الجمعة، 24 يوليو 2015

حدث في الثامن من شوال

في الثامن من شوال سنة 568 توفي في دمشق، عن 79 عاماً، ملك النحاة أبو نزار الحسن بن صافي، الإمام النحوي الذي كان أنحى أهل زمانه، ودفن رحمه الله في مقبرة باب الصغير.
ولد ملك النحاة في بغداد، وسمع بها الحديث، ودرس الفقه وأصوله على مذهب الإمام الشافعي، وقرأ النحو على أبي الحسن علي بن أبي زيد الفصيحي، وكان قد قرأ على الإمام عبد القاهر الجرجاني، ثم سافر ملك النحاة إلى خراسان وكرمان وغزنة، وسكن واسط مدة بعد سنة 520، ثم أقام بحلب، وكان يُقرئ بها الأدب بالمسجد الجامع، واتصل بالملك العادل نور الدين الشهيد، وكان يكرمه ويحسن إليه، واستوطن دمشق وتوفي بها.
 كان ملك النحاة من الفضلاء المبرزين، فَهِماً فصيحاً ذكياً، اتفقوا على فضله ومعرفته، إلا أنه كان عنده عُجْبٌ بنفسه وتِيه، لقب نفسه ملك النحاة، وكان يسخط على من يخاطبه بغير ذلك، وكان أبوه صافي مولى الحسين الأرموي التاجر، وكان لا يذكر اسم أبيه إلا بكنيته، لئلا يُعرف أنه مولى.
ولملك النحاة مصنفات كثيرة في الفقه والأصول والنحو: كتاب الحاوي في النحو مجلدتان، كتاب العمدة في النحو مجلدة وهو كتاب نفيس، كتاب المعتضد في التصريف مجلدة ضخمة، كتاب أسلوب الحق في تعليل القراءات العشر وشيء من الشواذ مجلدتان، كتاب التذكرة السفرية انتهت إلى أربعمائة كراسة، كتاب العروض مختصر محرر، كتاب في الفقه على مذهب الشافعي سماه الحاكم مجلدتان، كتاب مختصر في أصول الفقه، كتاب مختصر في أصول الدين، كتاب ديوان شعره، وله كتاب المقامات حذا فيه حذو مقامات الحريري، وكان يقول: مقاماتي جد وصدق، ومقامات الحريري هزل وكذب. وعلَّق على ذلك ابن ‏تَغْري بِرْدي في النجوم الزاهرة: ولكن بين ذلك أهوال. وقد أعيته عشر مسائل واستعصت عليه فألف فيها كتاباً أسماه المسائل العشر، المتعبات إلى يوم الحشر، وأوصى أن توضع معه في قبره، ليحلها. وجاء من بعده ابن بري، عبد الله بن برّي، النحوي اللغوي المصري، المولود سنة 499 والمتوفى سنة 582، فألف جواباً على هذه المسائل.
ولملك النحاة مدائح كثيرة في رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها:
لله أخلاقُ مطبوع على كرم ... ومن به شُرِفَ العلياء والكرمُ
أغر أبلج يسمو عن مساجلة ... إذا تذوكرت الأخلاق والشيم
سمت علاك رسول الله فارتفعت ... عن أن يشير إلى إثباتها قلم
يا من به عاد وجه الحق متضحاً ... من بعد أن ظوهرت بالباطل الظُلَمُ
علوت عن كل مدح يستفاض فما ... الجلالُ إلا الذي تنحوه والعُظِمُ
على علاك سلام الله متصلاً ... ما شئت والصلوات الغر تبتسم
وكانت له في حياته طرائف منها أنه قدِمَ إلى الشام قبل استيطانه لها، فهجاه ثلاثة من الشعراء، ابن منير الطرابلسي، أحمد بن منير المتوفى سنة 548 عن 75 عاماً، وابن القيسراني، محمد بن نصر المتوفى سنة 548 عن 70 عاماً، والشريف الواسطي، عبد القادر بن علي المتوفى سنة 548، ومدح ملك النحاة وزير دمشق ابن الصوفي، حيدرة بن مفرج المتوفى سنة 548، فاستخف به الوزير ولم يوفه قدر مدحه، فعاد إلى الموصل ومدح الوزير جمال الدين الأصفهاني، محمد بن علي المتوفى سنة 559، وجماعة من رؤسائها وقضاتها، فلما نَـبَتْ به الموصل، قيل له: لو رجعت إلى الشام، فقال: لا أرجع إلى الشام إلا أن يموت ابن الصوفي، وابن منير، والقيسراني، والشريف الواسطي. فقُتِلَ الشريف الواسطي، ومات ابن منير والقيسراني في مدة سنة، ومات الصوفي بعدهم بأشهر.
وكان بين ملك النحاة وبين ابن منير الطرابلسي مهاجاة، وكان لملك النحاة بحلب تلميذ يقال له الذُباب، وكان راوية شعره، وكان ابن منير كثيراً ما يمزح معه إذا لقيه ويقول له: إيش عمل الملك على لسانك اليوم؟ وما يشبه ذلك، فمر الذباب يوماً بابن منير وهو جالس على حانوت بباب الجامع الغربي تجاه المدرسة الحلاوية، وكان يجلس بها كثيراً عند خياط بها وبيده قضيب يعبث به، فقال ابن منير لراوية ملك النحاة: أيه أيش عمل الملك اليوم فقال له: ما تريد أن تسمع، فقال: لابد، فقال: اتركني بالله، فقال: لا بد أن تقول، فقال: قال فيك:
لبغضك الصِّديق يا ذا الخنا ... تقدح في كُلِّ أبي بكر
يعرِّضُ بأنه يهجو أبا بكر بن الداية نائب نور الدين بحلب، وكان مطلق اليد فيها، وكان ابن منير شيعي المذهب، فخاف على نفسه من ابن الداية وألقى القضيب من يده وقال: لعنه الله، ولعن ساعة عرفناه فيها. وقام من وقته.
