الأحد، 29 نوفمبر 2015

حدث في الخامس عشر من صفر

في الخامس عشر من صفر من عام 1331، الموافق 23 كانون الثاني/يناير 1913، قامت مجموعة من الضباط الأتراك الشبان يترأسهم أنور بك، وينتمون إلى جمعية الاتحاد والترقي بعمل انقلاب عسكري دموي على حكومة محمد كامل باشا المنتخبة، كان له أثر وبيل على مستقبل الدولة العثمانية، فقد انتقلت من الشورى إلى الاستبداد والطغيان، وتسبب الانقلاب بخوضها خاسرة الحرب العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا.
وللوصول إلى قصة الانقلاب، لابد لنا أن نعود إلى خلع السلطان عبد الحميد وتنصيب السلطان محمد رشاد، والذي جرى قبل قرابة أربع سنوات في سنة 1327=1909، فقد جرى خلع السلطان بتدخل الفيلق الثالث من الجيش العثماني الذي كان يقوده الفريق محمود شوكت العمري، المولود في بغداد سنة 1275=1858، وصار الحكم في يد جمعية الاتحاد والترقي، ويقال لأعضائها: الاتحاديون.
وارتكب الاتحاديون سلسلة من الأخطاء في السياسة الخارجية، أدت إلى كوارث كادت أن تطيح بالدولة من أساسها، وألبت عليهم الرأي العام، فقد خسرت الدولة ليبيا بعد أن غزتها إيطاليا في أيلول/سبتمبر 1911، ورغم محاولات الاتحاديين مقاومة الغزو بإرسال بعض القوات وعدد من ألمع الضباط، إلا أن عبأ المقاومة وقع على المجاهدين الليبيين بقيادة السنوسي، ولم يكن هؤلاء ليستطيعوا مقاومة جيش منظم مدرب حديث كالجيش الإيطالي آنذاك،  ولم تكن تلك الخسارة الوحيدة بل كانت الطامة الكبرى خسارة المقاطعات البلقانية.
ذلك إنه في آخر أيام السلطان عبد الحميد استغلت النمسا فرصة الاضطرابات التي سبقت خلعه، فأعلنت في أكتوبر 1908 ضم البوسنة والهرسك إليها نهائيا، وكانت من قبل تديرها مع تبعيتها الصورية للدولة العثمانية، وتبعتها بلغاريا فأعلن أميرها فرديناند استقلالها وتسمى بالقيصر فرديناند الأول، واستغل الاتحاديون هذه الأحداث، وأججوا بها مشاعر الرأي العام العثماني، حتى استطاعوا أن يخلعوا السلطان عبد الحميد بعد 40 سنة من الحكم، وبعد أن تولى الاتحاديون الحكم في سنة 1909 كان الرأي العام يتطلع إليهم ليقرنوا القول بالفعل، ويستعيدوا بعض ما فقدته الدولة في البلقان.
وفي ربيع 1912 أنشأت دول البلقان؛ بلغاريا وصربيا واليونان والجبل الأسود، العصبة البلقانية بتشجيع ورعاية من روسيا، وكان هدفها انتزاع مقدونيا من تركيا المشغولة بحرب إيطاليا في ليبيا، وفي تلك الفترة أجريت الانتخابات في تركيا في نيسان/أبريل 1912، وفاز فيها الاتحاديون بالأغلبية، وذلك بسلوكهم كل الحيل المعوجة التي تضمن لهم الفوز، وشكلوا حكومة ترأسها كُجُك سعيد باشا، والذي كان في هذه المنصب ثمانية مرات من قبل، ولكنه كان عديم الفائدة متردداً في اتخاذ القرارات، فاستقال في منتصف سنة 1912، مما أتاح الفرصة لتدخل زعماء جمعية الاتحاد والترقي في الدولة وعمل ما يريدون.
وكان ارتباط زعماء الاتحاد والترقي بضباط الجيش، وتحريضهم الضباط على التدخل في السياسة من أعظم الأخطار التي هددت كيان الدولة الجديد والذي قام على الانتخابات والشورى، ونفر منه العقلاء حتى كبار الضباط في الجيش، ونشأ عنه توتر شديد في أوساط الضباط كاد أن يتطور إلى تنازع مكشوف، وفي مقابل الضباط الاتحاديين قامت مجموعة من الضباط أسمت نفسها ضباط الخلاص، كان منهم ناظم باشا الذي قُتِل في الانقلاب، والذي كاد أن يسرح كبار الضباط الاتحاديين لولا أن أقسم له أنور بك وجمال بك أنهما لن يشتغلا بالسياسة.
وانقسم الاتحاديون على الصعيد الداخلي إلى قسمين: قسم دستوري، يرى عودة الجيش إلى ثكناته ومهماته العسكرية، وأن يترك السياسة للسياسيين، وقسم يريد أن يدير البلاد دون معارض أو حسيب، وكان زعيم القسم الأول أحد أكبر أعضائهم وأكثرهم احتراماً، وهو أمير الألاي صادق بك، أي أمير لواء، والذي كان عسكرياً مخلصاً لوطنه، راجح العقل حي الضمير متواضع النفس، حتى إنه رفض أن يمنح وساماً لما قام به في خلع السلطان عبد الحميد والإتيان بحكم دستوري.
كان من رأي صادق بك بعد أن استقر أمر الدستور وتألف مجلس الأمة؛ أن تترك جمعية الاتحاد والترقي للحكومة الحرية في عملها، وتكتفي بالمراقبة عليها، فلا تتعرض لشيء إلا إذا رأت الدستور مهدداً بالزوال، وفي الطرف الآخر كانت هناك عصبة من الضباط الشباب قد تواطأت على أن تسيطر على زعامة الجمعية وتستبد بالحكم أو تسيّره في أضعف الأحوال، واستمال هؤلاء كثيرا من زملائهم من الضباط بضروب الترقيات والإغراءات، وأدخلوهم في وظائف الدولة الإدارية، ونفخوا في روعهم الاستخفاف بكبار رجال الدولة من عسكريين وسياسيين وموظفين.
وتصور صادق بك أن لديه من القوة والشعبية ما يمكنه من تغيير اتجاه الأمور، فقدم استقالته من الجيش ومن جمعية الاتحاد والترقي، وكتب مذكرة لهيئتها المركزية اشترط فيها لبقائه عاملاً في الجمعية شروطا منها: أن يترك طلعت بك نظارة الداخلية، وجاويد بك نظارة المالية، وأحمد رضا بك رئاسة المجلس؛ لأنه لا ينبغي لزعماء الجمعية أن يكونوا رؤساً في الحكومة لما لهم من القوة التي تمكنهم من الاستبداد.
وكبر ذلك على هؤلاء الزعماء بعد أن مكنوا لأنفسهم في الدولة وصاروا هم أئمتها الوارثين، ولكنهم كانوا في أمر مريج لما تمتع به صادق بك من القبول والطاعة في أوساط الجيش، وخشوا أن يقود هو حركة عسكرية تطيح بهم، وهو أمر كان في مقدوره دون كبير عناء، فبدأوا في الاحتياط لأنفسهم من ذلك، ولكن صادق بك صاحب الضمير المخلص أشعر أحد الوسطاء أنه لن يريق الدماء ويجعل الجيش يقاتل بعضه بعضاً، فاستقال من الجمعية ورجع عن استقالته من الجيش.
وأفسحت استقالة صادق بك من جمعية الاتحاد والترقي الطريق لهؤلاء الضباط الشباب للسيطرة عليها، وكان من وسائلهم الفعالة أن جعلوا التصويت على القرارات علنياً ليتسنى لهم الترهيب والترغيب، وشكلوا من وراء الستار تحالفات ذات منافع مادية، وبثوا الفُرقة بين أعضائها حتى يسهل التحكم بهم، وبدأ هؤلاء الضباط في اتخاذ سياسات متطرفة تتعارض مع مصلحة دولة الخلافة العثمانية، أولها الدعوة القومية الطورانية التي تنفر من العرب والإسلام، ولذا قامت حكومات الاتحاد والترقي بتتريك الوظائف، ومحاربة التعليم العربي حتى في البلدان العربية، ومنعت الألبان والأكراد من تدوين لغتهم، وجرت هذه التطورات في وجود مجلس الأمة المنتخب، وتفاقم الاستياء من تصرفات زعماء الاتحاد والترقي، فقد كانت البلاد تحكم من خلال جمعية سرية لا وزارة مسؤولة كما يقتضي الدستور، وضج مجلس الأمة بالشكوى، وبلغت المعارضة حداً اضطر معه طلعت بك إلى الاستقالة من نظارة الداخلية، وتبين في هذه الأحداث أن الاتحاديين لم يكونوا بالقوة أوالشعبية التي كانوا يتصورون أو يُصوِرون.
وكانت هناك قضية أخرى دقت بسببها أجراس الخطر لدى المخلصين من سياسيين وغيرهم، فقد كان الفساد الإداري الذي استعمله الاتحاديون لوضع ضباطهم وأنصارهم في مفاصل الدولة، يواكبه فساد يستهدف المقومات التاريخية للأمة العثمانية من دين وآداب وأخلاق، فقد جعل الاتحاديون الصلاة في مدارس الحكومة ولا سيما الحربية أمراً اختيارياً، وجاهر بعض زعمائهم  بأن علينا: أن نمشي وراء فرنسا في كل خطوة في الأمور المادية والمعنوية جميعًا، وأن نعصر رجال الدين عصرا!
وكان صادق بك يراقب هذا التطورات بصمت فلما رأى قوة المعارضين للاتحاديين ووزارتهم من أحزاب المجلس قد عظمت، ورأى أن المنصفين من الاتحاديين قد انفضوا من حول أولئك الزعماء، بدأ يتحرك في تجميع المعارضة وتشجيعها على مواجهة المستبدين من الاتحاديين، فاشتدت عزائم المعارضين، وشكلوا ائتلافاً حزبياً سموه حزب الحرية والائتلاف، ويقال لأعضائه الائتلافيين، وأسقطوا في تموز/يوليو 1912 وزارة سعيد باشا الاتحادية، وشكلوا وزارة من أهل التجارب والثقة برئاسة أحمد مختار باشا الغازي، ولكن ليس قبل أن يوعز الاتحاديون إلى محمود شوكت باشا وزير الحربية بإقالة صادق بك من الجيش بحجة تدخله في السياسة، وفكر صادق بك في رفض القرار ثم قبله، فقد كان ضابطاً مثالياً في الطاعة والانضباط.
واستقال أحمد مختار باشا من رئاسة الوزارة بعد 3 أشهر، وجاء بعده محمد كامل باشا، ، المولود في قبرص سنة 1247=1832، وفي تشرين الأول/أكتوبر 1912 أعلنت دول العصبة البلقانية الحرب على الدولة العثمانية، واستطاعت جيوشها في 8 أشهر أن تنزل  هزائم متتالية بالجيش التركي وتحتل كل المقاطعات الغربية بما فيها مدينة أدرنة عاصمة الخلافة السابقة، ففقدت الدولة العثمانية جناحها الغربي بعد أن بقي في جسمها 550 سنة، وبسبب الوضع في البلقان وقعت الحكومة معاهدة لوزان مع إيطاليا، تخلت فيها عملياً عن ليبيا مع بقاء بعض المناصب العثمانية الرمزية فيها.
ومهد الاتحاديون للانقلاب في أوساط الرأي العام بتحميلهم الحكومة مسؤولية خسارات أراضيها في البلقان وليبيا، وكان للانقلابيين ما يكفي من الأنصار وسط الضباط في القوات الموجودة في استانبول ليضمن لهم أنها لن تتدخل عند وقوع الانقلاب أو أن تدخلها سيكون ضعيفاً مشتتاً.
وجرى الانقلاب على نحو فيه كثير من الجرأة والمغامرة، وكان قطبه أنور بك يحمل رتبة مقدم أركان حرب ويبلغ من العمر 31 سنة، ومعه العقيد الركن جمال باشا ويبلغ من العمر 41 سنة، وحدد الانقلابيون وقت الانقلاب في الثانية بعد الظهر ليتم أثناء اجتماع الوزارة، وجاءوا بنحو مئتي شخص من أنصارهم ووزعوهم في المقاهي الواقعة أمام الباب العالي، وفي الوقت المعين تجمع هؤلاء أمام الباب العالي، وجاء أنور بك على جواده يحيط به أربعة من أنصاره قد وضعوا مسدساتهم تحت ستراتهم إلا أنها كانت ظاهرة لكبر حجمها، وقام شيخان من أنصارهم يصيحان في المتجمهرين وفي جند حراسة الباب العالي: أيها المسلمون! استغفروا الله، أيها المسلمون! استغفروا الله. الله أكبر، الله أكبر. فيجيبهما الجميع: أستغفر الله، أستغفر الله.
