وكان عمره 64 سنة، وطويت بذلك صفحة سلطنته التي دامت 27 سنة، كان فيها قائداً متميزاً في شجاعته ودقة تخطيطه؛ خاض 37 معركة لم يهزم في أي منها، وتضاعفت في عهده أراضي السلطنة 5 أضعاف، ودفن السلطان مراد في مكان استشهاده ثم نقل جثمانه فيما بعد إلى بورصة.

وسارع الأمير بايزيد على الفور فضبط الأمور في الجانب التركي، واستمرت المعركة في مسارها، ونجح العثمانيون في تطويق الجيش الصربي وإيقاع هزيمة كارثية به، وقُتِل أمير الصرب لازار بعد أسره، ولا تزال معركة كوسوفو حية في ذاكرة الصرب وتقاليدهم، وهم يعتبرونها انتصاراً لهم لا شك فيه، ورفعت الكنيسة الأرثوذكسية الأمير لازار إلى مرتبة القديس الشهيد، ولا يزال شعراء الصرب ومغنوهم يحيون ذكرى المعركة بعاطفة حزينة ومبكاة مأساوية، ويعيدون استعراض ما لابسها من أحداث صحيحة وتخيلية وأبطال حقيقيين أو أسطوريين.

قال المؤرخ اليوناني لاونيكوس شالكوكوندايلس، المتوفى حوالي سنة 1490، في تاريخه الكبير حول الدولة البيزنطية عن السلطان مراد الأول: كان جسوراً، رابط الجأش، فعالاً شديداً ونشيطاً في شيخوخته كما كان في شبابه، منظماً لا يهمل أي تدبير، ولا يباشر عملاً ما لم يدرسه من كافة الوجوه، يعامل الدول والأفراد الذين يطيعونه ويسيرون في ركابه بالحسنى واللين والكرم مهما كانت أديانهم، ولكنه قاس على من يظهر له العداء، صادق الوعد حتى لو انقلبت الأمور عليه، حصل على ثقة الجميع من أعداء أو أصدقاء.

وتذكر الموسوعة البريطانية أن السلطان مراد الأول اتبع سياسة التعايش في بسط سلطان الدولة العثمانية في البلقان، فقد كان يُقِرُّ الأمراء المحليين في مناصبهم وعلى إقطاعاتهم، ما داموا يعترفون بسلطانه، ويدفعون له الجزية السنوية، ويقدمون له العساكر التي يطلبها عند الحاجة، وبفضل هذه السياسة تجنب العثمانيون في الغالب أن يقوم أهالي ونبلاء البلاد التي فتحوها بمحاربتهم، فقد كان النبلاء والعامة مطمئنين إلى أن أرواحهم وأملاكهم وأديانهم وأعرافهم وتقاليدهم ومناصبهم ستبقى على حالها إذا هم رضوا بالحكم العثماني ولم يحاربوه، واشتُهِر السلطان مراد الأول بالمحافظة على عهوده ومواثيقه، وبالعفو عند المقدرة.

كذلك تذكر الموسوعة أن السلطان مراد ترك حكم المساحات الشاسعة التي استولى عليها لأمرائها المحليين ووفقاً لأعراف أهلها، وبذلك لم تكن هناك حاجة لأن تنشئ السلطنة العثمانية نظام حكم جديد من قبلها في هذه المناطق المختلفة التقاليد والأعراق، وما كان ذلك سيتطلبه من إعداد ونفقات وإداريين مؤهلين، وبالمحافظة ما أمكن على الوضع السائد قبل الفتح العثماني لم يكن لدى الأهالي حافز قوي للعصيان والثورة، وبذلك لم تحتاج السلطنة إلى أن تبث أعداداً كبيرة من جنودها للحفظ على الأمن والسلام في هذه المناطق، وقد سار على هذا النهج أغلب السلاطين الذين جاءوا بعد السلطان مراد.

ورغم ذلك لا يمكننا القول أن الفتح العثماني لشبه جزيرة البلقان خلا من العقبات والمشاكل، فقد كان الزعماء السلافيون على استعداد للتعاون مع العثمانيين إذا كانوا سيعينوهم ضد منافسيهم، وقد مكنهم هذا من المحافظة على درجة من الاستقلال مع إقرارهم نوعاً ما بالتبعية العثمانية، وتراوحت درجتا الاستقلال والقبول بالتبعية وفقاً لظروف الدولة العثمانية والزعماء السلافيين، وبقيت لملوك الصرب دولة صغيرة في راسكا، حكموها من بلغراد ثم من سميدريفو، ولم تتوقف المقاومة الصربية للعثمانيين إلا بعد سقوط سميدريفو في سنة 1459.

ولا بد أن نعرج هنا على ذكر جنود النظام  الإنكشاري الذي أسسه السلطان مراد، فقد كان المتعارف عليه في كل الدول شرقيها وغربيها أن يقوم النبلاء والأمراء بتقديم عدد معين من الجنود إلى جيش السلطان عند حشده لحرب أو معركة، حيث كان السلطان يقطع كل أمير أرضاً زراعية معينة ليعيش من دخلها، وكان الأمير بدوره يفرض مبلغاً معيناً على من يزرعون تلك الأرض، وكانت هذه الإقطاعات تصنف وفقاً لدخلها المحدد في سجلات الدولة، فمثلاً كان الإقطاع الذي لا يتجاوز دخله 20.000 قرش يسمى تيمار، وما زاد على ذلك المبلغ يسمى زعامة، وكان على الإقطاعي أن يسكن عدداً من الجنود في أرضه وقت السلم، فإذا أعلن النفير أو الحرب عليه أن يجند عدداً يماثلهم، ويجهز الجميع على نفقته للحرب، وكانت هذه الإقطاعات لا يرثها إلا الذكور من الأعقاب وإذا انقرض الذكور تسترجعها الحكومة لتقطعها إلى جندي آخر بنفس هذه الشروط.

وسارت الدولة العثمانية على هذا النظام، ولكن السلطان مراد أدخل عليه تعديلات من أهمها تأسيس القوات الإنكشارية، والتي اشتق اسمها من كلمة يني جري التركية والتي تعني الجيش الجديد، وتقوم على فكرة إنشاء قوات عسكرية متفرغة متأهبة في السلم والحرب، تكون تابعة للسلطان مباشرة وتحت تصرفه في كل وقت، فلا يكون مديناً للأمراء بما يقدمونه له من جنود وتجهيزات، ويصبح مستقلاً عنهم تمام الاستقلال فلا يجرؤون بعد على التدخل في شؤون الدولة.

وفي بداية الأمر تأسست القوات الإنكشارية في سنوات 770=1370 لتكون الحرس الشخصي للسلطان، وجرى تجنيد أفرادها من أسرى الحرب، ثم جرى توسيعها لتصبح أول جيش محترف دائم عرفته أوروبا، وفي سنوات 780=1380 فرض السلطان مراد على الرعايا غير المسلمين، وأغلبهم من البلقان، أن يقدموا عدداً معيناً من أبنائهم ليكونوا جنوداً في عسكر السلطان، وكان هؤلاء الفتيان الصغار ينشَّؤون مسلمين ويدخلون في مدارس عسكرية لتربيتهم وتدريبهم على منهج عسكري صارم عماده الطاعة والإقدام، ولذا فإن ولاءهم سيكون فقط لولي نعمتهم السلطان دام ظله.

ومن الإصلاحات العسكرية في زمن السلطان مراد ما قام به الوزير تيمور طاش باشا فقد نظم فرق الخيالة العثمانيين المسماة سيباه على نظام جديد، واختار أن تكون أعلامهم حمراء اللون، وهي أساس العلم العثماني فالتركي الذي لا يزال حتى الآن.
 