ولعله في تلك الفترة قبل أن يتصل بنور الدين الشهيد كان يحن إلى واسط في العراق فقال:
أراجع لي عيشيَ الفارطُ ... أم هو عني نازح شاحطُ؟
ألا وهل تسعفني أوبة ... يسمو بها نجم المنى الهابط؟
أرفل في مِرط ارتياح وهل ... يطرق سمعي: هذه واسط
يا زمني عُدْ لي فقد رُعتني ... حتى عراني شيبي الواخط
كم أقطع البيداء في ليلة ... يقبض ظلي خوفها الباسط؟
أأرقب الراحة أم لا وهل ... يعدل يوماً دهري القاسط؟
أيا ذوي ودي أما اشتقتمُ ... إلى إمام جأشه رابط؟
وهل عهودي عندكم غضة ... أم أنا في ظني إذاً غالط؟
ليهنكم ما عشتم واسط ... إني لكم يا سادتي غابط
أما إعجابه وتيهه فكان غاية في الغرابة من حيث تظاهره به وطلبه له، وهي خصلة لازمته منذ مقتبل العمر، فقد ذُكِر أنه لما سافر ملك النحاة إلى غزنة، وأراد أن يجتمع بملك غزنة، ولعله بهرام شاه بن مسعود المتوفى سنة 548، فقيل له: إن الملك يجلس على سرير عال، ويجلس وزيره بجانب السرير ولا يقعد أحد إلا تحت الوزير، فقال: مبارك، فأُذِنَ له فدخل إلى ملك غزنة، وجاء إلى السرير وكان طويل القامة، فوضع رجله على السند الذي إلى جانب الوزير وتعلق في السرير ليقبل يد ملك غزنة، فتحرك له ملك غزنة، فقال: أيها الملك، ينبغي للملك أن يقوم للملك. فقام له ملك غزنة فجلس على السرير إلى جانبه.
وخلع الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي خِلعة سَنَية على ملك النحاة، فلبسها يوماً واجتاز بها على حلقة عظيمة فمال إليها لينظر ما هي، فوجد رجلاً قد علم تيساً له استخراج الخبايا وتعريفه من يريد أن يعرفه به من الحلقة بإشارة لا يفهمها غير ذلك التيس المعلَّم، فوقف ملك النحاة وهو راكب بالخلعة فقال الرجل: في حلقتي رجل عظيم القدر، شائع الذكر، ملك في زِيِّ سوقة، أعلم الناس، وأكرم الناس، وأجمل الناس، فأرني إياه. فشق ذلك التيس الحلقة، وخرج حتى وضع يده على ملك النحاة، فلم يتمالك ملك النحاة أن نزع الخلعة ووهبها لصاحب التيس، فبلغ ذلك نور الدين فعاتبه على ما فعل وقال: استخففت بخلعتنا حتى وهبتها من طُرَقيّ؟ فقال: يا مولانا عذري في ذلك واضح، لأن في هذه المدينة زيادة على مئة ألف تيس، ما فيهم من عرف قدري غير ذلك التيس! فضحك منه نور الدين وسكت.
وقال الشاعر الأديب شميم الـحِلِّي، علي بن الحسن المتوفى سنة 601 عن نحو 90 عاماً، أتيته لأقرأ عليه النحو، فاتفق يوماً أن كان عنده جماعة يقرؤون عليه شيئاً من النحو، فجرى بحث فقلت: قال أبو علي الفارسي فيها كذا، وقال ابن جِنِّي كذا، فقال: وأيش كان ذلك الكلب أبو علي الفارسي! وأيش كان ذلك الكلب ابن جني! قال شميم: فتقدمت إليه وقلت له: يا سيدنا هؤلاء هم علماء النحو وكبراؤه، فإذا قلت إنهم كلاب، وأنت تُدعى ملكَ النحاة فتصيرَ إذاً ملك الكلاب لا ملك النحاة، قال: فقال لي: والله صدقت، هؤلاء هم علماء النحو، قال: فلم أسمع منه بعد ذلك مثل هذا الكلام.
وقدم دمشق عَلَم المُلك بن النحاس رسولاً إلى الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي من الدولة الفاطمية في مصر، وبقي علم الملك ابن النحاس مدة بدمشق ليس له شيء، ونور الدين يقوم به، فسأل في تلك المدة ملك النحاة أن يجمع له مقدمة في النحو، فجمعها وأنفذها إليه وكتب على وجهها:
يا عَلَم الملك افتخر ... بهذه المقدمة
ولا تقل فيما أُمِرتَ ... - لا افتخارٍ - ولِـمَه؟
فإنني أَفصح من ... فاه وأجرى قلمه
قِسٌّ إذا عاينني ... خيط بالعي فمه
ولو رأيتُ سيبويه ... قال يا نحوي مه
والشعر لا يسطيع ما ... أقول منه علقمه
والفقه قد فقت لعمر الله فيه أُممه
وكان ملك النحاة رحمه الله سخي اليد كريم النفس، وصفه معاصره العماد الأصبهاني في خريدة القصر فقال: أقام ملك النحاة بالشام في رعاية نور الدين محمود بن زنكي، وكان مطبوعاً متناسب الأحوال والأفعال، مر الشكيمة، حلو الشيمة، يضم يده على المئة والمئتين ويمشي وهو منها صِفرُ اليدين، مولع باستعمال الحلاوات السكرية، وإهدائها إلى جيرانه وإخوانه، مغرى بإحسانه إلى خلصانه وخلانه.