وكان الانقلابيون يهدفون من ذلك أن يستثيروا العواطف الدينية في الحراس من غير أنصارهم فيترددون في قمع المتجمهرين أو إطلاق النار عليهم، أما أنصارهم في الحراس فكانوا على ترتيب معهم ليظهروا شيئاً من الممانعة ثم يسمحون لهم بالدخول، وهكذا كان فبعد أن دخل أنور بك ومرافقيه الباب الخارجي الكبير أقفلوا الباب وراءهم ومنعوا غيرهم من الدخول.
وبلغ خبر هذا التجمع للوزارة المجتمعة، فترك الاجتماع وزير الحربية ناظم باشا وأعطى أوامره لمرافقه نافذ بك أن يأمر الجنود بتفريق المجتمعين، ولما وصل أنور بك وأعوانه إلى داخل مبنى الباب العالي وأرادوا الدخول إلى غرفة مجلس الوزراء منعهم نافذ بك، فأطلق عليه أحد الضباط من مرافقي أنور بك النار فأرداه، ثم أردى الانقلابيون مرافق الصدر الأعظم ومرافق شيخ الإسلام لما تصدبا لهم، ولما سمع ناظم باشا إطلاق النار خرج ليرى الأمر فلما رأى أنور قال له: ألست أنت الذي أقسمت ألا تتدخل في السياسة؟! أنذال غشاشون! فعاجله أحدهم برصاصتين أودتا بحياته.
ودخل الانقلابيون غرفة مجلس الوزراء وفي يد أنور بك عريضة استقالة باسم الصدر الأعظم كامل باشا، فقبض على المسدس بيد وبسط العريضة بالأخرى لكامل باشا قائلاً: وقِّع على هذه العريضة حالاً، فالأمة لا ترضى بوزارتكم. فما كان من الشيخ الثمانيني إلا أن وقع الورقة، فغادر أنور بك على الفور، وترك بعض رجاله وأمرهم ألا يسمحوا لأحد بالخروج  من المبنى أو الدخول إليه.
وركب أنور بك سيارة كانت في انتظاره واتجه بها نحو السراي السلطانية في دولمه بقجه، وكان مئات من أنصار الاتحاديين قد تظاهروا كذلك عندها، فدخل إليها ثم خرج بأمر سلطاني موقع بقبول استقالة كامل باشا وتعيين محمود شوكت باشا في منصب الصدر الأعظم، وتعيين طلعت بك وكيلاً لوزارة الداخلية إلى أن تتألف الوزارة الجديدة، وكان هذان ينتظرانه مع آخرين عند السراي فعاد بهم أنور بك إلى الباب العالي، وتلي الفرمان السلطاني على المتجمهرين، وبعد ذلك خطب محمود شوكت باشا فقال: إني قبلت هذا المنصب وأنا على علم بحرج الموقف، وإني واثق بالله أن يوفقني إلى خدمة الوطن. ثم طلب من المتظاهرين أن يتفرقوا، فذهبوا من الباب العالي إلى حزب الحرية والائتلاف فنهبوه، وأخذوا أوراقه ودفاتره، وحطموا زجاج نوافذه.
وكان الانقلابيون قد خططوا لما يريدون تنفيذه في حالة نجاحهم من تعيينات في مفاصل الحكم والدولة، فتكونت الوزارة الجديدة من محمود شوكت باشا في منصب الصدر الأعظم ووزارة الحربية، وتولى محمد أسعد أفندي، أمين الفتوى، منصب شيخ الإسلام، وعادل بك الحاج في وزارة الداخلية ولكن أُسند منصب الوكيل لطلعت بك الاتحادي المتنفذ، وضمت الوزارة 3 من اليهود هم بساريا أفندي في وزارة الأشغال، وهو من والاشيا في رومانيا والتي يسميها الأتراك الفلاخ، ونسيم مازلياح وزير التجارة والزراعة، ومندوب أزمير سابقاً في مجلس الأمة، وجاويد بك وزير المالية وأصله من الدونمة. وتهكمت مجلة المنار عندما أوردت خبر الوزارة فقالت في حديثها عن بساريا أفندي: ذهب كل الفلاخ من يد الدولة وإنما بقي لنا منهم بحمد الله هذا الناظر، ثم علقت على خلو الوزارة من العرب فقالت: في الوزارة 3 وكلاء من قبل الجمعية الصهيونية: نسيم مازلياح، وجاويد بك، وبساريا أفندي؛ أما العرب فلا يوجد لهم فيها ولا رجل واحد، وهذا معقول مفهوم؛ لأنه لا يوجد عرب في البلاد العثمانية!
وحدد الانقلابيون كذلك من يريدون توقيفه وسجنه ممن يتوقعون منهم المعارضة، فقبضوا على مدير عام البوليس، وعلى عدد من الصحافيين وأصحاب الصحف التي كانت تنتقد الاتحاديين وأغلقوها، وعزلوا عدداً من محافظي الولايات بينهم محافظ الآستانة إلى جانب عدد من كبار الموظفين، وأصدر طلعت بك بياناً عن وزارة الداخلية يحمل الرواية الرسمية لخبر الانقلاب: لما كانت وزارة كامل باشا قد تجاوزت على حقوق الأمة فتركت للأعداء ولاية أدرنة كلها، وجمعت في السراي السلطانية مجلس مشورة من أعضاء مجلس شورى الدولة ورؤساء الموظفين دعته المجلس الملي، ثار الشعب وأصبح في حال الغليان، فقام بمظاهرة أمام الباب العالي أدت إلى استعفاء الوزارة، فصدرت إليَّ الإدارة السنية بإدارة أمور نظارة الداخلية بالوكالة إلى أن تعين الوزارة، وباشرت الأمر مستعينًا بقوته تعالى...
وشكل الصدر الأعظم الجديد عقبة أمام الاتحاديين، فلم يكن محمود شوكت الشركسي الأصل، العربي المنبت، والمولود في بغداد سنة 1275=1858 عضواً في جمعية الاتحاد والترقي، ولكنهم أتوا به لخلو صفوفهم ممن يصلح لتولي هذا المنصب، من حيث الوجاهة أمام الشعب، ومن حيث الخبرة بالحكومة، وبالرغم من أخطائه السابقة وتأييده للاتحاد والترقي، فقد أحسن محمود شوكت العمل في وزارته، وكانت خطته لم شعث الدولة وإعادة بنائها بعنصريها العربي والتركي، بعد أن تركتها العناصر البلقانية واليونانية، ولم يكن محمود شوكت من أنصار أن يعمل العسكريون في السياسة، وسبق له أن صرح: بعد... تأسيس الدستور لم يبق محل لاشتغال الجيش بالسياسة، وأنا... أوصيت... بكل عزم وإخلاص أن يحصر الجيش همته في وظيفته العسكرية المقدسة. ولكن ما لبث محمود شوكت أن لقي مصرعه غيلة أمام نظارة الحربية في 11 حزيران/يونيو 1913، وهكذا رحل آخر شخص كان في مقدوره الوقوف في وجه الاتحاديين.
وانتهز الاتحاديون مصرعه للتنكيل بكل خصومهم السياسيين الذين اتهموهم باغتياله، فأحالوا إلى التقاعد عدداً كبيراً من الضباط ورجال الدولة المخضرمين الذين شكوا في ولائهم أو خافوا من استقامتهم أو معارضتهم، وأنشأ الاتحاديون مجلس قضاء عُرفي ترأسه محافظ العاصمة جمال باشا، الذي سيعرفه العرب بالسفاح فيما بعد، وأصدر أحكامه بالإعدام والسجن والنفي على مئات من المعارضين، وجرى إعدام عدد منهم وهرب من لم يدركوه إلى خارج البلاد، وخلا بذلك للاتحاديين وجه البلاد والعباد.
أجبر الاتحاديون السلطان رشاد على تعيين الأمير سعيد حليم باشا في منصب الصدر الأعظم، وهو أمير من أسرة محمد علي التي كانت تحكم مصر، ولكن السلطة بأكملها كانت للباشوات الثلاثة؛ طلعت بك وزير الداخلية، وأنور باشا في الجيش، وجمال باشا في البحرية ثم المقاطعات العربية، وطَرَدَ الثلاثي الحاكم رئيسَ الحركة السابق أحمد رضا بك، وجاءوا بضياء الدين كوك ألب ليكون منظِّراً للحركة ويتولى الجوانب الفكرية والثقافية فيها.
وتنازعت دول العصبة البقانية على تقسيم ما استولت عليه من أراض، فقامت الحرب بينها، فانتهز الأتراك الفرصة واسترجعوا بعض أراضيهم في شرق ووسط تراقيا، ودخل أنور بك أدرنه على رأس القوات التركية، فأعاد ذلك شيئاً من القوة المعنوية للعثمانيين، وانتهت حرب البلقان الثانية بمعاهدة بوخارست في آب/أغسطس 1913، والتي وزعت الأسلاب بين دول البلقان وتركت لتركيا الفتات، واستاء منها الرأي العام التركي استياء كان له أثره في الابتعاد عن بريطانيا والميل للألمان.
ونشبت الحرب العالمية الأولى في 28 تموز/يوليو من عام 1914، وقامت الحكومة الاتحادية بعدة تصرفات خرقت فيها الاتفاقات الدولية المتعلقة بالمضايق والبحر الأسود، وفي 28 تشرين الأول/أكتوبر شنت البحرية العثمانية هجوما على مرافئ روسيا على البحر الأسود، مما دفع بروسيا وفرنسا وبريطانيا إلى إعلان الحرب على الدولة العثمانية التي أعلنت رسمياً دخولها الحرب مع الجاتب الألماني.
ودخلت الحكومة الحرب لهوى في نفوس زعمائها أنور باشا وطلعت بك وجمال باشا، رغم أن كثيراً من كبار الضباط الأتراك كانوا قد حذروا أنور بك من دخول الحرب، وذلك في اجتماعات القيادة العسكرية التركية، وكذلك في تقارير رفعوها إليه مباشرة، ومن هؤلاء كمال أتاتورك وعصمت أينونو وكاظم قرا بكر.
وأعلن السلطان محمد رشاد الجهاد الأكبر بصفته خليفة المسلمين، ولكن ذلك النداء لم يكن له صدى يذكر في العالم الإسلامي، فشتان ما بين السلطان عبد الحميد الذي اعتبره ملايين المسلمين سلطانهم الشرعي وما بين السلطان محمد رشاد الذي عرف العالم كله أنه دمية بيد جمعية الاتحاد والترقي، والجدير بالذكر أن السلطان عبد الحميد عندما علم بإعلان الجهاد قال: كان هذا سلاحاً كبيراً، وتأثيره يكون أكبر في حالة عدم استعماله، ما كان ينبغي استعماله أبدا.
قدمت الأمة العثمانية من أتراك وعرب تضحيات هائلة في الحرب العالمية الأولى، فقد سيق أبناؤها شباباً وشيباً لساحات القتال، ليكونوا 9 جيوش مشكلة من 63 فرقة، وخاضوا أغلب المعارك ببسالة واستماتة رغم التدريب المتواضع والتجهيزات الهزيلة، واستغرق المجهود الحربي أموال الأمة وأرزاقها وزراعتها، وانجلت الحرب عن وصول القوات البريطانية إلى استانبول، ونزول القوات اليونانية في الأناضول وهي تطمع أن تضم إليها المنطقة المحيطة بأزمير، وخسرت الدولة العثمانية الشام وفلسطين والعراق والحجاز، وكان للشريف الحسين بن علي وقواته دور هام في قتال الأتراك وتتبع فلولهم، وعلى الجبهة مع روسيا في الشمال الشرقي من الأناضول، هلك الجيش الثالث التركي الذي قاده أنور باشا بنفسه في المعارك، وكان يظن نفسه قائداً عسكرياً عظيماً ولكن الجنرال الألماني العظيم ليمان فون ساندرز كان يعتبره متبجحاً غير كفؤ!