الأحد، 20 ديسمبر 2015

حدث في الثامن من ربيع الأول


في الثامن من ربيع الأول من عام 1089 الموافق 30 نيسان/أبريل 1678 قام السلطان العثماني محمد الرابع بقيادة جيشه للهجوم على قلعة جهرين في أوكرانيا، ليكون أول سلطان عثماني يقود جيشه في حرب مع روسيا ستكون الأولى في سلسلة حروب ستستمر قروناً بين الدولتين الجارتين، وجرت الحرب الروسية التركية الأولى بسبب أوكرانيا، وتغيير ولاء حكامها.
كانت لكل من روسيا والاتحاد البولندي الليثواني مطامع في أوكرانيا، وضمت روسيا شرق أوكرانيا، حتى نهر الدنيبر، أما بولندا فسيطرت على غربه، ولكن الزعيم بودان خملِنتسكي قاد القوزاق في ثورة على البولنديين، وطلب المساعدة من العثمانيين والسويد الأعداء التقليديين لبولندا في تلك الفترة، ولما لم يلق استجابة لطلبه، اتجه إلى روسيا التي وجدت في طلبه فرصة لتمد نفوذها إلى غربي أوكرانيا، وهكذا نشبت الحرب بين روسيا وبين بولندا، والتي ستدوم 11 سنة.
وفي سنة 1664 برز زعيم أوكراني جديد من القوزاق اسمه بيتر دوروشينكو يدعو لاستقلال البلاد وقيام دولة أوكرانيا الموحدة، ولكن روسيا أثارت عليه أنصارها في شرق أوكرانيا فطلب دوروشينكو الدعم من تتار القِرِم ومن السلطان العثماني، واستطاع القضاء على التمرد،  ليصبح الرجل القوي في أوكرانيا.
وحفز الدعم الذي جاء لدوروشينكو من القِرِم ومن العثمانيين روسيا وبولندا على تناسي خلافهما وتوقيع معاهدة أندروسوفو في سنة 1667، والتي أنهت الحرب، وتضمنت تقسيم أوكرانيا وفقاً خط يشكله نهر الدنيبر، فأخذت روسيا المناطق الواقعة شرقي النهر بما فيها كييف ومقاطعة سمولنسك وسيفرسك، وأخذت بولندا المناطق الواقعة غربي النهر.
وكانت المعاهدة صدمة كبيرة للزعيم دوروشينكو فيمم وجهه إلى استانبول طالباً العون من السلطان العثماني، وبفضل الدعم العثماني استطاع هزيمة البولنديين واحتلال المناطق الغربية، وأصبح في سنة 1668 زعيم أوكرانيا دون منازع، ولكنه لم يمتع بهذا طويلاً فقد اتحد أعداؤه الداخليون والخارجيون ضده وشنت بولندا هجوماً أجبره على التخلي عن المناطق الغربية.
وهنا نتوقف برهة لتوضيح بعض النقاط التي لا غنى عن ذكرها، وأولها أن الزعيم الأوكراني دوروشنكو لم يكن زعيماً مطلقاً بل كان معيناً من قبل مجلس من الزعماء الأوكرانيين ويستمد شرعيته من تأييدهم له، وثانيها أن روسيا في تلك الحقبة كانت دولة من الدرجة الثانية تتفوق عليها بولندا في القوة العسكرية والاقتصادية وتتساويان في عدد السكان، وثالثها أن بولندا كانت إحدى أقوى الدول الأوربية آنذاك، وربما الثالثة بعد بريطانيا وألمانيا، والنقطة الرابعة أن بطركية كييف كانت تكافئ بطركية موسكو لدى الروم الأرثوذكس، فلما استولت روسيا على كييف توحد مركز الثقل في الكنيسة الأرثوذكسية في موسكو، والنقطة الأخيرة أن الدولة العثمانية منذ فتح القسطنطينية اعتبرت السلطان بمثابة قيصر الروم المندثر، وجعلته حامي الكنيسة الأرثوذكسية، ولما كانت بولندا كاثوليكية الديانة، فإن سيطرتها على أوكرانيا الأرثوذكسية كانت تصطدم بمبدأ جوهري في السياسة العثمانية وهو ألا تسمح للكنيسة الكاثوليكية بالهيمنة على الأرثوذكس.
وكان دوروشنكو قبل بضعة أشهر قد نال تأييد مجلس الزعماء لمسعاه في التحالف مع الإمبراطورية العثمانية وأرسل إلى استانبول وفداً من القوزاق للتفاوض عليه، وفي سنة 1669 أيد المجلس العسكري العام لأوكرانيا هذا التحالف، والذي أعلنه السلطان محمد الرابع في أواخر سنة 1079=1669.
وهنا ينبغي أن نشير إلى علاقة وثيقة وغير سياسية بين أوكرانيا وبين السلطان محمد الرابع، فقد كانت والدته خديجة تُرخان جارية أوكرانية الأصل، وكان محمد الرابع قد تولى العرش في سنة 1058=1648 ولما يتجاوز عمره 7 سنوات ، بعد أن دبرت جدته السلطانة كوسم مع رجال البلاط خلع والده السلطان إبراهيم ثم قتله، ووضعوا جدته في منصب نائبة السلطنة، ويقال لها بالتركية: والده سلطانة أي السلطانة الوالدة، ومحمد الرابع هو أصغر سلطان في تاريخ الدولة العثمانية.
وكانت الجدة السلطانة كوسم امرأة قوية طموحة مراوغة، ثم أرادت الجدة بعد 3 سنوات قتل حفيدها لتضع محله حفيداً آخر من أم أخرى، وانكشفت الخطة فقُتلت الجدة في سنة 1061=1651، وتحولت نيابة السلطنة إلى أم السلطان؛ السلطانة خديجة ترخان، التي كان عمرها 24 سنة.
وكانت السلطانة خديجة امرأة صالحة ذكية ليس لها مطامع شخصية، وتسلمت السلطة في وقت استشرى فيه الفساد والاختلاس في الدولة العثمانية، وانقسم رجال الديوان السلطاني شيعاً وأحزاباً في الوقت الذي خاضت فيه الدولة حربين مع البندقية على جزيرة كريت وفي بحر إيجة، واستمرت الحربان 25 سنة واستنزفتا خزينتها وتركتها شبه خاوية، وحل بسببها الضيق على الناس في أرزاقهم وضرائبهم، وبعد أن جربت السلطانة بضعة عشر شخصاً في منصب الصدر الأعظم، ومرت الدولة من جراء ما سبق بإحدى أسوأ الأزمات في تاريخ السلطنة، ثم اهتدت السلطانة في  سنة 1066=1656 إلى الوزير زاده محمد باشا كوبريلي، العجوز الألباني الأصل الذي قارب الثمانين، فعينته في منصب الصدر الأعظم، فاتخذ على الفور عدداً من الإجراءات الإدارية والدموية أعادت الاستقرار للدولة، ولما لمست السلطانة تُرخان كفاءته وإخلاصه تركت له مطلق الصلاحية لتبرهن عن تجرد نادر، وتفرغت لبناء عدد من الآثار العمرانية منها يني جامع في منطقة إمينونو في استانبول والذي دفنت فيه.
وعمل كوبريلي عملاً دائباً لإعادة الدولة العثمانية إلى مجدها وهيبتها، حتى وفاته في سنة 1072=1161، وخلفه ابنه فاضل أحمد باشا الذي قاد الجيش العثماني وهزم به جيش الإمبراطورية الألمانية في معركة نيوشاتل في سنة 1074=1663.
ونعود إلى دوروشنكو الذي واجه منافسين له أيدتهم روسيا أو بولندا وتمكنوا من تهديده تهديداً خطيراً فطلب العون من العثمانيين، فجهز الصدر الأعظم فاضل أحمد باشا كوبريلي جيشاً من 100.000 جندي، وقاد  الحملة السلطان محمد الرابع، الذي كان قد بلغ الثلاثين من عمره، واشتُهِر بحب الصيد والذهاب أياماً طويلة في رحلاته،حتى لقب بالصياد، ولكنه رغم تركه الأمور للصدر الأعظم إلا أنه كان قريباً من الأحداث العسكرية إذ كان يتخير أن تكون رحلات صيده قريبة من مواقع جيشه على خطوط القتال، وكان كذلك قريباً من الشعب لأنه كان يجلس لعامة الناس في أثناء صيده ويستمع لمطالبهم وظلاماتهم ويفصل فيها.
وغزا الجيش العثماني بولندا يقوده السلطان محمد الرابع بصحبة أكبر أبنائه الأمير مصطفى والبالغ من العمر 8 سنوات، واستطاع هزيمة القوات البولندية في معركة تشرتفينفكا في سنة 1672، ثم إخضاع المناطق التي سيطر عليها منافسو دوروشنكو، وانتهت الحرب بعد 6 أشهر بأن وقعت بولندا مع الدولة العثمانية في سنة 1083=1672 معاهدة بوشاش، أو بوزاكس، التي تضمنت سلخ مقاطعة بودوليا، ويسميها الأتراك كامينجه، عن أوكرانيا وضمها إلى أراضي الدولة العثمانية بصفة ولاية مستقلة، وأن تقوم في جنوب أوكرانيا إمارة قوزاقية يتزعمها دوروشنكو تحت الحماية العثمانية.
ورفض مجلس الأشراف في بولندا، وهو بمثابة البرلمان، الموافقة على معاهدة بوشاش، وقوى من موقفه وعود الدعم من ألمانيا والدولة البابوية، وشن القائد البولندي البارع جون سوبيسكي الحرب على العثمانيين واستطاع استرجاع أراض كثيرة منهم ثم هزمهم هزيمة منكرة في معركة خوتين في سنة 1084=1673، وأدى هذا الانتصار إلى أن انتخب ملكاً على بولندا لوفاة ملكها ميخائيل ويسنيويكي، واتخذ لقب جون الثالث، وتحرك بعد هذه الهزيمة الجيش العثماني وعلى رأسه السلطان والصدر الأعظم ودخل أوكرانيا وبولندا، وانتهت الحملة بأن وقعت تركيا وبولندا في سنة 1087=1676معاهدة زوراونو بشروط أفضل بقليل من تلك التي تضمنتها معاهدة بوشاش.
ولم تنجلي الحرب البولندية التركية عن معاهدة بوشاش فحسب، بل تسببت في حرب أهلية بين مؤيدي بولندا وبين مؤيدي تركيا، ونتج عنها خراب هائل في الحواضر الأوكرانية هرب بسببه أغلب سكان المناطق الشرقية إلى المناطق الغربية، وأدى كل ذلك إلى انفضاض الأوكرانيين عن دوروشينكو الذي اضطره ذلك للاعتماد أكثر فأكثر على القوات العثمانية، وزاد ذلك من النقمة الشعبية عليه وظهور مقاومة واسعة وقوية ضده، وانتخب مجلس الزعماء في سنة 1084=1674 زعيماً أوكرانياً جديداً اسمه إيفان سامويلوفيتش استطاع هزيمة دوروشينكو الذي استسلم له في أواخر سنة 1676، وأخذ للمنفى في موسكو حيث قضى بقية حياته في روسيا.
وتوفي في نفس الوقت الصدر الأعظم فاضل أحمد باشا كوبريلي، وخلفه زوج أخته وساعده الأيمن؛ قره مصطفى باشا مرزيفونلي وكان عمره 41 سنة، وعلى إثر هزيمة دوروشنكو جهز الصدر الأعظم في أوائل 1088=1677 جيشاً من 40.000 جندي ويقوده إبراهيم باشا الملقب بالشيطان، ومعه سليم كيراى خان القِرِم، وحاصر الجيش قلعة جهرين Chigrin في أوكرانيا، والتي تبعد 250 كيلومتراً جنوب شرقي كييف، ولكن القوات الروسية والأوكرانية صمدت للحصار، وكبدت الجيش التركي خسارة قاربت نصف جنوده، فاضطر إبراهيم باشا للانسحاب، وبسبب هذا الإخفاق عزل الصدر الأعظم قائدي الحملة ولكنه لم يوفق في اختيار القائدين الجددين فقد كانوا أضعف من سابقيهما.