وعضت يده يوماً قطة فربطها بمنديل، فقال تلميذه فتيان بن علي بن فتيان النحوي الأسدي مداعباً:
عتبتُ على قِطِّ ملكِ النحاة ... وقلتُ أتيتَ بغير الصوابِ
عضضتَ يداً خُلقت للندى ... وبث العلوم وضرب الرقاب
فأعرض عني وقال اتئد ... أليس القطاط أعادي الكلاب؟
فبلغته، فاستحيى فتيان، وانقطع عنه، فكتب إليه ملك النحاة جواباً عن أبيات يعتذر فيها:
يا خليلي نلتما النعماء ... وتسنمتما العلا والعلاءَ
ألـمِما بالشاغور بالمسجد المهجور واستمطرا له الأنواء
امنحا صاحبي الذي كان فيه ... كل يومٍ تحيةً وثناء
ثم قولا له اعتبرَنا الذي فهت به مادحاً فكان هجاء
وقبلنا فيه اعتذارك عما ... قاله الجاهلون عنك افتراء
وقد أجمع معاصروه على أنه على عُجْبه كان يتحلى بأخلاق الكرام وشيم النبالة، كان ملك النحاة يهوى امرأة كانت له، كانت تنافره فقال فيها خالطاً الذم بالهزل:
جاريةٌ كلما خضعتُ لها قالت ... عَدِمتُ النحاةَ والشُّعَرا
طويلةُ القدر واللسان فما ... أدري أأهجو أم أمدح القِصَرا
أحسن منها عندي مدققة ... ساذجة لوزها قد انقشرا
فاللبن الفارسي أضرَسَني ... والكشك في ذي الديار قد كثرا
ويبدو أنه ملَّ من إصلاحها فطلقها، وسئل كيف حاله بعدها، فأنشد ناظراً إلى قوله تعالى ولا تنسوا الفضل بينكم:
سلوتُ بحمد الله عنها فأصبحتْ ... دواعي الهوى من نحوها لا أجيبُها
على أنني لا شامِتٌ إن أصابها ... بلاءٌ ولا راض بواش يَعيبها
قال شمس الدين حسن بن صالح السلمي خادم ملك النحاة: رأيته في المنام بعد موته فقلت له: ما لقيتَ من ربك؟ فقال لي: ويكَ ارفع صوتك، ما أسمعُ ما تقول! فأعدتُ عليه القول فقال لي: ويك وما ذكرتُه لك؟ فقلت: لا، فقال: غفر لي ربي بأبيات قلتها، وهي:
يا ربِّ ها قد أتيت معترفاً ... بما جنته يداي من زللِ
ملآن كفٍ بكل مأثمة ... صِفرَ يـدٍ من محاسن العمل
وكيف أخشى ناراً مسعَّرة ... وأنت يا رب في القيامة لي
ورآه في النوم الشيخ مهذب الدين أبو السخاء فتيان البانياسي في سنة 569، فسأله ما لقي من ربه؟ فقال: دع هذا واسمع مني، ثم أنشده:
فإن نحنُ جُمعنا بَعدَ بُعْدٍ ... شفينا النفسَ من ألم العتابِ
وإن ألوى بنا صَرْفُ الليالي ... فكم من حسرة تحت التراب

الجمعة، 17 يوليو 2015

حدث في يوم الفطر الأول من شوال

يصف القلقشندي في كتابه الماتع صبح الأعشى في صناعة الإنشا مواكب الخلفاء الفاطميين في العيد وما كان يصاحبها من أبهة واستعدادات، وأرجو من القارئ الكريم أن يقرأ هذه السطور على مهل ويتخيل هذه المواكب بعظمتها الغابرة وبهائها العظيم، وكانت مواكب الخلفاء في العهد الأموي وصدر العهد العباسي تتسم بالبساطة ثم بدأت في إظهار الأبهة والعظمة حتى بلغت أوجها في أيام الدولة الفاطمية التي كانت حريصة على التفاصيل الدقيقة في مثل هذه المناسبات، يقول القلقشندي:

الموكب الرابع من مراكب الخلفاء: ركوبه لصلاة عيدي الفطر والأضحى
أما عيد الفطر - فيقع الاهتمام بركوبه في العشر الأخير من رمضان، وتعبى أُهبة المواكب على ما تقدم في أول العام وغيره، وكان خارج باب النصر مصلى على ربوةٍ وجميعها مبني بالحجر، ولها سور دائر عليها وقلعة على بابها، وفي صدرها قبةٌ كبيرة في صدرها محراب، والمنبر إلى جانب القبة وسط المصلى مكشوفاً تحت السماء، ارتفاعه ثلاثون درجة وعرضه ثلاثة أذرع، وفي أعلاه مصطبةٌ.
فإذا كمُل رمضان، وهو عندهم - أي الفاطميين - ثلاثون يوماً من غير نقص، وكان اليوم الأول من شوال، سار صاحب بيت المال إلى المصلى خارج باب النصر، وفرش الطراحات بمحراب المصلى، كما يُفعل في الجوامع في أيام الجُمع، ويعلق سِترين يُمنةً ويَسرة، وفي الأيمن الفاتحة وسبح باسم ربك الأعلى، وفي الأيسر الفاتحة، وهل أتاك حديث الغاشية، ويَركُز في جانبي المصلى لواءين مشدودين على رمحين ملبسين بأنابيب الفضة، وهما منشوران مرخيان، ويوضع على ذروة المنبر طراحة من شاميات أو دبيقي، ويفرش باقيه بستر من بياض، على مقداره في تقاطيع درجة مضبوطة لا تتغير بالمشي وغيره، ويجعل في أعلاه لواءان مرموقان بالذهب يمنةً ويسرةً.
ثم سار الوزير من داره إلى قصر الخليفة، ويركب الخليفة بهيئة المواكب العظيمة على ما تقدم في أول العام: من المظلة والتاج وغير ذلك من الآلات، ويكون لباسه في هذا اليوم الثياب البيض الموشحة المجومة، وهي أجل لباسه ومظلته كذلك، ويخرج من باب العيد على عادته في ركوب المواكب إلا أن العساكر في هذا اليوم من الأمراء والأجناد والركبان والمشاة تكون أكثر من غيره، وينتظم القوم له صفين من باب القصر إلى المصلى، ويركب الخليفة إلى المصلى فيدخل من شرقيها إلى مكان يستريح فيه دقيقةً، ثم يخرج محفوظاً بحاشيته كما في صلاة الجُمَع فيصير إلى المحراب، والوزير والقاضي وراءه كما تقدم، فيصلي صلاة العيد بالتكبيرات المسنونة، ويقرأ في الركعة الأولى ما في الستر الذي على يمينه، وفي الثانية ما في الستر الذي على يساره.
فإذا فرغ وسلم، صعد المنبر لخطابة العيد، فإذا انتهى إلى ذروة المنبر، جلس على تلك الطراحة بحيث يراه الناس، ويقف أسفل المنبر الوزير، وقاضي القضاة، وصاحب الباب والاسفهسلار - وهو مصطلح يعني مُقدّم العسكر - وصاحب السيف، وصاحب الرسالة، وزمام القصر - أي مدير ماليته - وصاحب دفتر المجلس، وصاحب المظلة، وزمام الأشراف الأقارب، وصاحب بيت المال، وحامل الرمح، ونقيب الأشراف الطالبيين.
ويكون وجْهُ الوزير إليه فيشير إليه فيصعد ويقرب وقوفه منه ويكون وجهه موازياً رجليه فيقبلهما بحيث يراه الناس، ثم يقوم فيقف على يمنة الخليفة، فإذا وقف أشار إلى قاضي القضاة بالصعود يصعد إلى سابع درجة، ثم يتطلع إليه منتظراً ما يقول، فيشير إليه فيخرج من كمه دَرْجاً قد أُحضر إليه في أمسه من ديوان الإنشاء بعد عرضه على الخليفة والوزير، فيعلن بقراءة مضمونة ويقول بعد البسملة: ثَبتٌ بمن شُرِّفَ بصعود المنبر الشريف في يوم كذا، وهو عيد الفطر من سنة كذا من عند أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه الأكرمين، بعد صعود السيد الأجل .... يذكر نعوت الوزير المقررة والدعاء له ثم ذكر من يشرفه الخليفة بصعود المنبر من أولاد الوزير، ثم ذكر القاضي ولكنه يكون هو القاريء للثبت فلا يسعه ذكر نعوته فيقول: المملوك فلان بن فلان ونحو ذلك، ثم الواقفين على باب المنبر ممن تقدم ذكره بنعوتهم واحداً واحداً، وكلما ذكر واحداً استدعاه وطلع المنبر، كلٌ منهم يعرف مقامه في المنبر يمنةً ويسرةً.
