الجمعة، 25 سبتمبر 2015

حدث في الحادي عشر من ذي الحجة


في الحادي عشر من ذي الحجة لعام 207 توفي في بغداد، عن 77 سنة، أبو عبد الله الواقدي، محمد بن عمر بن واقد السهمي الواقدي المدني ثم البغدادي، العالم المؤرخ والراوية الكبير.

ولد الواقدي في المدينة المنورة في سنة 130 وطلب العلم وهو صغير، فسمع من صغار التابعين فمن بعدهم، وكان معروفاً بطلب العلم، قال الواقدي : كانت ألواحي تضيع، فأوتى بها من شهرتها بالمدينة، يقال: هذه ألواح ابن واقد .

وكان الواقدي في طلبه للعلم فريداً في منهجه العلمي في معايشة الأحداث التاريخية التي يؤرخ لها أو يروي تفاصيلها، قال: ما أدركت رجلاً من أبناء الصحابة وأبناء الشهداء ولا مولى لهم إلا وسألته: هل سمعت أحداً من أهلك يخبرك عن مشهده وأين قتل؟ فإذا أعلمني مضيت إلى الموضع فأعاينه، ولقد مضيت إلى المريسيع فنظرت إليها، وما علمت غزاة إلا مضيت إلى الموضع حتى أعاينه. قال أحد أصحابه: رأيت الواقدي بمكة ومعه ركوة، فقلت: أين تريد؟ فقال: أريد أن أمضي إلى حُنين حتى أرى الموضع والوقعة.

حدث الواقدي عن خلق كثير من كبار االعلماء إلى عامة الناس، ومن أبرز من روى عنهم الإمام محمد بن عجلان القرشي المدني المتوفى سنة 148، وكان فقيها مفتيا، عابدا صدوقا، كبير الشأن، له حلقة كبيرة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ عن ابن جريج، عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، الإمام العلامة، شيخ الحرم المكي، وصاحب التصانيف، وأول من دون العلم بمكة، المولود سنة 80 والمتوفى سنة 150، وعن ابن أبي ذئب، محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة، الإمام المدني الفقيه، الورع القوال بالحق، المولود سنة 80 والمتوفى سنة 158، قال الواقدي عن شيخه: كان يصلي الليل أجمع، ويجتهد في العبادة، ولو قيل له: إن القيامة تقوم غدا، ما كان فيه مزيد من الاجتهاد، وكان من رجال الناس صرامة وقولا بالحق، دخل مرة على والي المدينة؛ عبد الصمد بن علي عم المنصور، فكلمه في شئ، فقال له عبد الصمد بن علي: إني لأراك مرائيا! فأخذ عودا وقال: من أرائي؟ فوالله للناس عندي أهون من هذا.

كان الواقدي على جلالته في العلم يعمل في تجارة القمح في المدينة المنورة، ولما حج هارون الرشيد وزار المدينة المنورة، قال لوزيره يحيى بن خالد البرمكي: ابغ لي رجلا عارفا بالمدينة والمشاهد، وكيف كان نزول جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أي وجه كان يأتيه، وقبور الشهداء. فسأل يحيى الناس فكلهم دلوه على الواقدي، قال الواقدي: فبعث إلي فأتيته، فواعدني إلى عشاء الآخرة، فلما صليت عشاء الآخرة إذ أنا بالشموع قد خرجت وإذا أنا برجلين على حمارين، فقال يحيى: أين الرجل؟ فقلت: ها أنذا. فأتيت به إلى دور المسجد فقلت: هذا الموضع الذي كان جبريل يأتيه. فنزلا عن حماريهما فصليا ركعتين ودعوا الله ساعة ثم ركبا وأنا بين أيديهما، فلم أدع موضعا من المواضع ولا مشهدا من المشاهد إلا مررت بهما عليه، فجعلا يصليان ويجتهدان في الدعاء، فلم نزل كذلك حتى وافينا المسجد وقد طلع الفجر وأذن المؤذن. فلما صارا إلى القصر قال لي يحيى بن خالد: أيها الشيخ لا تبرح. فصليت الغداة في المسجد، وهو على الرحلة إلى مكة، فأذن لي يحيى بن خالد عليه بعد أن أصبحت، فأدنى مجلسي وقال لي: إن أمير المؤمنين أعزه الله لم يزل باكيا، وقد أعجبه ما دللته عليه، وقد أمر لك بعشرة آلاف درهم. فإذا بدرة مبدرة قد دفعت إلي، وقال لي: يا شيخ خذها مبارك لك فيها، ونحن على الرحلة اليوم، ولا عليك أن تلقانا حيث كنا واستقرت بنا الدار إن شاء الله. ورحل أمير المؤمنين وأتيت منزلي ومعي ذلك المال، فقضينا منه دينا كان علينا، وزوجت بعض الولد، واتسعنا.

ثم قدم الواقدي من المدينة إلى العراق في سنة 180 بسبب دين ركبه، يقصد الوزير يحيى بن خالد البرمكي بدالّة أنه كان دليله في زيارة مشاهد المدينة، قال الواقدي: كنت حنّاطاً بالمدينة في يدي مئة ألف درهم للناس أضارب بها، فتلفت الدراهم، وأعضنا الدهر، فقالت لي أم عبد الله: ما قعودك وهذا وزير أمير المؤمنين قد عرفك وسألك أن تصير إليه حيث استقرت به الدار؟ فرحلت من المدينة وأنا أظن القوم بالعراق، فأتيت العراق فسألت عن خبر أمير المؤمنين فقالوا لي: هو بالرقة. فأردت العودة إلى المدينة، ثم نظرت فإذا أنا بالمدينة مختل الحال، فحملت نفسي على أن أصير إلى الرقة، فصرت إلى موضع الكِرى فإذا أنا بعدة فتيان من الجند يريدون الرقة، فلما رأوني قالوا: أيها الشيخ أين تريد؟ فخبرتهم بخبري وأني أريد الرقة، فنظرنا في كرى الجمالين فإذا هي تضعف علينا، فقالوا: أيها الشيخ هل لك أن تصير إلى السفن فهو أرفق بنا وأيسر علينا من كرى الجمال؟ فقلت لهم: ما أعرف من هذا شيئا والأمر إليكم. فصرنا إلى السفن فاكترينا، فما رأيت أحدا كان أبر بي منهم ولا أشفق ولا أحوط، يتكلفون من خدمتي وطعامي ما يتكلفه الولد من والده، حتى صرنا إلى موضع الجواز بالرقة، وكان الجواز صعبا جدا، فكتبوا إلى قائدهم بعِدادهم وأدخلوني في عدادهم، فمكثنا أياما ثم جاءنا الإذن بأسمائنا فجزت مع القوم فصرت إلى موضع لهم في خان نزول، فأقمت معهم أياما وطلبت الإذن على يحيى بن خالد فصعب علي، فأتيت أبا البختري ، وهب بن وهب، وهو بي عارف، فلقيته فقال لي: يا أبا عبد الله أخطأت على نفسك وغررت ولكن لست أدع أن أذكرك له. وكنت أغدو إلى بابه وأروح، فقلت نفقتي واستحييت من رفقائي وتخرقت ثيابي وأيست من ناحية أبي البختري.

فلم أخبر رفقائي بشيء، وعدت منصرفا إلى المدينة، فمرة أنا في سفينة، ومرة أمشي، حتى وردت وردت السَّيلحين على ثلاثة فراسخ من بغداد،. فبينا أنا مستريح في سوقها إذا أنا بقافلة من بغداد، فسألت من هم فأخبروني أنهم من أهل مدينة الرسول، صلى الله عليه وسلم، وأن صاحبهم بكار الزبيري أخرجه أمير المؤمنين ليوليه قضاء المدينة، والزبيري أصدق الناس لي. فقلت أدعه حتى ينزل ويستقر ثم آتيه. فأتيته بعد أن استراح وفرغ من غدائه، فاستأذنت عليه فأذن لي، فدخلت فسلمت عليه فقال لي: يا أبا عبد الله ماذا صنعتَ في غيبتك؟ فأخبرته بخبري وبخبر أبي البختري، فقال لي: أما علمت أن أبا البختري لا يحب أن يذكرك لأحد ولا ينبه باسمك، فما الرأي؟ فقلت: الرأي أن أصير إلى المدينة. فقال: هذا رأي خطأ. خرجتَ من المدينة على ما قد علمت، ولكن الرأي أن تصير معي فأنا الذاكر ليحيى أمرك. فركبت مع القوم حتى صرت إلى الرقة، فلما عبرنا الجواز قال لي: تصير معي. فقلت: لا، أصير إلى أصحابي وأنا مبكر عليك غدا لنصير جميعا إلى باب يحيى بن خالد إن شاء الله.

فدخلت على أصحابي فكأني وقعت عليهم من السماء، ثم قالوا لي: يا أبا عبد الله ما كان خبرك فقد كنا في غم من أمرك؟ فخبرتهم بخبري، فأشار عليّ القوم بلزوم الزبيري وقالوا: هذا طعامك وشرابك لا تهتم له. فغدوت بالغداة إلى باب الزبيري فخبرت بأنه قد ركب إلى باب يحيى بن خالد، فأتيت باب يحيى بن خالد فقعدت مليا، فإذا صاحبي قد خرج فقال لي: يا أبا عبد الله أُنسيتُ أن أذاكره أمرك، ولكن قف بالباب حتى أعود إليه. فدخل ثم خرج إلي الحاجب فقال لي: ادخل. فدخلت عليه في حالة خسيسة، وذلك في شهر رمضان وقد بقي من الشهر ثلاثة أيام أو أربعة. فلما رآني يحيى بن خالد في تلك الحال رأيت أثر الغم في وجهه، وسلّم علي وقرّب مجلسي، وعنده قوم يحادثونه. فجعل يذاكرني الحديث بعد الحديث فانقطعت عن إجابته وجعلت أجيء بالشيء ليس بالموافق لما يسأل، وجعل القوم يجيبون بأحسن الجواب وأنا ساكت، فلما انقضى المجلس وخرج القوم خرجت، فإذا خادم ليحيى بن خالد قد خرج فلقيني عند الستر فقال لي: إن الوزير يأمرك أن تفطر عنده العشية. فلما صرت إلى أصحابي خبرتهم بالقضية وقلت: أخاف أن يكون غلط بي. فقال لي بعضهم: هذه رغيفان وقطعة جبن، وهذه دابتي تركب والغلام خلفك، فإن أذِن لك الحاجب بالدخول دخلت ودفعت ما معك إلى الغلام، وإن تكن الأخرى صرتَ إلى بعض المساجد فأكلت ما معك، وشربت من ماء المسجد. فانصرفت فوصلت إلى باب يحيى بن خالد وقد صلى الناس المغرب، فلما رآني الحاجب قال: يا شيخ أبطأت! وقد خرج الرسول في طلبك غير مرة. فدفعت ما كان معي إلى الغلام وأمرته بالمقام. فدخلت فإذا القوم قد توافوا، فسلمت وقعدت، وقدم الوضوء فتوضأنا وأنا أقرب القوم إليه، فأفطرنا وقربت عشاء الآخرة فصلى بنا ثم أخذنا مجالسنا، فجعل يحيى يسألني وأنا منقطع والقوم يجيبون بأشياء هي عندي على خلاف ما يجيبون، فلما ذهب الليل خرج القوم وخرجت خلف بعضهم فإذا غلام قد لحقني فقال: إن الوزير يأمرك أن تصير إليه قابلة قبل الوقت الذي جئت فيه يومك هذا. وناولني كيسا ما أدري ما فيه إلا أنه ملأني سرورا.

فخرجت إلى الغلام فركبت ومعي الحاجب حتى صيرني إلى أصحابي، فدخلت عليهم فقلت: اطلبوا لي سراجا، ففضضت الكيس فإذا دنانير، فقالوا لي: ما كان رده عليك؟ فقلت: إن الغلام أمرني أن أوافيه قبل الوقت الذي كان من ليلتي هذه. وعددت الدنانير فإذا خمسمئة دينار. فقال لي بعضهم: عليَّ شراء دابتك، وقال آخر: عليَ السرج واللجام وما يصلحه، وقال آخر: عليَ حمامك وخضاب لحيتك وطيبك، وقال آخر: عليَ شراء كسوتك فانظر في أي الزي القوم. فعددت مئة دينار فدفعتها إلى صاحب نفقتهم فحلف القوم بأجمعهم أنهم لا يرزؤوني دينارا ولا درهما، وغدوا بالغداة كل واحد على ما انتدب لي فيه، فما صليت الظهر إلا وأنا من أنبل الناس.

وحملت باقي الكيس إلى الزبيري فلما رآني بتلك الحال سر سرورا شديدا، ثم أخبرته الخبر فقال لي: إني شاخص إلى المدينة. فقلت: نعم إني قد خلفت العيال على ما قد علمت. فدفعت إليه مئتي دينار يوصلها إلى العيال، ثم خرجت من عنده فأتيت أصحابي بجميع ما كان معي من الكيس، ثم صليت العصر فتهيأت بأحسن هيئة، ثم حضرت إلى باب يحيى بن خالد. فلما رآني الحاجب قام فأذن لي فدخلت على يحيى فلما رآني في تلك الحال نظرت إلى السرور في وجهه، فجلست في مجلسي ثم ابتدأت في الحديث الذي كان يذاكرني به والجواب فيه، وكان الجواب على غير ما كان يجيب به القوم. فنظرت إلى القوم وتقطيبهم لي، وأقبل يحيى يسائلني عن حديث كذا وحديث كذا فأجيب فيما يسألني، والقوم سكوت ما يتكلم أحد منهم بشيء. فلما حضرت المغرب تقدم يحيى فصلى، ثم أحضر الطعام فتعشينا، ثم صلى بنا يحيى عشاء الآخرة وأخذنا مجالسنا، فلم نزل في مذاكرة، وجعل يحيى يسأل بعض القوم فينقطع. فلما كان وقت الانصراف انصرف القوم وانصرفت معهم فإذا الرسول قد لحقني فقال: إن الوزير يأمرك أن تصير إليه في كل يوم في الوقت الذي جئت فيه يومك هذا. وناولني كيسا.

فانصرفت ومعي رسول الحاجب حتى صرت إلى أصحابي وأصبت سراجا عندهم فدفعت الكيس إلى القوم فكانوا به أشد سرورا مني، فلما كان الغد قلت لهم: أعدوا لي منزلا بالقرب منكم واشتروا لي جارية وغلاما خبازا وأثاثا ومتاعا. فلم أصل الظهر إلا وقد أعدوا لي ذلك، وسألتهم أن يكون إفطارهم عندي فأجابوا إلى ذلك بعد صعوبة شديدة.

فلم أزل آتي يحيى بن خالد في كل ليلة في الوقت كلما رآني ازداد سرورا، فلم يزل يدفع إلي في كل ليلة خمسمئة دينار حتى كان ليلة العيد فقال لي: يا أبا عبد الله تزين غدا لأمير المؤمنين بأحسن زي من زي القضاة، واعترض له فإنه سيسألني عن خبرك فأخبره. فلما كان صبيحة يوم العيد خرجت في أحسن زي، وخرج الناس، وخرج أمير المؤمنين إلى المصلى، فجعل أمير المؤمنين يلحظني، فلم أزل في الموكب. فلما كان بعد انصرافه صرت إلى باب يحيى بن خالد ولحقنا يحيى بعد دخول أمير المؤمنين منزله فقال لي: يا أبا عبد الله ادخل بنا. فدخلت ودخل القوم فقال لي: يا أبا عبد الله ما زال أمير المؤمنين يسألني عنك فأخبرته بخبر حجنا وأنك الرجل الذي سايرته تلك الليلة، وأمر لك بثلاثين ألف درهم، وأنا متنجزها لك غدا إن شاء الله. ثم انصرفت يومي ذلك فدخلت من الغد على يحيى بن خالد فقلت: أصلح الله الوزير، حاجة عرضت وقد قضيت على الوزير أعزه الله بقضائها. فقال لي: وما ذلك؟ فقلت: الإذن إلى منزلي، فقد اشتد الشوق إلى العيال والصبيان. فقال لي: لا تفعل. فلم أزل أنازله حتى أذن لي واستخرج لي الثلاثين الألف درهم، وهيئت لي حراقة بجميع ما فيها، وأمر أن يشتري لي من طرائف الشام لأحمله معي إلى المدينة، وأمر وكيله بالعراق أن يكتري لي إلى المدينة لا أكلف نفقة دينار ولا درهم. فصرت إلى أصحابي فأخبرتهم بالخبر وحلفت عليهم أن يأخذوا مني ما أصلهم به، فحلف القوم أنهم لا يرزؤوني دينارا ولا درهما. فوالله ما رأيت مثل أخلاقهم، فكيف ألام على حبي ليحيى بن خالد؟

وعاد الواقدي إلى بغداد من المدينة بعد أن قضى ديونه فلم يزل مقيماً بها، وتوفي الوزير النبيل يحيى بن خالد البرمكي سنة 190 مسجوناً بأمر هارون الرشيد، وتولى الواقدي القضاء لهارون الرشيد.