وإزاء هذا الفشل أعدت الدولة جيشاً آخر على رأسه السلطان محمد الرابع ومعه الصدر الأعظم، وغادر الجيش استانبول في الثامن من ربيع الأول، وهي أول مرة يقود فيها سلطان بنفسه حملة عسكرية على روسيا، فقد كان ذلك من قبل موكولا لقائد الجيش أو خان القرم، فآنذاك كانت روسيا كما ذكرنا دولة من الدرجة الثانية، وبقي السلطان في سيليسترا، وهي اليوم في أقصى الشمال الشرقي في بلغاريا، وتبلورت المعركة عند القلعة القوزاقية جهرين والتي تحصن فيها الروس بموافقة القوزاق، وكانت محاطة بمنطقة تنتشر فيها المستنقعات والتلال الصخرية ولا تسمح تضاريسها الوعرة لجيش كبير بالحركة فيها، وسقطت جهرين بعد أن حاصرها قرابة شهر الصدر الأعظم قره مصطفى، وتراجع الروس إلى ما وراء نهر الدنيبر يلاحقهم الجيش العثماني، وبعد انتهاء المعركة عاد السلطان محمد الرابع إلى أدرنة، العاصمة الفعلية له، إذ لم يكن يحب استانبول.
قال المحبي في ترجمته للصدر الأعظم في كتابه خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر: ولما فُتحت هذه القلعة سر الناس سروراً عظيماً، لأن فتحها كان في غاية الصعوبة، وكان كثير من نصارى الروم ممن رأيتهم يزعمون استحالة فتحها، ويهزؤون بالوزير في قصدها، وشاع عنهم أخبار في انكسار عسكر المسلمين وهزيمتهم، وكانوا يظهرون الشماتة، وسبب ذلك ما يعرفونه من أنها تابعة لملك المسقور، يقصد إمبراكور الروس، وهذا الملك هو أكثر ملوك النصارى جيوشاً وأكبرهم ملكاً، قيل إن مملكته مسافة سنة طولاً ومثلها عرضاً وبالجملة فإن فتح هذه القلعة كان من أعظم الفتوحات، وزُينت دار الخلافة ثلاثة أيام وكنت الفقير إذ ذاك بقسطنطينية، وشاهدتها ولم يبق شيء من دواعي الطرب إلا صرفت إليه الهمم، ووجهت إليه البواعث، واستغرق الناس في اللذة والسرور، واستُوعِب جميع آلات النشاط والحبور، وفشت المناهي وقصر فيها المحذور والناهي، وعلمت العقلاء أن مثل هذا الأمر كان غلطا، وأن ارتكابه جرم عظيم وخطا، وما أحسب ذلك إلا نهاية نهنهة السلطنة، وخاتمة كتاب السعادة والميمنة، ثم طرأ الانحطاط وشوهد النقصان، وتبدل الربح بعدها بالخسران.
لم تكن تلك الحملة الأخيرة للسلطان محمد الرابع على روسيا، فقد غادر استانبول إلى أدرنة في 5 شوال من سنة  1091= آخر سنة 1680 وأمضى فيها فصل الشتاء دون أن تنطلق الحملة وتهاجم روسيا، فقد جنح الطرفان للسلم ووقعا معاهدة بخشي سراي في 22 محرم 1092= 11 فبراير 1681، والتي قضت أن تقوم بين الطرفين هدنة مدتها 20 سنة، وأن يقتسما أوكرانيا فتكون لروسيا المناطق الشمالية من الدنيبر ولتركيا المناطق الجنوبية، وتُضَم إلى روسيا كييف العاصمة الأرثوذكسية.
وبعد هذه المعاهدة قامت السلطنة العثمانية في ذات السنة؛ 1092=1681، بشن حملة جديدة على هنغاريا التي كانت تابعة لإمبراطورية آل هابسبُرج النمساوية، وذلك بناء على طلب من النبيل الهنغاري إيمره ثوكوليImre Thokoly ، فقد كانت النمسا دولة كاثوليكية شديدة التعصب لا تقبل بوجود أي دين آخر، وقامت بالتضييق على البروتستانت الهنغاريين، وكان والد ثوكولي أحد زعمائهم الذين صادرت النمسا ممتلكاتهم وأعدمتهم في سنة 1670 بتهمة التآمر  على الإمبراطور ليوبولد الأول، وفي سنة 1673 علقت النمسا الدستور الهنغاري الذي كان يتضمن قدراً كبيراً من الحكم الذاتي، ووضعت هنغاريا تحت الحكم المباشر، وآلت زعامة المعارضة في سنة 1680 إلى النبيل ثوكولي الذي طلب التأييد من الدولة العثمانية وفرنسا، وحصل عليه، وبفضله استطاع السيطرة على أغلب شمال هنغاريا، مما اضطر الإمبراطور ليوبولد إلى إعادة الدستور في سنة 1681 وإلغاء كثير من الإجراءات القمعية السابقة.
وارتكب الصدر الأعظم قره مصطفى باشا ما يعده بعض المؤرخين خطأ جوهرياً عندما حاد عن السياسة العثمانية التي سار عليها أسلافه منذ بداية القرن السابع عشر الميلادي فيما يتعلق بالعلاقة مع الإمبراطورية النمساوية؛ وهي تقديم التفاهم والتعاون على المواجهة، فقد كانت النمسا على منافسة دائمة مع فرنسا، تتربص كل واحدة الدوائر بالأخرى، ولذا كانت السياسة العثمانية توازن علاقاتها مع الدولتين بما يخدم مصالحها ومحققة بذلك نفوذاً كبيراً لدى كل منها.
ولكن الصدر الأعظم قره مصطفى باشا أغرته الانتصارات التي حققتها قوات الأمير ثوكولي في هنغاريا، واعتبر أن النمسا في ظل قيادة الإمبراطور ليوبولد الأول وصلت إلى حد من الضعف لم تستطع معه هزيمة ثوكولي، فقرر أن الوقت قد حان لغزو النمسا.
وأعد الصدر الأعظم جيشاً كبيراً قاده كذلك السلطان محمد الرابع، انطلق من أدرنة في 3 ربيع الثاني من سنة 1094=1683، ووصل الجيش إلى بلغراد بعد قرابة شهر حيث تم فيها تجميع القوات اللاحقة بالجيش من الأناضول والولايات العربية، وبقي السلطان محمد في بلغراد حيث عين قره مصطفى باشا قائداً للجيش الذي بلغ تعداده 90.000 جندي، فسار به محققاً انتصارات متتالية حتى وصل في 19 رجب 1094= 14 تموز/يوليو 1683 إلى أسوار فيينا عاصمة النمسا.
ولكن هذا الجيش نشر الدمار والخراب في مسيره فقد نهب القرى والمدن وأحرق الزرع، قال المحبي في خلاصة الأثر: ولم يزل الوزير بمن معه من العساكر سائرين وأطلق أمره في نهب القلاع والقرى التي على الطريق، فما كان للعسكر مشغلة إلا نهبها وإحراقها وإتلاف زروعها، فأحرقوا من القلاع المعلومة نحو مئة قلعة، وما يتبعها من القرى أشياء كثيرة جداً، وكل قرية من هذه القرى بمثابة بلدة تحتوي على ألف بيت أو أكثر، وجميع هذه القلاع والقرى في نهاية الإحكام وحسن البناء، وبيوتها في غاية من إتقان الصنعة، مسواة بالرخام وفيها من السماقي ما لا يوصف كثرة، وأكثر بيوت هذه البلاد ثلاث طبقات، الثالثة منها مصنوعة بالدف والخشب، وعاثت عساكر التاتار في بلاد الكفار ونهبوا ما قدروا عليه من البلاد وحرقوها ثم إن خان التاتار نور الدين كراي لحق كثيراً من الهاربين فقتل منهم مقتلة عظيمة، ومن أغرب ما وقع في هذا الأثناء أن سوقة العسكر كانوا يدخلون قلعة من القلاع المذكورة فيرون فيها أناساً قلائل من النساء والرجال العاجزين عن الحركة، فيقتلونهم ويستولون على القلعة ثم يطلقون فيها النار، فعلوا هذا في أكثر من أربعين قلعة.
ودقت أجراس الخطر في كنائس أوروبا خشية من أن يتكرر سقوط القسطنطينية، وكان خطر سقوط فيينا خطراً جد محتمل، حتى إن الإمبراطور ليوبولد الأول وحاشيته غادروها قبل وصول الجيش العثماني إليها، وكان عدد المدافعين عن فيينا 40.000 من الجنود والمواطنين، وكانت أسوارها وتحصيناتها قد جددت قبل بضعة عشر سنة، ثم جرت تقويتها مع وصول أخبار الحشد العثماني.
وشكل البابا أنوسنت الحادي عشر تحالفاً دعي بالعُصبة المقدسة، وتكون من النمسا وجمهورية البندقية والدولة البابوية، وأرسل رسله إلى ملوكها ونبلائها وأساقفتها منادياً بالنفير في أنحاء أوروبا، ولبى نداءه إمارتا بافاريا وسكسونيا وعدد من النبلاء الألمان، ووعد البابا الملك البولندي جون سوبيسكي الثالث بمساعدات مالية كبيرة لإغرائه بالمشاركة في طرد الأتراك عن فيينا، وكان الملك البولندي قد وقَّع عندما بدأت الحملة العثمانية حلفاً دفاعياً هجومياً مع الإمبراطورية النمساوية، ولكنه بقي متردداً  حتى أقنع البابا الأمير شارل الرابع دوق اللورين في الانضمام للجيش النمساوي.
وحاصر جيش قره مصطفى فيينا ولكنه لم يستطع كسر دفاعاتها بالسرعة الكافية، فقد كرر التاريخ نفسه، ومثلما حصل في حصار السلطان سليمان القانوني لفيينا قبل حوالي 125 سنة، كان الجيش العثماني يفتقد إلى مدافع الحصار الثقيلة، بل كانت مدافعه تعد 150 مدفعاً مقابل 260 مدفعاً على أسوار فيينا، ولذلك استغرق حوالي 6 أسابيع حتى استطاع الاستيلاء على كافة حصون فيينا الأمامية، وهدم أسوارها بالمدافع وألغام البارود، وبدأ نقابوه في حفر الأنفاق تحت أبراج السور وحشوها بالبارود ونسفها، وهو عمل أتقنه العثمانيون إتقاناً متميزاً، وبالفعل نجحوا في نسف برج ثم آخر بعده، وتوقع المدافعون أن يشن الصدر الأعظم هجومه الحاسم المنتظر في اليوم التالي، ولكنه بدلاً من ذلك قام باستعراض جنوده أمام المدافعين أملاً في أن يدب اليأس في قلوبهم وتستسلم المدينة.
وبينما العثمانيون ينتظرون سقوط فيينا، إذ انقض عليهم من التلال المحيطة بفيينا جيش تعداده 80.000 جندي، يقوده الملك البولندي جون الثالث، ودوق اللورين شارل الرابع، والأمير يوجين السافويّ Eugene of Savoy الذي ترك خدمة ملك فرنسا لويس الرابع عشر وانضم إلى بلاط الإمبراطور ليوبولد الأول ليقاتل الأتراك.
وهاجمت قوات التحالف يقودها الملك جون سوبيسكي الثالث العثمانيين في فجر 20 رمضان من سنة 1094=12 أيلول/سبتمبر 1683، وانجلت المعركة بعد 15 ساعة من القتال الشديد عن انهزام قره مصطفى باشا وجيشه هزيمة منكرة، وهربوا تاركين وراءهم كافة المدافع والذخائر والمؤن، التي استغرق المنتصرون أسبوعاً في تجميعها بعدهم.
ويقول المؤرخون إن قره مصطفى ارتكب عدة أخطاء أولها تلكؤه في الهجوم على فيينا بعد نسف البرجين، كما يقولون إن هجوم قوات النحالف عليه لم يكن مفاجأة مطلقة، فقد كان جواسيسه قد أبلغوه باستعداد هذه القوات للهجوم، ولكنه توقعها في الليلة السابقة فاستنفر قواته فيها ثم استرخى في اليوم التالي، ومن ناحية أخرى لم يقدر حجم القوات المهاجمة تقديراً جيداً فترك الإنكشارية في الخنادق وحاول صدهم بفرسانه، وساهم في هزيمته أن المهاجمين ترادفوا في هجماتهم، فقد هجمت على ميمنته قوات اللورين أولاً ثم تلتها قوات ساكسونيا، وتلتهم في الهجوم عليها قوات بافاريا قبل أن تعقبها قوات سوبيسكي وتزيح ميسرة الجيش العثماني.