فإذا لم يبق أحد ممن أطلع إلى المنبر، أشار الوزير إليهم فأخذ كل من هو في جانب بيده نصيباً من اللواء الذي بجانبه فيستتر الخليفة ويستترون، وينادى في الناس بالإنصات، فيخطب الخليفة خطبة بليغةً مناسبة لذلك المقام، يقرؤها من السفط الذي يُحضر إليه مسطراً من ديوان الإنشاء كما فعل في جُمَع رمضان المتقدمة.
فإذا فرغ من الخطبة، ألقى كلُّ مَنْ في يده شيءٌ من اللواء خارج المنبر، فينكشفون وينزلون القهقرى أولاً بأول الأقرب فالأقرب، فإذا خلا المنبر للخليفة، هبط ودخل المكان الذي خرج منه، فيلبث قليلاً ثم يركب في هيئته التي أتى فيها إلى المصلى، ويعود في طريقه التي أتى منها.
فإذا قرب من القصر، تقدمه الوزير على العادة، ثم يدخل من باب العيد الذي خرج منه، فيجلس في الشباك الذي في الإيوان الكبير، وقد مد منه إلى فسقية في وسط الإيوان مقدار عشرين قصبة سماطٌ فيه من الخشكنان والبستندود، وغير ذلك مما يعمل في العيد مثل الجبل الشاهق، كل قطعة ما بين ربع قنطار إلى رطل واحد، فيأكل من يأكل وينقل من ينقل لا حجر عليه ولا مانع دونه، ثم يقوم من الإيوان فيركب إلى قاعة الذهب فيجد سرير الملك قد نصب، ووضع له مائدة من فضة، ومد السماط تحت السرير فيترجل عن السرير، ويجلس على المائدة، ويستدعى الوزير فيجلس معه، ويجلس الأمراء على السماط ولا يزال كذلك حتى يُنقضَ السماط قريب صلاة الظهر؛ ثم يقوم وينصرف الوزير إلى داره والأمراء في خدمته فيمد لهم سماطاً يأكلون منه وينصرفون.
وصفة سماط الفطر: يمد في عيد الفطر وعيد الأضحى تحت سرير الملك بقاعة الذهب المذكورة أمام المجلس الذي يجلس فيه الخليفة الجلوس العام أيام المواكب، وتنصب على الكرسي مائدة من فضة تعرف بالمدورة، وعليها من الأواني الذهبيات والصيني الحاوية للأطعمة الفاخرة ما لا يليق إلا بالملوك، وينصب السماط العام تحت السرير من خشب مدهون في طول القاعة في عرض عشرة أذرع، وتفرش فوقه الأزهار المشمومة، ويرص الخبز على جوانبه كل شابورة ثلاثة أرطال من نقي الدقيق؛ ويُعمر داخل السماط على طوله بأحد وعشرين طبقاً عظاماً، في كل طبق أحد وعشرون خروفاً من الشوي، وفي كل واحد منهما ثلثمائة وخمسون طيراً من الدجاج والفراريج وأفراخ الحمام، ويعبى مستطيلاً في العلو حتى يكون كقامة الرجل الطويل، ويسور بتشاريح الحلواء اليابسة على اختلاف ألوانها، ويسد خلل تلك الأطباق على السماط نحوٌ من خمسمائة صحن من الصحون الخزفية المترعة بالألوان الفائقة، وفي كل منها سبع دجاجات من الحلواء المائعة والأطعمة الفاخرة؛ ويعمل بدار الفطرة قصران من حلوى زنة كل منها سبعة عشر قنطاراً في أحسن شكل، عليها صور الحيوان المختلفة، ويحملان إلى القاعة فيوضعان في طرفي السماط.
ويأتي الخليفة راكباً فيترجل على السرير الذي قد نصبت عليه المائدة الفضة، ويجلس على المائدة وعلى رأسه أربعة من كبار الأستاذين المحنكين، ثم يستدعي الوزير وحده فيطلع ويجلس على يمينه بالقرب من باب السرير، ويشير إلى الأمراء المطوقين فمن دونهم من الأمراء، فيجلسون على السماط على قدر مراتبهم فيأكلون وقراء الحضرة في خلال ذلك يقرأون القرآن، ويبقى السماط ممدوداً إلى قريب من صلاة الظهر حتى يُستهلك جميع ما عليه أكلاً وحملاً، وتفرقةً على أرباب الرسوم.
وكان للخلفاء الاهتمام العظيم بمائدة الفطر والأضحى، وأصنافها كانت: ألف حملة دقيق، وأربعمائة قنطار سكر، وستة قناطير فستق، وأربعمائة وثلاثين إردب زبيب، وخمسة عشر قنطاراً عسل نحل، وثلاثة قناطير خل، وإردبّين سمسم، وإردبين أنيسون، وخمسين رطلاً ماء ورد، وخمس نوافج مسك، وكافور قديم عشرة مثاقيل، وزعفران مطحون مائة وخمسون درهماً، وزيت برسم الوقود ثلاثون قنطاراً، وأصناف أخرى يطول ذكرها.

الجمعة، 10 يوليو 2015

حدث في الثالث والعشرين من رمضان

في الثالث والعشرين من رمضان من سنة 273 توفي، عن 64 سنة، الإمام المحدِّث أبو عبد الله محمد بن يزيد الرَبعي القزويني، المعروف بابن ماجه: أحد الأئمة في علم الحديث. كان أبوه يزيد يلقب بماجه، والرَبعي نسبة إلى قبيلة ربيعة العربية التي كان من مواليها.