وانحاز الأرمن في تلك المناطق وفي شرقي الأناضول إلى الروس، وقتلوا السكان الأتراك المسلمين في تلك المناطق، فلما عادت تلك المناطق إلى أيدي الأتراك كالوا لهم الصاع صاعين، وقرروا تهجير هذا الخطر الذي اندلع بين ظهرانيهم، وبخاصة أن تاريخ الدولة العثمانية مع الأرمن كان متميزاً في الاعتماد عليهم ومنحهم أعلى المناصب وأرقاها في الدولة، وهكذا جرى تهجير حوالي نصف مليون أرمني في ربيع سنة 1915 من شرقي الأناضول إلى بلاد الرافدين وسوريا ولبنان، وهي مآساة لا تزال أشباحها تحول بين تحسن العلاقات بين الأتراك وبين الأرمن، وهما الشعبين الذين تجاورا قروناً طويلة، ولعل الأرمن هم أكثر عنصر مسيحي اختلطت تاريخه وعاداته وثقافته بتلك لدى الأتراك، فترك بصماته الكثيرة عليها وتأثر بها في كافة مناحي حياته.
ولئن استاء الأتراك من أن يطعنهم الشريف حسين في ثورته من الحجاز، فقد كان من نتائج الحرب أن استاء العرب كذلك من الأتراك وحكومة الاتحاد والترقي، ففي إبان الحرب وفي سنة 1916 قام جمال باشا قائد الجيش الرابع الذي مقره دمشق بإعدام 20 من الشخصيات العربية كان كثير منهم أعضاء سابقين في جمعية تركيا الفتاة، وكانت جريرتهم الاتصال مع القنصلين البريطاني والفرنسي، وهي تهمة قد تكون صحيحة في ذاتها وخاطئة في استنتاجهها أن هؤلاء، أو أن بعضهم على الأقل، خونة ومتآمرون، فقد كان هؤلاء من كبار المفكرين والسياسيين العرب يدعون إلى اللامركزية، أو الحكم المحلي، ومن مهمة قناصل بريطانيا أو فرنسا سبر الرأي العام في البلدان التي يعملون فيها والتأثير عليه، ولعل الذنب الحقيقي لكثير منهم هو تأييدهم لحزب الحرية والائتلاف بعد أن تبينت سياسات التتريك في جمعية الاتحاد والترقي.
وكانت هناك في وسط هذه الغيوم المتلبدة أشعة شمس برزت ساطعة، وهي الانتصار الحاسم الذي حققته الجيوش العثمانية في معارك جناق قلعة والهزيمة المنكرة التي حلت بالحلفاء في شبه جزيرة غاليبولي، ورد هذا الانتصار الاعتبار لشرف الجندي العثماني، ذلك إن الهزيمة السريعة والكاملة التي حلت بالدولة العثمانية في الحرب البلقانية الأولى، واحتلال بلغاريا أدرنة، جعل الدول الأوربية تستصغر الجيش العثماني وتستخف به، وساورت الشكوك حول قدرات هذا الجيش حتى حلفاءه الألمان الذين دربوه وسلحوه، فلما ثبتت الجيوش العثمانية 11 شهراً أمام موجات الإنزال الحليف المتتالية، والتي تفوقت عليها في العدد والعدة، حتى أفشلتها وردتها خائبة، وكبدتها قرابة 220.000 قتيل، أثبت المقاتل العثماني أنه حقاً لا يقهر إذا توفرت لدى قواده إرادة القتال والتخطيط السليم.
ولنتصور ما الذي يمكن أن يحدث لو بقي الحكم في إطار الشورى وكانت قرارات الحكومة مبنية على آراء الخبراء لا أهواء المستبدين وخاضعة للمسائلة والتدقيق؟ ما من شك أن الحكومة العثمانية كانت ستلتزم الحياد ولن تدخل الحرب العالمية الأولى، وأن ثروتها البشرية والاقتصادية في تركيا والمقاطعات العربية ستبقى مزدهرة نامية، وسيبقى جيشها قوياً مهاباً يقوده آلاف الضباط المدربين خير تدريب، وستكون لها الكلمة الأقوى في الشرق الأوسط والبحر المتوسط، ولما كان المستعمر البريطاني والفرنسي يستطيع أن يبسط يده على العراق والشام وفلسطين، وربما...وربما... 
ولنختم حديثنا باستعراض حياة ومآل الباشوات الثلاثة أبطال هذا الانقلاب، أو جُنْاتِه إن شئت.
ولد إسماعيل أنور باشا في استانبول في سنة 1298=1881، وكان أحد مؤسسي جمعية تركيا الفتاة، وبرزت شهرته عندما شارك سنة 1911 في جيش الخلاص الذي قاده محمود شوكت باشا من سلانيك إلى استانبول ليقوم بإجبار السلطان عبد الحميد على الاستقالة، ثم لمع نجمه أكثر عندما ذهب إلى ليبيا بعد الغزو الإيطالي لتنظيم الدفاع عنها ومقاومة إيطاليا، كان أنور بك مسلماً متديناً، مختالاً فخوراً، جسوراً إلى حد المغامرة، مستهتراً لا يبالي بالعواقب، ولا يقيم وزناً لكبير ولا لقانون أو نظام، قام بالانقلاب ورقى نفسه من مقدم ركن إلى لواء دون أن يصبح عقيداً، وصار وزيرا للحربية وعمره 33 سنة، تزوج ابنة أخت السلطان محمد رشاد، فصار يلقب بالداماد؛ صهر السلطان، وكان لزوجته أثر محمود في كبح جماحه الذي لا يعرف الحدود. كان أنور ملحقاً عسكرياً في برلين برتبة رائد لفترة من الزمن وكان محل عطف من القيصر وليم الثاني فاقم في غروره وزاد من إعجابه بألمانيا التي كان يعتقد أنه ليست هناك قوة أخرى تستطيع هزيمة جيشها.
وبعد استسلام تركيا في نوفمبر 1918 واحتلال الحلفاء استانبول، هرب أنور إلى ألمانيا، وذهب بعد 6 أشهر في سنة 1919 إلى روسيا التي كان الشيوعيون يحكمونها منذ الثورة البلشفية في سنة 1917، وحاول هناك دون جدوى أن يحصل على مساعدة روسية لتغيير حكومة كمال أتاتورك بالقوة، ومن موسكو سافر إلى تركستان التي اندلعت فيها ثورة على الشيوعيين في سنة 1921 فما كان منه إلا انضم إلى الثوار ولقي حتفه  في سنة 1340=1922 وهو يقاتل الجيش الأحمر الروسي.
أما محمد طلعت باشا فولد في أدرنه سنة 1291= 1874، وعمل موظفاً في شركة البرقيات، ولكنه انخرط في العمل السياسي في جمعية تركيا الفتاة، ولما قامت حركة تركيا الفتاة في سنة 1908 صار مندوباً عن أدرنة في مجلس النواب، وبعدها في سنة 1909 وزيراً للداخلية، ثم أصبح الأمين العام لجمعية الاتحاد والترقي، وصار بعد الانقلاب وزير الداخلية والمسؤول عن كثير من المآسي التي حصلت في تلك الفترة ومنها تهجير الأرمن، وفي سنة 1917 تسنم طلعت باشا منصب رئيس الوزراء، ومع اقتراب نهاية الحرب العالمية الأولى هرب إلى ألمانيا قبل استسلام تركيا بقليل، ولقى حتفه في برلين في سنة 1921 على يد أحد الأرمن. كان طلعت ضعيف التدين قليل الثقافة قومي النزعة، وكان يتمتع بذكاء ومكر لا حدود له، خشن الطباع له قسوة لا تعرف الرحمة.
أما جمال باشا فولد في استانبول سنة 1289=1872 ودخل في سلك العسكرية وانضم وهو ضابط إلى جمعية الاتحاد والترقي، وأصبح من كبار قادة الجيش بعد حركة 1908، وصار والياً على بلاد الشام بعد اندلاع الحرب، ولم يفلح في هجماته في غزو مصر والاستيلاء على قناة السويس، ولقبّه العرب بالسفاح لأعدامه عدداً من الشخصيات العربية بتهمة الخيانة، وبعد انتهاء الحرب بقي جمال باشا في تركيا يعمل مع الحكومة الجديدة، ولقي مصرعه في تبليسي في جورجيا في سنة 1922 على يد أحد الأرمن. كان جمال باشا معجباً بفرنسا يود لو أمكن التفاهم معها، ومن ثم مع بريطانيا، فلا تدخل تركيا الحرب العالمية بجانب ألمانيا، ولكن لندن وباريس المتحالفتين لم تظهرا اهتماماً بعقد اتفاق كهذا.
نشر السيد محمد رشيد رضا في مجلة المنار أنباء الانقلاب ثم نشر هذه الكلمات لكاتب شهد الانقلاب بنفسه، ولعله الأمير شكيب أرسلان:
 
نشر السيد محمد رشيد رضا في مجلة المنار أنباء الانقلاب ثم نشر هذه الكلمات لكاتب شهد الانقلاب بنفسه، ولعله الأمير شكيب أرسلان:
أكتب إليكم، وأنا أشهد بعيني، وأسمع بأذني كيف تكون مصارع الدول، وكيف تخط مضاجع الأمم، وكيف يفتك العلم بالجهل، وتستولي النباهة على الخمول، وكيف تنشب القوة مخالبها في الضعف فتمزق أشلاءه، وكيف يتضاءل المقصرون أمام السابقين، ويتضاغر المهملون لصولة العاملين، أشهد كيف يحتفر الجاهل قبره بيده، ويهدم قصره بفأسه ومعوله، حتى لا يترك للعدو سبيلاً إلى العناء.
 
 

الأحد، 22 نوفمبر 2015

حدث في الثامن من صفر

 
في الثامن من صفر من سنة 1349 الموافق 4 تموز/يوليو 1930 خرجت بعد صلاة الجمعة في فاس وسلا بالمغرب جموع المواطنين في مظاهرات واسعة تندد بالظهير البربري الذي أصدرته في 17 ذي الحجة من عام 1348=16 أيار/مايو 1930 حكومة الحماية الفرنسية، وإن حمل توقيع السلطان محمد بن يوسف الذي سيعرف فيما بعد باسم الملك محمد الخامس، ذلك إن الملك الشاب كان تحت استبداد الصدر الأعظم الحاج محمد المقري، المولود سنة 1277=1860والمتوفى سنة 1377=1957، والذي كان متعاوناً مع الفرنسيين لأبعد الحدود.
ونشير هنا أننا استعملنا كلمة البربر ذات الأصل اللاتيني والتي تعني المتوحشين أو الهمجيين، والتي أطلقها الرومان في غزواتهم التاريخية على السكان الأصليين للمغرب، تنقيصاً من شأنهم، والاسم الأصيل الذي اختاره هؤلاء لأنفسهم هو الأمازيغ، وكان من الأصح استعماله لولا السوابق التاريخية الكثيرة التي استعملت اسم البربر في هذا السياق.
ونصَّ الظهيرُ البربري على أن: المخالفات التي يرتكبها المغربيون في القبائل ذات العوائد البربرية ... يقع زجرها هناك من طرف رؤساء القبائل... وأن الدعاوى المدنية أو التجارية تنظر فيها محاكم خصوصية تعرف بالمحاكم العرفية ... كما تنظر المحاكم المذكورة في جميع القضايا المتعلقة بالأحوال الشخصية أو بأمور الإرث وتطبق في كل الأحوال العوائد المحلية... والمحاكم الفرنسية التي تحكم في الأمور الجنائية حسب القواعد الخاصة بها لها النظر في الجنايات التي يقع ارتكابها في النواحي البربرية.
وهكذا جعل هذا الظهير نظاميين قضائيين في بلد واحد، فرتب إنشاء محاكم في مناطق البربر على أساس الأعراف والعادات البربرية، وأحل قانون العقوبات الفرنسي محل قانون العقوبات الشريفي، أي السلطاني، المستمد من الشريعة الإسلامية، وجعل الظهير إدارة المنطقة البربرية تحت سلطة الإدارة الاستعمارية الفرنسية، وأبقى المناطق العربية تحت سلطة حكومة المخزن والسلطان المغربي، وقد أبدى بعض الكتاب الفرنسيين استغرابهم من فرض العرف البربري، وهو الذي كان يعامل المرأة كسلعة يملكها أبوها أو زوجها أو أخوها مما يتعارض تعارضاً فاضحاً مع قيم الحرية التي تتغنى بها فرنسا.