كان الواقدي كريماً سخياً، قال: صار إلي من السلطان ستمئة ألف درهم، ما وجبت علي فيها زكاة! وله في الكرم قصص، منها حكاية مشهورة تعددت رواياتها واختلفت ونذكر إحداها هنا، قال الواقدي: أضقت مرة، وأنا مع يحيى بن خالد، وحضر العيد، فجاءتني الجارية، فقالت: ليس عندنا من آلة العيد بشئ، فمضيت إلى تاجر صديق لي ليقرضني، فأخرج إلي كيسا مختوما فيه ألف دينار، ومئتا درهم، فأخذته، فما استقررت في منزلي حتى جاءني صديق لي هاشمي، فشكا إلي تأخر غلته وحاجته إلى القرض، فدخلت إلى زوجتي، فأخبرتها، فقالت: على أي شئ عزمت؟ قلت: على أن أقاسمه الكيس، قالت: ما صنعتَ شيئا، أتيت رجلا سُوقة، فأعطاك ألفا ومئتي درهم، وجاءك رجل من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، تعطيه نصف ما أعطاك السوقة؟ فأخرجتُ الكيس كله إليه، فمضى، فذهب صديقي التاجر إلى الهاشمي، وكان صاحبه، فسأله القرض، فأخرج الهاشمي إليه الكيس بعينه، فعرفه التاجر، وانصرف إلي، فحدثني بالأمر.

وجاءني رسول يحيى يقول: إنما تأخر رسولنا عنك لشغلي، فركبت إليه، فأخبرته أمر الكيس، فقال: يا غلام، هات تلك الدنانير، فجاءه بعشرة آلاف دينار، فقال: خذ ألفي دينار لك، وألفي دينار للتاجر، وألفين للهاشمي، وأربعة آلاف لزوجتك، فإنها أكرمكم. وكان الواقدي يقول بعد هذه الحكايات: أفألام على حب يحيى؟

وفي أول سنة 204 قدم الخليفة المأمون من خراسان إلى بغداد فقضى على تمرد إبراهيم بن المهدي، ثم وجه إلى الحسن بن سهل أن يُشخِص إليه محمد بن عمر الواقدي، فأشخصه، فاستقضاه على الجانب الشرقي من بغداد المعروف اليوم بالرصافة وسابقاً بمحلة عسكر المهدي، وبقي في هذا المنصب حتى وفاته، وكانت تلك فرصة لنعرف سعة مكتبته العامرة، إذ لما انتقل من الجانب الغربي من بغداد حمل كتبه على 120 وقر جمل، وكان له 600 قمطر كتباً، وكان له غلامان يكتبان له بالليل والنهار، ومع ذلك قال: ما من أحد إلا كتبه أكثر من حفظه، وحفظي أكثر من كتبي.

وكان المأمون يكرم الواقدي ويبالغ في رعايته، فكتب إليه مرة يشكو ضائقة لحقته ودين ركبه بسبها، وعيّن مقداره في قصة، فوقع المأمون فيها بخطه: فيك خلتان: سخاء وحياء، فالسخاء أطلق يديك بتبذير ما ملكت، والحياء حملك أن ذكرت لنا بعض دينك، وقد أمرت لك بضعف ما سألت، فإن كنا قصرّنا عن بلوغ حاجتك، فبجنايتك على نفسك، وإن كنا بلغنا بغيتك، فزد في بسط يدك، فإن خزائن الله مفتوحة، ويده بالخير مبسوطة، وأنت حدثتني حين كنتَ على قضاء الرشيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للزبير: يا زبير: إن مفاتيح الرزق بإزاء العرش، ينزل الله سبحانه للعباد أرزاقهم على قدر نفقاتهم، فمن كثر كثر له، ومن قلل قلل عنه. قال الواقدي: وكنت نسيت الحديث، فكانت مذاكرته إياي أعجب إلي من صلته.

وبقي الواقدي على منهجه في الكرم، قال مصعب الزبيري: كلمت الواقدي في رجل من أهل المدينة يوكله ببعض هذه الوكلات مما يكون فيه رزق، فأرسل إليه بصرة فيها مئة أو مئتا درهم، فقلت: ليتني والله ما كلمته فيه! ثم لقيته فقلت: الرجل الذي كلمتك فيه، لم أكلمك أن تصله، وإنما كلمتك أن توكله. فقال: فأي شيء ينفق إلى أن أوكله؟

صنف الواقدي مؤلفات عديدة واسعة في التاريخ والفقه والرقائق، وعني عناية خاصة بتاريخ الإسلام، وتدور مصنفاته حول المعالم التاريخية للقرن الأول الهجري، ومن كتبه المشهورة: كتاب التاريخ واالمغازي والمبعث، كتاب أخبار مكة، كتاب ذكر الأذان، كتاب الطبقات، كتاب فتوح العراق، كتاب الـجَمَل، كتاب مقتل الحسين، كتاب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، كتاب حروب الأوس والخزرج،كتاب  أمراء الحبشة والفيل، كتاب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، كتاب المناكح، كتاب السقيفة وبيعة أبي بكر، كتاب الردة ذكر فيه القبائل التي ارتدت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وما جرى بينهم وبين المسلمين، كتاب سيرة أبي بكر ووفاته، كتاب الترغيب في علم المغازي، كتاب غلط الرجال، كتاب مداعي قريش والأنصار؛ في القطائع ووضْعِ عمر الدواوين، كتاب مولد الحسن والحسين ومقتله، كتاب ضرب الدنانير، كتاب تاريخ الفقهاء، كتاب التاريخ الكبير، كتاب اختلاف أهل المدينة والكوفة في أبواب فقه المعاملات، وكتاب الصوائف، وهي الغزوات التي كان خلفاء بني أمية يشنونها في الصيف على الحدود مع الدولة البيزنطية، وينسب إليه كتاب فتوح الشام وأكثره مما لا تصح نسبته إليه.

واهتمام الواقدي بتأريخ هذه الحقبة وجمع أخبارها هو مكرمة وإلهام له من الله، وتدين من شخصه، فقد روى الواقدي عن عبد الله بن عمر بن علي عن أبيه قال: سمعت علي بن الحسين يقول: كنا نُعلَّم مغازي النبي صلى الله عليه وسلم كما نُعلَّم السورة من القرآن.

وللواقدي كذلك روايات في قراءات القرآن الكريم، ولكنه مع سعة علمه وكثرة حفظه كان لا يحفظ القرآن الكريم، قال المأمون للواقدي: أريد أن تصلي الجمعة غدا بالناس. فامتنع، قال: لا بد، فقال: والله ما أحفظ سورة الجمعة، قال: فأنا أحفّظك. فجعل المأمون يلقنه سورة الجمعة حتى بلغ النصف منها، فإذا حفظه، ابتدأ بالنصف الثاني، فإذا حفظه، نسي الأول، فأتعب المأمون، ونعس، فقال لعلي بن صالح: حفظه أنت، قال علي: ففعلت، فبقي كلما حفظته شيئا، نسي شيئا، فاستيقظ المأمون، فقال لي: ما فعلت؟ فأخبرته، فقال: هذا رجل يحفظ التأويل، ولا يحفظ التنزيل! اذهب فصل بهم، واقرأ أي سورة شئت.

ومات وهو على القضاء، ولم يترك ثمن كفن له فبعث أمير المؤمنين المأمون بأكفانه، وأوصى إلى المأمون فقبل وصيته وقضى دينه، وصلى على الواقدي القاضي أبو عبد الله ابن سماعة، محمد بن سماعة التميمي الحنفي، المولود سنة 130 والمتوفى سنة 233.

والواقدي شخصية فريدة ومشكِلة في التاريخ الإسلامي وعند علماء الحديث ورواته، ذلك إن كتبه ومروياته تشغل جزءاً كبيراً وهاماً من كتب السيرة والتاريخ الإسلامي، ولكن المحدثين في نهاية المطاف يضعفون الواقدي، ولست بأهل للخوض بتفصيل في هذا الأمر، فضلا عن ضيق المجال لمثله، فأكتفي بمثالين على تناقض الأقوال في الواقدي بين رافع وخافض!    

ويدور تضعيف الواقدي على إيراده لحديث انفرد به راو ولكن بإسناد عن غير هذا الراوي، وقد تناول هذا الأمر الحافظ ابن سيد الناس في مقدمة كتابه عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، فأورد كل أقوال العلماء في الواقدي، ثم عقب عليها فقال: قلت: سعة العلم مظنةٌ لكثرة الإغراب، وكثرة الإغراب مظنة للتهمة، والواقدى غير مدفوع عن سعة العلم، فكثرت بذلك غرائبه، وقد روينا عن على بن المديني أنه قال: للواقدي عشرون ألف حديث لم نسمع بها. وعن يحيى بن معين: أغرب الواقدي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرين ألف حديث. وقد رُوينا عنه من تتبعه آثار مواضع الوقائع وسؤاله من أبناء الصحابة والشهداء ومواليهم عن أحوال سلفهم ما يقتضى انفرادا بروايات وأخبار لا تدخل تحت الحصر، وكثيرا ما يُطعن في الراوي بسبب رواية له من أنكر تلك الرواية عليه واستغربها منه، ثم يظهر له أو لغيره بمتابعة متابع أو سبب من الاسباب براءته من مقتضى الطعن. ثم أورد ابن سيد الناس عن المحدث الحافظ أحمد بن منصور الرمادي بيان أن الحديث الذي هو أصل تضعيف الواقدي له طريق آخر غير تلك التي اعتبرها المحدثون واحدة لا ثانية معها، وينقل عن الرمادي قوله: هذا مما ظُلِم فيه الواقدي.

ولكن الإمام الذهبي قال في سير أعلام النبلاء: وقد تقرر أن الواقدي ضعيف، يحتاج إليه في الغزوات والتاريخ، ونورد آثاره من غير احتجاج، أما في الفرائض، فلا ينبغي أن يذكر، فهذه الكتب الستة، ومسند أحمد، وعامة من جمع في الأحكام، نراهم يترخصون في إخراج أحاديث أناس ضعفاء، بل ومتروكين، ومع هذا لا يخرجون لمحمد بن عمر شيئا، مع أن وزنه عندي أنه مع ضعفه يُكتب حديثه ويروى، لاني لا أتهمه بالوضع، وقول من أهدره فيه مجازفة من بعض الوجوه، كما أنه لا عبرة بتوثيق من وثقه، كيزيد وأبي عبيد والصاغاني وإبراهيم الحربي، ومعن، وتمام عشرة محدثين، إذ قد انعقد الإجماع اليوم على أنه ليس بحجة، وأن حديثه في عداد الواهي، رحمه الله.

وهذا التوهين لا يقلل من مكانة الواقدي فله تحليله الصائب لكثير من أحداث وظواهر التاريخ الإسلامي، ومن ذلك ما نقله عنه تلميذه محمد بن سعد في كتاب الطبقات، قال: قال محمد بن عمر الأسلمي: إنما قلَّت الرواية عن الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم هلكوا قبل أن يحتاج إليهم، وإنما كثرت عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب لأنهما وليا فسئلا وقضيا بين الناس، وكل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أئمة يقتدى بهم ويحفظ عليهم ما كانوا يفعلون ويستفتون فيفتون وسمعوا أحاديث فأدوها، فكان الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل حديثا عنه من غيرهم، مثل أبي بكر وعثمان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وأبي عبيدة بن الجراح وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وأبيّ بن كعب وسعد بن عبادة وعبادة بن الصامت وأسيد بن الحضير ومعاذ بن جبل ونظرائهم، فلم يأت عنهم من كثرة الحديث مثل ما جاء من الأحاديث عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن العباس ورافع بن خديج وأنس بن مالك والبراء بن عازب ونظرائهم، وكل هؤلاء كان يعد من فقهاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يلازمون النبي صلى الله عليه وسلم مع غيرهم من نظرائهم وأحدث منهم مثل عقبة بن عامر الجهني وزيد بن خالد الجهني وعمران بن الحصين والنعمان بن بشير ومعاوية بن أبي سفيان وسهل بن سعد الساعدي وعبد الله بن يزيد الخطمي ومسلمة بن مخلد الزرقي وربيعة بن كعب الأسلمي، وهند وأسماء ابني جارية الأسلميين وكانا يخدمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلازمانه، فكان أكثر الرواية والعلم في هؤلاء ونظرائهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم بقوا وطالت أعمارهم واحتاج الناس إليهم، ومضى كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبله وبعده بعلمه لم يؤثر عنه بشيء ولم يحتج إليه لكثرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأخذت عن الواقدي جمهرة كبيرة من علماء ومحدثي عصره، من  أبرزهم كاتبه الحافظ العلامة محمد بن سعد بن منيع البصري، المولود سنة  168 والمتوفى سنة 230، والمعروف بكاتب الواقدي، ومصنف كتاب الطبقات الكبير المعروف بطبقات ابن سعد، والذي لا تخلو صفحة منه من الرواية عن الواقدي، وكان ابن سعد رحمه الله كثير العلم كثير الكتب، كَتَب الحديثَ والفقه والغريب، وقد عده علماء الحديث من الثقات الصادقين. قال إبراهيم الحربى: كان أحمد بن حنبل يوجه في كل جمعة بحنبل إلى ابن سعد يأخذ منه جزئين من حديث الواقدي ينظر فيهما إلى الجمعة الأخرى ثم يردهما ويأخذ غيرهما. ثم قال إبراهيم: ولو ذهب سمعهما  كان خيرا له.

وممن أخذ عن الواقدي كذلك المحدث الكبير أبو بكر بن أبي شيبة، عبد الله بن محمد، المولود سنة 159 والمتوفى سنة 235، وصاحب المصنف في الأحاديث والآثار . وقد وردت روايات أن الإمام مالك رضي الله عنه قد سأل الواقدي عن تفاصيل وردت في بعض الأحاديث وقبل قوله وأشار إليه، وحضر الواقدي مناظرة الإمام أبي يوسف مع صاحب الإمام مالك بن أنس المغيرةِ بن عبد الرحمن المخزومي بعد أن أبى الإمام مالك أن يناظر أبا يوسف، وجرت المناظرة أثناء زيارة هارون الرشيد للمدينة المنورة في حجه.

رحم الله الواقدي وجزاه عن اجتهاده في خدمة الإسلام والمسلمين خير الجزاء.

الأحد، 20 سبتمبر 2015

حدث في الرابع من ذي الحجة

في الرابع من ذي الحجة من سنة 855 توفي في القاهرة، عن 93 سنة، العلامة المحدث بدر الدين العيني، محمود بن أحمد بن موسى العيني، نسبة إلى عينتاب، أحد كبار علماء القرن التاسع ومن المصنفين المكثرين، وصاحب عمدة القاري في شرح البخاري.

ولد العيني في عينتاب في السابع والعشرين من رمضان من سنة 762، وكان والده من أهل حلب ولكنه تولى قضاء عينتاب التي كانت من أعمال حلب، وهي اليوم غازي عينتاب جنوبي تركيا، فولد له فيها بدر الدين، وكان والده المولود في حدود سنة 720 فقيهاً يستحضر فروع الفقه ويعرف أمور السجلات والمكاتيب، وعمل في القضاء نحواً من 30 سنة، وتوفي في عينتاب سنة 784.