ولد ابن ماجه في قزوين وهي مدينة شمالي غربي طهران، ورحل في طلب الحديث إلى العراق والبصرة والكوفة وبغداد ومكة والشام ومصر والرَّي، وأصبح من أعلام المحدثين، ويُعدُّ كتابُه في الحديث المسمى سُنَن ابن ماجه أحد الكتب الستة التي هي أصول الحديث وأمهاته، وإن كان بعض المحدثين يقول: السادسُ هو موطأ الإمام مالك. وقد قدم المحدثون سنن ابن ماجه على الموطأ لكثرة ما فيه من الأحاديث الزائدة على ما أورده أصحاب الكتب الخمسة، وذلك بخلاف الموطأ، وإن كان الموطأ رائد
ابتدأ ابن ماجه كتابه في السنن بباب اتِّباع سنةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول حديث أورده هو حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أمرتكم به فخُذوه، وما نهيتكم عنه فانتهوا. ويعلق ابن ماجه على بعض الأحاديث مصححاً لوهم من الراوي أو مبيناً لشاهد فقهي، وكل تعليقاته رحمه الله تعالى تدل على علمه وفقهه ونباهته ودقته في رواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونستعرض بعضاً من هذه التعليقات تبياناً لذلك:
فمنها ما هو لتبيان أهمية الحديث، فعندما أورد حديث أبي أمامة الباهلي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدجال، قال ابن ماجه: سمعت أبا الحسن الطنافسي يقول سمعت عبد الرحمن المحاربي يقول: ينبغي أن يُدفع هذا الحديث إلى المؤدب حتى يعلِّمه الصبيان في الكتاب
ومنها ما هو لبيان الدقة في الرواية، فعندما روى عن أحمد بن سنان حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بالمدينة رجالا ما قطعتم واديا ولا سلكتم طريقا، إلا شركوكم في الأجر حبسهم العذر. عقب ابن ماجه بقوله: أو كما قال؛ كتبته لفظا.
ومنها ما يدخل في فقه الحديث، فعندما أورد حديث أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: البحرُ الطهورُ ماؤه الحِلُّ ميْتته. قال ابن ماجه: بلغني عن أبي عبيدة الجواد أنه قال: هذا نصف العلم، لأن الدنيا بر وبحر، فقد أفتاك في البحر وبقي البر.
ومنها ما هو تأكيد لصحة النقل، فعندما أورد حديث العباس بن عبد المطلب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزال أمتي على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب حتى تشتبك النجوم. قال ابن ماجه: سمعت محمد بن يحيى يقول اضطرب الناس في هذا الحديث ببغداد، فذهبت أنا وأبو بكر الأعين إلى العوَّام بن عباد بن العوام، فأخرج إلينا أصل أبيه فإذا الحديث فيه.
ومنها ما هو تبيين للفظ مشتبه، فعندما روى حديث أنس بن مالك: صنع بعض عمومتي للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أحب أن تأكل في بيتي وتصلي فيه، قال: فأتاه وفي البيت فحل من هذه الفحول، فأمر بناحية منه فكُنِّس ورُّشَّ، فصلى وصلينا معه. قال ابن ماجه: الفحل هو الحصير الذي قد اسّوَد.
ومنها ما هو تبيين لتفرد راوٍ، مثل مارواه عن أبي بكر بن أبي شيبة حدثنا ابن أبي غنية عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله أنه سئل أكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائما أو قاعدا؟ قال: أوما تقرأ {وتركوك قائما }؟! قال ابن ماجه: غريبٌ لا يُحدِّثُ به إلا ابن أبي شيبة وحده.
وقد قيض الله لسنن ابن ماجه عدداً من العلماء من الهند إلى المغرب الذين شرحوها أو بينوا مزاياها وملاحظاتهم عليها، وما يلي نبذة تبين للقارئ الكريم أنموذجاً من الحوار العلمي في هذا الصدد.
قال ابن ماجه: عرضتُ هذه السُّنن على أبي زرعة - وهذا من أدب العلماء وكمال تهذيبهم - فنظر فيه وقال: أظنُّ إن وقع هذا في أيدي النّاس تعطّلت هذه الجوامع أو أكثرها. ثمّ قال: لعلّ لا يكون فيه تمام ثلاثين حديثاً ممّا في إسناده ضعفٌ، أو نحو ذا. وعنى بقوله الجوامع: الكتب الجامعة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعلَّق على ذلك الإمام الذهبي في سِيَرِ أعلام النبلاء فقال: قد كان ابن ماجه حافظاً ناقداً صادقاً، واسع العلم، وإنما غضَّ من رتبة سننه ما في الكتاب من المناكير، وقليل من الموضوعات، وقول أبي زرعة - إن صحّ - فإنما عنى بثلاثين حديثا، الأحاديث المطَرَّحة الساقطة، وأما الأحاديث التي لا تقوم بها حجة، فكثيرة، لعلها نحو الألف.
ويرى بعض المحدثين أن الجوامع التي عناها الإمام أبو زرعة الرازي إنما هي الجوامع التي صنفها الحفاظ في بلاد الريِّ وقزوين وطبرستان وتلك البلاد، ويؤيد هذا ما قاله ابن طاهر المقدسي عند ذكره سنن ابن ماجه: وهذا الكتاب وإن لم يشتهر عند أكثر الفقهاء، فإن له بالري وما والاها من ديار الجبل وقوهستان ومازندان وطبرستان شأن عظيم؛ عليه اعتمادهم، وله عندهم طرق كثيرة.
وإنما عرضَ الإمامُ ابن ماجه سننه على الحافظ أبي زرعة الرازي، عبيد الله بن عبد الكريم المتوفى سنة 264 عن 64 عاماً، جرياً على أدب العلماء وبخاصة المحدثين الذين عرض كثير منهم ما صنفوه على غيرهم من الحفاظ سواء كانوا أساتذة لهم أم من أقرانهم، وهذا رغبة منهم في أن تخلو مصنفاتهم- ما أمكن- من الخلل والزلات، وهو منهج عريق في تصحيح المؤلفات والمصنفات والاستدراك عليها، ونجده اليوم في الأبحاث المحكَّمة التي تنشرها المجلات العلمية المتخصصة. ومن قبله عرض الإمام مسلم صحيحه على أبي زرعة، قال الإمام مسلم: عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي، فكل ما أشار أن له علة تركته، وكل ما قال إنه صحيح وليس له علة خرجته.
وتشتمل سنن ابن ماجه على اثنين وثلاثين كتابا، وألف وخمسمئة باب، وقد حقق سننَ ابن ماجه صديق والدي الأستاذُ محمد فؤاد عبد الباقي، وكان رحمه الله يصوم الدهر وتوفي عام 1388 = 1968 وقد قارب التسعين، وطبعتها مطبعةُ عيسى البابي الحلبي وأولاده في القاهرة عام 1372، وأحصى الأستاذ عبد الباقي أحاديث سنن ابن ماجة إحصاءً دقيقاً، فكان مجموعها 4341 حديثاً، منها 3002 حديث أخرجها أصحاب الكتب الخمسة كلهم أو بعضهم، وباقيها وعددها 1339 حديثاً هي الزوائد على ما جاء بالكتب الخمسة، ومن هذه الزوائد 428 حديثاً رجالها ثقات صحيحة الإسناد، ومنها 199حديثاً حسنة الإسناد، ومنها 613 حديثاً ما بين واهية الإسناد أو منكرة أو مكذوبة.