وكان الهدف من هذا القانون العزل المزدوج للمناطق البربرية عن بقية مملكة المغرب؛ عزل الإدارة السلطانية عنها، وعزل الشريعة الإسلامية عن أن تكون وسيلة التقاضي فيها، ولم تكن أهداف فرنسا من هذا القانون إنصاف البربر، بل كان تريد منه أن تفصل سكان المغرب المسلمين إلى عرب وبربر، وتضع البربر في مواجهة إخوانهم العرب وتضعف مكانة السلطان المغربي والشريعة الإسلامية، وتجعل فرنسا من نفسها حامية لحقوق البربر المزعومة، وبخاصة أنها فتحت المدارس في مناطق البربر لتشجيع النزعة الانعزالية فيهم، ومنعت الحديث فيها باللغة العربية، ودرست فيها التاريخ على أن العرب غزاة، وأن البربر هم أصحاب البلاد الأصليون، وأنهم قريبون من الحضارة الأوربية التي تنتمي إلى الحضارة اليونانية، بل كان من بعض رجال الاستعمار أن زعم أن البربر أوربيو الأصل.
وكانت هذه الحركة تهدد لحمة النسيج المغربي، فقد كان البربر يشكلون آنذاك نصف سكان المغرب، وينتشرون في الريف وجبال الأطلس، ولو نجحت الآمال الفرنسية لانقسم المغرب إلى دويلتين ضعيفتين سياساً، هزيلتين اقتصادياً، خاضعتين ذليلتين للمستعمر الفرنسي وسطوته العسكرية وتفوقه الحضاري.
ومن طبيعة السياسات الاستعمارية أن تركز على التحكم في التعليم لسبك بوصلة الأجيال المتعلمة فتيمم وجهها دائماً تلقاء المستعمر وثقافته وأفكاره، وتعتقد أنها ما ينبغي أن تتحول إليه وتسير عليه، وإذا نجح المستعمر في إحداث هذا التحول فقد نجح في جعل استعماره استعماراً دائماً للعقول والوعي المعرفي، لا يزول وإن زال الاستعمار العسكري من تلك البلد، وتميز البريطانيون عن الفرنسيين في تقبلهم للتقاليد المحلية وتساهلهم مع رموزها، أما فرنسا فكانت سياستها في الدول التي استعمرتها أن تمحو الثقافة واللغة الأصلية وتجعل الثقافة واللغة الفرنسية هي محور النهضة والتقدم في تلك البلاد.
وقد نجحت هذه السياسة نجاحاً ظاهراً في الدول الإفريقية، وذلك لكون مجتمعاتها ذات حضارة بسيطة، تتألف من عدد كبير من القبائل المتعددة في لغاتها ومناطقها، ويدين لها أبناؤها بالولاء قبل أن يعرفوا الدولة المركزية، ولذا فإن الدولة المركزية التي ورثت المستعمر أو أورثها، أصبحت قائمة على اللغة والثقافة الفرنسية إذ جعلها المستعمر الفرنسي من خلال نظام التعليم الرابط الذي يجمع هذه القبائل والعناصر المختلفة، وهو ما نراه اليوم في بلدان كالسنغال والجابون والنيجر وتشاد، والتي أضحت اللغة الفرنسية لغة مؤسساتها الرسمية.
ولكن هذه السياسة فشلت إلى حد كبير في المجتمعات ذات الشخصية القوية والتاريخ العريق، ولم يقتصر ذلك على دول المغرب العربي، بل نذكر كذلك فيتنام التي احتلتها فرنسا عام 1883 وبقيت فيها حتى عام 1954، والتي فشلت فرنسا في فرنستها.
وكانت هذه السياسة نتاج أفكار وأبحاث مفكري ومستشرقي الدولة الاستعمارية، ونشير أن مركز الدراسات العليا العسكرية عقد مؤتمراً في سنة 1923 تحت عنوان: الإسلام والمسائل الإسلامية من وجهة النظر الفرنسية، وقد صدر كتاب حمل نتائج المؤتمر، وكان محرره أحد كبار خبراء الفرنسيين في القضايا الإسلامية وهو الجنرال إدوارد بريمون Édouard Brémond، وأورد الكتاب مداولات وتوصيات مما جاء فيها: من الخطأ الكبير أن ننشر الإسلام بين قبائل البربر، وأن نجبرهم على اللغة العربية والشريعة الإسلامية... يجب محو إسلام البربر وفرنستهم. وسيصدر الجنرال فيما بعد كتاباً أسماه: البربر والعرب، يحاول فيه إثبات أن البربر في الأصل شعب من شعوب أوربا.
ويقول المستشرق الفرنسي موريس جودفروا دومومبين Maurice Gaudefroy-Demombynes, ، المولود سنة 1279=1862 والمتوفى سنة 1377=1957، في كتابه: المهمة الفرنسية فيما يخص التعليم في المغرب، L'œuvre française en matière d'enseignement au Maroc ، الصادر عام 1928: إن الفرنسية، وليست البربرية، هي التي يجب أن تحل مكان العربية كلغة مشتركة وكلغة حضارة. ثم يقول: وجود العنصر البربري مفيد كعنصر موازن للعرب يمكننا استعماله ضد حكومة المخزن... إن قوام السياسة البربرية هو العزل الاصطناعي للبربر عن العرب، والمثابرة في تقريبهم منا من خلال التقاليد.
وقامت كل هذه السياسات والدراسات على أساس أن البربر هم الحلقة الأضعف في الكيان المغربي الذي يقاوم الاستعمار، وأنهم يمكن أن يكونوا حلفاء له في المغرب العربي، واستند هذا على افتراض أن إسلام البربر لم يكن إلا إسلاماً سطحياً لكونهم ما زالوا محتفظين بكثير من عاداتهم القبلية، ولذا فإن من الممكن تحويلهم إلى الدين المسيحي بعد خلق فجوة بينهم وبين العرب.
كان هذا الظهير البربري ظهيراً للنشاطات التنصيرية في أوساط البربر، وعلى الرغم من أن الدولة الفرنسية دولة شديدة التعصب للعلمانية إلا أنها في مستعمراتها كانت تحالف الكنيسة الكاثوليكية، وغالباً ما تضافرت المؤسسات التنصيرية مع المؤسسات الاستعمارية وسارت في ركابها، وحسبنا أن نشير لقول الباحث والمؤرخ أمديه جيرو Amédéé Guiraud في كتابه: العدلية الشريفية: أصولها،عملها، تنظيمها المستقبلي La justice cherifienne  الصادر عام 1930: يجب توجيه غزو معنوي للبربر ... وسيكون الغزاة الإرساليات التبشيرية... لنكلم هؤلاء الناس حول المسيح.
ولم يكن الظهير البربري أول خطوة تخطوها فرنسا للحد من سلطات السلطان المغربي، بل سبقه ظهير مماثل أصدره في 11أيلول/سبتمبر سنة 1914 المقيم العام الفرنسي الجنرال هوبرت ليوتي أخرج البربر من دائرة القضاء الشرعي وينص على: القبايل البربرية الموجودة بإيالتنا الشريفة تبقى شؤونها جارية على مقتضى قوانينها وعوايدها الخصوصية تحت مراقبة ولاة الحكومة. وكانت فرنسا بحجة الحرب قد قسمت البلاد إلى مناطق عسكرية يديرها ضباط فرنسيون، وأصدرت فرنسا في سنة 1927 ظهيراً يسمح بانتزاع ملكية الأراضي المشاع في مناطق قبائل البربر لصالح من ينوي استصلاحها من الأجانب.
واتخذت السلطات الفرنسية عدداً من الإجراءات التي تعضد فصل البربر عن العرب وتنصيرهم، فقد سمحت باسم حرية الدين للمنصرين بالتجول في القبائل والحضور في أسواقها ومواسمها، والدعوة إلى الديانة المسيحية، كما سمحت لهم بإحداث ملاجئ للأيتام ولقطاء المسلمين وإحداث مدارس للبنين والبنات، ومنحتهم الأموال والأراضي من ميزانية الدولة الشريفية وأراضيها، وعينت الرهبان والمنصرين مدرسين أو مديرين في مدارس الحكومة الشريفية، وجرى ذلك في الوقت التي فرضت فيه السلطات جوازات للتنقل داخل المغرب وبخاصًة بين المدن وبين القبائل البربرية، وذلك لمنع فقهاء الكتاتيب والمشارطين من تعليم اللغة العربية والقرآن الكريم للقبائل، ولمنع الوعاظ والعلماء وشيوخ الطرق الصوفية من التجول في أنحاء المغرب وتعليم الناس أحكام دينهم وحثهم على شعائره.
وفي بداية الأمر لقي الظهير البربري ترحيباً لا بأس به من بعض زعماء البربر، لأنه في ظاهره سيمنحهم سلطة ووجاهة بين قبائلهم، ولكن غالبية البربر استنكرت أن تعود إلى الوراء فتحكم بغير الشريعة، ولما طردت السلطات الفرنسية القضاة الشرعيين الذين كانوا في قبائل البربر، أرسلت القبائل وفودا إلى السلطان تطالبه بإرسال القضاة الشرعيين وإقامة محاكم شرعية إسلامية على أساس متين، وقامت السلطات الفرنسية بسجن بعض هؤلاء وبدأت في إجبار زعماء قبائل البربر على توقيع رسائل تعبر عن شكر لفرنسا والامتنان لها، ومن امتنع منهم نال العقوبة المهينة.
ولم يخف على نبهاء الشباب في المغرب أهداف هذا المرسوم وما سبقه وتبعه من ترتيبات إدارية، رغم أن الإدارة الفرنسية تلطفت كثيراً في ديباجته وفي صياغته، فاتخذوا منه قضيتهم الأولى، واتصلوا بالعلماء والوجهاء، وقام كل بدوره في مقاومة هذا المرسوم المغرض الذي يخالف حتى معاهدة فاس المعقودة في 30 آذار/مارس سنة 1912 بين فرنسا وبين سلطان المغرب مولاي عبد الحفيظ بن الحسن، والتي بموجبها طلب السلطان الحماية الفرنسية لتخليصه من ثورة أخيه المولى زين وتمرد قبائل فاس، فقد نصت المعاهدة على التزام فرنسا بجعل القبائل المغربية كلها، عربية وبربرية، تحت رعاية السلطان تجري عليها أوامره كما كان الأمر قبل الحماية، وأن يتم إصلاح القوانين المغربية وفق الشريعة الإسلامية.
وفي أول الأمر أطلق القائمون على الحركة الوطنية المعارضِة للظهير اسم: الطائفة، واتخذ مؤسسوها أسماء حركية على أسماء العشرة المبشرين بالجنة، وضمت الحركة شباباً من خريجي المدارس الفرنسية في الرباط أمثال أحمد بلافريج، إلى جانب شباب القرويين بفاس أمثال علال الفاسي، ولم يمض وقت طويل حتى جرت اجتماعات ضمت علماء المغرب ووجهاءه وشبابه لبحث السبل التي تؤدي لإلغاء هذا المرسوم، وكانت أبرز هذه الاجتماعات في فاس وتطوان وسلا، فقد اجتمع علماء ووجهاء فاس في دار السيد أحمد مكوار بن الحاج طاهر وانتخبوا منهم وفداً ليرفع عريضة للملك تطالبه بإلغاء الظهير، وفي تطوان كان لأسرة بنونة دور كبير فقد كانت هذه الأسرة على اتصال بالأمير شكيب أرسلان، واستضافته في زيارته للمغرب قبل حوالي 9 أشهر من صدور الظهير، واتصل الأخوان عبد السلام ومحمد بنونة بالوطنيين في مدن المغرب لتشكيل حركة مقاومة موحدة، وكان للأستاذ عبد اللطيف الصبيحي دور في الكشف عن الظهير قبل أن يصدر في الجريدة الرسمية، حيث كان يعمل في القسم القانوني في الديوان الشريفي، فاطلع على الظهير فنبه إليه مجموعة من الشباب في مدينته سلا، ولنضاله ضد الظهير نفاه الفرنسيون ثم اعتقلوه لفترة من الزمن.
واتخذ الجهاد ضد الظهير مظاهر متعددة، منها الكتابة في الجرائد المحلية والفرنسية، ومنها أن يرفع العلماء والوجهاء رسالة للملك بهذا الصدد، ونشير على سبيل المثال إلى رسالة موجهة إلى السلطان وقع عليها 111 من كبار العلماء والشخصيات يستنكرون الظهير وأهدافه، ولكن أقوى هذه المظاهر كان التجمعات في المساجد والانطلاق منها في مظاهرات تحتج على الظهير وتطالب بإلغائه، واختارت الحركة يوم الجمعة 8 صفر 1349 لانطلاق هذه التجمعات والتظاهرات في عدة مدن مغربية، فجرى تجمع كبير في المسجد الكبير بسلا، وكان أكبر تجمع في ذلك اليوم في فاس، فما أن انتهى الإمام من الصلاة حتى بدأ الحاج العربي بوعياد قراءة الدعاء اللطيفي، وهو تقليد مغربي عريق جميل قائم على دعاء الله عزوجل باسمه: يا لطيف، الطف بنا فيما جرت به المقادير، ولا تفرق بيننا وبين إخواننا البربر. ولم تقتصر قراءة اللطيفية على صلوات الجمعة أو التجمعات المخصوصة، بل كان المصلون يقرؤونها بعد انتهائهم من صلاة الجماعة في المساجد.