وتراجع قره مصطفى مع من بقي من جنوده حتى وصل بلغراد، وتعقبت قوات العصبة المقدسة فلول المنسحبين دون رحمة بالقتل والمطاردة، وهاجمت على عدة جبهات واستولت في طريقها على المدن والبلاد، وأرسل قره مصطفى رسالة إلى الإمبراطور النمساوي يتهدده بالانتقام، ولم يوردها المحبي في خلاصة الأثر ولكنه أورد جواب الإمبراطور عليها، ونقتطف - بتصرف- بعضاً مما جاء فيه عبرة وعظة: أنهي إليك أيها الوزير الأعظم والسردار الأكرم بناء على المحبة، دعاء لائقاً، وثناء فائقاً، وقد ورد من طرفك على يد سردار عسكرنا ما يقال إنه رسالة، فحين وصولها جمعنا وكلاءنا وأمراءنا ورهباننا، وقرئت الرسالة بمحضرهم وفهم مضمونها، فقولك فيها إن السلطان مراد الأول الغازي القديم لما مضى إلى رحمة الله الجواد الكريم، ولّى ابنه الذي فتح قسطنطينية، وهو السلطان، محمد فصرف في سبيل الجهاد بصفة العطية للمجاهدين ألف حمل ذهباً، وأن سلطنتكم اليوم أعظم شأناً وأزيد مملكة وأعواناً مما كانت عليه في زمنه. فهذا السلطان محمد الذي ذكرتَه كان سلطاناً عاقلاً عادلا، وملكاً لا نجد له بين الملوك معادلا، قد نال ما ناله بعدالته، وظفَّره الله تعالى بما أراده بعنايته.
ثم يتابع الإمبراطور جوابه: وأما طلبك أن نرفع يدنا عن المجر، أي هنغاريا، لأنهم هم السبب في هذه الفتنة، فهذا الكلام غير مفهوم وهل هو إلا أمر بنزع تاجنا عن رأسنا؟! وأما قولك: ويكون ذلك مدار الصلح والصلاح. فهل طلبنا منكم الصلاح والصلح؟! نحن لا نطلب الصلح ولا نترجاه، ولا يخطر على بالنا بعد الفساد الذي شاهدناه! وأما نقض العهد فمن ابتدأ به سيلقى غبه ويتجرع منه ما لا يسيغه إذا كلف شربه، قد راعينا فيما سلف العادة القديمة، ورعينا الذمة المستقيمة فخرج حاكم بوديم وأغار على بلادنا، وأنزل بها الهوان، فهل يليق هذا التعدي الذي ما وقع في عصر من العصور، ثم بعد ذلك وقع لرسلنا من الإهانة والحبس، ما استدللنا به على النصرة لطرفنا، فإن الله غيور! وقولك: إن سلاطينكم أصحاب مال وعسكر كثير، فنحن نعرف هذا المقدار، ولكن كسر العسكر الكثير، وهلاك من نقض العهد، عادة أزلية لذي الجلال القهار.
ولما وصل خبر هذه الهزيمة إلى السلطان محمد الرابع أمر بقتل الصدر قره مصطفى باشا، وعين مكانه إبراهيم باشا وذلك في المحرم من سنة 1095.
وكانت لهزيمة فيينا نتائج عسكرية سلبية على الدولة العثمانية، لأنها أظهرت، ولأول مرة في تاريخ المواجهة بين العثمانيين والقوى الأوربية، أن الجيوش الأوروبية كانت تعادل الجيوش العثمانية من حيث مهارتها في المناورة بالقطعات العسكرية والاستعمال المجدي للأسلحة التي بحوزتها، ولكن النتائج السياسية للهزيمة كانت أسوأ بكثير، فقد نتج عن حصار فيينا تشكيل تحالف العصبة المقدسة المؤسس على معاداة الدولة العثمانية والتصدي لها، وانضمت بولندا رسمياً للعصبة في سنة 1084، ثم لحقتها روسيا التي ضربت عرض الحائط بمعاهدة بخشي سراي وانضمت رسمياً إلى العصبة في سنة 1686.
وواجهت الدولة العثمانية هجمات منسقة من شركاء التحالف على أربع جبهات، فقد حاربت النمسا لتستعيد هنغاريا، وحاربت البندقية لتستعيد سواحل المورة وبعض دالماتيا في بحر إيجة، واستردت بولندا مقاطعة بودوليا، أما روسيا فأخذت أزوف على ساحل البحر الأسود، وبحلول سنة 1686 كانت أغلب هنغاريا قد خرجت من يد العثمانيين، وصارت عاصمتها بودا في يد النمسا بعد 140 من انتزاع سليمان القانوني لها، وذهبت أدراج الرياح الانتصارات القريبة مثل قلعة نيوهاوزِل التي استولى عليها الوزير كوبريلي في سنة 1074=1663.
وزاد الطين بُلة أن فرنسا التي لم تنضم للعصبة المقدسة  بسبب علاقاتها الحسنة ظاهرياً مع الدولة العثمانية، وعدائها للنمسا، قام أسطولها بالهجوم على طرابلس الغرب ودكها بالقنابل، بسبب هجوم القراصنة المجاهدين على السفن الفرنسية في البحر المتوسط،  وأدى هذا لتوتر العلاقات بين فرنسا والعثمانيين.  
وقام السلطان محمد الرابع بمحاولة لقلب هذا المد الغامر، ولكنه مني بهزيمة من أسوأ الهزائم في التاريخ العثماني، وهي هزيمته في معركة ناجيهارساني في 3 شوال من سنة 1098= 1687، وزاد في مرارة الهزيمة أنها كانت قريبة جداً من موقع معركة موهاكس التي انتصر فيها السلطان سليمان القانوني أعظم انتصار على هنغاريا في سنة 93=1526، وبعد هذه الهزيمة سقطت كل هنغاريا في يد النمسا، واستسلمت قوات عثمانية كثيرة واحدة تلو الأخرى، ومن جراء ذلك قام رجال البلاط السلطاني في سنة 1687 بخلع السلطان محمد الرابع ووضعوا محله أخاه غير الشقيق سليمان، وكان عمره 35 سنة، ولم يقم سليمان الثاني بقتل أخيه كما جرت العادة من قبل، فعاش محمد في أدرنة حتى أدركه فيها الموت في سنة 1693، ونقل جثمانه إلى استانبول ليدفن جانب والدته في يني جامع.
وأجرت حكومة السلطان سليمان الثاني في أوائل سنة 1689 مفاوضات مع النمسا زعيمة الدول المتحالفة بواسطة بريطانية وهولندية، ثم انتهزت فرصة اندلاع الحرب بين الإمبراطورية النمساوية وبين فرنسا، وهي الحرب المسماة عرب عصبة الأُجسبرج، والتي امتدت حوالي 8 سنوات من سنة 1689 إلى 1697، فهاجمتها    في أوكرانيا وحققت بعض الانتصارات التي جعلتها تتوقف عن التفاوض.
وتوفي سليمان الثاني في سنة 1102=1691 وتولى بعده أخوه أحمد الثاني، الذي حكم 4 سنوات استمرت فيها الحرب على وتيرة هادئة، وتوفي أحمد الثاني في سنة 1106=1695 وتولى بعده ابن أخيه السلطان مصطفى الثاني ابن السلطان محمد الرابع، وكان عمره 32 سنة، وكان متصفاً بالشجاعة والإقدام، فأعلن أنه هو من سيقود الجيش رغم معارضة الديوان السلطاني، وخاض أول معاركه في سنة 1107=1695 وحقق انتصارات رفعت الروح المعنوية لدى الأتراك، فقد استرجع ليبّا من بولندا، ثم هزم جيش النمسا هزيمة منكرة وقتل قائده، وبعد ذلك استولى على كارانسيبش في رومانيا، وعاد إلى استانبول ليدخلها مع 300 أسير في استقبال يليق بانتصاراته.
ولكن حملاته في السنوات المقبلة لم تكن ناجحة، ففي سنة 1108= آخر سنة 1696 استولى القيصر الروسي بطرس الأكبر على أزوف وحقق حلم روسيا في أن يكون لها ميناء على البحر الأسود، وفي أول سنة 1109= 11 أيلول/سبتمبر 1697، لقي مصطفى الثاني هزيمة ساحقة في زِنتا، وهي اليوم سنتا في شمال صربيا، فقد انقض الجيش النمساوي يقوده الأمير يوجين السافوي على الجيش العثماني أثناء عبوره نهر زنتا، وأمطره بوابل كثيف من مدفعيته ثم هجم عليه، فأوقع فيه خسائر فادحة تقرب من 25.000 قتيل هم نصف الجيش العثماني، ودبت الفوضى في صفوف العثمانيين وهربوا على وجوهم تاركين أسلحتهم وذخائرهم بما في ذلك صندوق يحتوي على مجوهرات السلطان، واستطاع الأمير يوجين بعد ذلك الاستيلاء على بلاد البوسنة.
وأجبرت الهزيمة السلطان على التفاوض بجدية مع النمسا، وبخاصة لأن فرنسا كانت في طريقها لتتخلى عنه وتوقع اتفاقاً منفصلاً مع النمسا، وذلك من شأنه أن يمكن الإمبراطورية النمساوية من تحويل قواتها من الجبهة الفرنسية ليقاتلوا العثمانيين، وتمخضت المفاوضات في 24 رجب سنة 1110=26 كانون الثاني/يناير 1699 عن معاهدة صلح حملت اسم القرية التي جرت فيها: معاهدة كارلويتز، وهي اليوم كارلوفجي في صربيا قرب بلغراد.
ودامت المفاوضات 72 يوماً، ومثل فيها الجانب العثماني وفد ترأسه رئيس الديوان السلطاني وتضمن القائم على العلاقات الخارجية ومعهما كبير الحجاب اليوناني الأصل اسكندر مافراكورداتو فناري، وحقق هؤلاء نتائج جيدة نظراً لموقف الدولة الضعيف، فلم تتضمن المعاهدة أي تنازلات عن أراض جديدة فوق ما خسرته الدولة العثمانية، فقد كانت الإمبراطورية النمساوية حريصة على أن تأمن جانب العثمانيين لأنها اعتبرت الخطر الأكبر عليها يأتي من فرنسا الدولة الكاثوليكية القوية والتي لم تخض الحرب، وبخاصة بعد بروز قضية وراثة العرش الأسباني، واختلافهما المحتم حوله.
وتضمنت المعاهدة اتفاقاً على هدنة مدتها سنتان بين روسيا وبين العثمانيين تحولت فيما بعد إلى اتفاقية استانبول التي وقعها البلدان في سنة 1700.
ومن ناحية أخرى يرى المؤرخون أن معاهدة كارلويتز كانت نقطة تحول في تاريخ الدولة العثمانية، فقد كانت الدولة في السابق توقع اتفاقات هدنة قصيرة الأمد، ولكن هذه المعاهدة تضمنت لأول مرة اتفاق سلام دائم مع بولندا والبندقية، واتفاقاً مدته 25 عاماً مع النمسا، كذلك تضمنت الاتفاقية لأول مرة اعترافاً صريحاً من الدولة العثمانية بحدود محددة ومعترف بها بينها وبين جيرانها.
أما معاهدة استانبول التي وقعتها الدولة العثمانية مع روسيا في سنة 1700، فقد حققت فيها روسيا كافة أهدافها الاستراتيجية، فقد أنهت المبالغ السنوية التي كانت روسيا تدفعها لخانات القِرِم، وألزمت الباب العالي بمنعهم من التعدي على الأراضي الروسية، كما حصلت روسيا على اتفاق إنشاء سفارة لها في استانبول، ولكن المكسب الأكبر كان تنازل الدولة العثمانية لروسيا عن ميناء أزوف.
فقد وضع بطرس الأكبر الخطوط العامة للسياسة الروسية مع تركيا والتي لا تزال متبعة حتى يومنا هذا، وهي أن تكون روسيا القوة الأكبر بين دول البحر الأسود، وأن لا تستطيع تركيا حرمانها من حقها في عبور المضائق والوصول إلى مياه البحر المتوسط.
ونختم بأن نشير أن بطرس الأكبر، الذي حكم روسيا من سنة 1682 إلى سنة 1725، أراد أن يضع هذه الخطة موضع التنفيذ في حرب أخرى شنها في مولدافيا في سنة 1700، وعقد فيها أمله على وهم أن يآزره رعايا الدولة العثمانية من الأرثوذكس فيثوروا عليها، وهو أمر لم يتحقق بالطبع، ولم يكن القوزاق معه هذه المرة، واستطاع الجيش العثماني ومحاربو القِرِم تطويقه، فاضطر مجبراً للموافقة على التراجع، ودفع ثمن ذلك أن انسحب من بولندا وأعاد أزوف للعثمانيين، ولكن ذلك الانتصار كان آخر انتصار عثماني في وجه العدوان الروسي.
 