ولابن ماجه أيضاً كتاب تفسير القرآن ضخم مما لم يُعثر عليه، وقد أثنى عليه الإمام الحافظ ابن كثير الدمشقي المتوفى سنة 774، في كتابه البداية والنهاية، ووصفه بأنه تفسير حافل، كما ذكر الحافظ الـمِزِّي، يوسف بن عبد الرحمن المتوفى سنة 742، في كتابه تهذيب الكمال في أسماء الرجال أنه رأى جزأين منتخبين من هذا التفسير، مما يشير إلى ضخامة هذا التفسير.
وألف ابن ماجه كتابه تاريخ قزوين، مؤرِخاً لبلده على الرجال والأمصار من لَدُنِّ الصحابة إلى عصره، ولم يصلنا هذا الكتاب كذلك.
ولابن ماجه أخ محدث كذلك هو أبو محمد الحسن بن يزيد بن ماجه القزويني، المتوفى بعد سنة 280.
ومما تجدر الإشارة إليه أن أهم راوٍ عن ابن ماجه هو الإمام الحافظ أبو الحسن القطان القزويني، علي بن إبراهيم المولود سنة 254 والمتوفى سنة 345، أي أن سنه كانت 19 عاماً عند وفاة ابن ماجه في سنة 273، فتأمل متى بدأ في طلب العلم ورواية الحديث حتى أصبح وهو شاب راوي ابن ماجه، ثم تابع الرحلة وطلب العلم حتى صار إمام قزوين في علوم التفسير والفقه والنحو واللغة.
ولما توفي ابن ماجه رثاه أحد شعراء قزوين محمد بن الأسود القزويني بأبيات غير مألوفة لا قافية لها فقال:
لقد أوهى دعائمَ عرشِ علمٍ ... وضعضع ركنه فَقْدُ ابن ماجه
وخاب رجاء ملهوف كئيب ... يداويه من الداء ابن ماجه
ألا لله ما جَنَتِ المنايا ... علينا بخطفها مِنَّا ابن ماجه
محمد الذي إن عُدَّ يوماً ... مصابيح الدجى عد ابن ماجه
ومن لمصنفات مسندات ... ومنتخباتها بعد ابن ماجه
ومن يُعطى الذي أعطاه ربى ... من التمييز والفقه ابنَ ماجه
فمن يرجى لعلم أو لحفظ ... بشرحٍ بَيِّنٍ مثلُ ابن ماجه
فما أدرى لمن آسى حياتي ... لفقدي العلم أو فقدي ابن ماجه
لئن جُرِّعتَ كأساً للمنايا ... لقد جَرَّعتَ حُزنا يا ابن ماجه
يذكرنيك آثار حسان ... وود خالص لي يا ابن ماجه
ألا لا ريب ما ترني وأني ... بأني لاحق بك يا ابن ماجه
فأسكنك المليك جنان عدن ... ولقّانيكَ فيها يا ابن ماجه
أيا عبد الاله مضيت فرداً ... وما خلّفتَ مثلك يا ابن ماجه



الجمعة، 3 يوليو 2015

حدث في السادس عشر من رمضان

في السادس عشر من رمضان من سنة 394 عيَّن الخليفةُ الفاطمي الحاكم بأمر الله القاضيَ عبدَ العزيز بن محمد بن النعمان بن محمد بن منصور بن أحمد بن حَيّون القيرواني المغربي الإسماعيلي في منصب قاضي القضاة في الدولة الفاطمية، وهو سليل أسرة عريقة في خدمة الدولة الفاطمية العبيدية، وقصة تعيين القاضي ثم إعفائه ثم قتله تعطي فكرة جيدة عن التخبط ونزعة القتل الذين سادا في الدولة العبيدية الفاطمية في عهد الحاكم بأمر الله.
وكان القاضي بمصر قبل الدولة الفاطمية هو المحدِّث أبو الطاهر الذُّهْلِي البصري المالكي، محمد بن أحمد المتوفى سنة 367 عن 88 عاماً، وأصله من البصرة، وولي القضاء في العراق ثم جاء إلى مصر فعينه كافور الإخشيدي بها قاضياً سنة 348، ولما انتهى أمر الدولة الإخشيدية وجاء المعز لدين الله إلى مصر في سنة 362، اجتمع المعز بأبي الطاهر، فأعجب به، وأقره على منصبه، وأشرك معه النعمان بن محمد جد القاضي موضوع حديثنا، وكان قاضي عسكر المعز، وكان مالكي المذهب ثم انتقل إلى المذهب الفاطمي، وله مؤلفات في الفقه والدعوة الفاطمية، وله ردود على المخالفين: له رد على أبي حنيفة وعلى مالك والشافعي وعلى ابن سُريج، وكتاب اختلاف الفقهاء ينتصر فيه لأهل البيت، وله القصيدة الفقهية لقبها بالمنتخبة.
 ثم مات النعمان سنة 363 فأمر المعزُ ابنَه عليَّ بن النعمان بالنظر في الحكم، وكان يحكم هو وأبو الطاهر، وكان في سجل تعيين عليٍّ: إذا دُعي أحدُ الخصمين إليك ودُعي الآخر إلى غيرك، رُدَّا جميعاً إليك، فعرف أبو الطاهر أن ذلك إشارة إلى منعه، فامتنع عن النظر في القضايا من يومئذ، وأراد بعض أهل البلد أن يستصدر مرسوماً لأبي الطاهر بأن ينظر في الحكم على حاله، وبلغ ذلك أبا الطاهر فامتنع وقال: ما أفعل، وَمَا بي طاقة. وتوفي المعز سنة 365 وتولى ابنه العزيز بالله، وأصيب أبو الطاهر بشلل نصفي وصار يُحمل في محفة، فلقيه العزيز بالله على تلك الحالة محمولاً، وسأله القاضي أن يأذن له في استخلاف ولده أبي العلاء نيابة عنه بسبب ما به من الضعف، فقال العزيز وقد رآه نحيلاً جداً: ما بقيَ إلا أن تُقدِّدوه! ثم صرفه وعيَّن علي بن النعمان عم القاضي محمد وذلك في سنة 366.
فركب عليّ بن النعمان إلى الجامع الأزهر في جمع كثير، وعليه خلعة مُقلَّداً سيفاً، وبين يديه خلع في مناديل عدتها سبعة عشر منديلاً، وقرئ سجله بالجامع وهو قائم على قدميه، فكلما مر ذكر المعز أو أحد من أهله أومأ بالسجود، ثم توجه إلى الجامع العتيق بمصر فوجد الخطيب ينتظره بالجامع، وقد كاد الوقت أن يخرج، فصلى الجمعة وقرأ أخوه محمد عهده، وفيه أنه ولي القضاء على مصر وأعمالها، والخطابة والإمامة والقيام في الذهب والفضة، والموازين والمكاييل، ثم انصرف إلى داره فركب إِليه جماعة الشهود والأمناء، والتجار ووجوه البلد، ولم يتأخر عنه أحد، وانبسطت يد عليّ بن النعمان في الأحكام، واستخلف أخاه محمداً، والحسن بن خليل الفقيه الشافعي، وشرط عليه أن يحكم بمذهب الإسماعيلية لا بمذهب الشافعي.