ونشأ بدر الدين في عينتاب وحفظ القرآن الكريم وتفقه على والده وعلى غيره من كبار علماء بلده، فدرس النحو والصرف والعربية والمنطق والفقه والفرائض والفقه المقارن، وبرع فيها حتى ناب عن والده في مجلس القضاء، ورحل في سنة 883 إلى حلب ودرس الفقه الحنفي على العلامة جمال الدين يوسف بن موسى المَلَطيّ الحنفي، ثم رحل في طلب العلم إلى بليدات في وسط الأناضول وجنوبه مثل بهسنا وكختا ومَلَطية، ثم عاد إلى عينتاب. 

وبعد وفاة والده رحل بدر الدين لزيارة بيت المقدس فالتقى هناك بالعلامة علاء الدين أحمد بن محمد الحنفي السيرامي، نسبة إلى سيرام من بلاد وراء النهر، والذي كان في القدس في طريقه من حلب إلى القاهرة حيث استدعاه الملك الظاهر برقوق ليجعله في مدرسته التي بناها بين القصرين، فأخذه السيرامي معه إلى القاهرة في سنة 788.

واستقر السيرامي في سنة 789 شيخاً للصوفية في المدرسة ومدرساً للحنفية، فأنزل بدر الدين في المدرسة ثم جعله خادماً بها، ودرس العيني على السيرامي الفقه وأصوله والتفسير والبيان، وقال بدر الدين عن شيخه: كنت في صحبته يوم تولى المدرسة إلى أن توفي، ليلاً ونهاراً، فلم أر منه شيئاً يخالف الكتاب والسنة أو العادة الحسنة، ولا سمعته قط تلفظ بكلام قبيح أو كلام فاحش، ولا اغتاب أحداً قط، ولا عبس في وجه أحد قط، ولا طلب من أحد شيئاً حتى السلطان، وكان دائماً يبكي ويتأسف على تناوله من الأوقاف ومن أموال الدولة، وكان يحلف ويقول بأنه ما خرج إلى هذه الديار إِلا لأن يجاور في القدس أو في المدينة النبوية فينقطع إلى الله تعالى ويشتغل بعبادته، ولكن المقدور أظهر خلاف ما أضمر.

وفي تلك الفترة قرأ بدر الدين العيني الحديث على المحدث الكبير الحافظ العراقي، زين الدين عبد الرحيم بن الحسين، المولود سنة 725 والمتوفى سنة 806، قرأ عليه صحيح مسلم والإلمام لابن دقيق العيد.

وتوفي السيرامي سنة 790  فخلا المجال لبعض الفقهاء من حسدة العيني فأوغروا عليه صدر أحد كبار أمراء الدولة، وهو الأمير جركس الخليلي، فأخرجه من المدرسة ورام إبعاده عن القاهرة، ولكن حال دون ذلك تدخل الإمام سراج الدين البُلقيني، عمر بن رسلان المولود سنة 724 والمتوفى سنة 805.

وبعد فترة يسيرة غادر بدر الدين العيني القاهرة إلى حلب وعينتاب، وبقي فيها مدة ثم عاد إلى القاهرة، عًطلاً من أي وظيفة في مساجدها ومدارسها العديدة، ولكن صار يتردد على بعض كبار  الأمراء، واصطحبه للحج الأمبر تمربغا المشطوب في سنة 799، وفي سنة 801 توفي الظاهر برقوق بعد أن حكم فعلاً واسماً قرابة 21 سنة، وتولى الحكم ابنه فرج وكان في العاشرة من عمره، وتسمى بالملك الناصر، فترقى كثير من هؤلاء الأمراء، ومنهم الأمير سيف الدين جكم الظاهري فسعى له في تولى وظيفة محتسب القاهرة في آخر سنة 801، فصرف السلطان عنها الشيخَ تقي الدين المقريزي، المؤرخ الكبير، وأعطاها للعيني ولكنه لم يدم فيها غير شهر. 

ولم تكن تلك المرة الأخيرة للعيني في حسبة القاهرة فقد تولاها عدة مرات لفترات كلها ليست بالطويلة، آخرها في سنة 846، وجاء بعضها في إبان شح في القمح والخبز، واشتُهر العيني بطريقته في تعزير المخالفين وهي أن يأمر بمصادرة بضاعتهم وإطعامها للفقراء والمحابيس، ولم تذكر عليه أية ملاحظات في إدارته أو نزاهته، بخلاف غيره ممن تولوا هذا المنصب، وتلك شهادة ضمنية لهذا الإمام الكبير، وإن كان في غنى عنها، وقد حدث أن أحد خواص السلطان ويدعى فيروز الساقي نسب بدر الدين العيني إلى أمور مشينة في قضائه مثل تناول الرشوة والحكم بالغَرَض، فأحضر السلطان القاضي وأراد من فيروز أن يواجهه ويحاققه، فخارت قواه فاعتذر واستغفر، فاشتد غضب السلطان وأمر بأن بنفي بعد أن ضرب بحضرته ضرباً شديداً.

وتولى بدر الدين العيني نظر الأوقاف في مصر عدة مرات، وهو منصب يحتاج إلى القوي الأمين الذين يحسن إدارة  الأوقاف واستغلالها، والوفاء بشروط واقفيها، والذب عنها إزاء الطامعين في وظائفها وعقارها، وكانت أول مرة له في هذا المنصب في سنة 804 وآخرها في منتصف سنة 852 حين عزل عن النظر في الأوقاف بسبب كبر سنه.

وفي  سنة 814 قتل الأمراء الملك الناصر فرج بن برقوق، وجعلوا في السلطنة الخليفة العباسي المستعين بالله العباس بن محمد فجمع بين الخلافة والسلطنة، ولكن الأمير شيخ المحمودي ما لبث أن خلعه في سنة 815 وتولى السلطنة وتلقب بالملك المؤيد وبقي في الحكم حتى وفاته سنة 824 عن قرابة 54 عاماً.

وشهدت هذه السنة 3 ملوك، فقد عهد الملكَ المؤيد لابنه الملك المظفر أحمد، وتولى الأمير ططر إدارة المملكة وتزوج أم المظفر، ثم بعد فترة وجيزة خلع المظفر وطلق أمه، ونادى بنفسه سلطانا، وتلقب بالملك الظاهر، ولم يلبث أن مات،

وفي أثناء فترته الوجيزة أرسل السلطان الملك الظاهر ططر الشيخ بدر الدين العيني في مهمة إلى دويلات الأناضول التركمانية المعروفة ببلاد مان، وذلك إن أحد ملوكها قره يوسف هدد بالحرب، فأرسل السلطان مبعوثاً إلى جيرانه يخبرهم بعزمه على المسير لحربه، ويطلب منهم التجهز للمسير معه، أما مهمة العيني فكانت تحليف نواب قلاع وبلاد البلدان القرمانية على الولاء والطاعة للسلطان، ودامت المهمة قرابة 3 أشهر.

وبويع محمد ابن الملك الظاهر ططر وتلقب بالملك الصالح، وكان في الثالثة عشر، وتولى الأمير برسباي تدبير الملك أسابيع، ثم خلع الصالح ونادى بنفسه سلطانا، وتلقب بالملك الأشرف، فأطاعه الأمراء وهدأت البلاد في أيامه.

وكان بدر الدين العيني نديم الملك الأشرف، ويبيت عنده في بعض الأحيان، وكان يعجب الأشرفَ قراءتُه في التاريخ، لكونه يقرأه باللغة العربية ثم يفسر ما قرأه باللغة التركية لفصاحته في اللغتين، وكان للعيني تأثير جيد على الملك الأشرف، وعن ذلك قال المقريزي في تاريخه عن هذا الأمر: كان الزيني عبد الباسط ... يحسن له القبائح في وجوه تحصيل المال، ويهون عليه فعلها، حتى يفعلها الأشرف وينقاد إليه بكليته، وحسَّن له أموراً لو فعلها الأشرف لكان فيها زوال ملكه، ومال الأشرف إلى شيء منها لولا معارضة قاضي القضاة بدر الدين محمود العيني له فيها عندما كان يسامره بقراءة التاريخ، فإنه كان كثيراً ما يقرأ عنده تواريخ الملوك السالفة وأفعالهم الجميلة، ويذكر ما وقع لهم من الحروب والخطوب والأسفار والمحن، ثم يفسر له ذلك باللغة التركية، وينمقها بلفظه الفصيح، ثم يأخذ في تحبيبه لفعل الخير والنظر في مصالح المسلمين، ويرجعه عن كثير من المظالم، حتى لقد تكرر من الأشرف قوله في الملأ: لولا القاضي العيني ما حسن إسلامنا، ولا عرفنا كيف نسير في المملكة. وكان الأشرف اغتنى بقراءة العيني له في التاريخ عن مشورة الأمراء في المهمات، لما تدرب بسماعه للوقائع السالفة للملوك.

وعقب ابن تغري بردي على ذلك في النجوم الزاهرة فقال: وما قاله الأشرف في حق العيني هو الصحيح، فإن الملك الأشرف كان لما تسلطن أمياً صغير السن بالنسبة لملوك الترك الذين مسهم الرق، فإنه تسلطن وسنه يوم ذاك نيف على أربعين سنة، وهو غر لم يمارس التجارب، ففقهه العيني بقراءة التاريخ، وعرفه بأمور كان يعجز عن تدبيرها قبل ذلك، منها: لما كسرت مراكب الغزاة في غزوة قبرس، فإن الأشرف كان عزم على تبطيلها في تلك السنة ويسيرها في القابل، حتى كلمه العيني في ذلك، وحكى له عدة وقائع صعب أولها وسهل آخرها، فلذلك كان العيني هو أعظم ندمائه وأقرب الناس إليه، على أنه كان لا يداخله في أمور المملكة البتة، بل كان مجلسه لا ينقضي معه إلا في قراءة التاريخ، وأيام الناس وما أشبه ذلك.

ويذكر ابن تغري بردي في ترجمته للأمير المملوكي سيف الدين جارقطلو الذي كان مقرباً من الملك الأشرف برسباي، ولكنه كان معروفاً بمعاقرة الخمرة، حادثة لطيفة: وكان إذا جلس قاضي القضاة بدر الدين العيني عند السلطان في ليالي الخدم، وأخذ في قراءة شيء من التواريخ، يشير إليه السلطان بحيث لا يعلم جارقطلو، فينتقل مما هو فيه إلى شيء من الوعظيات، ويأخذ في التشديد على شَرَبة الخمر وما أشبه ذلك، ويبالغ في حقهم، والأشرف أيضاً يهول الأمر ويستغفر، فإذا زاد عن الحد يقول جارقطلو: يا قاضي، ما تذكر إلا شَرَبة الخمر وتبالغ في حقهم بأنواع العذاب، ليش ما تذكر القضاة وأخذهم الرشوة والبراطيل وأموال الأيتام! يقول ذلك بحدة وانحراف حلو، فلما يسمع الملك الأشرف كلامه يضحك وينبسط هو وجميع أمرائه.

وفي أوائل سنة 829 طلب الملك الأشرف برسباي الشيخ بدر الدين العيني وأبلغه بتعيينه في منصب قاضي قضاة الحنفية في مصر، وخلع عليه، فباشر وظيفة القضاء بحرمة وافرة، وعظمة زائدة، لكونه ولي القضاء من غير سعى، ولقربه من الملك الأشرف واختصاصه به. 

واستمر البدر العيني في القضاء 4 سنوات حتى صرف في أوائل سنة 833 مع بقائه نديماً للسلطان يقرأ له على العادة، ثم أعيد في منتصف سنة 835، وجمع في تلك المرة القضاء والحسبة ونظر الأوقاف وهو أمر لم يسبق له مثيل.

وفي سنة 836 جرَّد السلطان حملة إلى آمد، وهي ديار بكر اليوم شمالي حلب، لتأديب القرمانيين الذين أفسدوا في المنطقة، فاصطحب معه القضاة ومنهم البدر العيني وابن حجرالعسقلاني بصفته قاضي الشافعية، فلما وصلوا حلب استأذن العيني في الذهاب إلى عينتاب فسمح له السلطان فسار إليها مع ابن حجرثم عادا فانضما للسلطان.

وهنا ينبغي أن نشير أن العلاقة لم تكن على ما يرام بين البدر العيني وبين ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي، المولود سنة 773 والمتوفى سنة 852، ويتجلى ذلك في كتاب ابن حجر إنباء الغمر بأبناء العمر، إذ لا يترك مناسبة يرد فيها ذكره إلا ويذكره دون توقير أو تبجيل، وينتقد كثيراً من تصرفاته وأحكامه وبخاصة ما ناقضه هو فيه، وهو أمر معروف لا يستغرب في الأقران والمعاصرين، وتابع هذا النهج ولكن بحال أخف تلميذ ابن حجر؛ الإمام السيوطي في كتابه الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع.

وتوفي الملك الأشرف برسباي في آخر سنة 841 ، وتسلطن ابنه الملك العزيز يوسف، وصار الأتابك جقمق العلائي مدير مملكته، فعزله جقمق البدر العيني عن القضاء في أول سنة 842، فلزم العيني داره مكبا على على الإشغال والتصنيف.

وخلع الأمير جقمق الملك العزيز يوسف وتسلطن متسميا بالملك الظاهر، فولى العيني حسبة القاهرة مرتين، لم تطل مدته فيهما، وما لبث أن عزله عن الأوقاف في سنة 853، وتسبب ذلك في معاناة العيني وانقطاع دخله، فلم يكن ثرياً بل كان يتعيش من راتبه، فلما انقطع عنه صار يبيع من أملاكه وكتبه إلى أن توفي، وصلى عليه الإمام المناوي من الغد بالجامع الأزهر، ودفن بمدرسته التي أنشأها بجوار داره بالقرب من الجامع الأزهر، رحمه الله.

كان العيني رحمه الله من العلماء الوافري الثروة لو حُسبت مؤلفاتهم، وقد اشتُهِر بمؤلفه العظيم: عمدة القاري في شرح الجامع الصحيح للبخاري، وقد ذكروا أن شرح البخاري كان دينا على الأمة فأداه ابن حجر والعيني، وقد شرع في تأليفه سنة 820  فأنجز جزئين خلال سنة ثم انقطع عنه مدة 16 سنة ثم عاد إليه وفرغ من الجزء الثالث في سنة 833 وانتهى من الجزء الحادي والعشرين والأخير في سنة 847، ويمتاز باللغويات والأدبيات وكثرة الشواهد النحوية، وكان يوم انتهائه منه يوماً مشهوداً، وأشار العيني في تقدمته للعمدة أنه باشر من قبل  في شرح سنن أبي داود، ولكن لم يكمله، والسبب: فعاقني من عوائق الدهر ما شغلني عن التتميم واسْتولى عليّ من الهموم ما يخرج عن الحصْر والتقسيم.

وينتقد العيني في كتابه عمدة القاري كثيراً من آراء ابن حجر في شرحه للبخاري المعروف باسم فتح الباري، وهو لا يذكره بالاسم بل يقول: وقال بعضهم. وقد رد الحافظ ابن حجر على هذه الاعتراضات في مجلد كما ذكر ذلك السيوطي في كتابه نظم العقيان في أعيان الأعيان.

ومن الكتب الحديثية الهامة شرح معاني الآثار الذي صنفه الإمام الطحاوي، أحمد بن محمد االمولود سنة 239 والمتوفى سنة 321، وقد قام الإمام بدر الدين العيني فشرحه وتناول الرواة المذكورين في الكتاب في كتاب أسماه: مغاني الأخيار في شرح معاني الآثار.

ولبدر الدين العيني ثروة أخرى في كتب الفقه، ومن أهمها شرحه لكتاب الهداية لبرهان الدين المرغيناني، والذي أسماه البناية في شرح الهداية، والمرغيناني هو الفقيه الكبير علي بن أبي بكر بن عبد الجليل الفرغاني المرغيناني، نسبته إلى مرغينان من نواحي فرغانة، والمولود سنة 530 والمتوفى سنة 593، وقد تتابع على كتاب الهداية شراح كثيرون، وقد أشار لذلك العيني في مقدمته حين قال: إن كتاب الهداية قد تباهجت به علماء السلف حتى صار عمدة المدرسين، فلذلك قد تصدى جماعة من الفضلاء لشرحه، ومع هذا لم يعطه أحد منهم حقه، وقد ندبنى جماعة من الإخوان إلى أن أغوص في هذا البحر، فاعتذرت فلم يقبل اعتذاري، فشرحت هذا الشرح. ولعله آخر كتب العيني فقد انتهى منه في سنة أول سنة 850.