الجمعة، 11 ديسمبر 2015

حدث في الثامن والعشرين من صفر

 
في الثامن والعشرين من صفر من سنة 157 توفي في بيروت، عن 69 سنة، الإمام الأوزاعي، أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن يُـحْمِد، إمام أهل الشام في الحديث والفقه. قال تلميذ الإمام مالك؛ الإمام الحافظ عبد الرحمن بن مهدي: أئمة الناس في زمانهم: سفيان الثوري بالكوفة، وحماد بن زيد بالبصرة، ومالك بن أنس بالحجاز، والأوزاعي بالشام. والأوزاعي: نسبة إلى بطن من حِميَر من همدان اليمن سكنت خارج باب الفراديس في دمشق في محلة قيل لها الأوزاع، ويُظن أنها التي تسمى العقيبة أو باب العمارة اليوم، وقيل بل الأوزاع هم أوزاع القبائل أي شتاتها الذين سكنوا تلك المنطقة.
ولد الأوزاعي في بعلبك سنة 88، وهي اليوم حاضرة سهل البقاع في لبنان، وأدرك أباه الذي توفي وهو صغير، فعاش في البقاع بضع سنوات يتيماً في حجر أمه، ثم انتقلت به أمه إلى بيروت، وكان له أخ أكبر منه اسمه عبد الله روى عنه الأوزاعي بعض الأخبار.
وقيض الله للأوزاعي أحد أصدقاء والده فتعهده حتى بلغ، فألحقه في ديوان الجند ليكون له راتب يرتزق منه، قال الأوزاعي: مات أبي وأنا صغير، فذهبت ألعب مع الغلمان، فمر بنا فلان، وذكر شيخاً من العرب جليلاً، ففر الصبيان حين رأوه، وثَبَتُّ أنا، فقال: ابن من أنت؟ فأخبرته، فقال: ابن أخي، يرحم الله أباك! فذهب بي إلى بيته، فكنت معه حتى بلغت، فألحقني في الديوان.
ولعل أول من أخذ عنهم الأوزاعي العلم والعمل هو الإمام القدوة الحافظ أبي عروة الهمداني الكوفي، القاسم بن مخيمرة، المتوفى في حدود  سنة 101،  وكان يأتي بيروت مرابطاً متطوعاً، قال الأوزاعي: كان القاسم بن مخيمرة، يقدم علينا ها هنا متطوعا، فإذا أراد أن يرجع، استأذن الوالي، فقيل له: أرأيت إن لم يأذن لك؟ قال: إذاً أُقيم، ثم قرأ قوله تعالى في سورة النور ﴿وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه؛ من عصى من بعثه، لم تقبل له صلاة حتى يرجع!
وأخذ الأوزاعي الحديث عن الإمام الحافظ يحيى بن أبي كثير المتوفى سنة 129، وذلك في اليمامة فقد خرج إليها الأوزاعي في بعث، ولعل ذلك في نحو سنة 108، فلما وصلها دخل مسجدها، فاستقبل سارية يصلي إليها، وكان يحيى بن أبي كثير قريباً منه، فجعل يحيى ينظر إلى صلاته فأعجبته، وقال: ما أشبه صلاة هذا الفتى بصلاة عمر بن عبد العزيز، فقام رجل من جلساء يحيى فانتظر حتى إذا فرغ الأوزاعي من صلاته أخبره بما قال يحيى، فترك الأوزاعي الديوان وأقام عند يحيى مدة يكتب عنه، ويسمع منه، فكتب عنه أربعة عشر كتاباً أو ثلاثة عشر.
وهذا الهدوء والسكينة التي أعجب بها الإمام الحافظ يحيى بن أبي كثير كانت خلقاً لدى الأوزاعي أكرمه الله به، فكان أدبه سجية لا تأدباً، قال تلميذه الوليد بن مزيد متعجباً من ذلك: سبحانك اللهم تفعل ما تشاء! ولد الأوزاعي ببعلبك، ونشأ بالبقاع، ثم نقلته أمه إلى بيروت، فنشأ يتيماً فقيراً في حجر امرأة تنقله من بلد إلى بلد، وقد جرى حكمك فيه بأن بلَّغتَه حيث رأيتُه! وكان الوليد بن مزيد يقول لابنه: يا بُني، عجزت الملوك أن تؤدب أنفسها وأولادها، أما الأوزاعي فأدبُه في نفسه، ما سمعت منه كلمة قط فاضلة إلا احتاج مستمعوها إلى إثباتها عنه، ولا رأيته ضاحكاً قط حتى يقهقه، ولا يلتفت إلى شيء إلا باكياً، ولقد كان إذا أخذ في ذكر المعاد أقول في نفسي: أترى في المجلس قلب لم يبك، ولا يُرى ذلك فيه.
ثم قال يحيى بن أبي كثير للأوزاعي: ينبغي لك أن تبادر إلى البصرة لعلك أن تدرك الحسن البصري ومحمد بن سيرين، فتأخذ عنهما، فانطلق إليهما في سنة 110، فوجد الحسن قد مات قبل دخوله بشهرين، وأما ابن سيرين فكان لا يزال على قيد الحياة ولكنه مريض، قال الأوزاعي: فكنا ندخل فنعوده، ونحن قيام لا نتكلم، وهو أيضاً لا يتكلم، فمكثنا أياماً فخرج إلينا الرجل الذي كان يوصلنا إليه، فقلنا له: ما خبر الشيخ؟ قال: تركته قد لزق لسانه بحنكه، وهو يقول: لا إله إلا الله، ومات من يومه ذلك، وكان به داء البطن. وتوفي ابن سيرين في التاسع من شوال سنة 110 وبينه وبين الحسن البصري مئة يوم، رحمهما الله.
وأخذ الأوزاعي عن جملة من علماء عصره منهم التابعي الكبير عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، فقيه أهل الطائف ومحدثهم، والمتوفى سنة 118 بالطائف، وقال الأوزاعي عنه: ما رأيت قرشيا أكمل من عمرو بن شعيب.
وأخذ الأوزاعي عن الحكم بن عتيبة الكندي الكوفي، الإمام الكبير عالم أهل الكوفة، المولود حوالي سنة 46 والمتوفى سنة 115، أخذ عنه في الحج، قال الأوزاعي: لقيت الحَكَم بمِنى، فإذا رجل حسن السمت متقنعا، وسأله شيخه يحيى بن أبي كثير وهما بمنى: لقيتَ الحكم بن عتيبة؟ قلت: نعم، قال: ما بين لابتيها أحد أفقه منه.
وأخذ الأوزاعي عن مكحول الشامي، مكحول بن عبد الله الكابلي الشامي، المتوفى نحو سنة 120، والذي سمع أنس بن مالك وواثلة بن الأسقع وأبا هند الداري وغيرهم، ولم يكن في زمنه أبصر منه بالفتيا، وكان لا يفتي حتى يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، هذا رأي؛ والرأي يخطئ ويصيب.
وأخذ الأوزاعي عن الإمام الحافظ العلم ابن شهاب الزُهري، محمد بن مسلم ، المولود سنة 52 والمتوفى سنة 124، ومما رواه عنه قوله: إنما يُذهبُ العلمَ النسيانُ وتركُ المذاكرة. ومما استفاده الأوزاعي من شيخه الزُهري قبول السنة النبوية كما جاءت، فقد حدثه الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، فسأله الأوزاعي: فما هو تفسيره؟ فأجابه: من الله القول، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم، أمِرْوا حديثَ رسول الله كما جاء بلا كيف.
وأخذ الأوزاعي بعده عن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر المخزومي الدمشقي، الإمام الكبير الثقة، ووالي عمر بن بعد العزيز على المغرب، والمتوفى بدمشق سنة 132، وأخذ الأوزاعي عن الإمام المحدث يزيد بن يزيد بن جابر الأزدي الدمشقي، المتوفى سنة 134، وكان من كبار الأئمة الأعلام، ذُكر للقضاء مرة فإذا هو أكبر من القضاء.
وأخذ الأوزاعي عن أبي الهذيل الزبيدي، محمد بن الوليد بن عامر، الإمام الحافظ الحجة، قاضي حمص، المولود سنة 78 والمتوفى سنة 148، وكان من ألباء العلماء، كان من الحفاظ المتقنين، أقام معه الزهري عشر سنين حتى احتوى على أكثر علمه، وهو من الطبقة الأولى من أصحابه، وكان الأوزاعي يفضل محمد بن الوليد الزبيدي على جميع من سمع من الزهري.
وتأثر الأوزاعي بواعظ كبير كان في دمشق هو أبو عمرو الدمشقي، بلال بن سعد بن تميم السكوني، المولود سنة والمتوفى بعد سنة 110، قال الأوزاعي: لم أسمع واعظا قط أبلغ من بلال بن سعد، سمعته يقول: لا تنظر إلى صِغر الخطيئة، ولكن انظر من عصيت، ولا تكن ولياً لله في العلانية وعدواً له في السر.
ودخل الأوزاعي ميدان الفتيا في سنة 113 وعمره 25 سنة، ولم يزل يفتي بعد ذلك إلى أن توفاه الله تعالى، وقدر أحد أصحابه أنه أفتى في سبعين ألف مسألة، قال كاتبه الـهِقل بن زياد: أفتى الأوزاعي في سبعين ألف مسألة، وسئل يوما عن مسألة فقال: ليس عندي فيه خبر. أي أن التي أفتيتها كلها كان عندي أخبار. وهذا دليل على جلالة قدره في معرفة الحديث وأقوال الصحابة والتابعين والاجتهاد على ضوء ذلك، وهو مؤشر على أنه كان مقصوداً بالفتيا ولماذا أصبح صاحب مذهب يتناقله الناس ويعملون برأيه.