وأصدرت السلطات الفرنسية بياناً في 13 ربيع الأول 1349= آب/أغسطس 1930 باسم السلطان تحاول تبرير الظهير البربري وأنه ليس إلا تجديداً لظهير 1914، ومما جاء في البيان: غير خفيٍّ أن للقبائل البربرية عوائد قديمة يرجعون إليها في حفظ النظام ويجرونها في ضبط الأحكام، وقد أقرهم عليها الملوك المتقدمون ... فتمشوا على مقتضاها منذ مدة مديدة وسنين عديدة، وكان أخر من أقرهم على ذلك مولانا الوالد قدس الله روحه... وحيث إن ذلك من جملة الأنظمة المخزنية اقتضى نظرنا الشريف تجديد حكم الظهير المذكور لأن تجديده ضروري لإجراء العمل به بين الجمهور، وقد قامت شرذمة من صبيانكم الذين يكادون لم يبلغوا الحلم وأشاعوا، ولبئس ما صنعوا، أن البرابر بموجب الظهير الشريف تنصروا، وما دروا عاقبة فعلهم الذميم وما تبصروا، وموهوا بذلك على العامة، وصاروا يدعونهم لعقد الاجتماعات بالمساجد عقب الصلوات لذكر اسم الله تعالى اللطيف، فخرجت المسألة من دَوْر التضرع والتعبد إلى دور التحزب والتمرد، فساء جنابنا الشريف أن تصير مساجد قال الله في حقها: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ﴾ محلات اجتماعات سياسة تروج فيها الأغراض والشهوات... فنأمركم أن تلزموا السكينة والوقار وأن ترجعوا إلى سلك الجادة والاعتبار.
وهكذا أخذت الحركة طابعاً إسلاميا مساجدياً، وربطت القضيةَ الوطنية بالدين الإسلامي، فكانت التجمعات الخطابية في المساجد يتلوها قراءة الدعاء اللطيفي، ثم تخرج المظاهرات التي تستمر في قراءة الدعاء اللطيفي، واتسعت رقعتها اتساعاً مذهلاً، حتى قُدر عدد المشاركين في صلاة الجمعة بعد شهر بتسعة آلاف شخص، وقامت سلطات الاستعمار بمواجهتها بالقوة وباعتقال بعض القائمين عليها، وحاصرت مدينة فاس عقوبة لها على المظاهرات، وأدى هذا لتأجيج الروح الوطنية وزيادة أعداد المتظاهرين، واستمرت المظاهرات في بعض المدن عدة أيام متصلة، واستمرت التظاهرات مدة تقرب من ثلاثة أشهر ثم توقفت بعد تشكيل الوفد الذي سيذهب لمقابلة الملك وتقديم مطالب المواطنين التي كانت: إلغاء التشريعات التي تفصل العرب عن البربر، وتوحيد التشريع والحكم في المغرب، وكف يد الإدارة الفرنسية وإعادة السلطة الحقيقية للملك.
وبناء على معرفته الوثيقة بالمجتمعات الغربية وسياسات حكوماتها، قام الأمير شكيب أرسلان بتوجيه الحركة التوجيه السديد، وكان من توصياته أن تنتقل الحركة إلى الصعيد الشعبي الأوسع فتشرك عامة الشعب في نضالها، ودعاها لمقاطعة البضائع الفرنسية قائلاً: إن المقاطعة هي السلاح الذي يخشاه الأوربيون؛ فهم الذين يضعون النقود فوق الله. فبدأت حركة مقاطعة واسعة امتنع فيها عامة المغاربة عن شراء واستعمال المنتجات الفرنسية كالسجائر والسكر والمنسوجات.
وقامت في أنحاء العالم الإسلامي الهيئات والشخصيات الإسلامية تستنكر هذا الظهير وتشير لأهدافه البعيدة، وأصدرت جمعية الشبان المسلمين في مصر، وهي أكبر جمعية إسلامية آنذاك، نداءً إلى ملوك الإسلام وشعوبه وعلمائه، جاء فيه: إن أمة البربر التي استهدت بالإسلام منذ العصر الأول، والتي طالما اعتمد عليها الإسلام في فتوحه وانتشاره، وطالما استند إليها مستنجدا أو مدافعا في خطوبه العظمى... هذه الأمة التي كانت منها دولتا المرابطين والموحدين، فكانت لها في تاريخ الإسلام أيام غراء مجيدة ... هذه الأمة التي ظهر منها العلماء الأعلام، والقادة العظام، والتي لرجالها في المكتبة الإسلامية المؤلَّفات الخالدة إلى يوم الدين ... تريد دولة فرنسا الآن إخراجها برمتها من حظيرة الإسلام بنظام غريب تقوم به سلطة عسكرية قاهرة ممتهنة به حرية الوجدان، ومعتدية على قدسية الإيمان، بما لم يعهد له نظير في التاريخ.
ثم قال النداء: إن فرنسا إذا لم ترجع عن هذه الجريمة فإن العالم الإسلامي يعتبر ذلك مجاهرة منها بعداوته، وسيعلن ذلك على منابر المساجد، وعلى صفحات المجلات والجرائد، وفي حلقات الدروس الدينية، وفي نظم الجمعيات الإسلامية.
ووقع النداء الرئيس العام لجمعية الشبان المسلمين عبد الحميد سعيد وإلى جانبه محمد شاكر وكيل مشيخة الأزهرالسابق، ومحمد رشيد رضا  منشئ مجلة المنار، وعدد من علماء الأزهر والقضاة منهم الأستاذ خليل الخالدي، رئيس الاستئناف الشرعي بفلسطين.
ونفت سلطات فرنسا عدداً من الشباب الوطني لمعرفتها أنهم هم الذين شكلوا كتلة العمل الوطني السرية، والتي صارت حركة سياسية واسعة القبول، فاعتقلت الأستاذ علال بن عبد الواحد الفاسي، المولود سنة 1326=1908 والمتوفى سنة 1394=1974، ونفته قرابة سنة إلى تازة، ولما عاد إلى بلده فاس منعته من التدريس، واعتقلت السلطات الفرنسية الأستاذ محمد المختار بن علي السوسي، المولود سنة 1318=1900 والمتوفى سنة 1383=1963، هو من أسرة علمية بربرية، وكان والده أكبر شيوخ الطريقة الدرقاوية الصوفية، ولكونه من رجالات البربر فقد كانت عقوبته لدى فرنسا أشد، فاعتقلته لبعض الوقت ثم وضع رهن الإقامة الجبرية مدة 5 سنوات في بلده إلغ في جنوب المغرب.
هكذا أيقظ الظهير البربري روح الوطنية المغربية القائمة على الولاء للإسلام واللغة العربية، فكان ذلك وبالاً على المستعمر من حيث لم يحتسب، وتطورت أساليب الحركة ونقلت جزءاً من نشاطها إلى فرنسا، وأصدرت سنة 1351=1932مجلة في المغرب وأخرى في باريس لمخاطبة الرأي العام الفرنسي، وكان برنامجها يتلخص في إلغاء مظاهر الحكم المباشر الفرنسي وتطبيق معاهدة الحماية نصا وروحا، وقيام حكم ملكي دستوري، وإلحاق المغاربة بالوظائف التي كانت شبه محتكرة للفرنسيين، وتأسيس مجالس بلدية وإقليمية ومجلس وطني جميع أعضائه من المغاربة.
ولما جاءت الانتخابات الفرنسية في ربيع سنة 1936 بتحالف مكون من الأحزاب اليسارية عُرف باسم الجبهة الشعبية، وكان زعماؤه أقل تشدداً مع المغرب، أصدرت الكتلة جريدتي الأطلس بالعربية، والعمل الشعبي بالفرنسية، وشرع علال الفاسي ومحمد الوزاني في تنظيم حزب حقيقي، انتخبت له لجنة مؤقتة ريثما تسمح الظروف بعقد مؤتمر وطني، ولما عمدت السلطات الفرنسية إلى حل الكتلة في آخر سنة 1355=1937، أعاد قادتها تكوينها باسم الحزب الوطني، وحصلوا على الاعتراف الرسمي، ولكن ذلك لم يطل فقد حلَّ المقيم العام الفرنسي الحزب بعد بضعة شهور ونفى قادته.
وكان الملك محمد الخامس، المولود سنة 1329=1911، قد تولى العرش في السادسة عشرة من عمره بعد وفاة والده يوسف بن الحسن في سنة 1346=1927، ولم يكن محمد أكبر إخوته، وإنما قدَّمه للعرش توهم الفرنسيين فيه الانقياد إليهم، لهدوء طبعه وصغر سنه، وجاء كما يقول الأستاذ الزركلي في الأعلام: في ظل احتلال فرنسى يعبر عنه بالحماية، فقد كان المقيم الفرنسي هو المرجع الأعلى في سياسة البلاد وإدارتها، وليس للملك الذى كان يدعى بالسلطان، ولا للديوان الملكى الذى يسمى المخزن إلا المظهر الدينى في مواسم الأعياد الإسلامية، ووضع الطابع الشريف، أي الخاتم، على الأحكام الشرعية وشؤون الأحباس المعروفة في المشرق بالأوقاف، ولما اكتمل شبابه اتصل في الخفاء بأهل الوعي من حملة الفكرة التحررية في بلاده، متجاوبا معهم في نجواهم وشكواهم، وتألفت كتلة العمل الوطني وبرز حزب الاستقلال فكان محمد الخامس ممن أقسم له اليمين سرا، وكتم ذلك فلا أعلم أن أحدا أذاعه قبل كتابة هذه الترجمة.
ولما نشبت الحرب العالمية الثانية في سنة 1939 أعلن السلطان محمد بن يوسف عن تأييده ودعمه لفرنسا وحلفائها، وهزم الألمان الجيوش الفرنسية هزيمة مخزية، وأنشأوا حكومة فيشي العميلة في فرنسا، وقوى ذلك من عضد الملك محمد الخامس فاتخذ عدداً من القرارات عصى فيها رغبة فرنسا الفيشية، منها قرار للتمييز ضد اليهود، ولما نزلت القوات الحليفة على سواحل المغرب في سنة 1942 رفض أمر المقيم الفرنسي أوجست نوجيه أن يرحل إلى الداخل، والتقى في سنة 1943 بالرئيس الأمريكي روزفلت في زيارته للمغرب لحضور مؤتمر الدار البيضاء، وذكّره بالعلاقات الوطيدة بين البلدين وأن المغرب كان أول دولة اعترفت بالولايات المتحدة الأمريكية عند ثورتها واستقلالها عن المستعمر البريطاني، وترك هذا اللقاء أثراً طيباً في نفس الرئيس الأمريكي الذي أصبح من أنصار استقلال المغرب وزوال الاستعمار الفرنسي.
وفي 16 محرم 1363=11 كانون الأول/ديسمبر 1944 عقد الوطنيون المغاربة مؤتمرا تأسيسياً تمخض عنه حزب الاستقلال الذي عدل عن سياسة الاستقلال المرحلي وطالب بإسقاط الحماية مباشرة شرطا مسبقاً للتفاوض مع فرنسا على تحقيق المطالب السابقة، وحرر حزب الاستقلال عريضة وقعها عدد كبير من الشخصيات الوطنية المغربية، ولقيت تأييداً واسعاً واستحساناً شاملا من عناصر الشعب المغربي، وقدم الحزب العريضة إلى السلطان محمد بن يوسف وممثلي حكومات فرنسا وبريطانيا وأمريكا وروسيا تطالبها فيها بالاعتراف باستقلال المغرب استقلالاً تاماً تحت ظل ملك البلاد السلطان محمد بن يوسف ... والرعاية الملكية لحركة الإصلاح، وإحداث نظام سياسي شوري تحفظ فيه حقوق وواجبات جميع مكونات الشعب المغربي.
وكانت لفتة ذكية من الحزب أن طلب في العريضة أن ينضم المغرب للدول الموقعة على ميثاق الأطلسي وميثاق الأمم المتحدة الذي أعقبه وتأسس عليه، وهو الإعلان المشترك الذي أصدره في 14 آب/أغسطس 1941 رئيس وزراء بريطانيا تشرشل والرئيس الأمريكي روزفلت، قبل دخول أمريكا الحرب، والذي نص في الفقرة الثالثة منه على أن الطرفين: يحترمان حق كل شعب في اختيار شكل الحكومة التي يريدها ويريدان أن تعود حقوق السيادة والحكم الوطني لأولئك الذين حرموا منها بالقوة.