وشَرَح العيني في فروع الفقه الحنفي المختصرَ المسمى كتاب تحفة الملوك لزين الدين الرازي، محمد بن حسن الرازي، وأسمى شرحه: منحة السلوك شرح تحفة الملوك ، وهو شرح لطيف صنفه العيني للأمير سيف الدين شيخ بن عبد الله الصفوي المعروف بشيخ الخاصكي، وكان من أعيان دولة الملك الظاهر برقوق، وتوفي سنة 801.

وانتخب بدر الدين العيني  منتخباً من كتاب الفتاوى الظهيرية، الذي ألفه القاضي ظهير الدين محمد بن أحمد البخاري المتوفى سنة 619، وذلك بحذف ما كثر الاطلاع عليه واختيار  ما يكثر الاحتياج إليه،  وسماه المسائل البدرية المنتخبة من الفتاوى الظهيرية، وقال: وهو كتاب مشتمل على مسائل من كتب المتقدمين لا يستغني عنها علماء المتأخرين.

وللعيني شرح مختصر على كتاب كنز الدقائق الذي ألفه في فروع الفقه الحنفي الإمام النسفي، عبد الله بن احمد المتوفى سنة 710، وأسمى العيني شرحه: رمز الحقائق في شرح كنز الدقائق، وذكر في مقدمته أنه امتحن بحاسد ثم زال، فشرح الكتاب شكرا لله تعالى، وفرغ من تأليفه سنة 818.

ومن الكتب الهامة في الفقه الحنفي كتاب مجمع البحرين وملتقى النهرين الذي ألفه الإمام مظفر الدين ابن الساعاتي البغدادي، أحمد بن علي بن ثعلب، المتوفى سنة 694، وذلك لحسن ترتيبه واختصاره وتناوله آراء الإمام أبي حنيفة والصاحبين، ولكن الكتاب لاختصاره وبساطة أسلوبه قد يعسر على طالب العلم، ولذا قام العيني، وهو في سن الخامسة والعشرين، بشرحه شرحاً حافلاً في كتاب أسماه المستجمع في شرح المجمع، وأشار فيه إلى أقوال الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وعقب بأن أبدى رأيه في الأصح من أقوالهم. 

ولم يقتصر العيني على الحديث والفقه، بل كانت له مصنفات في النحو والعربية والعروض، من أهمها كتابه: المقاصد النحوية في شرح شواهد شروح الألفية، ويعرف بالشواهد الكبرى، وهو شرح على ألفية ابن مالك، وشكى بعض طلبة العلم من تفصيل الكتاب وطوله فاختصره في كتاب أسماه فرائد القلائد في مختصر شرح الشواهد، ويعروف بالشواهد الصغرى. وجاء الأديب العَروضي زين الدين الأشعافي الحلبي، زين الدين بن أحمد، المتوفى سنة 1042 فألف رسالة تعقب فيها العلامة العيني في عَروض أبيات من شواهد النحو سها فيها في المختصر، سماها التنبيهات الزينية على الغفلات العينية، قال في مقدمتها: وكنت أولا أنسب ذلك إلى تحريف النساخ، إلى أن وقفت على نسخة قرئت عليه وكتب خطه في مواضع منها وفي آخرها إجازة بخطه، فتصفحتُها فإذا هي مشتملة على ما في النسَخ، مما هو خلاف الصواب.

ومن كتب التصريف في اللغة العربية كتاب الشافية في التصريف لأبي عمرو عثمان بن عمر المعروف بابن الحاجب النحوي المالكي، االمتوفى سنة 646، ولها شروح كثيرة وحواش عليها وعلى شروحها، وقد عمل بدر الدين العيني حاشية على أحد شروحها.

وله في العَروض شرح لقصيدة ابن الحاجب، أبي عمرو عثمان بن عمر المالكي، المتوفى سنة 646، والمسماة المقصد الجليل في علم الخليل، وله كتاب ميزان النصوص في علم العروض، وله كذلك كتاب الحاوي شرح قصيدة الساوي في العَروض.

والعيني كذلك مؤرخ كبير من مؤرخي فترته وما قبلها، ولها مؤلفات تاريخية عديدة، منها كتاب كشف اللثام في شرح سيرة ابن هشام، ولكنه لم يكتمل، شرح سيرة مغلطاي، سيرة الأنبياء عليهم السلام، تاريخ الأكاسرة، كتبه بالتركية، وله كذلك سيرة الملك الأشرف، وكتاب البدر الزاهر في أخبار الملك الظاهر برقوق، وهو إلى الثناء والإنشاء أقرب منه إلى التأريخ، السيف المهند في سيرة الملك المؤيد، وقد ألفه كأرجوزة، وكان بين العيني وبين الشيخ شهاب الدين ابن حجر منافسة، فجاء ابن حجر لسيرة الملك المؤيد وجرّد منها الأبيات الركيكة بلا وزن  فبلغت نحو أربعمئة بيت، فجمعها في كتاب سماه : قذى العين من نظم غراب البين.

ولكن أهم كتبه في التاريخ هو كتابه الكبير: عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان، في 40  مجلدا، ابتدأ فيه من بداية الدنيا وانتهى فيه إلى سنة 850، وقد أخذ كثيراً منه عن المؤرخ ابن دقماق، إبراهيم بن محمد، المتوفى سنة 809، ثم جاء تلميذه ابن تغري بردي فأخذ منه ونقل عنه في تاريخه النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، وهو كثيراً ما ينقل عن أستاذه ثم يعلق على ما ذكره، مع اعترافه له بالفضل وبخاصة في سرده التراجم فقد قال: وأعظم من رأيناه في هذا الشأن الشيخ تقي الدين المقريزي وقاضي القضاة بدر الدين العيني. ولكن ابن تغري بردي يفضل المقريزي على العيني حيث يقول في مقدمة كتابه حوادث الدهور في مدى الأيام والشهور: 

أما بعد فلما كان شيخنا الإمام، الأستاذ العالم العلامة المفنن، رأس المحدثين، وعمدة المؤرخين، تقي الدين أحمد بن علي المقريزي الشافعي أيقن من حرر تاريخ الزمان، وأضبط من ألف في هذا الشأن، وأجل تحفة استفرعها وعمدة ابتدعها كتابه المسمى بالسلوك في معرفة دول الملوك، قد انتهى فيه إلى أواخر سنة 844، وهي السنة التي توفي فيها، ولم يكن من بعده من يعول عليه في هذا الفن ولا من يرجع إليه، إلا الشيخ الإمام العالم العلامة قاضي القضاة بدر الدين محمود العيني الحنفي، فأردت أن أعلم حقيقة أمره في هذا المعنى، ونظرت فيما يعلِّقه في تلك الأيام، فإذا به كثير الغلطات والأوهام، وذلك لكبر سنه واختلاط عقله وذهنه، بحيث أن الشخص لا تمكنه الفائدة من ذلك إلا بعد تعب كثير لاختلاف الضبط وعدم التحرير.

وممن نقل عن تاريخ العيني كثيراً شمس الدين السخاوي، محمد بن عبد الرحمن، المولود سنة 831 والمتوفى سنة 902، وذلك في كتابه الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع، ونقل عن العيني كذلك معاصرُه ابن حَجَر العَسْقلاني، أحمد بن علي، المولود سنة 773 والمتوفى سنة 852، وذلك في كتابه إنباء الغَمر بأبناء العمر، وهو يقول في المقدمة منتقداً لبدر الدين العيني: وذكر أن الحافظ عماد الدين ابن كثير عمدته في تاريخه، وهو كما قال، لكن منذ انقطع ابن كثير صارت عمدته على تاريخ ابن دقماق، حتى كان يكتب منه الورقة الكاملة متوالية، وربما قلده فيما يهِمُ فيه حتى في اللحن الظاهر، مثل اخلع على فلان، وأعجب منه أن ابن دقماق يذكر في بعض الحادثات ما يدل على أنه شاهدها، فيكتب البدر كلامه بعينه بما تضمنه، وتكون تلك الحادثة وقعت بمصر، وهو بعد في عينتاب، ولم أتشاغل بتتبع عثراته، بل كتبت منه ما ليس عندي، مما أظن أنه اطلع عليه من الأمور التي كنا نغيب عنها ويحضرها.

والعيني هو أحد الفقهاء المذهبيين الذين دافعوا عن ابن تيمية عندما اتهمه بعض العلماء بالضلال والكفر، وله في ذلك كتاب العلم الهيِّب في شرح الكلم الطيب لابن تيمية، وقال عنه العيني في كتاب آخر: وهو الذابّ عن الدين طعن الزنادقة والملحدين ... فمن قال: إنه كافر فهو كافر حقيق، ومن نسبه إلى الزندقة فهو زنديق ... ولكن بحثه فيما صدر عنه في مسألتي الزيارة والطلاق عن اجتهاد سائغ بالاتفاق، والمجتهد في الحالين مأجور ومثاب، وليس فيه شيء مما يذم أو يعاب.

درس على العيني عدد كبير من طلبة العلم في زمانه، وصار عدد منهم من كبار العلماء، ويضيق المقام عن استيفاء من درسوا عليه أو أخذوا عنه، ونجتزأ بأن نشير هنا أن كمال الدين ابن الهمام، محمد بن عبد الواحد، المولود نحو سنة 790 والمتوفى سنة 861، قرأ عليه المعلقات السبع وجمهرة أشعار العرب، وممن أخذوا عنه المؤرخ الكبير ابن تغري بردي، يوسف بن تغري بردي، المولود نحو 811 والمتوفى سنة 874، والذي درس عليه الفقه، وشهد له العيني بالتفوق في التاريخ.

كان بدر الدين العيني شيخا أسمر اللون، قصير، مسترسل اللحية، لطيف العشرة متواضعاً، حافظاً للتاريخ وللغة، كثير الاستعمال لها، مشاركاً في الفنون، لا يمل من المطالعة والكتابة، لكلامه في التاريخ وغيره طلاوة، وكان سيال الفكر حسن الديباجة؛ مسوداته مبيضات، جيد الخط، سريع الكتابة، قيل أنه كتب كتاب القُدوري في الفقه في ليلة واحدة في مبادئ أمره، وله نظم ونثر ليسا بقدر علمه، فصيحا باللغة التركية، وقد مدحه أحد شعراء تلك الحقبة؛ شمس الدين النواجي، محمد بن حسن، المولود سنة 788 والمتوفى سنة 859، فقال:

لقد حزت يا قاضي القضاة مناقباً ... يقصر عنها منطقي وبياني

وأثنى عليك الناس شرقاً ومغرباً ... فلا زلت محموداً بكل لسان

ويبدو أن أخا بدر الدين المدعو أحمد قد لحق به إلى مصر، فقد ذكرت كتب التراجم ابنه قاسم بن أحمد بن أحمد العينتابي المولود سنة 796 والمتوفى سنة 814، وتصفه بالذكاء المفرط وأنه كان أحد الفضلاء في الحساب والهندسة والنجوم والطلسمات وعلم الحرف والطب.

كان لبدر الدين العيني ابن هو القاضي زين الدين عبد الرحيم، المتوفى بالطاعون سنة 864 وهو في حدود الأربعين، وتولى منصب ناظر الأوقاف، وله مؤلفات مفيدة في الفقه والنحو، وقد تزوج عبد الرحيم بنت زوجة الأمير خشقدم، وفي حدود سنة 850 جاءه منها ولد أسماه شهاب الدين أحمد، ولوفاة والده رباه الأمير خشقدم زوج جدته، ولما صار الأمير سلطاناً وتسمى بالملك الظاهر في سنة 865، جعل ربيبه عبدَ الرحيم أحد أمرائه وصار له جاه عريض .

وتزوج ابنة بدر الدين العيني ابن أبي الوفا المقدسي، محمد بن أبي بكر بن محمد، المولود بالقدس سنة 841 والمتوفى بالرملة  سنة 891، وكان شيخاً ينتمي لأسرة علم وفضل، مشاركاً في العلوم مع كياسة ونظم وتصوف.

وتذكر كتب الفهارس أن أحد أفاضل الأتراك قد ألف كتاباَ في سيرة بدر الدين العيني أسماه تذهيب التاج اللجيني في ترجمة البدر العيني، وللأستاذ زاهد الكوثري كتاب حوله كذلك، ولم أطلع على الكتابين.

ونختم بطرفة ذُكر أنها جرت بين الإمام ابن حجر وبين بدر الدين العيني، وذلك أنه في سنة 821 تضعضت مئذنة مسجد السلطان المؤيد المبنية حديثاً، وذلك بسبب كون أساساتها قد بنيت على حجر صغير، وكان لا بد من هدمها وبنائها من جديد، وأغلق بسبب ذلك باب زويلة ثلاثين يوماً، فانتهزها فرصة الحافظ شهاب الدين ابن حجر، وكان بينه وبين بدر الدين العيني جفاء، وقال:

لجامع مولانا المؤيد رونق... منارته تزهو من الحسن والزين

تقول وقد مالت عن الموضع امهلوا... فليس على حسني أضر من العين

وهو هنا يقصد  بالتورية بدر الدين العيني، فرد العيني على هذين البيتين:

منارة كعروس الحسن إذ جليت... وهدمها بقضاء الله والقدر

قالوا: أصيبت بعين! قلت: ذا خطأ... ما أوجب الهدم إلا خسة الحجر

 