ولم يكن الفقه الميدان الوحيد أو الأول للأوزاعي، بل كان رحمه الله محدثاً واسع الرواية حافظاً ضابطاً، ولذا توارد عليه المحدثون، وتحفل كتب الحديث والأخبار اليوم برواياته، ومما يحسن ذكره في هذا المجال ما قاله تلميذه الوليد بن مزيد، قال: قلت لأبي عمرو الأوزاعي: كتبتُ عنك حديثا كثيرا، فما تقول فيه؟ قال: ما قرأتُه عليك وحدك، فقل فيه: حدَّثَني. وما قرأتُه على جماعة أنت فيهم، فقل فيه: أخبرنا. وما أخبرتُه لك وحدك فقل فيه: أخبرني. وما أخبرتُه لجماعة أنت فيهم فقل فيه: خبرنا. وكان الأوزاعي رحمه الله يرى أن لا بأس بإصلاح اللحن والخطأ في الحديث، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يتكلم إلا بعربي.
ومن أقران الأوزاعي الإمام سفيان الثوري، المولود سنة 95 والمتوفى بالبصرة متوارياً من السلطان سنة 161، ولما حج الأوزاعي بلغ سفيانَ مقدمه فخرج حتى لقيه بذي طوى في مكة المكرمة، فحل سفيان رأس بعير الأوزاعي عن قطار الإبل ووضعه على رقبته، فكان إذا مر بجماعة قال: الطريق للشيخ. وقال الأوزاعي عما استفاده من سفيان الثوري: كنت أقول فيمن ضحك في الصلاة قولاً لا أدري كيف هو، فلما لقيت سفيان الثوري سألته فقال: يعيد الصلاة والوضوء. فأخذتُ به.
ويعد أيضاً من أقرانه الإمام مالك بن أنس، إمام دار الهجرة المولود سنة 93 والمتوفى سنة 179، والذي التقى به في المدينة المنورة وأثنى عليه ورأى فيه معالم الإمامة الشرعية والدنيوية، وأشار إليه كعالم الشام، قال الإمام مالك: قال لي المهدي: ضع يا أبا عبد الله كتابا أحمل الأمة عليه. فقلت: يا أمير المؤمنين، أما هذا الصقع وأشرت إلى المغرب فقد كُفيته، وأما الشام، ففيهم الأوزاعي، وأما العراق، فهم أهل العراق.
ومن أبرز تلاميذ الأوزاعي وألصقهم به أبو العباس الوليد بن مزيد الشامي العذري البيروتي، الحافظ الثقة الفقيه، المولود سنة 126 والمتوفى سنة 203 ، فقد  أخذ عن الأوزاعي تصانيفه، وكتبها سماعاً عنه، وكان يقابلها عليه، حتى قال الأوزاعي: ما عُرِض عليَّ كتاب أصح من كتب الوليد بن مزيد، عليكم بكتبه فإنها صحيحة. قال أبو مسهر الغساني، عبد الأعلى بن مسهر، المولود في سنة 140 والمتوفى سنة 218، وكان شيخ الشام في وقته، وكان قد التقى بالأوزاعي في شبابه، قال أبو مسهر للعباس بن الوليد: لقد حرصتُ على جمع علم الأوزاعي، حتى كتبت عن إسماعيل بن سماعة ثلاثة عشر كتابا، حتى لقيت أباك، فوجدت عنده علما، لم يكن عند القوم.
وكان للأوزاعي كاتبان أولهما الِهقل بن زياد الدمشقي، المتوفى سنة 179، وكان  فقيهاً ثقة، من أعلم الناس بالأوزاعي وبمجلسه وفتياه، والآخر هو أبو سعيد البيروتي، عبد الحميد بن حبيب بن أبي العشرين، ولكنه كان مجرد كاتب صالح ولم يكن من أصحاب الحديث.
ولا يحصى من أخذ عن الأوزاعي الحديث أو الفقه، ومن أبرزهم الإمام محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة، والإمام عبد الله بن المبارك، حتى قال النسائي: أثبتُ أصحاب الأوزاعي عبدُ الله بن المبارك. وفي حياة الأوزاعي ظهر الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى واشتُهِر أمره وتوسع مذهبه، وقد استنكر المحدثون منهجه الفقهي بادئ الأمر، وتناولوه بالنقد، ووصل خبره إلى الأوزاعي على غير حقيقته، ولذلك قصة لعبد الله بن المبارك مع الأوزاعي نوردها لأهميتها، قال عبد الله بن المبارك: قدمت الشام على الأوزاعي فرأيته بيروت فقال لي: يا خُراساني من هذا الذي خرج بالكوفة؟ يعني أبا حنيفة، فرجعت إلى بيتي فأقبلت على كتب أبي حنيفة فأخرجت منها مسائل من جياد المسائل، وبقيت في ذلك ثلاثة أيام، فجئته يوم الثالث، وهو مؤذن مسجدهم وإمامهم، والكتاب في يدي فقال: أي شيء هذا الكتاب؟ فناولته فنظر في مسألة منها وقّعتُ عليها: قال النعمان بن ثابت. فما زال قائما بعدما أذَّن حتى قرأ صدرا من الكتاب، ثم وضع الكتاب في كمه، ثم أقام وصلى، ثم أخرج الكتاب حتى أتى عليها، فقال لي: يا خراساني، مَنِ النعمان بن ثابت هذا؟ قلت: شيخ لقيته بالعراق، فقال: هذا نبيل من المشايخ، اذهب  فاستكثر منه. قلت: هذا أبو حنيفة الذي نهيتني عنه.
وبعد وفاة الأوزاعي صارت الفتيا في الشام إلى أحد أقران الأوزاعي؛ أبي محمد التنوخي، سعيد بن عبد العزيز، المولود سنة 90 والمتوفى سنة 167، وكان الأوزاعي إذا سئل عن مسألة، وسعيد بن عبد العزيز حاضر، قال: سلوا أبا محمد. وهذا مثال على تواضع الأوزاعي واحترامه لمن حوله من العلماء، وإن لم تكن ثمة غرابة في ذلك، فقد كان سعيد بن عبد العزيز حجة في الحديث، يضرب المثل بورعه وتقواه.
وممن اتبع مذهب الأوزاعي القاضي الإمام أبو سعيد عبد الرحمن ابن إبراهيم، المعروف بدحيم، والمولود سنة 170 والمتوفى سنة 245، وكان قاضياً فقيها ومحدثاً ثقة، روى عنه البخاري وأبو داود وغيرهما.
وتذكر كتب التاريخ أن الخيزران زوجة الخليفة العباسي المهدي وأم ولديه الهادي وهارون الرشيد، والمتوفاة سنة 173، أخذت الفقه عن الأوزاعي، وهو أمر غريب لكونها جارية يمانية الأصل، فلعل ذلك كان في مكة المكرمة عندما كانت جارية صغيرة قبل أن يشتريها المهدي.
ودخل مذهب الأوزاعي إلى الأندلس علي يد أبي عبد الله صعصة بن سلام الدمشقي الذي رحل إلى الأندلس ماراً بمصر، فحدَّث فيهما بعلم الأوزاعي وحديثه، واستقر بالأندلس، ودارت عليه الفتيا بالأندلس أيام الأمير عبد الرحمن بن معاوية وصدرا من أيام هشام بن عبد الرحمن، وولي الصلاة بقرطبة، وفي أيامه غُرست الشجر في المسجد الجامع، وهو مذهب الأوزاعي والشاميين، ويكرهه مالك وأصحابه، وتوفي رحمه الله سنة 192.
وبقي مذهب الأوزاعي المذهب الذي عليه الفتيا في الشام، حتى تولى القضاء فيها أبو زرعة القاضي، محمد بن عثمان بن إبراهيم بن زرعة، المتوفى سنة 302، وكان شافعياً حسن المذهب عفيفاً متثبتاً، اهتم كثيراً بنشر مذهب الشافعي، فأدخله إلى دمشق، وجعل لمن حفظ مختصر المزني جائزة مئة دينار، ولعل آخر من درَّس فقه الأوزاعي في الشام كان القاضي أبو الحسن ابن حذلم، أحمد بن سليمان بن أيوب الأسدي الدمشقي الأوزاعي، المتوفى سنة 347 عن 89 سنة، والذي كانت له حلقة في جامع دمشق، يدرس فيها مذهب الأوزاعي، وبعد ذلك تلاشى اهتمام طلبة العلم بالمذهب فاندثر اتِّباعه، ولكن آراء الأوزاعي الفقهية لا تزال مبثوثة في كتب الفقه والحديث والتفسير.
ومن طريف فتاوى الأمام الأوزاعي ما رواه تلميذه الوليد بن المزيد، قال: كان رجل من أهل الأوزاع ولدت له امرأة تسع بنات، فقال لها وقد حملت منه: إن ولدت جارية لأطلقنك! وخرج إلى المسجد فولدت جارية فلفتها في رقاعها وحملتها وألقتها في كنيسة توما، وجاء الرجل فدخل عليها فنظر إلى حالها فلم يزل بها حتى أقرت له وأعلمته بمكانها، فذهب ليجئ بها فوجدها ومعها أخرى، فحملهما إليها فقال لها: أيتهن بنتك؟ قالت: لا أدري. فسئل الأوزاعي فقال: ترثان منه ومنها؛ ميراث جارية، وترث منهما؛ ميراث جارية، ولا تتوارثان إذا ماتتا؛ لأنهما ليستا بأختين.