ورفضت فرنسا عريضة حزب الاستقلال، وردت عليها بأن أعلنت عزمها على إدخال بعض الإصلاحات، وشكلت لجاناً لدراستها وتقرير ما ينبغي عمله، ولكن الرأي العام المغربي رفض هذه المماطلة، واستمرت المظاهرات في كافة أنحاء المغرب 3 أسابيع، وزجت فرنسا بالوطنيين في السجون، ونفت عدداً من وزراء الملك، وحلت الجمعيات والهيئات المغربية الوطنية التي كانت قد سمحت بها في السابق، واتهمت الوطنيين بالتواطئ مع عدوها اللدود ألمانيا الهتلرية، ولم يشفع لهم أن المغرب وضع تحت تصرف الدول الحليفة جميع موارده الطبيعية وموانئه وقواعده العسكرية، وأن أبناءه قاتلوا في صفوف الحلفاء لتحرير فرنسا وإيطاليا من النازية.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية انتقل محمد الخامس إلى العلن في تشجيعه لحركة الاستقلال، ولما سمحت له السلطات الفرنسية بزيارة طنجة في أبريل 1947 ألقى خطاباً لم يشكرها فيه بل أكد تمسك المغرب بمقوماته التاريخية والوطنية وبمقدساته الدينية وأشاد بتأسيس جامعة الدول العربية، وفي سنة 1950 تلقى الملك محمد الخامس دعوة لزيارة فرنسا التي استقبلته استقبالاً حافلاً بغرض استمالته، ولكنه لم يتراجع عن تجديد مطالبته باستقلال المغرب وأن المغاربة لن يرضوا عن ذلك بديلاً، وهو ما كان يردده في لقاءاته مع المسؤولين البريطانيين والأمريكان، ودفعت فرنسا بالتهامي بن محمد المزواري المراكشي الجلاوي، المتوفى سنة 1357=1956، وهو أحد كبار زعماء قبائل البربر في الجنوب، وكانت قد جعلته من قبل باشا مراكش، فجمع الجلاوي القبائل الموالية له وزحف على الرباط في ربيع الآخر 1370= 1951، وعندها حاصرت القوات الفرنسية القصر بدعوى حماية السلطان، وقدم المقيم العام إليه إنذارا يطالبه فيه بإصدار بيان إدانة لحزب الاستقلال أو التنازل عن العرش وإلا عزله، واضطر السلطان مكرها لتوقيع الاستنكار المطلوب دون ذكر للحزب.
وكان للتصرفات الفرنسية صداها السيء في البلاد العربية ودول العالم الثالث التي استقلت حديثاً، ورفعت الجامعة العربية القضية المغربية إلى هيئة الأمم المتحدة، فرفضت التدخل في المسألة، وقرر الفرنسيون ألا فائدة في إبقاء محمد الخامس على عرش المغرب، وأنه يزداد جرأة وصلابة بفعل التأييد الشعبي الذي أجمع على الاستقلال، ورفض الملك توقيع عديد من المراسيم التي بدون توقيعه لا تكتسب قوة القانون، وفي آخر سنة 1951 كرر الملك أمله في تحقيق اتفاق يضمن للمغرب السيادة التامة، وبقيت الأجواء متوترة إلى أن انفجرت في آخر سنة 1952 عندما تظاهر آلاف المغاربة في قلب الدار البيضاء احتجاجاً على اغتيال الفرنسيين للزعيم النقابي التونسي فرحات حشاد، فألقى الفرنسيون القبض على مئات من الوطنين وسجنوهم لأكثر من سنتين دون محاكمة.
وحرك الفرنسيون الزعيم البربري التهامي الجلاوي، ومع أن الأسرة الكتانية في المغرب كانت في طليعة الحركة الوطنية، إلا أن العالم الكبير المحدث عبد الحي الكتاني انضم للتهامي الجلاوي، وشكلت فرنسا مجلساً للحكم ينوب عن السلطان يتكون من وزراء مغاربة ومدراء فرنسيين، وطلبت من السلطان أن يتنازل عن سلطاته التشريعية لهذا المجلس، ورغم أن السلطان فعل ذلك في نهاية الأمر، إلا أن الفرنسيين وصنعائهم قرروا خلعه في 20 أغسطس 1953، ونفوه إلى إلى جزيرة أجاكسيو في كورسيكا، ثم إلى مدغشقر، ونصبوا على العرش صنيعة لهم من الأسرة العلوية هو ابن عم الملك محمد بن عرفة.
ورفض العلماء والشعب مبايعة السلطان الذي أتى به الفرنسيون، وثار المغرب حواضره وبواديه مدة سنتين، وحيث خلع الفرنسيون السلطان دون تشاور مع الأسبان الذين كانوا يحتلون العرائش على الأطلسي ومناطق أخرى في المغرب، لم يخف الأسبان استيائهم من هذا القرار، وتساهلوا مع الوطنيين الذين لجأوا لمناطقهم، مما صعب مهمة المحتل الفرنسي في السيطرة على الموقف، فعاد الفرنسيون إلى مفاوضة محمد الخامس في منفاه ليقدم بعض التنازلات، ولكنه رفض ذلك رفضاً قاطعاً وأصر على الاستقلال الكامل في الوقت الذي كانت فيه مدن المغرب تغلي بالثورة، وبدأ بعض الوطنيين في حمل السلاح، فأخرج الفرنسيون ابن عرفة إلى طنجة، وأعادوا محمد الخامس إلى المغرب وأعلن استقلال المغرب في 3 مارس 1956، ليبدأ صفحة جديدة في تاريخه العريق.
ولئن أفشلت الحركة الوطنية المغربية مستندة إلى الإسلام أهداف الظهير البربري، إلا أنه بقي قانوناً حتى خطب الملك محمد الخامس في مهرجان شعبي في بلدة الخميسات فقال: هي سياسة قد أقبرت وألغيت نهائياً، ولم يبق العمل بها جارياً في المغرب الحر الموحد والمستقل، وأصدر الملك ظهيراً بإلغائه في 24 رجب 1375=7 آذار/مارس 1956.
وبقيت للظهير البربري رواسب تتمثل في الاستلاب اللغوي والفكري لدى فئة متنفذة من المجتمع المغربي، والذي تغذيه المدارس الفرنسية القائمة في المغرب والتابعة لوكالة التعليم الفرنسي في الخارج وللكنيسة الكاثوليكية، وهي شوائب ما زال المجتمع المغربي ينبذها شيئاً فشيئاً في ظل الصحوة الإسلامية ثم في اتصاله الذي يزداد قوة بأخوانه العرب والمسلمين بعد انهيار الحواجز الإعلامية واتساع رقعة الإعلام العابر للحدود .
أما القضية الأمازيغية فهي قضية يختلط فيها الحق بالباطل، ولا شك أن الأمازيغ قد عانوا من التمييز ضدهم لأسباب منها موضوعي ومنها جائر، ولكن قضيتهم تعرضت للاختطاف من اليساريين المعاديين للإسلام، والذين تستروا وراءها ووراء الفرانكوفونية في عداء ظاهر سافر للعرب والعربية، وهؤلاء بلا شك لا يعبرون عن الضمير المجتمعي الأمازيغي الذي بني على الإسلام وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعبرون عن التاريخ الأمازيغي الذي قدم للإسلام والمسلمين مجاهدين أشداء وعلماء فطاحل، فمن العبث فصلهم عن تاريخهم وجهادهم المشترك مع العرب المسلمين، ولعل التنمية والتطوير تزيل كثيراً من مظالمهم وتجعلهم عنصراً إيجابياً فعالاً في دول المغرب العربي.
 

الجمعة، 13 نوفمبر 2015

حدث في الثلاثين من المحرم

في الثلاثين من المحرم من عام 1356 الموافق 12 نيسان/أبريل من عام 1937 انعقد في سويسرا مؤتمر مونترو  بين مصر وبين 12 دولة أوروبية بغرض إلغاء الامتيازات التي تمتع بها رعايا هذه الدول أمام المحاكم المصرية، وانفض المؤتمر عن عقد اتفاق بين هذه الدول وبين مصر على إلغاء الامتيازات الأجنبية، وحققت بذلك مصر مطلباً شعبياً وخطوة عملاقة في سبيل تحقيق استقلال حقيقي، وفيما يلي موجز عن هذا الحدث منقول في معظمه عن مقالات نشرتها مجلة الرسالة المصرية في تلك الفترة.
ويعود تاريخ هذه الامتيازات الأجنبية إلى أيام الدولة العثمانية التي كانت دولة الخلافة الإسلامية، وسارت في أنظمة الدولة والقضاء على نهج الشريعة الإسلامية، فأنشأت فيما يتعلق بالمواطنين غير المسلمين نموذجاً إسلامياً اسمته نظام الملة، ويقال له كذلك عهد نامة لكون متعلقاً بالمعاهَدين، وكان استمراراً تاريخياً لمصطلح أهل الذمة الذين منحتهم الشريعة الإسلامية الحق في أن يحتكموا في منازعاتهم إلى رئاستهم الدينية، ولم تلزمهم بقبول حكم القاضي الشرعي.
وكان السلطان محمد الفاتح أول من أسس هذا النظام بعد فتح استانبول، حين منح أهلها غير المسلمين حق انتخاب رؤسائهم الدينيين، وجعل هؤلاء الرؤساء مسؤولين عن إدارة الشؤون الشخصية والعامة لأتباع دينهم، فأضحت كل كل طائفة دينية مستقلة في تنظيم شؤونها الداخلية، وكان زعماؤها الدينيون يفصلون في قضايا الأحوال الشخصية كالميراث والزواج والوصايا والتركات، وكذلك في المنازعات الداخلية بين أعضائها، ولكن دون منع لأتباع هذه الطوائف غير المسلمة من اللجوء إلى قضاة المسلمين إن أرادوا ذلك، عملاً بقوله تعالى في سورة المائدة ﴿فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ}.
وتغير الأمر من ترتيب داخلي إلى ترتيب ذي صبغة دولية حين عقد السلطان سليمان القانوني اتفاقية سلام ووفاق مع فرانسوا الأول ملك فرنسا في سنة 942=1536، ومنحت الاتفاقية لرعايا الدولتين حرية السفر والتجارة في الدولة الأخرى ومساواتهم برعاياها في الضرائب.
ونصت الاتفاقية في المادة الثالثة على أن للقنصل الفرنسي: أن يسمع ويحكم ويقطع بمقتضى قانونه في جميع ما يقع في دائرته من القضايا المدنية والجنائية بين رعايا ملك فرنسا، بدون أن يمنعه من ذلك حاكم أو قاضي شرعي أو صوباشي أو أي موظف آخر... وعلى أي حال ليس للقاضي الشرعي أو أي موظف آخر أن يحكم في المنازعات التي تقع بين التجار الفرنساويين وباقي رعايا فرنسا، حتى لو طلبوا منه الحكم بينهم، وإن أصدر حكما في مثل هذه الأحوال يكون حكمه لاغيا لا يعمل به مطلقا.
وجاء في المادة الخامسة: لا يجوز للقضاة الشرعيين أو غيرهم من مأموري الحكومة العثمانية سماع أي دعوى جنائية أو الحكم ضد تجار ورعايا فرنسا بناء على شكوى الأتراك أو جباة الخراج أو غيرهم من رعايا الدولة العلية، بل على القاضي أو المامور الذي ترفع إليه الشكوى أن يدعو المتهمين بالحضور إلى الباب العالي محل إقامة الصدر الأعظم الرسمي، وفي حالة ... حصلت الواقعة في محل غير الاستانة يدعوهم أمام أكبر مأموري الحكومة السلطانية وهناك يجوز قبول شهادة جابي الخراج والشخص الفرنساوي ضد بعضهما.
وجاء في المادة السادسة: لا يجوز محاكمة التجار الفرنساويين ومستخدميهم وخادميهم فيما يختص بالمسائل الدينية أمام القاضي أو السنجق بيك أو الصوباشي أو غيرهم من المأمورين، بل تكون محاكمتهم أمام الباب العالي، ومن جهة أخرى يسمح لهم باتباع شعائر دينهم ولا يمكن جبرهم على الإسلام أو اعتبارهم مسلمين ما لم يقروا بذلك غير مكرهين.