الجمعة، 11 سبتمبر 2015

حدث في الخامس والعشرين من ذي القعدة

في الخامس والعشرين من ذي القعدة من عام 1287 الموافق 16 شباط/فبراير 1871، توفي في المدينة المنورة، عن 75 سنة، الإمام شامل الداغستاني، المجاهد القوقازي الكبير، وفيما يلي سيرة حياته وحركته استقيت كثيراً منها من مقالات كتبها الأستاذ برهان الدين الداغستاني في مجلة الرسالة، ونظراً لارتباط الداغستان بالشيشان فقد ألحقت بالحديث  استعراضاً موجزاً لتاريخ الشيشان بعد ذلك حتى يومنا هذا.
تشغل بلاد الداغستان معظم القسم الشرقي من بلاد القوقاز، وتمتد على الساحل الغربي لبحر قزوين، وتحدها من الغرب قمم جبال القوقاز العالية وجمهوريتا الشيشان وجورجيا، وجمهورية أذربيجان جنوبا، ومعنى الداغستان: بلاد الجبال، وليست هذه المنطقة كلها جبالا كما يتبادر لأول وهلة، ولكن طبيعة الجبال هي الغالبة فيها، وتشكل سلسلة جبال القوقاز الممتدة من بحر قزوين إلى البحر الأسود الحدود الطبيعية الجنوبية لروسيا.
دخل الإسلام بلاد أذربيجان مع الفتح الإسلامي الذي قاده في سنة 18 الصحابي سراقة بن عمرو بن لبنة رضي الله عنه، ودخل الإسلام داغستان سنة 22، وفي سنة 32 فتح المسلمون مدينة دَرَبَند على الشاطئ الغربي لبحر قزوين، ومعناه بالفارسية الباب المغلق، ويقال لها باب الأبواب أو الباب لأن المسافة بين البحر وجبال القوقاز لا تتعدى 3000 متر، واستتب لهم الأمر فيها  سنة 38، وصارت إحدى ثغور الدولة الإسلامية الشمالية الشرقية، وفي أيام الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك أرسل أخاه مسلمة بن عبد الملك فأكمل فتحها في سنة 115 وتفشى الإسلام في أهلها وأصبحت إقليماً يدين بالإسلام، وأصبحت اللغة العربية هي لغة التدريس والتأليف والتعلم.
ولد شامل في سنة 1212=1797 وكان والده جمال الدين من الوجهاء ومُلاَّك الأراضي فأرسل ابنه للمدرسة الدينية حيث تعلم اللغة العربية وقواعدها والبلاغة والمنطق، وسلك في الطريقة الصوفية النقشبندية، وأصبح من علماء ومشايخ المنطقة، وشهد شامل في يفاعته في سنة 1228=1813 انتقال داغستان من يد إيران إلى روسيا القيصرية على يد الشاه فتح علي شاه في معاهدة جُلستان، ذلك إن هذا الشاه، الذي تولى عرش إيران من سنة 1797 إلى وفاته سنة 1834، خاض حرباً مع روسيا في سنة 1804بسبب جورجيا التي أعلن حاكمها ولاءه لروسيا بدلاً من إيران، ولم ينته الشاه من تورطه بهذه الحرب إلا بمعاهدة جُلستان التي أبرمها في سنة 1228=1813 مع الإمبراطور الروسي الكساندر الأول وتخلى فيها عن مطالبه في جورجيا، وتنازل فيها كذلك لروسيا عن باكو وداغستان، وكان لروسيا مطامع قديمة في داغستان وسبق وأن احتلها بطرس الأكبر في سنة 1722 ثم أعادها مكرهاً لفارس بعد 12 سنة.
واتبعت روسيا في الداغستان سياسة ظاهرها الليونة والترغيب وباطنها تحويل الشعب الداغستاني عن الإسلام واللغة العربية إلى الثقافة واللغة الروسية، واستجاب لهم عدد من رؤساء قبائل الداغستان، وأرسلوا  شبابهم للعمل في دواوين الحكومة الروسية وانخرط بعضهم في صفوف الجيش الروسي وحاربوا معه جيوش الدولة العثمانية، وبدا للروس أن مخططاتهم قد نجحت في تحقيق مراميهم البعيدة، وفي سنة 1240=1825 توفي القيصر الكساندر الأول وتولى الحكم أخوه نيقولاس الأول الذي استمر في نفس السياسات السابقة.
وحقق الروس هذا النجاح لقلة العلماء العاملين المخلصين الذي يحسنون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويستميلون الناس إلى دعوتهم، ولكن لم يستمر هذا النجاح طويلاً، فلم تمض سنة ونيف على المعاهدة حتى أعلنت بعض قبائل داغستان والشركس في أبخازيا الجهاد على المحتل الأجنبي الكافر، وهو جهاد سيستمر قرابة 50 عاماً وامتزجت فيه مشاعر العزة والاستعلاء القوقازية بالغيرة الإسلامية، وكانت نقطة التحول في هذا الجهاد أن ظهر في سنة 1242=1826 العالم المجدد والمصلح الصوفي النقشبندي الشيخ محمد الكمراوي، نسبة إلى قريته كمرا، ويلقب بقاضي مُلا، الذي بدأ حركة إصلاح وتهذيب للعودة بالناس إلى تعاليم دينهم وآداب شريعتهم، وكان شامل من أول من بايعه وعمل معه، ولازمه حتى صار من أكبر مريديه وأهم أعوانه.
وفي سنة 1245 قرر الشيخ محمد الكمراوي أن ينتقل إلى مرحلة دعوية أخرى من خلال تأسيس كيان تكون له قوة تمكنه من تنفيذ مشروعه الإصلاحي، فاتخذ لقب الغازي وبدأ يجند في شرق داغستان بعض الذين استجابوا لدعوته ويخوف بهم المخالفين له والباغين عليه، وكان شامل أحد قواد الفرق التي كان يبثها الغازي محمد، ويبعثها إلى الجهات للإغارة والتأديب، فعارضه وقاومه كثير من الزعماء الذين هدد مصالحهم وزعاماتهم، كما قاومه عديد من عوام داغستان لأنه وقف في وجه كثير من الأعراف الداغستانية البعيدة عن الشريعة الإسلامية، واعتبرته الدولة الروسية خارجاً عن القانون ينبغي القضاء عليه.
وشن الروس الحملة تلو الحملة حتى استطاعو في سنة 1248=1832 حصار الغازي محمد الكمراوي ومعه شامل وزملائه المجاهدون في قرية كمرا، وقدم الغازي حياته فداء لإخوانه المحاصرين فقد هاجم المحاصِرين الروس وشغلهم حتى قتل، واستطاع إخوانه الإفلات من الحصار ومنهم شامل الذي أصيب بجراح شديدة بقي من جرائها أسير الفراش مدة 3 أشهر.
وآلت إمرة المجاهدين إلى حمزة بك حتى قتله غيلة بعض المنشقين عليه من الداغستان في سنة 1250= 1834 فآلت الإمرة إلى الإمام شامل الذي ما كان ليقبلها لو لا إجماع العلماء والأعيان وإلحاحهم على ضرورة أن يتولى الإمامة كما كانوا يسمونها، وكان من يتقلدها يتسمى بأمير المؤمنين.
وبوجود شامل على رأس المجاهدين انتقل الجهاد إلى مرحلة أخرى تبدت فيها خصاله القيادية، قتحولت الثورة من الاقتصار على مقاومة المحتل الروسي إلى حركة شاملة منظمة هدفها تأسيس دولة إسلامية مستقلة في داغستان، وأدرك شامل أن الدولة المنشودة لا تقوم على أكتاف المتطوعين إلا بالتنظيم والتدريب والتجهيز، وأن المال عصب ذلك كله، فكان بيت المال أول مؤسسة أنشأها بعد توليه الإمارة، وعيَّن لهذا البيت الجباة والأمناء والعاملين، فكوَّن بذلك أساس النظام الاقتصادي، وأمَّن الناحية المادية في الثورة، كما أحيا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه في قسمة الغنائم بين بيت المال وبين المجاهدين، فسدَّ حاجاتهم وحاجات أسرهم وأهليهم.
وأعاد شامل تنظيم القوات الداغستانية وزاد في أعدادها، وبدأ في تدرييها تدريباً منهجياً على الأسلحة والتكتيكات المختلفة، وعمل على تسليحها وتوفير الذخائر لها، وأنشأ غرفة عمليات لإدارة المعارك، وفوجئ الروس بهجماته المخططة جيداً والتي كانت واسعة النطاق في استهدافها عدة مواقع متباعدة في آن واحد، والتي حققت نجاحاً كبيراً وبخاصة لتمتع قوات شامل بعنصر المفاجأة، وأسر شامل عدداً من الروس الذين وضعهم في معتقلات أنشأها خصيصاً لإيواء الأسرى.
وكان الإمام شامل شامل النظرة واسع الأفق فاتجه لتوطيد الحياة المدنية والعمرانية في مناطق سلطانه، وكان له في كل منطقة نائب يدير الحكومة المدنية ويشرف على جميع شؤونها، فيما يشبه مهمة المحافظين اليوم، وكان نوابه مسؤولين عن جباية أموال بيت المال، وتنظيم حركة المتطوعين، والمحافظة على السلام والأمن العام، ورعاية حقوق الناس وصون أموالهم ونفوسهم، وتنفيذ أحكام القضاة الذين كان شامل بعينهم للفصل في المنازعات والحكم بالعقوبات.
وحاول القيصر عدة مرات إغراء الشيخ شامل فأرسل له الوسطاء الذين طلبوا منه أن يتخلى عن جهاده ويعلن ولاءه للقيصر مقابل أن يعينه أميراً على الداغستان، وبالطبع رفض شامل ذلك فما كان يتطلع إلى أن يتلقى الإمارة من يد الروس وهو الذي انتخبه مؤتمر أهل الحل والعقد في الداغستان، ولما يئس القيصر من استمالة الشيخ شامل أرسل الحملات تترى للقضاء على هذا المتمرد، وكانت أكبرها حملة سنة 1838 التي استطاعت احتلال كثير من حصونه ومدنه حتى وصلت إلى مقره الرئيس في قمة أهولجو، وحاصرته فيه 80 يوماً، ثم اقتحمته وأوقعت في صفوف الداغستان خسائر كبيرة من القتلى والمصابين، وبينهم عدد كبير من النساء والأطفال منهم أخت شامل وإحدى زوجاته، إلا أن شامل استطاع الهرب من الحصار في الليلة التي سبقت الاقتحام، وهرب من مكان إلى مكان إلى أن عبر إلى الشيشان في 7 من أنصاره.
وابتهج الروس بذلك وعدّوه انتصاراً ساحقاً لهم، ولكن خروج شامل فريدا طريدا لم يفت من عضده، ولم يتخل عن هدفه، وكان لا بد له من فترة يستجمع فيها قواه وقواته، وبدأ شامل في بث روح الإحياء الديني في قبائل الشيشان ملتقياً بوجهائها ومشايخها ليحدثهم عن منهجه ودعوته ويدعوهم إلى بيعته ومناصرته، ولكن الروس انتهزوا هذه الفرصة وزادوا من سيطرتهم على داغستان، وبثوا قواتهم على كل المسالك والجسور التي تصل بين داغستان والشيشان، وفي سنة 1846 دخل الإمام شامل أثناء عودته إلى داغستان في معركة من أقسى المعارك خسر فيها كثيراً من جنوده ومعداته، حيث وقع في مصيدة روسية أعدت بعناية، وكاد أن يصاب بهزيمة منكرة لولا حزمه وقوة احتماله، ولولا مهارة الحاج يحيى قائد مدفعيته الذي استخدم ما معه من المدافع أحسن استخدام في الوقت المناسب.
وكان الإمام شامل قد حقق إنجازاً تقنياً كبيراً في سنة 1259=1843 حين استطاع صناعة المدافع فصارت لديه القوة لدك الحصون الروسية وقصف أعدائه عن بعد، وتحقق ذلك على يد الحاج جبرائيل الصانع الماهر الذي عرض مشروعه الصناعي على الإمام شامل فوافق عليه بعد تردد، ورغم فشل أول مدفع صنع من بقايا حديد المدافع الروسية، إلا أن جبرائيل كرر المحاولة حتى نجحت، وكان لها دوي معنوي قوّى صفوف المجاهدين وأوقع الخوف في قلوب أعدائهم من الروس وأعوانهم، ونجح شامل نجاحاً كبيراً بعد وجود هذا السلاح الجديد، واستطاع في سنتين الاستيلاء على جميع الحصون الجبلية الروسية وغنم منها السلاح والعتاد والأسرى.
وشكلت معركة 1846 نقطة تحول لصالح الروس في الصراع بينهم وبين الداغستان، فرغم نجاة شامل من الحصار الذي أُعد له، إلا أنه كان قاب قوسين من الهزيمة، فشحذ هذا من عزيمة الروس وبدأت القوات الروسية تتجرأ وتترك معاقلها لتهاجم مواقع الإمام شامل، وحشد القيصر الأدباء والشعراء لتأليب الرأي العام على شامل وتهيئته لتكاليف الحرب الطويلة القادمة.
أما شامل فرغم ما لحق به من خسارة إلا أنه عاد يعمل متكلاً على الله في صمت وهدوء، وصار صموده وعزيمته مصدر عزة وفخر للمسلمين في أنحاء العالم، وصارت انتصاراته محل الإعجاب ومضرب المثل في أوروبا التي استهزأت بالجيش القيصري الذي دوخه هذا المجاهد وقواته القليلة العدد والعدة، وتابع شامل إنجازاته التقنية، ولما شدد الروس الحصار على المنطقة أمر صُنَّاعه فتوصلوا إلى طريقة صنع البارود، فتضاعفت قوته بما يصنعه من مدافع ومن ذخيرة لها.
وفي سنة 1270=1853 قام الإمام شامل بحملة دلت على ما يتمتع به من خصال القيادة العسكرية الجريئة والمبادرة، فقد حشد عدداً كبيراً من جنوده ومدفعيته واجتاز بها حدود جورجيا وهاجم قلعة زنطة وحاصرها حتى اضطرت حاميتها للتسليم، وكان في أثناء حصارها يرسل السرايا لتغير على المواقع الروسية الأخرى، وتعود بالأسرى والغنائم، ثم رجع شامل إلى مقر قيادته في داخل حدود داغستان بعد أن قتل 2.000 جندي روسي وأسر نحو 900 أسير، وغنم مقداراً كبيراً من الأموال والأسلحة، وبقي الأسرى وفيهم عائلات القادة الروس عند الإمام شامل نحو تسعة أشهر، وهو يجرى المفاوضات مع القيادة الروسية لمبادلتهم بالأسرى المسلمين الذين كانوا لديها، وفي أواخر سنة 1270=1854 تبادل الطرفان الأسرى، وكان من أسرى المسلمين والد الشيخ شامل؛ جمال الدين، الذي كان رهينة في أيدي الروس من نحو ستة عشر عاماً.
ويعد تبادل الأسرى هذا نقطة تحول أخرى في الجهاد الداغستاني، فقد كان أشبه بهدنة غير رسمية بين الفريقين بعد مرور أكثر من 25 سنة على نشوب هذه الثورة التي تولى الشيخ شامل قيادها لأكثر من 20 سنة، ولما هدأت المعارك ورجع المجاهدون إلى قراهم وضياعهم بعد طول الغياب عنها سنوات قضوها في معاقلهم الجبلية الحصينة، رأوا ما عم قراهم من الخراب والدمار، وما حل بأهليهم من الفاقة والفقر وسوء الزراعات ونقص الحاصلات وانتشار الفقر والضيق، كل هذا من غير أن تمتد اليهم يد بالعون والمساعدة من خارج القوقاز، فوهنت عزائمهم وبدأ الناس يتسللون من حول شامل شيئاً فشيئاً.
وكانت حرب القِرِم قد بدأت بين الروس وبين الأتراك وحلقائهم الإنكليز والفرنسيين، واستمرت إلى النصف الثاني من سنة 1272هـ، ولكن الشيخ شامل لم يستطع انتهاز هذه الفرصة لما قدمنا من الأسباب، ولم يستطع الحلفاء مد يد المساعدة للشيخ شامل لأن الطريق بينه وبينهم كانت مقفلة تماماً.