وفي سنة 145 وقعت هزة أرضية ضربت شرقي البحر المتوسط ونتج عنها أن احترقت كتب الأوزاعي التي تضم مروياته، ومنها الكتب التي كتبها عن يحيى بن أبي كثير، فقال له أصحابه: يا أبا عمرو، إن نسخها عند أبي الأسود. وكان أبو الأسود رجلاً فاضلاً، وكان قد كتب كتب الأوزاعي، وصححها مراراً، ومنزله ببيروت عند قبلة الجامع فقال الأوزاعي: بل نحدث بما حفظنا منها. وما حدث بحرف من ذلك إلا ما كان يحفظه.
لم يكن الأوزاعي عالماً أو فقيهاً منعزلاً عن ما يجري في البلاد من حوله من قضايا وأمور تتعلق بصلاح الدين أو الدنيا، ومن هذه القضايا، قضية تكفير الناس والمجتمع، وترك الصلاة في مساجد أئمّة الجور، والتي حمل لواءها الخوارج في العهد الأموي، ونورد هنا رسالة كتبها الأوزاعي إلى أحد رؤوسهم وهو عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، المولود سنة 75 والمتوفى سنة 165، وكان والده عالماً من المحدثين الثقات وصديقاً للأوزاعي:
أما بعد، فقد كنتَ بحال أبيك لي وخاصةِ منزلتي منه عالما، فرأيتُ أن صلتي إياه تعاهدي إياك بالنصيحة في أول ما بلغني عنك في تخلفك عن الجمعة والصلوات، فجددتُ ولهجت، ثم بررتُ بك فوعظتُك، فأجبتني بما ليس لك فيه حجة ولا عذر، وقد أحببتُ أن أقرن بنصيحتي إياك عهدا عسى الله أن يحدث به خيرا، وقد بلغنا أن خمسا كان عليها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان: اتباع السنة، وتلاوة القرآن، ولزوم الجماعة، وعِمارة المساجد، والجهاد في سبيل الله، وحدثني سفيان الثوري أن حذيفة بن اليمان كان يقول: من أحب أن يعلم أصابته الفتنة أو لا؟ فلينظر: فإن رأى حلالا كان يراه حراما، أو يرى حراما كان يراه حلالا، فليعلم أن قد أصابته! وقد كنتَ قبل وفاة أبيك رحمه الله ترى ترك الجمعة والصلوات في الجماعة حراما، فأصبحت تراه حلالا! وكنتَ ترى عمارة المساجد من أشرف الأعمال، فأصبحت لها هاجرا، وكنت ترى أن تَرْكَ عصابتك من الحرس في سبيل الله حرجا، فأصبحت تراه جميلا! وحدثني سفيان منقطع عن ابن عباس أنه قال: من ترك الجمعة أربعا متواليات من غير عذر، فقد نبذ الإسلام من وراء ظهره! وحدثني الزهري عن أبي هريرة: أنه من ترك الجمعة ثلاثا من غير عذر، طُبِع على قلبه! وقد خاطرت بنفسك من هذين الحديثين عظيما، فاتْهِم رأيك فإنه شرُّ ما أخذتَ به، وارْضَ بأسلافك إماما، قد كنتَ في ثلاث سنوات مررن والمساجد والديار تُحرق، والدماء تُسفك، والأموال تنتهب، مع أبيك لا تخالفه في ترك جمعة ولا حضور صلاة مسجد،  ولا ترغب عنه حتى مضي لسبيله، وأنت ترى أنك بوجه هذا الحديث: كن حِلْس بيتك. ومثله من الأحاديث، أعلم بها من أبيك وممن أدرك من أهل العلم، فأعيذك بالله وأنشدك به أن تعتصم برأيك شاذا به دون أبيك وأهل العلم قبله، وأن يكون لأصحاب الأهواء قوة وللسفهاء في تركهم الجمعة فتنة؛ يحتجون بك إذا عوتبوا على تركها، أسأل الله أن لا يجعل مصيبتك في دينك، ولا يغلب عليك شقاء ولا اتباع هوى بغير هدى منه، والسلام عليك.
ثم أوردُ خبراً آخر في الموضوع ذاته، وهو يلقي الضوء على زاوية أخرى من اهتمام الأوزاعي بهذه القضايا وفقهه فيها، فهو يرى وجوب مصادرة أموال الوالي الظالم الفاسد، روى أبو حفص الثقفي، عمر بن هارون البلخي، المولود نحو سنة 128 والمتوفى سنة 194، قال: لما قدمت الشام وذلك في أول أيام دولة بني العباس، أتيتُ الأوزاعي فسألني عن أحوال الناس بخراسان، فأخبرته حتى انتهيت إلى ذكر وال عندنا من أصحاب أبي مسلم الخراساني، فوصفت له جوره وظلمه وانتهاكه المحارم، وأخذه أموال الناس بالباطل، فقال الأوزاعي: ولِـمَ تصبروا عليه؟ قلت: فما عسينا أن نصنع به؟ قال: ترفعون أمره إلى السلطان، فقلت: إن السلطان في هذا الوقت شديد البأس والسطوة، ونخشى إن رفعنا أمره إليه أن يهلكه، فنكون نحن السبب في ذلك، فقال الأوزاعي: أبعده الله، وما عليكم مما يكون منه؟ قلتُ: فما نصنع بالخبر؟ فقال: وأي خبر تعني؟ قلت: قوله في الأثر: فاصبروا حتى يستريح بَرٌ أو يستراح من فاجر، فقال: إنما هذا في الأصول لا في الفروع، فقلت: يا أبا عمرو، فإن رفعنا أمره إلى السلطان فردَّ الأمر فيه إلينا، وقال لنا: ما تسألون فيه؟ ما ترى أن نقول؟ قال: تسألونه أن يزيله عنكم، ويعاقبه وينكل به، ويستخرج الحقوق من يده لأهلها. قلت: فإن لم يحضر أهلها فيطالبوه بها، قال: لا تُترك في يده يقوى بها على الباطل إذا عُلِم أنه أخذها بغير حق، ولكن ينزعها الإمام. قلت: فما يعمل إذاً فيها؟ قال: إن قدر على أصحابها ردها عليهم، وإلا صرفها في مصالح المسلمين.
ولعل أخطر موقف وقفه الأوزاعي وصدع فيه بالحق كان مع عبد الله بن علي بن عباس الذي كان قائد جيوش العباسيين إلى الشام سنة 132، بعد هزيمته الخليفة الأموي مروان بن محمد، وفتحه دمشق وهدمه سورها، واستباحته مسجدها، ويقدر من قتله من أهلها بقرابة 50.000 شخص، وبعد ذلك قتل في فلسطين 80 رجلاً من أعيان بني أمية كان قد أعطاهم الأمان، واستدعى عبدُ الله بن علي الإمامَ الأوزاعي لكونه العالم الأبرز في الشام، ويروي الأوزاعي ما جرى في هذا اللقاء، فيقول:
لما فرغ عبد الله بن علي من قتل بني أمية بعث إلي، فدخلت عليه أتخطى القتلى، وقد أقام أولئك الجند بالسيوف والعمد، فسلمت، فأشار بيده، فقعدت، فقال: يا عبد الرحمن، أيُعد مقامنا هذا ومسيرنا رباطا؟ قلت: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها أو إلى الله ورسوله فهجرته إلى ما هاجر إليه، قال: فما تقول في أموال بني أمية؟ قلت: إن كانوا أخذوها حرام فهي عليهم حرام أبدا وعلى من أخذها منهم، وإن كانوا أخذوها حلالا فهي حرام على من أخذها منهم، فقال: ما تقول في دماء بني أمية؟ وسأل مسألة رجل يريد أن يقتل رجلاً، فأخذتُ في حديث غيره وذكرت له أن أخاه داود بن علي كان صاحبي، فقال: قد علمتُ من حيث حِدتَ، أجب إلى ما سألتك عنه. قال الأوزاعي: وما لقيت مفوهاً مثله قط، فقلت لأصدقنه، واستبسلت للموت، ثم قلت: كأن لهم عليك عهداً، وإن كان ينبغي لك أن تفي لهم بالعهد الذي جعلته. فقال لي: فاجعلني وإياهم، ولا عهد لهم علي، ما تقول في دمائهم؟ قلت: هي عليك حرام، حدثني أخوك داود بن علي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يحل قتل مسلم إلا في ثلاث: الدم بالدم، والثيب الزاني، والمرتد عن الإسلام. فقال لي: ولم ويلك؟ أو ليست الخلافة وصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاتل عليها عليٌ بصفين؟ قلت: لو كانت الخلافة وصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ترك علي رضي الله عنه أحدا يتقدمه وما رضي عليٌ بالحكمين، قال: فنكس، ونكستُ أنتظر، فأطلت ثم قلت: البولة، قال: فأشار بيده: هكذا، أي اذهب.
قال الأوزاعي: فقمت، فجعلت لا أخطو خطوة إلا ظننت أن رأسي يقع عندها، فركبت دابتي، فلما سرت غير بعيد، إذا فارس يتلوني، فنزلت إلى الأرض، فقلت: قد بعث ليأخذ رأسي، أصلي ركعتين، فكبرت، فجاء وأنا قائم أصلي فسلم، وقال: إن الأمير قد بعث إليك بهذه الدنانير فخذها. فأخذتها، ففرقتها، وانسللت منه هرباً إلى جبل الجليل فنزلت بواصل بن أبي جميل السلاماني، فما تهنأت بضيافة أحد كما تهنأت بضيافة هذا الرجل، وَارَاني في هُرَي له فيه عدس، فكانت خادمه تجئ في كل يوم فتأخذ من ذلك العدس فتطبخ لنا منه. فكان لا يتكلف لي، فتهنأت بضيافته.