وجاء في المادة الخامسة عشرة: كل تابع لملك فرنسا إذا لم يكن أقام بأراضي الدولة العلية مدة عشر سنوات كاملة بدون انقطاع لايلزم بدفع الخراج أو أي ضريبة أيا كان اسمها، ولا يلزم بحراسة الاراضي المجاورة، أو مخازن جلالة السلطان، ولا بالشغل في الترسانة، أو أي عمل اخر، وكذلك تكون معاملة رعايا الدولة في بلاد فرنسا. وقد اشترط ملك فرنسا أن يكون للبابا، ولأخيه وحليفه الأبدي ملك انكلترا وسكوتلندا الحق في الاشتراك بمنافع هذه المعاهدة لو أرادوا بشرط أنهم يبلغون تصديقهم عليها إلى جلالة السلطان، ويطلب منه اعتماد ذلك في ظرف ثمانية شهور تمضي من هذا اليوم.
وفي أيام السلطان سليم وفي سنة 1569جرى تجديد هذه الاتفاقية وأضيف إليها مادة تقضي بأن يعفى الفرنسيون من دفع الخراج الشخصي.
وأرسلت فرنسا تحت ظل هذه المعاهدات عدة إرساليات دينية كاثوليكية إلى كافة بلاد الدولة العثمانية التي يوجد بها مسيحيون وبخاصة بلاد الشام لتعليم أولادهم وتربيتهم على محبة فرنسا، وأدت هذه الامتيازات إلى تدخل القناصل الأوربيين في الإجراءات الداخلية بدعوى رفع المظالم عن المسيحيين واتخذتها دول أوربا سبيلا لتمد نفوذها بين رعايا الدولة المسيحيين، فروسيا تحامي عن الأمم السلافية والمتدينين بالمذهب الأرثوذكسي، وفرنسا عن الكاثوليك، وإنكلترا عن مبشري البروتستانت، وكل هذه الدول تحرض المسيحيين من رعية الدولة على مقاومة الاستبداد ما دام عثمانياً مسلما.
ولم يكن لهذه الامتيازات أثر سلبي كبير في أيام عنفوان وقوة الدولة العثمانية، ولكن مع ضعف الدولة في القرن الثامن عشر الميلادي فإن هذه الامتيازات التي كانت منحة من القوي للضعيف وعطفاً عليه، غدت بالنسبة للأجانب حقوقاً مكتسبة تقيد سلطة الباب العالي نحو الأجانب في كثير من الشؤون المالية والقضائية، ولذا كان إلغاء الامتيازات من أبرز أهداف حركة الاتحاد والترقي المعارضة للسلطان عبد الحميد، ولما قامت بانقلابها عليه كان من أول أعمالها إلغاء الامتيازات الأجنبية، واعترفت بهذا المادة الثامنة والعشرين من معاهدة لوزان التي وقعتها تركيا مع الأطراف الأوربية في سنة 1923.
وكانت مصر بحكم خضوعها للدولة العثمانية في تلك العصور تخضع لنظام الامتيازات الأجنبية الذي يطبق في جميع الأراضي التابعة للدولة، وبقي هذا النظام سارياً فيها حتى بعد أن حصلت على استقلالها في عصر محمد علي، ولم تستطع أن تتحرر منه بعد أن رسخت جذوره على كر العصور وغدا معقلا لرعايا الدول الممتازة يحتمون به، ويتمتعون في ظله بكثير من الحقوق وضروب الإعفاء القضائية والمالية، وبخاصة في عهد الخديوي إسماعيل الذي أعطى الأجانب ما لم يرد في الاتفاقات العثمانية، تزلفا إليهم، وطمعا في مساعدتهم له على الاستقلال عن الدولة العثمانية.
وتفاقمت هذه الحالة في أواخر عهد الخديو إسماعيل لغرقه بالديون، ورفضِ المقرضين الأجانب إقراضه مزيداً من المال خوفاً من احتكامهم  في حالة النزاعات للمحاكم المصرية والقوانين الشرعية، ففكر وزيره نوبار نوباريان باشا في إنشاء نظام خاص ومحاكم خاصة تنظر فيها قضايا الأجانب، وانتهت مفاوضاته مع دول كبار المقرضين إلى إنشاء المحاكم المختلطة في سنة 1875، لتختص بالفصل في قضايا الأجانب المختلفي الجنسية والأجانب والمصريين، وجعل أغلبية قضاتها من الأجانب، ووضعت لها لوائح وقوانين جديدة مستمدة من القانون الفرنسي ثم القانون البريطاني والشريعة الإسلامية؛ والدول ذوات الامتيازات التي عقدت مع مصر هذا الاتفاق هي: بريطانيا العظمى؛ الولايات المتحدة، فرنسا، ألمانيا، النمسا والمجر، إيطاليا، روسيا، السويد والنرويج، إسبانيا، البلجيك، اليونان، هولندا، الدنمارك، البرتغال.
وهذه خلاصة القواعد الأساسية لاختصاصات المحاكم المختلطة:
أولاً - تختص بالفصل في المنازعات المدنية والتجارية بين المصريين وبين الأجانب، سواء في المسائل العقارية أو المنقولة
ثانياً - تختص بالفصل في المنازعات المدنية والتجارية بين الأجانب المختلفي الجنسية؛ وكذلك بين الأجانب المتحدي الجنسية في المسائل العينية العقارية فقط.
ثالثاً - إذا وجد رهن عقاري لأجنبي على عين ثابتة تختص المحاكم المختلطة بالفصل في صحة الرهن وكل ما يتعلق به ويترتب عليه.
رابعاً - تختص بالفصل في التعويضات التي يطلبها الأجانب من الحكومة المصرية عن الضرر الناشئ عن أعمال الإدارة إذا مست هذه التصرفات حقوقا مكتسبة أو مقررة.
خامساً - أما في المواد الجنائية فلا تختص المحاكم المختلطة إلا بالفصل في بعض الجنح والمخالفات البسيطة، وبالأخص الجرائم التي تقع على قضاة المحاكم المختلطة وموظفيها
وإلى جانب المحاكم المختلطة، بقيت المحاكم القنصلية مختصة بالفصل في المواد الجنائية المتعلقة بالأجانب، وفي المنازعات المدنية والتجارية المنقولة بين الأجانب المتحدي الجنسية وفي قضايا الأحوال الشخصية، كل قنصلية بالنسبة للرعايا التابعين لها.
وهذا كله إلى جانب الإعفاء والحصانة التشريعية والمالية والشُرَطية التي يتمتع بها الأجانب، فليس في وسع الحكومة المصرية أن تصدر تشريعاً يسري عليهم إلا بموافقة دولهم، وفيما بعد بموافقة الجمعية العمومية لمحكمة الاستئناف المختلطة؛ وليس لها أن تفرض عليهم أية ضريبة إلا بموافقة دولهم، وليس للشرطة أن تهاجم منازلهم أو محالهم في المسائل الجنائية أو تفتشها إلا في حالة التلبس أو بموافقة القنصل، وليس لها أن تقرر إبعاد أجنبي غير مرغوب فيه إلا بموافقة القنصلية التابع لها.
وقد كان الأمل معقوداً بأن يكون إنشاء المحاكم المختلطة خطوة موفقة في سبيل الإصلاح، وفي سبيل تخفيف الأغلال التي تحد من السيادة المصرية، ولكن ظهر بمضي الزمن أن المحاكم المختلطة جاءت بالعكس عبئا باهظاً على السيادة المصرية، وأنها ذهبت في أحكامها وفي تفسيراتها القضائية وفي مزاعم اختصاصها إلى حدود غير معقولة، حتى غدت أشبه بدولة داخل الدولة، وغدت حصناً للنفوذ الأجنبي، وسياجا منيعا لحماية المصالح الأجنبية؛ وابتدعت المحاكم المختلطة نظرية الصالح المختلط، فادعت الاختصاص في كل قضية وكل نزاع فيه صالح أو شبه صالح لأجنبي، وتوسعت في تفسير كلمة أجنبي بحيث شملت كل الأجانب التابعين للدول الممتازة وغير الممتازة والرعايا المحميين وغيرهم، وأضحت رقيبا على السلطة التشريعية فيما تصدره من قوانين يراد سريانها على الأجانب مهما كان نوعها وغرضها.
كذلك مارست إدارة المحاكم المختلطة تمييزاً فادحاً ضد القضاة المصريين الذين دخلوا في سلكها، لتعيق ترقياتهم في دوائرها العليا، وكانت مرافعاتها تتم بإحدى اللغات الأجنبية وغالباً باللغة الفرنسية، وكانت تصدر أغلب أحكامها باللغة الفرنسية أو الإيطالية في تجاهل تام للغة العربية لغة البلاد، وقد ناضل قضاة مصريون عظام لمقاومة هذا التحيز ضد المصريين ومن أجل إصدار الأحكام باللغة العربية.
وشعرت مصر بفداحة هذه الأغلال المرهقة التي تقيد سيادتها وسلطاتها من جراء هذا النظام الشاذ الذي فرضته عليها الامتيازات الأجنبية، والذي غدا بما يسبغه على الأجانب من الحقوق والمنح الاستثنائية، وصمة في جبين الأمة تؤذي شعورها وكرامتها؛ هذا فضلا عن كونه قد غدا بما يسبغه على سفلة الأجانب وأفاقيهم من ضروب الحماية غير المشروعة، وما يمكن لهم من ضروب العيث والفساد والإجرام الدنيئة، خطرا على الأمن والنظام والصحة والأخلاق العامة. لذلك لم تنس البلاد منذ اضطرمت بحركتها الوطنية الكبرى أن تعتبر قيام الامتيازات الأجنبية كارثة قومية لا تزول إلا بزوال هذه الامتيازات.
ولما تكللت الحركة الوطنية المصرية باعتراف بريطانيا أن مصر دولة مستقلة، وذلك في المعاهدة المصرية الإنجليزية التي وقعها البلدان في آب/أغسطس 1936، كانت مسألة الامتيازات الأجنبية ضمن المسائل الجوهرية التي تناولتها المعاهدة، وجاء في المادة الثانية عشرة: يعترف صاحب الجلالة الملك والإمبراطور أن المسؤولية عن أرواح الأجانب وأموالهم في مصر هي من اختصاص الحكومة المصرية دون سواها، وهي التي تتولى تنفيذ واجباتها في هذا الصدد. وقالت المادة الثالثة عشرة: يعترف صاحب الجلالة الملك والإمبراطور أن نظام الامتيازات القائم بمصر الآن لم يعد يلائم روح العصر ولا حالة مصر الحاضرة، ويرغب صاحب الجلالة ملك مصر في إلغاء هذا النظام دون إبطاء، وقد اتفق الطرفان المتعاقدان على الترتيبات الواردة بهذا الشأن في ملحق هذه المعاهدة.
وخلاصة الملحق المشار إليه، هو أن مصر تنوي في أقرب وقت اتخاذ التدابير التي تمكنها من إلغاء نظام الامتيازات، وما يترتب عليه من القيود التشريعية والمالية بالنسبة للأجانب، وإقامة نظام انتقال لمدة معقولة لا تطول بلا مبرر، تبقى فيها المحاكم المختلطة، وتباشر الاختصاص المخول الآن للمحاكم القنصلية في المواد الجنائية والمدنية فضلا عن اختصاصها الحالي، ثم تلغى نهائيا بانتهاء فترة الانتقال، ولتحقيق هذه الغاية تتصل الحكومة المصرية بالدول ذوات الامتيازات للاتفاق على ما تقدم. أما فيما يتعلق ببريطانيا العظمى، فإنها بصفتها من الدول العظمى، وبصفتها حليفة لمصر لا تعارض مطلقاً في التدابير المشار إليها، وتعِدُ فوق ذلك أن تعاون مصر على تحقيق غايتها، وذلك باستعمال نفوذها لدى الدول ذوات الامتيازات، وإذا تعذر وصول مصر إلى غايتها بطريق التفاهم مع الدول، فإنها تحتفظ بحقوقها كاملة في إلغاء نظام الامتيازات والمحاكم المختلطة من تلقاء نفسها.
وينص الملحق المذكور على بعض المبادئ العامة التي اتفق على اتخاذها أساساً لوضع الاتفاق المذكور، ومنها أن أي تشريع مصري يطبق على الأجانب يجب ألا يتنافى مع مبادئ التشريع الحديث، ويجب ألا يتضمن تمييزاً مجحفاً بالأجانب، وأن تبقى مسائل الأحوال الشخصية الخاصة برعايا الدول الممتازة من اختصاص المحاكم القنصلية لمن ترغب ذلك من الدول، وأن يعاد النظر في القوانين الحالية وأن يصدر قانون جديد للتحقيق الجنائي.