وفي سنة 1272=1856 انتهت حرب القرم بين روسيا وبين الدولة العثمانية وحلفائها بهزيمة الروس هزيمة منكرة، ولكن انتهاءها وفر لهم القوات والعتاد ومكنهم من التفرغ لقتال الإمام شامل، فأعدوا في سنة 1857 جيشاً كبيراً من 60.000 جندي لإخضاع المنطقة وأمدوه بكل ما يحتاجه لهذه الحملة المريرة الطويلة، وعهدوا بقيادته لاثنين من أكفئ قادتهم وهما الجنرال يفدوكيموف والجنرال بارياتينسكي، ونشط جواسيس الروس وعملاؤهم لاستمالة بعض القبائل والأعيان بما كانوا يمنحونه من أموال ومناصب، فما حل آخر سنة 1274=1858 إلا وكثير من أهل الجهات النائية قد خرج على الإمام شامل، وأخذ يتعاون مع الجيش الروسي.
وتلافت الحملة العسكرية الأخطاء الروسية السابقة، وقامت بمحاصرة المنطقة حصاراً محكماً من عدة حلقات، ثم شنت هجوماً من كل الاتجاهات فحققت نجاحاً عسكرياً ملموساً ساعد على تحقيقه حالة الإنهاك التي وصل إليها مناصرو الإمام شامل، وألقت السلاح قرى وقبائل عديدة، وفي رمضان من عام 1275=1859 نجح الروس في اقتحام معقل شامل في يكي درغيا فانسحب مع حوالي 300 من مجاهديه إلى جبل غونيب، وتابع الروس تضييق الخناق عليه، وكأي قائد عسكري محنك كان شامل يقيّم الوضع العسكري على نحو دائم، وبعد قرابة 5 أشهر من القتال أدرك أن هذه الحملة ليست كسابقاتها وأن لا جدوى من الاستمرار في قتال هذه الجيوش التي تفوقه مرات في العدد والعدة، فقرر في أول سنة 1276=1859 أن يلقي السلاح ويستسلم للروس، وطويت بذلك صفحة شامخة من تاريخ القوقاز في مقاومة السيطرة الروسية، وهي صفحة أشارت السنن الكونية إلى تعثر استمرارها، فما كان للداغستان الضئيلة على بسالة مجاهديها أن تقاوم روسيا الكبيرة إلا إلى حين.
واقتاد الروس الإمام شامل إلى العاصمة القيصرية سانت بطرسبرج حيث قابله القيصر الروسي ألكساندر الثاني، ورحب به وأكرم وفادته، وأمَّنه وجميع من كانوا معه على نفوسهم، وكذلك رحبت النخبة القيصرية بشامل ترحيب إعجاب وتقدير، إلا إن القيصر لم يف بالوعد الذي أعطى ولم يسمح لشامل بالسفر إلى خارج روسيا، وألزمه بالإقامة معززا مكرماً في مدينة كالوجا جنوبي غربي موسكو، ثم في كييف، وبعدها بحوالي 10 سنوات استأذن الإمام شامل في أداء فريضة الحج فأذن له القيصر، فحج في سنة 1286=1869 ماراً باستانبول حيث لقي من السلطان عبد العزيز التكريم والتقدير، وبقي في أرض الحرمين حيث وافته منيته بعد 10 شهور من أدائه الحج، ودفن في البقيع.
وينبغي أن نشير أن الثقافة والأدب الروسي نظرت نظرة إعجاب إلى حرب القوقاز الأولى ودولة الإمامة فيها، وتحتل قصص القوقاز مساحة واسعة في الأدب والشعر الروسي، ونذكر على سبيل المثال القصاص الروسي والكاتب الإنساني الشهير ليو تولستوي، والذي عاش في القوقاز في شبابه، وأبرز بإعجاب خصال شعوب القوقاز مخلداً هذه الأحداث في الأدب الروسي في عدد من قصصه مثل الحاج مراد، وقصته: القوزاق، ونذكر أن الحكومة القيصرية أنشأت في تبليسي، واسمها العربي تفليس، وهي اليوم عاصمة جورجيا، مُتحفاً عاماً لآثار القوقاز والقوقازيين أودعته كل ما لديها من آثار الشيخ شامل، كالأسلحة التي كان يحارب بها والأعلام التي كان يحملها جنوده وقواده، وبعض الوثائق والمستندات التي تبودلت بينه وبين القيادة الروسية في القوقاز.
وبعد استسلام شامل غيرت الحكومة الروسية سياساتها الفاشلة، بعدما عانت من تعلق سكان داغستان ببلادهم وحريتهم، وطاعتهم لشيوخهم وأمرائهم، فرأت أن تتقرب من هذه الطبقة صاحبة السلطان الحقيقي، فردت إليهم أملاكهم التي صادرتها أيام الحرب، وأرجعت من كانت أبعدتهم عن مراكزهم أو وظائفهم إلى ما كانوا عليه وصارت تعاملهم بالحسنى، ثم إنها تساهلت مع الشعب فتركت له سلاحه، وأعفته من الخدمة العسكرية، وأقامت له محاكم شرعية، ثم حطت عنه بعض الضرائب وخصصت مبلغاً معلوماً ينفق سنويا على حاجيات البلاد من الخزينة المركزية مراعية في كل ذلك عواطف الشعب وعاداته القديمة، واقتصاديات البلاد المحدودة، فتمكنت بذلك من إرضاء أكثر السكان، وإخماد روح الثورة إلى حد كبير، وشيئاً فشيئاً طغت الثقافة الروسية على داغستان وأصبحت اللغة الروسية لغة الثقافة والتعلم، ومن جانب آخر أرست هذه الحرب وما تلاها مكانة لداغستان والقوقاز في الثقافة والأدب الروسي تتقلب بين الخصم المهاب والصديق الموموق.
ومع ذلك بقيت المناوشات بين الروس وبين المسلمين في الداغستان مستمرة، وكان نهر التِرِِك حداً يهاب الروس عبوره، ولم تنته المقاومة الداغستانية إلا في سنة 1864، ولكن بعد أن خلت الداغستان من أهلها الذين قدر عددهم بحوالي 400.000 نسمة، فقد آثر أغليهم المنفى على أن يعيشوا تحت الاستعباد القيصري، فهاجر أغلبهم إلى أقاليم الدولة العثمانية، تاركين القوقاز الغربي بائساً خالياً  من سكانه، ثم كانت هجرتهم الثانية بعد حرب روسيا مع الدولة العثمانية في سنة 1878، والتي انتهزها بعض القادة للثورة على الروس من جديد، ولكن سرعان ما تفرغت الحكومة الروسية لإخماد هذه الثورة بعد هزيمتها للعثمانيين، فاستطاعت أن تقضي عليها بسرعة، وعرضت على سكان الجبل الطاعة التامة مع الإخلاص، أو الجلاء عن البلاد والخروج منها إلى حيث يريدون، ففضل كثير منهم الهجرة منها إلى تركيا فأنزلتهم حكومتها في بعض جهات الأناضول، كما هاجر بعضهم إلى سورية وشرق الأردن والعراق حيث دخل منهم في سلك الجيش والأمن عدد لا بأس به لما يتحلون به من خصال الإقدام والتصميم.
وبعد الانقلاب الشيوعي سنة 1917أعلنت داغستان والشيشان وأنجوشيا استقلالها عن روسيا في دولة أسمتها جمهورية جبال القوقاز الشمالي، ولكن الشيوعين هاجموها في سنة 1921 واحتلوها، وأنشأوا في القوقاز أربع جمهوريات إحداها جمهورية داغستان ضمن اتحاد الجمهوريات السوفياتية، وبعد تفكك الاتحاد السوفياتي بقيت تدور في الفلك الروسي وتدار من موسكو، ويبلغ عدد سكانها اليوم قرابة مليوني نسمة نسبة المسلمين فيهم أكثر من 80%.
وينبغي أن نشير أن حكومة داغستان في أوائل العهد السوفياتي أنشأت متحفاً خاصاً بالشيخ شامل في العاصمة محج قلعة، جمعت فيه كل آثار هذا المجاهد العظيم، كالرايات التي تحمل كتابات عربية واضحة مثل: لا إله إلا الله. محمد رسول الله، أو: نصر من الله وفتح قريب. والكتب والرسائل التي تبادلها مع الروس مكتوبة بالخط العربي واللغة العربية الفصحى، وإلى جانب ذلك كله قطع الأسلحة ونماذجها المختلفة مما كان يستعمل إبان الثورة الداغستانية التي حمل رايتها الشيخ شامل أكثر من ربع قرن
ولارتباط داغستان مع الشيشان جارتها في شمالها الغربي، كان لزاماً أن نعرج على الشيشان والتي كان لها نضال دام مرير مع روسيا في العقدين الماضيين، ونبدأ من الثورة البلشفية حيث قام السوفييت في سنة 1339=1920 بإنشاء محافظة الشيشان ذات الحكم الذاتي، ثم دمجوا معها في سنة 1934 محافظة أنجوشيا ذات الحكم الذاتي، وفي سنة 1936 جعلها السوفيت جمهورية ضمن الاتحاد السوفيتي، وحيث كان الإلحاد هو مذهب الدولة الرسمي فقد قاموا بحملة شديدة الوطأة في كل القوقاز للقضاء على الدين الإسلامي وشعائره ومظاهره ومؤسساته، وبعد نشوب الحرب العالمية الثانية قام الدكتاتور السوفياتي ستالين بحل الجمهورية متهماً أهلها بالتعاون مع الألمان، ونفي عدداً كبيراً منهم إلى وسط آسيا، وفي سنة 1957 أعادها الرئيس خروتشوف جمهورية من جديد وسمح لأهلها بالعودة من منافيهم، وتبوأ كثير من القوقازيين مناصب هامة في الدولتين السوفياتية والروسية، ونذكر منهم الاقتصادي الشيشاني رسلان عمرانوفيتش حسبلاتوف الذي تولى رئاسة مجلس السوفيات الأعلى بعد بوريس يلتسين، ولعب دوراً كبيراً  أثناء الأزمة الدستورية التي عصفت بالاتحاد الروسي في سنة 1993، والداغستاني رمضان غازي مرادوفيتش عبد اللطيفوف الذي كان نائب رئيس المجلس الاتحادي الروسي في سنوات 1994-1996، والرئيس الحالي لجمهورية داغستان.
ومع أفول شمس الاتحاد السوفيتي وتفكك جمهورياته في سنة 1991، تطلعت شعوب الشيشان وأنجوشيا للاستقلال، وقام جوهر دوداييف، بانقلاب على الحكومة الشيوعية في الشيشان، وبعدها بشهرين جرى انتخابه رئيساً للجمهورية، وبعدها بشهر أعلن من طرف واحد استقلال الشيشان وانسحابها من الاتحاد الروسي الذي خلف الاتحاد السوفيتي، وفي سنة 1992 قسم دوداييف الجمهورية إلى جمهوريتين: شيشانية وأخرى أنجوشية.
ودوداييف ضابط سابق يحمل رتبة جنرال في سلاح الجو الروسي، وكان آخر منصب له قائد سلاح القاذفات الاستراتيجية، ولكن شعبيته لم تدم كثيراً، ذلك إنه كان زعيماً وطنياً طموحاً مخلصاً، ولكنه لم يكن يكترث بالشورى، ربما لكونه عسكريا، فتفرد بالسلطة وحلّ البرلمان بعد قرابة سنتين من توليه الرئاسة، فانفض من حوله عدد ممن ناصروه، وهرع إليه الانتهازيون، وفاحت روائح الفساد في دوائر الدولة، فازداد الناقمون عليه في بيئة شديدة الاعتزاز وصعبة المراس.
وفشل دوداييف كذلك في في النهوض باقتصاد البلاد، حيث اتبع سياسات مغالية في نزعتها الوطنية لم تأخذ في الاعتبار ارتباط اقتصاد الشيشان ارتباطاً عضوياً بالاقتصاد الروسي، وكون الشيشان جزيرة صغيرة تبلغ مساحتها 19.000 كيلومتر مربع في خضم محيط الدولة الروسية ومساحتها البالغة 17.000.000 كيلومتر مربع، فلا حدود لها إلا مع روسبا ما عدا قطعة صغيرة لا تتجاوز 50 كم على الحدود مع جورجيا في منطقة جبلية وعرة جداً، وعدد سكانها البالغ 1.300.000 نسمة هو 1% من عدد سكان روسيا البالغ 144 مليون نسمة، وهنا ينبغي أن نصحح معلومة خاطئة شائعة حول النفط في الشيشان ونشير أن ما تنتجه من النفط لا يصل إلى 1% من إنتاج روسيا.
وكان دوداييف يعلق آماله على أن ضعف الدولة الروسية سيجعلها تقبل بالاستقلال كأمر واقع، ولكن الروس دعموا معارضيه وأمدوهم بالسلاح، ثم ما لبث الجيش الروسي أن هاجم الشيشان في منتصف سنة 1415=كانون الأول/ديسمبر 1994، ولكنه لم يستطع احتلال العاصمة جروزني فانسحب منها بعد تدمير أجزاء كبيرة منها، وأعاد الروس الكرة بقوات بلغ عددها حوالي 40.000 جندي استطاعت احتلال جروزني في آخر سنة 1415=آذار/مارس  1995 مسببة خسائر بشرية كبيرة، وفي سنة 1996 قتل الروس الرئيس الشيشاني جوهر دوداييف، وحل محله نائبه سليم خان يندر باييف، وهو أديب وعضو في اتحاد الكتاب السوفيات، فأجرى في سنة 1997انتخابات رئاسية نجح فيها وزير دفاع الشيشان أصلان مسعدوف، وهو ضابط كبيرسابقاً في سلاح الصواريخ والمدفعية السوفياتي، وبدأ مسعدوف مفاوضات سلام مع الرئيس الروسي بوريس يلتسين تكللت بمعاهدة سلام في ذات السنة وانسحبت على إثرها القوات الروسية من الشيشان.
واعتبر مسعدوف أن هذه المعاهدة قد أرست أسس دولة الشيشان المستقلة، وأنهت 400 سنة من المعارك بين الشيشان وبين الروس، ولكنه كان مخطئاً، فلم تعترف أية دولة في شرق أو غرب بالدولة الوليدة التي كان من الواضح أن روسيا لن ترضى بوجودها، وهو الأمر الذي تحقق في سنة 1999 حين عادت روسيا فاحتلت الشيشان بعد قتال شرس دام تخلت فيه القوات الروسية عن محاولة استمالة المدنيين إليها، فاتبعت سياسة الأرض المحروقة التي نشرت الدمار في أرجاء الشيشان، وخلفت عدداً كبيراً من القتلى والجرحى والأيتام والأرامل، وتدفق مئات آلاف من اللاجئين الشيشان إلى الأقاليم والمدن المجاورة، وجرى ذلك كله أمام سمع الهيئات الدولية وبصرها التي اعتبر أكثرها المقاومة الشيشانية حركة إرهابية تهدد الأمن الأوربي، واعتبرتها بعض الدول حركة انفصالية وشأناً روسياً داخليا، وقاد الرئيس مسعدوف حرب عصابات ضد الجيش الروسي حتى استشهد في سنة 2005.
وعين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المفتي السابق للشيشان أحمد قادروف رئيساً للجمهورية الشيشانية في سنة 2003 بعد ان تحول إلى الجانب الروسي، ثم ما لبث قادروف أن قتل في عملية قام بها مجاهدو الشيشان في سنة 2004، فأجرت الحكومة الروسية انتخابات حملت فيها إلى سدة الرئاسة حليفها علي ألخانوف، ضابط الشرطة السابق، ثم ما لبث الرئيس بوتين أن نحاه عن منصبه في سنة 2007 وجاء برمضان قادروف ابن الرئيس السابق رئيساً للجمهورية الشيشانية، وهو ابن الثلاثين، حيث لا يزال في منصب الرئيس إلى هذا اليوم.
وتدور الأيام وتتغير معها المصالح، فنرى روسيا في سنة 2008 تحفز مقاطعتين قوقازيتين ذاتي أغلبية مسلمة هما أوسيتيا وأبخازيا للانفصال عن جورجيا، ثم تضعهما تحت حمايتها العسكرية، وتلك سُنَّة كونية أخرى في تدافع الدول وتنافسها، فأين نحن من ذلك كله؟