ثم توفي علي بن النعمان في سنة 374،  فعين العزيز أخاه محمد بن النعمان والد القاضي عبد العزيز، وقُرئ عهده في الجامع بعد صلاة الجمعة بالقضاء على الديار المصرية والإسكندرية والحرمين وأجناد الشام، وفُوّض إليه الصلاة وعيار الذهب والفضة والمواريث والمكاييل، وذكر العزيزُ في سجِلّه أباه وأخاه فأثنى عليهم.
واستخلف محمد بن النعمان ابنَ أخيه الحسين بن علي بالجامع في الحكم، ثم صرفه وعين ابنه عبد العزيز، وكان محمد بن النعمان أهلاً لهذا المنصب، قال عنه ابن زولاق في أخبار قضاة مصر: ولم نشاهد بمصر لقاض من القضاة من الرياسة ما شاهدناه لمحمد بن النعمان، ووافق ذلك استحقاقاً، لما فيه من العلم والصيانة والتحفظ وإقامة الحق والهيبة.
وكان القاضي محمد بن النعمان خبيراً بالأحكام حسن الأدب والمعرفة بأيام الناس، نبيهاً في ما يرد عليه من قضايا، تقدمت إليه امرأة طالبت زوجها بحقها فامتنع من دفعه لها، فسألت القاضي أن يحبسه فأمر بذلك، ثم نظر إليها فوجدها جميلة وظهر عليها السرور، فلما توجه الزوج إلى الحبس أمر القاضي بحبسها مع زوجها، فغضبت، فقال لها: حبسناه لحقكِ ونحبسكِ لحقِّه. فلما تحققت ذلك أفرجت عنه، فلما توجهت قال القاضي: رأيتها فرِحتْ بحبسه فخشيت أنها تخلو بنفسها لغيبة زوجها.
وزوَّج القاضي محمد بن النعمان ابنه عبد العزيز من ابنة القائد جوهر الصقلي في سنة 375، وتم العقد في مجلس العزيز بالله، وكان الصداق ثلاثة آلاف دينار.
وفي سنة 386 توفي العزيز بالله، وتولى الخلافة الحاكمُ بأمر الله، وعمره آنذاك 11 عاماً، ثم توفي محمد بن النعمان في سنة 389، وركب الحاكم إلى داره بالقاهرة، وصلى عليه فيها ووقف على دفنه ثم انصرف إلى قصره، ثم ولَّى الحاكم بأمر الله ابنَ أخي القاضي الحسينَ بن علي بن النعمان، وقلده سيفا وخلع عليه ثياباً بيضاء ورداء وعمّمه بعمامة مذهبة، وقرئ عهده بولاية القضاء بالقاهرة ومصر والإسكندرية والشام والحرمين والمغرب وأعمال ذلك، وأضيفت إليه الصلاة والحسبة، فركب إلى الجامع، واستخلف على الحكم الحسين بن محمد بن طاهر بمصر، وبالقاهرة مالك ابن سعيد الفارقي، وأقام النعمان أخاه في النظر في المعيار، فأضاف إليه قضاء الإسكندرية. وكان الحسين فقيهاً في أئمة الشيعة العبيديين، وكان الناس يظنون أنه لا يتولى القضاء لضعف حاله، وأن الولاية إنما هي لعبد العزيز بن محمد ابن عمه لـمّا كان أبوه قدمه في الحكم في حياته وهذَّبه ودربه.
ثم رفع جماعة من الناس للقاضي الجديد أن لهم ودائع مودعة لدى القاضي المتوفى، فأحضر القاضيُ ابنَ عمه عبد العزيز بن محمد بن النعمان، وكاتِبَ عمه، وسألهما عن ذلك، فذكرا له أن عمه تصرف في ذلك كله على سبيل القرض، فأنكر عليهما ذلك، واشتد في المطالبة، وألزم عبد العزيز ببيع ما خلفه أبوه، فاستدعى القاضي أصحاب الحقوق فوفاهم حقوقهم، وقرر في زقاق القناديل موضعاً لودائع القضاة، وأقام خمسة من الشهود يضبطون ما يحضر ويصرف، وهو أول من أفراد للمودع الحكمي مكاناً معيناً، وكانت الأموال قبل ذلك تودع عند القضاة أو أمنائهم.
وباشر الحسين بصرامة ومهابة، وتقدم إليه شخص في خصومة، فزلَّ لسانه بشيء خاطب به القاضي فأغضبه، فأرسل إلى والي الشرطة، فضربه ألفاً وثمانمئة دُرَّة، وطيفَ به فمات من يومه، وأخرجت جنازته فحضرها أكثر أهل البلد، وكرموا قبره، والدعاء له، وعلى من ظلمه. وندم القاضي على ما فعل، وفاته الندم.
وفي سنة 393 أذِنَ الحاكم بأمر الله لعبد العزيز بن محمد بن النعمان أن يجلس للقضاء ويسمع الدَّعْوَى والبينة، مع استمرار الحسين بن علي بن النعمان على وظائفه، فرتب عبد العزيز له مساعدين يحضرون مجلسه، وشرط عليهم ألا يحضروا مجلس ابن عمه، فبقي الناس في أمر مَريج، فمن رفع قِصة إلى الحسين رفع غريمه قصة إلى عبد العزيز، وإذا حضر عبد العزيز إلى الجامع تخلو دار الحسين، فكثر الكلام في ذلك والخوض فيه، فكتب الحاكم بخطه سجلاً أنه لم يأذن لغير الحسين أن يشارك الحسين فيما فُوِضَ إليه، وأمر بأن يمنع من يُسَجِلُ على غيره في شيء من الأحكام، وأن من دعا أحداً من الخصوم، وكان قد سبق إلى الحسين فلا يُمكِّن أحداً منه، وقرئ هذا السجل على الملأ، وانشرح خاطر القاضي بذلك.
ثم لم يشعر الحسين وهو بداره في أواخر سنة 394 إلا وقد دخل عليه من أخبره أن ابن عمه عبد العزيز ولي القضاء، فأنكر ذلك إلى أن تحقق، فأغلق بابه ولزم بيته، واشتد خوفه، ثم أمر الحاكم به في أول سنة 395 فأُحضر على حمار نهاراً، وضربت عنقه هو وأبو الطاهر المغازلي، ومؤذن القصر، وأحرقت جثث الثلاثة عند باب الفتوح بالقاهرة.