وبادرت الحكومة المصرية فوجهت في أوائل سنة 1937 إلى الدول ذوات الامتيازات عدة مذكرات تدعوها فيها إلى المشاركة في المؤتمر الذي اعتزمت عقده للبحث في مسألة إلغاء الامتيازات الأجنبية في مدينة مونترو بسويسرا في 12 أبريل، وتفصِّل المبادئ التي ترى مصر من جانبها أن تتخذها أساساً للاتفاق المنشود، وخلاصتها أن يحال اختصاص المحاكم القنصلية سواء الجنائية أو في منازعات الأجانب المتحدي الجنسية إلى المحاكم المختلطة، وأن لا يشمل اختصاص هذه المحاكم سوى الأجانب الذين هم فعلا رعايا الدول ذوات الامتيازات، وأن يلغى التوسع الصوري الواقع في تفسير كلمة أجنبي وفي مسألة الصالح المختلط، وأن يكون للمحاكم الأهلية أن تنظر في قضايا الأجانب الذين يرغبون في اختصاصها، وأن تمتنع المحاكم المختلطة عن النظر في القضايا الخاصة بسيادة الحكومة، وألا تفسر أو تفْصل في صحة أي قانون أو أمر أداري، وألا يكون هناك تمييز بين القضاة الوطنيين وبين الأجانب في مسالة تنظيم الدوائر ورياستها، وأن تحرر الأحكام باللغة العربية مع إحدى اللغات الأجنبية المقررة. . . الخ
وقد قبلت الدول ذوات الامتياز دعوة الحكومة المصرية، وهذه الدول هي بريطانيا العظمى، وفرنسا، والولايات المتحدة، وإيطاليا، والسويد، والنرويج، وأسبانيا، وبلجيكا، واليونان، وهولندا، والدنمارك، والبرتغال. وغابت عن الاجتماع ثلاثة دول من الدول التي كانت في نظام المحاكم المختلطة، وهي ألمانيا، والنمسا والمجر، وروسيا، أما ألمانيا فقد فقدت امتيازاتها بعد خسارتها في الحرب العالمية الأولى وتوقيعها معاهدة فرساي في سنة 1919، حيث اعترفت بالحماية البريطانية على مصر وتنازلت عن الامتيازات الأجنبية فيها، وعن جميع المعاهدات والاتفاقات المبرمة بينها وبين مصر، ولكنه لم يفت ألمانيا أن توقع مستقلة معاهدة صداقة مع مصر مُنحت فيها بعض الامتيازات المؤقتة لحين إلغاء الامتيازات، وكذلك فقدت إمبراطورية النمسا والمجر ،وكانت آنذاك تضم النمسا والمجر وتشيكوسلوفاكيا، امتيازاتها بمقتضى معاهدة صلح سان جرمان، ولكن النمسا كذلك عقدت مع مصر معاهدة صداقة مُنحت فيها امتيازات مماثلة لامتيازات ألمانيا؛ أما روسيا السوفيتية ففقدت امتيازاتها منذ أن قامت فيها الثورة الشيوعية، ولم تعترف الحكومة المصرية بها إلى ذلك اليوم.
وعقد مؤتمر مونترو في موعده المحدد؛ 30 محرم 1356= 12 نيسان/أبريل 1937؛ وكان وفد مصر مؤلفا من مصطفى النحاس باشا رئيس الوزارة، والدكتور أحمد ماهر رئيس مجلس النواب، وواصف غالي باشا وزير الخارجية، وعبد الحميد بدوي باشا رئيس أقلام قضايا الحكومة؛ واستمر المؤتمر منعقدا حتى اليوم الثامن من أيار/مايو حيث تم توقيع الاتفاق الذي انتهت إليه مصر والدول؛ وكانت الولايات المتحدة الأمريكية تؤيد مصر في مطالبها، وكانت فرنسا أشد الدول صلابة وتمسكا بالامتيازات وبخاصة تلك المتعلقة بالمؤسسات التعليمية؛ وكمثال على الصلافة التي تعامل بها مندوبو بعض الدول نذكر أن الوفد الإسباني طلب أن تعامل طائفة اليهود السفرديم المقيمين بمصر كالرعايا الإسبانيين وأن يمنحوا مزية التقاضي أمام المحاكم المختلطة أثناء فترة الانتقال، لأنهم من ذرية اليهود الأسبان الذين طاردتهم محاكم التفتيش في القرن السادس عشر وشردتهم عن وطنهم في مختلف البلاد، وقال المندوب الأسباني: إن أسبانيا الجمهورية التي تحررت من نزعات التحامل والتعصب، تريد أن تقدم ترضية لسلالة هذه الطائفة التي نكبت في عصور الظلم والتعصب والطغيان.
ودافعت مصر في المؤتمر عن موقفها وتمسكت بالنقط الأساسية التي تتعلق بالسيادة المصرية؛ بيد أنها اضطرت إلى التساهل في بعض التفاصيل والضمانات الخاصة بفترة الانتقال؛ وتجاوز المؤتمر كثيرا من الأزمات الدقيقة التي أثارتها فرنسا بتشددها وفداحة مطالبها. وهذه خلاصة للمبادئ الهامة التي تم الاتفاق عليها:
أولا - وافقت الدول على إلغاء الامتيازات الأجنبية وكل ما يترتب عليها من الحقوق والمزايا الخاصة إلغاء تاماً شاملاً
ثانيا - ألغيت جميع القيود التي كانت قائمة في سبيل التشريع المصري بما ذلك التشريع المالي على الأجانب، واصبح من حق مصر أن تطبق على الأجانب جميع القوانين التي تطبقها على الوطنين، وألغى حق الإشراف الذي كانت تزاوله المحاكم المختلطة في تطبيق هذه القوانين وفي الحكم بصحتها.
ثالثا - رضيت مصر بتنظيم فترة للانتقال حددت مدتها باثني عشرة عاما، يحتفظ خلالها بالمحاكم المختلطة، ويضاف إلى اختصاصها اختصاص المحاكم القنصلية في المواد الجنائية والمدنية؛ وكذلك في مواد الأحوال الشخصية بالنسبة للدول التي ترغب في نقل الأحوال الشخصية إليها.
رابعا - يقتصر اختصاص المحكم المختلطة أثناء هذه المدة على رعايا الدول ذوات الامتيازات، وكذلك رعايا الدول الآتية: ألمانيا، النمسا، تشيكوسلوفاكيا، المجر، يوجوسلافية، سويسرا، بولونيا، رومانيا؛ ويتناول اختصاصها الرعايا المحميين أيضاً في المواد الجنائية. أما في المواد المدنية فلهؤلاء الرعايا أن يختاروا بين المحاكم الأهلية والمختلطة. وفي الأحوال الشخصية بالنسبة للرعايا الذين ينتمون إلى طوائف دينية معينة يبقى الاختصاص الطائفي. ولا امتيازات لرعايا سوريا ولبنان وفلسطين وشرق الأردن.
خامسا - يحظر على جميع المصريين أن يلجئوا إلى حماية أية دولة أجنبية.
سادسا - في نهاية فترة الانتقال تلغى المحاكم المختلطة وذلك في 12 أكتوبر سنة 1949، كما تلغى المحاكم القنصلية ويخضع جميع الأجانب المقيمين بالقطر المصري للقضاء المصري في جميع الأحوال المدنية والجنائية والشخصية
يعتبر اتفاق مونترو بالنسبة لمصر حدثا عظيما في تاريخها الحديث، فقد بقيت مصر مكبلة بقيد الاحتلال البريطاني، فلما كاد أن يزول بحكم المعاهدة المصرية الإنكليزية، بقيت الامتيازات تحد من سلطان مصر وسيادتها حدا أليما، وتجعل الأجانب سادة في أرضها يتمتعون بحقوق ومنح لا يتمتع بها أبناء البلاد أنفسهم، ولذا فإن مؤتمر مونترو حطم صرح الامتيازات الأجنبية بعد أن لبث زهاء أربعة قرون كابوسا مرهقا، ولذا لم يكن غريباً بعد المؤتمر أن يكتب المرحوم الأستاذ أحمد حسن الزيات افتتاحية مجلة الرسالة تحت عنوان: بعد مؤتمر الامتيازات: الآن يبدأ الاستقلال!
ولأن الامتيازات التي محيت في الورق والمعاهدات بقيت في بعض النفوس وكثير من التصرفات، كتب الأستاذ الأديب الحكيم أحمد أمين رحمه الله مقالة بعنوان: امتيازات من نوع آخر. مما جاء فيها:
هل لاحظت أن المقاهي والفنادق الأرستقراطية وما يشبهها وما يقرب منها، صاحبها أجنبي، ومديرها أجنبي، والمشرف على ماليتها أجنبي، والذي يقدم إليك الخدمات الرفيعة أجنبي، ومن يقبض ثمن ما قدم ويأخذ منك البقشيش أجنبي؛ ثم من يمسح الأرض مصري، ومن يتولى أحقر الأعمال مصري، ومن يمسح لك حذاءك في المقهى أو الفندق مصري، ومن يجمع أعقاب السجاير مصري؛ وأن الأجنبي له الخيار في الأعمال، فما استنظفه عمله بنفسه، وما استقذره كلف به مصرياً؛ ثم أنت لا تجد العكس أبداً في المقاهي المصرية والفنادق المصرية. فلا تجد رئيساً مصرياً ومرءوساً أجنبياً، ولا تجد الأعمال الرفيعة لمصري، والأعمال الوطنية لأجنبي؛ وإذا كان لكل قاعدة استثناء كما يقولون فقد ظفرنا في هذه الحال بقاعدة لا استثناء فيها!
وهل تتبعت الصناعات في مصر فرأيت أن كل صناعة رأسها أجنبي وقدماها مصريتان؟ أو ليس ما يثير عجبك، ويبعث دهشك، أن كلمة الأحياء الوطنية في مصر تحمل من المعاني كل أنواع السوء والفوضى والإهمال وكان يجب أن تحمل كل معاني العناية والنظافة والنظام؟
ثم هل علمت أن امتيازات أخرى بجانب هذه الامتيازات المادية، هي امتيازات عقلية أو نفسية؟ فإن غلبة الأجنبي في الصراع بينه وبين المصري في مرافق الحياة المادية أوجدت حالة نفسية شراً من الحالة المادية، مظهرها قلة وثوق المصري بنفسه وقوة وثوقه بالأجنبي. فإذا تعسرت حالة مَرَضية اتجه أهل المريض إلى الطبيب الأجنبي، وإذا أراد رب مال أن ينجح في إدارته قصد إلى مدير أجنبي، وإذا تعقدت مسألة حكومية أو أهلية اختير لها خبير أجنبي، وإذا اختلف الباحثون في مسألة علمية كان الحكم الفصل قول المؤلف الأجنبي، وهكذا في كل شأن من شؤون حياتنا!
 واستتبع هذا تقويمنا للأجنبي قيمةً غالية، ودخل في التقويم أجنبيته أكثر مما دخل في التقويم فنه أو علمه... هذه الامتيازات في المادة والعقل والنفس شر مما اصطلحنا على تسميته بالامتيازات الأجنبية، ومن الأسف أنها لا تحل بمؤتمر كمؤتمر مونترو، ولا باشتراك الدول ومفاوضتها، ولا بمعاهدة، ولا بقانون، إن حلها أصعب من ذلك كله: إنها تحتاج إلى عقول جبارة، وإرادات من نار، وحمية لا حد لها، ووطنية قوية وثابة.
إنها تحتاج إلى مؤتمرات لا من جنس مؤتمر مونترو، إلى مؤتمر يتكون من فطاحل في التربية يعرفون كيف فشا فينا مرض العبودية حتى حبب إلينا العمل الدنيء وبغض إلينا العمل الرفيع ... ما أصعب هذه المؤتمرات وما أشقها وما أحوجنا إليها! ولكنها أصعب من مؤتمر مثلت فيه كل الدول، لأنها مؤتمرات لا تلغي قانوناً موضوعاً، ولكنها تلغي أخلاقاً موروثة، وتقاليد سمّرها الزمان، وتحطم أوتاداً سهر عليها الحاكم الظالم المستبد حتى صلبت الأرض عليها ... فهل لنا وقد نجحنا في مؤتمر الامتيازات الأجنبية أن نوجه هممنا لمعالجة أختها؛ الامتيازات التي هي من نوع آخر. علنا ننجح أيضاً؟
 
 

 
log analyzer