الجمعة، 4 سبتمبر 2015

حدث في الثامن عشر من ذي القعدة

في الثامن عشر من ذي القعدة من سنة 735 توفي، عن قرابة 85 سنة، قرب سَلَمية من بادية حمص الأمير حسام الدين مهنا بن عيسى بن مهنا بن مانع الفضلي الطائي أمير بادية الشام وصاحب تدمر، والملقب سلطان العرب، وكانت إمارة آل الفضل من حمص إلى قلعة جعبر شمالاً على الفرات وشرقاً إلى الرحبة بما فيها الفرات وأطراف العراق.
وآل فضل من طيئ، ازداد عددهم بانضمام أحياء من زبيد وكلب وهذيل ومذحج إليهم، يتنقلون بين الشام والجزيرة ونجد، طلبا للمراعى، واتصلوا بالحكومات في بدء عهد الدولة الأيوبية، فصارت هي التي تعين أمراءهم بصفة ولاة على أحياء العرب وهم المسؤلون عن حفظ السابلة بين الشام والعراق، وتعود إمرتهم لأيام الأتابك زنكي المتوفى سنة 541، ووالد نور الدين محمود، وكان الجد مانع ممن وقفوا مع الملك الأشرف الأيوبي موسى ونصروه أمام السلاجقة الذين أرادوا ضم حلب إلى مملكتهم في قونية.
وكان والد الأمير حسام الدين:شرف الدين عيسى أميراً على آل فضل والبادية، وكانت الإمارة عند ابن عمه أبي بكر ابن علي بن حديثة، ثم انتقلت إلى الأب، ولذلك قصة يحسن إيرادها، وهي أن الظاهر بيبرس قبل السلطنة جاء بيوت آل فضل هارباً من السلطان الملك الناصر بن محمد آخر ملوك بني أيوب، ولم يكن قد بقي معه سوى فرس واحد يعول عليه، فسأل أبا بكر فرسا يركبه فلم يعطه شيئا، وجرى ذلك بحضور عيسى بن مهنّا، فأخذه عيسى وضمّه إليه وآواه وأكرمه، وخيّره في خيله، فاختار منها فرسا، فأعطاه ذلك الفرس، وزوده وبالغ في الإحسان إليه، فعرفها له الظاهر، فلما تسلطن تزع الإمارة من أبي بكر وجعلها لعيسى بن مهنّا، وانتزع سلمية من أعمال حماة وجعلها لآل فضل.
وكان الأب في أيام الظاهر بيبرس يأتمر بأمره فيشن الغارات على الفرنج في الساحل الشامي وعلى المغول في العراق، وعلى الأرمن في شمال سوريا، وأصابته جراحات في ذلك.
ولما تولى السلطة الملك المنصور قلاوون سنة 678، تمرد عليه في دمشق الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، ودعا لنفسه بالملك، وانضم إليه عدد من أمراء المماليك كما انضم إليه الأمير عيسى، وانتهى التمرد عندما انفض أغلب الأمراء من حول سنقر الأشقر، ووافق الملك المنصور قلاوون على أن يجعله أميراً في الساحل الشامي لقتال الفرنج فيه، أما الأمير شرف الدين ابن مهنا فعزم على الهرب واللحاق بالمغول في العراق، ثم ما لبث أن راجع نفسه، وبادر فجاء من العراق إلى السلطان مبدياً الطاعة، وسأل الصفح عن ما فرط من ذنبه، من إعانة سنقر الأشقر، وما كان عزم عليه من الانضمام الى المغول، فركب السلطان إليه، وتلقاه وأكرمه، وبالغ في إكرامه وأحسن إليه.
وكان تقدير السلطان للأب في محله، ففي منتصف سنة 680 شن المغول حملة ذات شعبتين انطلقت من العراق لاسترجاع الشام بعد هزيمتهم في عين جالوت قبل 20 سنة، استهدف جيشُ الأولى شمال سورية بقيادة أبغا بن هولاكو واحتلت حلب، واستهدف جيش الثانية وسط سورية بقيادة منكو تيمور ابن هولاكو، ويسميه المؤرخون العرب منكوتمر، وضم الجيش عدداً كبيراً من الجورجيين والأرمن، وواجه السلطان قلاوون الحملة في قرب حمص، وكان على رأس ميمنة جيشه الأمير شرف الدين عيسى ابن مهنا وآل فضل وآل مري، وعربان الشام، ومن انضم إليهم، وكان النصر حليف المسلمين بفضل ثبات الميمنة لهجمة المغول ثم انقضاضها على ميسرتهم وكسرها كسرة تامة، في حين أن الميسرة الإسلامية تضعضعت وتشتت، وتوفي الأمير عيسى سنة 683، وكان رحمه الله رجلاً ديناً خيراً، انتفع الإسلام به في مواطن كثيرة. وصلحت العربان في أيامه، وقل فسادهم، بل كاد يعدم، مع لينه وحسن سياسته.
وعين السلطان المنصور قلاوون مهنا أميراً بعد وفاة أبيه، وزاد في إقطاعه، وتوفي قلاوون سنة 689 وخلفه ابنه الملك الأشرف خليل، المولود سنة 666، فجاء مهنا إلى القاهرة للقاء السلطان الجديد الذي أقره على الإمارة وأعاده معززاً مكرماً، وفي سنة 691 خرج الأشرف على رأس جيش اتجه شمالا لفتح قلعة الروم، وهي اليوم شمال نصيبNizip  في تركيا، وذلك نكاية في الأرمن المتحالفين مع المغول، فقد كانت مقام بطرك الأرمن، ويدعى الكاثوليكوس ويسميه العرب الجاثليق، ومر الجيش بقرية سرمين وكانت من إقطاع مهنّا، فآذى أهلها وأكلت دوابه زروعها، فشكى أهلها إلى مهنّا أذية العساكر، فشكا إلى الأشرف، فعزّت هذه الشكوى على الملك الشاب، ولعله لو كان كهلاً أو كبيراً تحملها، وقال: كم مبلغ ما آذوا حتى تواجهني بالشكوى، أو ما كان يغتفر هذا الفعل لهذا الجيش العظيم الخارج لأجل إذلال العدوّ وقصّ جناح الكفر!
ولم ينس الملك الشاب الحادثة وتصرف تصرفاً عكر النفوس أكثر، فقد كان في مركب في الفرات مع خواصّه ومضحكيه وجاءه مهنا ليهنئه بانتصاره، فأمر بمدّ الإسقالة ليدخل فلما دخل عليها غمز عليه فحركت الإسقالة فوقع مهنا في الماء وتلوث بالطين، وضحك الأشرف ومن حوله، وطوى مهنّا جوانحه على ألمها، ثم إنه استأذن في الانصراف إلى بيوته فأذن له الأشرف وقال إلى لعنة الله، فأسرّها مهنّا في نفسه ولم يبدها، وركب من وقته، وتوجّه إلى أهله، وأقام عندهم على حذر.
ولما عاد الملك الأشرف إلى مصر نزل بحماة فبعث إليه مهنّا بخيل وجمال فقبلها وخلع على رسوله وبعث له خلعة سنيّة ليطمئنه ثم يكبسه، فلما جاءت لبسها إظهارا للطاعة، وارتحل لوقته ضاربا في وجه البرّ فلم يتمّ للأشرف ما أراده منه، وعاد إلى مصر وفي نفسه من إمساك مهنّا وإخوته وبنيه، وظنّ مهنّا أن لا حقد عنده، وبخاصة أن السلطان لم يبد له إلاكرام، فقد زوَّج مهنا ابنته في سنة 692 فأمر السلطان بإخراج حرير من خزائنه لجهاز البنت وأمر كذلك بمثله لأم مهنا.
ولم يلبث الأشرف أن خرج في سنة 692 إلى دمشق، وخرج منها على أنه يصيد كباش الجبل، ثم إن مهنّا عمل له ضيافة عظيمة في سلمية فحضرها الأشرف وأكل منها، وأمر وهو على الطعام بالقبض عليه وعلى أخويه محمد وفضل وابنه موسى، وأرسلهم على الفور إلى مصر، وجعل السلطان إمرة العرب لابن عمه الأمير محمد بن أبي بكر علي بن حذيفة.
وحبس مهنا وصحبه في برج في القلعة وضيق عليهم إلا في الراتب لهم، وكان مهنّا في الحبس لا يأكل إلا بعد مدّة، وإذا أكل ما يقيم رمقه ويصلي الصبح، ويدير وجهه إلى الحائط ويصمت ولا يكلم أحدا حتى تطلع الشمس، ثم يقوم بعجلة وسرعة ويأخذ كفا من حصى وتراب كان هناك ثم يزمجر ويرمي به إلى الحائط كالأسد الصائل.
ومالبث الفرج أن جاءهم فقد تآمر بعض الأمراء وقتلوا الملك الأشرف في أول سنة 693، وتسلطن الأمير كتبغا المنصوري وتلقب بالملك العادل فأفرج عن مهنا وأعاده إلى إمارته، ولخروج مهنا وصحبه قصة طريفة، يرويها مظفر الدين موسى ولد مهنّا، قال: لما كنا بالاعتقال كان عمي محمد بن عيسى مغرى بدخول المرتفق والتطويل فيه، وكان المرتفق، أي المرحاض، مقاربا لدور حريم السّلطان ولبعض الأمراء، فقلت له في ذلك، فقال: يا ولد مهنّا لعلي أسمع خبرا من النسوان فإنهنّ يتحدثن بما لا يتحدث به الرجال. فبينا نحن ذات يوم، وإذا بمحمد قد خرج، وقال: بشراكم قد سمعت صائحة النساء تقول: وا سلطاناه! فقلنا له: دعنا مما تقول، فقال: ما أقول لكم حقّ. وكان لنا صاحب من العرب تنكر وأقام بمصر، وكان يقف قبالة مرمى البرج الذي نحن فيه، ويومئ إلينا ونومئ إليه غير أنّه لا يسمعنا ولا نسمعه، فلما كان في تلك الساعة ومحمد يحدثنا، وإذا بصاحبنا قد جاء وأومأ ثم مدّ يده الى التراب وصنع فيه هيئة قبر ونصب عليه عودا عليه خرقة صفراء كأنّها سنجق السلطان ثم نكسها، وقعد كأنه يبكي، ثم وقف قائما ورقص فتأكد الخبر عندنا بموت الأشرف، فلما فتح علينا من الغد سألنا الفتاح والسجّانين فأنكرونا ثم اعترف لنا بعضهم، وكان ذلك أعظم سرور دخل على قلوبنا.
وأعيد الجماعة الى أهلهم إلا مهنّا فإنه أخّر مدة ثم جهّز فلما خرج من دمشق لحقه البريد إلى ثنيّة العقاب بأن يعود فامتنع وقد توجّه إلى أهله وكانوا قد ندموا على إطلاقه، ولم تدم مدة كتبغا في الحكم سوى سنتين، فقد خالفه وهو في الشام الأمير لاجين بمصر، واستولى على كرسي السلطنة، وأرسل إليه يأمره بخلع نفسه، فأذعن كتبغا وأشهد على نفسه بالخلع وهو في دمشق سنة 696.
وتولى السلطنة اللك المنصور لاجين فزاد في إكرام مهنا لعلاقتهما السابقة، وفي سنة 697 قدم الأمير مهنا بن عيسى إلى القاهرة واستأذن السلطان في الحج فأذن له، وأكرمه السلطان وألبسه خلعة فوق ما هو معتاد في السابق لأمثاله، ولما أنكر الأمراء ذلك، فاعتذر لهم لاجين بتقدم صحبته له وأياديه عنده، وأنه أراد أن يكافئه على ذلك.
وقُتل لاجين في سنة 698 وعاد محمد بن قلاوون إلى السلطنة، ولكنه في حكم المحجور عليه والأعمال في يد الأستادار  الأمير بيبرس الجاشنكير ونائب السلطنة الأمير سلار، ودام على هذه الحال إلى سنة 709 حين امتلك قياد الدولة، فأدارها وبنى في مصر كثيراً من المنشآت العمرانية النافعة، وتوفي سنة 741.
وكان مهنا بن عيسى يحب الشيخ تقي الدين ابن تيمية حبا زائدا، هو وذريته وعربه، وله عندهم منزلة وحرمة وإكرام، يسمعون قوله ويمتثلون، وهو الذى نهاهم أن يغِيْر بعضهم على بعض، وعرفهم أن ذلك حرام، ولما سُجِن ابن تيمية في مصر بسبب فتواه في الطلاق وزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم، سافر مهنا إلى القاهرة في ربيع الأول  من سنة 707 ، فأكرمه السلطان وخلع عليه، فسأله الإفراج عن ابن تيمية فأجابه إلى ذلك، فخرج بنفسه إلى الجب بالقلعة وأخرجه منه، وعقد للشيخ مجالس حضرها أكابر الفقهاء.
وكان لمهنا دالة كبيرة على الملك الناصر ومما يدل على ذلك أنه في أوائل سنة 710 جاء إلى القاهرة فأكرمه السلطان وخلع عليه، فسأل في أشياء منها: ولاية حماة للملك المؤيد عماد الدين إسماعيل ابن الملك الأفضل علي الأيوبي، فأجابه السلطان إلى ذلك، ومنها الشفاعة في الأمير عز الدين أيدمر الشيخي، فعفا عنه السلطان وأخرجه إلى قوص، ومنها الشفاعة في الأمير برلغي الأشرفي وكان في الأصل قد كسبه مهنا من المغول وأهداه للملك المنصور قلاوون، فعدد السلطان ذنوبه، وما زال به مهنا حتى خفف عن برلغي، وأذن للناس في الدخول عليه، ووعده بالإفراج عنه بعد شهر، فرضي منه بذلك، وعاد إلى بلاده وهو كثير الشكر والثناء. ولكن الملك الناصر ضيّق على الأمير برلغي بعد سفر الأمير مهنا، وأخرج حريمه من عنده، ومنع من الوصول إليه، ومن أن يُدخَل إليه بأكل أو شرب فلما أشفي برلغي على الموت قتل، بعدما يبست أعضاؤه وخرس لسانه من شدة الجوع، فعزّ على مهنا عدم قبول شفاعته مع سابق إخلاصه الوطيد.
وفي سنة 710 أجرى الملك الناصر سلسلة مناقلات بين الأمراء واعتقل بعضهم، وعلم نائب السلطان في الشام الأمير قرا سُنقر أن السلطان محمد بن قلاوون يريد القبض عليه وعلى بعض الأمراء، ممن شاركوا في قتل أخيه الملك الأشرف، وكذلك لتصبح يده مطلقة في حكم الشام، فقد كان قرا سنقر ملك الشام غير المتوج لكونه فيها منذ فترة طويلة جداً، وكان قرا سنقر المتخوف قد طلب من السلطان إذناً بأداء الحج فأذن له، ولكنه خشي أن يعتقل في الطريق، فثنى عنانه وعرج على مضارب مهنا بن عيسى، وترك أولاده في حلب، وكان مهنا في القنص، فأجارته ومن معه أم الفضل زوج مهنا وبنت عمه، فقال: إنما أطلب أولادي ومالي، فقالت له: لك ما تحب، فانزل في جوارنا.
وعاد مهنا من القنص، فأحسن نُزله وحكّمه في ماله،. فقال: إنما أحب أهلي ومالي الذي تركته بحلب. فسار مهنا بفرسانه مع قرا سنقر إلى حلب، ودخلت مماليك قرا سنقر البلد وأخرجت ما كان له بها من ذخائر، وحاول واليها منعهم ولكن قواته كانت أضعف من فرسان مهنا، فتركهم وشأنهم، ولكن قرا سنقر لم يستطع أن يضم إليه أولاده فقد كان السلطان قد أمر بهم فسيروا على البريد إلى مصر.
وجرت مفاوضات بين الملك الناصر محمد بن قلاوون وبين الأمراء الهاربين، وكانوا ثلاثة من أكبر أمرائه، وكان مهنا يسترضي السلطان لهم، وعرض عليهم السلطان أن يعودوا بالأمان ويعطيهم ولايات لم ترضهم، وامتدت المفاوضات دون طائل، فتحول ما قدروه نزولاً عابراً إلى إقامة دائمة، وأصبحوا من سكان البوادي، ولكنهم بعد فترة ضاقت بهم عيشة البادية وخشونتها مما لم يعتادوا عليه، وبدأ ممالكيهم يهربون منهم بسببها، فتحدث قراسنقر مع مُهنا في هذا، فقال له: أنا كنت أريد أحدثك في هذا، ولكن خشيت أن تظن أني استثقلت بكم، لا والله! ولكن أنتم ما يضمكم إلا الحاضرة والمدن، والملك الناصر قد تخبث لكم، وأنتم قد تخبثتم له، وما بقي إلا ملك الشرق؛ السلطان خربندا، وهو كما أسمع ملك كريم محسن إلى من يجيه ويقصده، فدعوني أكتب إليه بسببكم. فوافقوه على هذا، فكتب لهم، فعاد جواب خربندا بأن يجهزهم إليه، ويعدهم بالخير والإحسان.