قال الإمام الذهبي بعد أن أورد الخبر: قد كان عبد الله بن علي ملكا جبارا، سفاكا للدماء، صعب المراس، ومع هذا فالإمام الأوزاعي يصدعه بمُرِّ الحق كما ترى، لا كخَلْق من علماء السوء، الذين يحسِّنون للأمراء ما يقتحمون به من الظلم والعسف، ويقلبون لهم الباطل حقا، قاتلهم الله، أو يسكتون مع القدرة على بيان الحق.
ونذكر هنا أن أحد الناس سأل الأوزاعي: يا أبا عمرو، هذا جيش عبد الله بن علي قد جاء، فنبيعهم علفاً؟ قال: لا، ولا إبرة.
ولما تولى الحكم أبو جعفر المنصور، وكان صاحب فقه وعلم، كتب إلى الأوزاعي رسالة جاء فيها: جعل أميرُ المؤمنين في عنقك ما جعل الله لرعيته قِبَلَك في عنقه، فاكتب إلي بما رأيت فيه المصلحة مما أحببت. فأجابه الأوزاعي: أما بعد، فعليك بتقوى الله، وتواضَع يرفعك الله يوم يضع المتكبرين في الأرض بغير الحق، واعلم أن قرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لن تزيد حق الله عليك إلا عِظَما، ولا طاعتَه إلا وجوبا. وهناك أخبار أخرى في هذا الباب للأوزاعي في لقائه مع الخلفاء والأمراء ورسائله لهم يضيق المقام عن ذكرها، فراجعها إن شئت في كتاب الجرح والتعديل لابن أبي حاتم.
كان الأوزاعي فصيحاً حسن الترسل، صاحب حكمة ورأي، على أنه كان يطيل الصمت، قال أحد أصحابه: كان من ينظر في رسائل الأوزاعي وجواباته؛ يقول هذا صاحب كلام، وما رأينا أكثر سكوتا منه إلا عند الحاجة. وكانت كلماته تؤثر عنه وتكتب، دخل الأوزاعي على محمد بن كثير وهو عليل، وكان أبو حاتم الرازي عنده، فقال له:  رفع الله جنبك، وغفر ذنبك، وفرَّغك لعبادة ربك. فقام أبو حاتم وكتبه بيده. ومن أقواله رحمه الله: من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام، وما ابتدع رجل بدعة إلا سُلِب ورعه، إن المؤمن يُقلّ الكلام، ويكثر العمل، وإن المنافق يكثر الكلام ويقل العمل.  وقال: طالب العلم بلا سكينة ولا حلم، كالإناء المنخرق كلما حُمِلَ فيه شيء تناثر.
تزوج الأوزاعي أم أبي سعيد البابلتي، يحيى بن عبد الله بن الضحاك، البابلتي الحراني، وبابلت موضع في الجزيرة الفراتية، وله ولد اسمه محمد كان من أعبد خلق الله في زمانه، ونقل محمد عن والده قوله: ما من امرئ يشاور من هو دونه في النبل والرأي، تواضعا لله تعالى عز وجل واستكانة، إلا عزم الله له الرشد. قال: فربما رأيته يشاور الخادم الذي يخدمه. ونصحه والده فقال: يا بني لو كنا نقبل من الناس كل ما يعرضون علينا، لأوشك بنا أن نهون عليهم.
كان للأوزاعي ثلاث بنات منهن ابنة اسمها رواحة روت عنه بعض الأحاديث، وتزوجت ابنته هذه أو غيرها من إسماعيل بن يزيد بن حجر البيروتي، وله منها ولد، ولهما رواية عن الأوزاعي، وأفتى الأوزاعي جارية من جواري أبي جعفر المنصور في أمر، فأرادت أن تهديه، فسألت عن ولده فأخبرت أن له ثلاث بنات، فأخرجت إليه ثلاث درات هدية لهن، فلما قدم على بناته قال لهن: إن هؤلاء الدرات أُهدين لكن، ولا يصلحن إلا مع شبههن من الحلي، ولكن رأيت رأيا إن أحببتن فعلته، قلن: وما هو؟ قال: نبيعهن ونتجر بأثمانهن، لعل الله أن ينفعكن وإيانا به، قلن: نعم، فبعث بهن إلى دمشق فبُعن بثمانين ومئتي دينار، وكان مدخل الشتاء فأمر الذي باعهن أن يشتري له قطيفا وقطعاً من القماش الأنْبِجاني وبعث بهن إليه.
وكان الأوزاعي حاضر الخشوع شديد الخشية، ما رئي باكيا قط ولا ضاحكا حتى تبدو نواجذه، وإنما كان يتبسم أحيانا كما روي في الحديث، وكان يقول في هذا: كنا قبل اليوم نمرح ونضحك فلما أن صرنا أئمة ينظر إلينا ويقتدى بنا فينبغي لنا أن نتحفظ.
وكان الأوزاعي رحمه الله يحيي الليل صلاة وقرآنا وبكاء، وكان رقيق الشعور،  ذكر يوماً  أباه، فبكى بكاءً خفيفاً لم ينتبه له إلاّ من قرب منه وتأمّله، واتسم الأوزاعي بالتواضع الشديد على جلالة قدره في العلم وتفرده به في الشام، قال أبو إسحاق الفزاري: ما رأيت أحدا كان أشد تواضعا من الأوزاعي، ولا أرحم بالناس منه، وإن كان الرجل ليناديه فيقول: لبيك!
وكان الأوزاعي رحمه الله كريم النفس واليد، يقبل الهدية إذا قبل صاحبها منه أن يردها بهدية، نزل مرة بالبقاع بأهل بيت من النصارى فرفقوا به وخدموه، فقال لرجل منهم: ألك حاجة؟ فشكا إليه ما أُلزم من الخراج، فكتب له إلى عامل أبي جعفر المنصور على الخراج، فلما دفع إليه الكتاب وضعه على عينيه فقال: حاجتك؟ فذكرها فقضاها له، فلما انصرف الذمي ذكر لامرأته فقالت: ويحك، أهدِ له هدية! وكان صاحب نحل، فملأ قمقما له من نحاس شهدا وأقبل به إلى الأوزاعي، فأمر الأوزاعي بقبض القمقم، وسأله عن خراجه، فأخبره أنه قد بقى عليه ثمانية دنانير، قال: فتجدها؟ قال: قد عسرت علي في أيامي هذه. فدخل الأوزاعي منزله وأخرج إليه الدنانير فقال: اذهب حتى تؤديها عنك، فأبى، قال: فخذ قمقمك، قال: يا أبا عمرو وأي شيء ذاك؟ إنما ذاك من نحلي، قال: أنت أعلم، إن شئتَ قبلنا منك وقبلت منا، وإلا رددنا عليك كما رددت علينا. فأخذ النصراني الدنانير وأخذ الأوزاعي القمقم.
كان الأوزاعي في طوله فوق الربعة، خفيف اللحية، به سمرة، وكان يخضب بالحناء، يلبس طيلسانا أسود أو أخضر، وكره لبس السواد الذي فرضه العباسيون على الناس، ولذلك قصة طريفة، وهي أنه لما دخل على أبي جعفر، فلما أراد أن ينصرف، استعفى من لبس السواد، فأجابه أبو جعفر، فلما خرج الأوزاعي، قال أبو جعفر للربيع: الحقه فاسأله لم استعفى من لبس السواد ولا يعلم أنى أمرتك، فلحقه الربيع فقال: يا أبا عمرو رأيتك استعفيت أمير المؤمنين من السواد، فما بأس بالسواد؟ قال: يا ابن أخي، لم يحرِم فيه محرِم، ولا كُفِن فيه ميت، ولم تزين فيه عروس، فما أصنع بلبسه.
توفي الأوزاعي مختنقاً في الحمام ببيروت، اختضب بعد انصرافه من صلاة الصبح، ودخل في حمام له في منزله، وأدخلت معه امرأته كانونا فيه فحم لئلا يصيبه البرد، فقد كان الوقت في شدة الشتاء، وأغلقت الباب خارجه، فلما فسد الهواء بفعل الكانون، عالج الباب ليفتحه فامتنع عليه، فألقى نفسه فوجدوه متوسدا ذراعه إلى القبلة.
قال سالم بن المنذر: لما سمعت الصيحة بوفاة الأوزاعي خرجت، وأول من رأيت نصرانياً قد ذر على رأسه الرماد، فلم يزل المسلمون أهل بيروت يعرفون ذلك له، وخرجت في جنازته أربع أمم ليس منها واحدة مع صاحبتها، وخرجنا يحمله المسلمون، وخرجت اليهود في ناحية، والنصارى في ناحية، والقبط في ناحية، ولا عجب في ذلك فقد كان يدافع عنهم ويطالب بإنصافهم تجاه الولاة في بيروت ودمشق، ولذا وقف على قبره والي الساحل بعد دفنه فقال: رحمك الله أبا عمرو، فو الله لقد كنت لك أشد خوفاً من الذي ولاني، فمن ظُلِم بعدك فليصبر.
وألهم الله سفيان الثوري بوفاة الأوزاعي، فقد جاءه رجل فقال له: اكتب لي إلى الأوزاعي يحدثني، فقال: أما إني أكتب لك، ولا أراك تجده إلا ميتا، لأني رأيت ريحانة رفعت من قبل المغرب، ولا أراه إلا موت الأوزاعي. فأتاه، فإذا هو قد مات.
صار إلى الأوزاعي أكثر من سبعين ألف دينار من بني أمية وبني العباس، أخرجها كلها في سبيل الله والفقراء، فلما مات ما خلف إلا سبعة دنانير بقية من عطائه، وما كان له أرض ولا دار.
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا

 
log analyzer