وتوجه المنشقون إلى خربندا وفي صحبتهم سليمان بن مهنا، وأرسل مهنا له هدايا وخيولا عربية، ووجد الأمراء منه إكراماً كثيراً وأعطى قراسنقر ولاية مراغة، وأدخله في مشورته، وخربندا هذا الذي تذكره الرواية، ويقال له كذلك أولجايتو، هو غياث الدين محمد بن أرغون بن أبغا ابن هولاكو بن تولي بن جنكزخان المغلي، ولقبه الحقيقي خُدا بندا ومعناه عبد الله، فغيره الناس تهكماً فقالوا خربندا أي صاحب الحمار، وكان صاحب العراق وأذربيجان وخراسان، ودامت دولته 13 سنة من سنة 703 إلى وفاته سنة 716، وكان راجح العقل، يروى أنه جعل قرا سنقر في أهل مشورته، لأنه يوم وصول الأمراء قال لكل واحد منهم: أيش تريد؟ فقال كل منهم شيئاً، أما قراسنقر فقال: ما أريد إلا امرأة كبيرة القدر أتزوج بها، فقال: هذا كلام من يعرِّفنا أنه ما جاء إلا مستوطناً عندنا، وأنه ما بقي له عودة إلى بلاده. فعظُم عنده بهذا، وزوجه بنت نائبه الأمير قطلوشاه.
وكانت هذه الخطوة من الأمراء ومن مهنا خطيرة جداً وذات وقع كبير لدى السلطان، فقد كان المغول، رغم هزيمتهم في شقحب سنة 702، لا يزالون يطمعون في مد دولتهم من العراق وأذربيجان وخراسان إلى الشام بل ومصر، ولم تتحسن العلاقات معهم وتستقر إلا في أيام القان أبو سعيد بركة بن خربندا، ولذا فإن انضمام ثلاثة من كبار الأمراء إلى خدا بندا أمر له ما وراءه، ونصر معنوي كبير للمعسكر المغولي، وبخاصة أن خدا بندا أرسل إلى مهنا أموالا وخلعا، كما أصدر برالغ له ولأهله في البصرة والحلة والكوفة وسائر البلاد الفراتية. والبرالغ مفرد برلغ وهو خطاب سلطاني بمثابة تأشيرة الزيارة والتجول في عصرنا هذا.
وبالفعل لم يتأخر خدا بندا في إظهار قوته، فقام في رمضان سنة 712، ومعه قراسنقر وسليمان بن مهنا، بشن هجوم على الرحبة على الحدود بين دولته والدولة المملوكية، ولكنه أخذها بالأمان وعفا عن أهلها، ولم يسفك فيها دماً، ثم رحل عنها وترك فيها جيشُه كثيراً من المعدات والسلاح الذي انتفع أهلها ببيعه.
وإزاء هذا التصرف أمر الملك الناصر في سنة 712 بعزل مهنا من الإمارة وتولية أخيه فضل مكانه، وجاء في كتاب تعيينه ما يدل على توجس الدولة وتخوفها من المغول: وليكن لأخبار العدو مطالعاً، ولنجوى حركاتهم وسكناتهم على البعد سامعاً، ولديارهم كل وقت مصبِّحا، حتى يظنوه من كل ثنيةٍ عليهم طالعاً، وليدم التأهب حتى لا تفوته من العدو غارةٌ ولا غرة، ويلزم أصحابه بالتيقظ لإدامة الجهاد الذي جرب الأعداء منه مواقع سيوفهم غير مرة.
وبقي مهنا في البادية موالياً لخدا بندا الذي أعطاه إقطاعاً بالعراق هو مدينة الحلة، وهو في الوقت نفسه لم يشق عصا الطاعة علناً على الملك الناصر، الذي يبدو أنه رضي منه بذلك وتجاوز عن انحيازه للمغول ولم ينزع منه إقطاعه، فصار له إقطاع من كلتي الدولتين المتنافستين، وحاول الملك الناصر استمالة مهنا ليأتيه تائباً ويعلن ولاءه الخالص له، ولكنه كان يمانع ويراوغ، لأن تصرفات السلطان مع الأمراء كانت لا توحي له بالأمان، واكتفى بأن استمر ابنه موسى بن مهنا في صداقة السلطان والتردد إلى الخدمة، وكان كذلك يرسل إليه إخوته وأولاده، والناصر يغدق عليهم إنعامه، والمراسلات بينه وبين الناصر لا تنقطع، وإذا ظهرت للمسلمين مصلحة نبّه مهنا عليها وأشار إليها، وكان السلطان يقبل نُصحه.
وحيث كان آل فضل يقومون بحماية الحجيج وتأمين طريقهم، توجه مهنا إلى خدا بنده سنة 716 فقرر معه أمر ركب الحج العراقى وعاد إلى تدمر، وأعطاه عصاه خفارة لركب الحاج.
وتوفي خدا بنده في رمضان من سنة 716، وخلفه ابنه أبو سعيد الذي كان يريد إنهاء النزاع بين الدولتين المسلمتين وبدأ في اتخاذ الإجراءات المؤدية لذلك، ولعل هذا السبب في عودة مهنا إلى ظل الدولة المملوكية، فرجع من العراق إلى بادية الشام، وبعث ابنيه محمداً وموسى وأخاه محمد بن عيسى إلى الملك الناصر، فأكرمهم وأحسن إليهم، ورد مهنا إلى إمارته وإقطاعه في سنة 717، وكتب له العهد بالإمارة الشيخ شهاب الدين محمد بن سلمان الحلبي، المولود سنة 644 والمتوفى سنة 725، وهذا نص الكتاب:
الحمد لله الذي أرهف حسام الدين في طاعتنا بيد من يمضي مضاربه بيديه، وأعاد أمر القبائل وإمرتهم إلى من لا يصلح أمر العرب إلا عليه، وحفظ رتبة آل عيسى باستقرارها لمن لا يزال الوفاء والشجاعة والطاعة في سائر الأحوال منسوباتٍ إليه، وجعل حسن العقبى بعنايتنا لمن لم يتطرق العدو إلى أطراف البلاد المحروسة إلا ورده الله تعالى بنصرنا وشجاعته على عقبيه.
نحمده على نعمه التي ما زالت مستحقةً لمن لم يزل المقدم في ضميرنا، المعول عليه في أمور الإسلام وأمورنا، المعين فيما تنطوي عليه أثناء سرائرنا ومطاوي صدورنا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً توجب على قائلها حسن التمسك بأسبابها، وتقتضي للمخلص فيها بذل النفوس والنفائس في المحافظة على مصالح أربابها، وتكون للمحافظ عليها ذخيرةً يوم تتقدم النفوس بطاعتها وإيمانها وأنسابها، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث من أشرف ذوائب العرب أصلاً وفرغاً، المفروضة طاعته على سائر الأمم ديناً وشرعاً، المخصوص بالأئمة الذين بثوا دعوته في الآفاق على سعتها ولم يضيقوا لجهاد أعداء الله وأعدائه ذرعاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين حازوا بصحبته الرتب الفاخرة، وحصلوا بطاعة الله وطاعته على سعادة الدنيا والآخرة، وعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف فلم يزحزحهم عن ظلها الركون إلى الدنيا الساحرة، صلاةً تقطع الفلوات ركائبها، وتسري بسالكي طرق النجاة نجائبها، وتنتصر بإقامتها كتائب الإسلام ومواكبها، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد، فإن أولى من تلقته رتبته، التي توهم إعراضها بأيمن وجه الرضا، واستقبلته مكانته، التي تخيل صدودها بأحسن مواقع القبول التي تضمنت الاعتداد من الحسنات بكل ما سلف، والإغضاء من الهفوات عما مضى، وآلت إليه إمرته التي خافت العُطل منه وهي به حالية، وعادت منزلته إلى ما ألفته لدينا من مكانة مكينة، وعرفته عندنا من رتبة عالية، من أمنت شمس سعادته في أيامنا من الغروب والزوال، ووثقت أسباب نعمه بأن لا يروع مريرها في دولتنا بالانتقاص ولا ظلالها بالانتقال، وأغنته سوابق طاعته المحفوظة لدينا عن توسط الوسائل، واحتجت له مواقع خدمه التي لا تجحد مواقفها في نكاية الأعداء ولا تنكر شهرتها في القبائل، وكفل له حسن رأينا فيه بما حقق مطالبه، وأحمد عواقبه، وحفظ له وعليه مكانته ومراتبه؛ فما توهم الأعداء أنَّ برقه خبا حتى لمع، ولا ظنوا أن ودقه أقلع حتى همى وهمع، ولا تخيلوا أن حسامه نبا حتى أرهفته عنايتنا فحيثما حل من أوصالهم قطع؛ وكيف يضاع مثله؟ وهو من أركان الإسلام التي لا تنزل الأهواء ولا ترتقي الأطماع متونها، ولا تستقر الأعداء عند جهادها واجتهادها في مصالح الإسلام حسبها ودينها.
ولما كان المجلس العالي مهنا بن عيسى بن مهنا بن مانع بن حديثة بن غضبة بن فضل ابن ربيعة، هو الذي لا يحول اعتقادنا في ولائه، ولا يزول اعتمادنا على نفاذه في مصالحنا ومضائه، ولا يتغير وثوقنا به عما في خواطرنا من كمال دينه وصحة يقينه، وأنه ما رفعت بين يدينا راية جهادٍ إلا تلقاها عرابة عزمه بيمينه؛ فهو الولي الذي حسنت عليه آثار نعمنا، والصفي الذي نشأ في خدمة أسلافنا ونشأ بنوه في خدمتنا، والتقي الذي يأبى دينه إلا حفظ جانب الله في الجهاد بين يدي عزيمتنا وأمام هممنا - اقتضت آراؤنا الشريفة أن نصرح له من الإحسان بما هو في مكنون سرائرنا، ومضمون ضمائرنا، ونعلن بأن رتبته عندنا بمكانٍ لا تتطاول إليه يد الحوادث، ونبين أن أعظم أسباب التقدم ما كان عليه من عنايتنا وامتناننا أكرم بواعث.
فلذلك رسم أن يعاد إلى الإمرة على أمراء آل فضل، ومشايخهم ومقدميهم، وسائر عربانهم، ومن هو مضافٌ لهم ومنسوبٌ إليهم، على عادته وقاعدته.
فليجر في ذلك على عادته التي لا مزيد على كمالها، ولا محيد عن مبدئها في مصالح الإسلام ومآلها، آخذاً للجهاد أهبته من جمع الكلمة واتحادها، واتخاذ القوة وإعدادها، وتضافر الهمم التي ما زال الظفر من موادها والنصر من أمدادها، وإلزام أمراء العربان بتكميل أصحابهم، وحفظ مراكزهم التي لا تسد أبوابها إلا بهم، والتيقظ لمكايد عدوهم، والتنبه لكشف أحوالهم في رواحهم وغدوهم، وحفظ الأطراف التي هم سورُها من أن تسورها مكايد العدا، وتخطف من يتطرق إلى الثغور من قبل أن يرفع إلى أفقها طرفاً، أو يمد على البعد إلى جهتها المصونة يدا، وليبث في الأعداء من مكايد مهابته ما يمنعهم القرار، ويحسن لهم الفرار، ويحول بينهم وبين الكرى لاشتراك اسم النوم وحد سيفه في مسمى الغرار.
وأما ما يتعلق بهذه الرتبة من وصايا قد أُلفت من خلاله، وعرفت من كماله، فهو ابن بجدتها، وفارس نجدتها، وجهينة أخبارها، وحلبة غايتها ومضمارها، فيفعل في ذلك كله ما شكر من سيرته، وحمد من إعلانه وسريرته؛ وقد جعلنا في ذلك وغيره من مصالح إمرته أمره من أمرنا: فيعتمد فيه ما يرضي الله تعالى ورسوله، ويبلغ به من جهاد الأعداء أمله وسوله؛ والله الموفق بمنه وكرمه.
ولنشرح قوة هذا الأمير وعصبته نذكر أنه حج في سنة 717 هو وولده سليمان فكانا في ستة آلاف، وكان أخوه محمد بن عيسى في أربعة آلاف.
وفي أوائل سنة 718 سار الأمير المعزول فضل أخو مهنا إلى الملك المغولي أبو سعيد ابن خُدا بندا وكبير أمرائه جوبان واجتمع بهما في بغداد، وأحضر لهما هدية من الخيول العربية وقعت موقعاً حسناً من الأمير جوبان فأقطعه بادية البصرة، واستمرت له إقطاعاته التي كانت له بالشام بيده مع البصرة، وأقام فضل عندهما مدة، واجتمع بقرا سنقر هناك، ثم عاد إلى مضارب عشيرته في البادية.
وأثارت هذه الخطوات وأمثالها حفيظة السلطان فأمر في أول سنة 720 بطرد آل فضل من البلاد، ونزع إقطاعاتهم، فرحلوا عن أراضي سلمية وساروا إلى جهات عانة والحديثة على شاطئ الفرات، وجعل السلطان محمد بن أبي بكر بن علي بن حديثة بن عقبة أميراً مكان ابن عمه مهنا بن عيسى الذي عاد فالتحق بالدولة المغولية في العراق.
وفي سنة 734 قرر مهنا بن عيسى أن يعود إلى رحاب الدولة المملوكية، فذهب إلى دمشق في معية الملك الأفضل صاحب حماة، فاستقبله تنكز نائب السلطان بها وأكرمه، ثم سافر إلى القاهرة فتلقاهما أعيان الأمراء، وصفح الملك الناصر عنه، وخلع عليه وعلى أصحاب مئة وستين خلعة، ورسم له بمال كثير من الذهب والفضة والقماش، وأقطعه عدة قرى، وعاد إلى أهله مكرماً، فعاد وأخلص الولاء لاصحاب مصر حتى توفي وقد أناف على الثمانين.
كان مهنا بن عيسى مثال البدوي الشهم الصالح، فقد كان كريم الأخلاق، حسن الجوار، مكفوف الشرّ يرجع إلى خير وعقل ورئاسة، وله معروف، من ذلك مارستان جيد بناه بسرمين، ومن أخلاقه ما رواه الشيخ شهاب الدين محمد بن سلمان الحلبي، الذي كان شيخ كتاب الديوان السلطاني في عصره، قال: حضرت الأمير طرنطاي المنصوريّ وهو مخيم بالخربة، وعن يمينه مهنا بن عيسى وعن يساره ابن عمه أحمد بن حجيّ أمير آل مرا، فادّعي أحمد بألف بعير أخذتها آل فضل لعربه، وألحّ في المطالبة، واحتدّ وارتفع صوته، ومهنّا ساكت لا يتكلم، فلما طال الأمر تمادى في الضجيج وتمادى مهنّا في السكوت، أقبل طرنطاي على مهنّا، وقال: ما تقول يا ملك العرب؟ فقال: وما أقول؟ نعطيهم ما طلبوا؛ هم أولاد عمّنا، وإن كانت لهم عندنا هذه البعران فقد أعطيناهم حقّهم، وإن كان ما لهم شيء، فما هو كثير إذا أعطينا بني عمّنا من مالنا. فلما سمع أحمد هذا الكلام لم يعجبه، وأطال القول في الاحتجاج والخصومة، ومهنّا ساكت، فلما زاد رفع مهنّا رأسه إليه، وقال له: يا أحمد إن كان كلامك عليك هينا فكلامي عليّ ما هو هين، وهذه الأباعر أقلّ من أن يحصل فيها كلام، وأنا معطيك إياها! ثم قام، فقال طرنطاي: هكذا والله يكون الأمير.
وبعد وفاة مهنا ولّى الملك الناصر محمد بن قلاوون ابنه موسى الملقب مظفر الدين، والذي كان من أقرب الناس للدولة المملوكية، لأنه لم يخرج عن الطاعة، ولم يأخذ من المغول إقطاعاً، وكان لذلك كبير الدالة على الناصر، كثير الجرأة عليه، والناصر يكثر من الإحسان إليه، وقدم على الناصر سنة 38 فأنعم عليه وأعطاه ضيعتين زيادة، واستمرأميراً إلى أن توفي بتدمر سنة 742، وقال عنه ابن تغري بردي: كان من أجل ملوك العرب.
وتولى الإمارة بعد موسى أخوه سليمان، وكان كذلك بطلاً شجاعاً وأميراً جواداً، وقد ذكرنا من قبل أن أباه أصحبه قرا سنقر والأمراء المنشقين، فبقي مع المغول 17 سنة، وجاء في سنة 730 ولذلك قصة لطيفة وهي أن أبوه وإخوته كانوا يرفدونه بالمال ويحذرونه من الملك الناصر محمد بن قلاوون، ولكنه قرر أن يسير للسلطان دون علمهم فلم يسمع أهله إلا وهو في مصر، وأكرمه الملك الناصر وأعطاه إقطاعاً مناسباً ثم جعله أميراً سنة 642 إلى وفاته سنة 744.
وبقيت الإمارة في بادية الشام الوسطى في آل مهنا إلى أن انتهت في سنة 808 بسبب البغي والفساد، على يد حفيده محمد بن حيار بن مهنا بن عيسى بن مهنا، المعروف بنُعير، والذي ولي الإمرة بعد أبيه سنة 777، وكان شجاعا جوادا مهيبا، إلا أنه كثير الغدر والفساد، فجرت بينه وبين أمير حلب الأمير جكم وقعة كُسِرَ فيها نعير، وجئ به إلى حلب فقتل فيها، وقد نيف على السبعين، وبموته انكسرت شوكة آل مهنا.
صورة ثرة حية من تاريخنا لعرب البادية تتبدى فيها قيم الأصالة والشهامة والوفاء والكرم والعطاء والمروءة والإباء، لم يخب نورها لدى أهل البادية تنتظر من يخرج فيها هذه المعادن الأصيلة والمعاني السامية في ساعة العطاء والنماء.

 
log analyzer