قالوا: وكان من أسباب قتله قصة الرجل الذي ضربه والي الشرطة فمات، وكذلك أن الحاكم كان قد ملأ عينه ويده، وأمر أن يُضعَّف للحسين أرزاق عمه وصلاته وإقطاعاته، وشرط عليه العفة عن أموال الناس، وألا يتعرض من أموال الرعية لدرهم فما فوقه، فرفع شخص متظلم إلى الحاكم رقعةً يذكر فيها أن أباه مات، وترك له عشرين ألف دينار، وأنها كانت في ديوان القاضي حسين، وكان ينفق عليه منها مدة معلومة، فحضر يطلب من ماله شيئاً فأعلمه القاضي أن الذي له نفد، فاستدعى الحاكمُ القاضيَ فدفع إليه الرقعة، فأجابه بما قال للرجل، وأن الذي خلفه أبوه استوفاه من نفقته، فأمر الحاكم بإحضار ديوان القاضي في الحال، فأحضر ففتش فيه عن مال الرجل، فظهر أنه إنما وصل إلى القليل منه، ووجد أكثر باقٍ. فعدد على القاضي ما كتبه له وأجراه عليه، وإكرامه إياه، وما شرط عليه من عدم التعرض لأموال الرعية، فجزع وهاله ذلك، وقال: العفو وأتوب. وانصرف بالرجل فدفع إليه ماله وأشهد عليه. فحقد الحاكم عليه ذلك، فأمر به فحبس، ثم أخرج بعد ذلك على حمار نهاراً، والناس ينظرون إلى أن ساروا به إلى المنظرة، فضربت عنقه، وأحرقت جثته. وكانت ولايته القضاء خمس سنوات ونصف السنة.
تولى عبد العزيز بن محمد بن النُّعمان القضاء سنة 394 وقد قارب الأربعين من عمره، وأُضيف إليه النظر فِي المظالم، ولم يجتمعا قبله لأحد من أهله، وخُلعت عليه الخلع على العادة، ودخل إلى الجامع فحضر في موكب حَفِلٍ، وقرئ تقليده على المنبر وجاء فيه: قاضي القضاة عبد العزيز، قاضي عبدِ الله ووليه منصور أبي علي، الإِمام الحاكم الأمير المؤمنين - صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين - على القاهرة المُعِزِّية ومصر والإسكندرية والحرمين وأجناد الشام والرحبة والبرقة والمغرب وأعمالها، وما فتحه الله وما يسَّر فتحه لأمير المؤمنين من بلدان المشرق والمغرب.
وكان عبد العزيز - كآل بيته - عالماً بالفقه على مذهب الإمامية العبيدية، ولا غرو فجده النعمان رأسُ فقهائهم وألَّفَ وابنُه عليٌّ من بعده الكتاب المسمى البلاغ الأكبر والناموس الأعظم في أصول الدين، وقد رد على هذا الكتاب القاضي أبو بكر الباقلاني، وقال عنه ابن كثير: فيه من الكفر ما لا يصل إبليس إلى مثله! وفوض الحاكم بأمر الله إلى عبد العزيز النظر في تركة حسين بن علي بن النعمان بعد قتله.
وكان أول أحكام عبد العزيز أنه أوقف جميع الشهود الذين قَبِلَهم ابنُ عمه الحسين، واستخلف غيرهم ممن يرضاهم، فلازم الشهودُ الذين لَمْ يقبلهم بابَه، فأرسل إليهم أنه قد كثر تطارحكم عليَّ وتشفعكم في قبول الشهادة، فيلزم كل واحد منكم شغله، فمن احتجت إلى شهادته منكم أنفذت إليه. فانصرفوا عنه، فلما كان بعد شهرين طلبهم واستحلفهم أنهم ما كانوا سَعوا فِي طلب الشهادة عند ابن عمه ولا رَشَوْهُ ولا غرّوا لَهُ، فحلفوا على ذلك فقبلهم. ومن أول ما فعله هو الإنكار على الكتاب ومن يجري مجراهم في أخذ شيء من البراطيل ونحوها.
وقرَّب الحاكمُ بأمر الله القاضيَ عبدَ العزيز قُرباً لم يسبقه إليه أحد، وأصعده معه على المنبر في الجُمع والأعياد على العادة، وجعله من خاصته في مجالسة الحاكم وخروجه، فاحتاج القاضي إلى الإذن لولده القاسم الأكبر في الحكم بالجامع وكان يجلس فيه لسماع الأحكام، والفصل بين الخصوم، وصار الناس يترددون في أمورهم منه إلى أبيه ومن أبيه إليه، وامتدت يد القاضي عبد العزيز في الأحكام وعلت منزلته، وارتفعت كلمته وتعزز على جميع أهل الدولة، واتفق أن بعض الكُتاميين من البربر كان عليه حق فامتنع من أدائه، وكان عنده شدة بأس وعجرفة، فرُفِعَ أمره إلى القاضي، فأنفذ إليه رسولاً فأهانه، فرفع الأمر للحاكم فأمر بإحضار الكتامي مسحوباً إلى القاضي بمصر، ثم أحضر إلى القاهرة ماشياً، وألزم بالخروج مما عليه.
وعهِدَ الحاكم بأمر الله للقاضي عبد العزيز بكثير من المهام، وقدَّمه في الصلاة على جماعة من أوليائه، جرت العادة بأنه لا يصلى عليهم إلا الخليفة، وأوكل إليه النظر على دار العلم التي أنشأها وكان الحاكم بناها وأتقنها وجعل فيها من كتب العلوم شيئاً كثيراً، وأباحها للفقهاء وأن يجلسوا فيها بحسب اختلاف أغراضهم من نسخ ومطالعة وقراءة، بعد أن فُرِشت وعلقت الستور على أبوابها، ورُتِّبَ فيها الخدام والفراشون، كذلك أمره الحاكم بالنظر في المساجد، وتفقد أوقافها وجمع رّيْعها وصرفه في وجوهه، ففعل ذلك وبالغ فيه، وأفرد لذلك شاهدين يضبطانه.
وكانت العادة في مصر الفاطمية أنه في يوم عاشوراء تُعَطَّلُ الأسواق ويخرج المنشدون إلى جامع القاهرة، وينزلون مجتمعين بالنوح والنشيد، وينشدون المراثي في الشوارع، وتخرج النساء للنَّوْح والبكاء على الحسين، وتمد الغوغاء أيديها إلى أمتعة الباعة، فرفعوا ذلك إلى الحاكم في سنة 396، فأمر القاضي أن يمنع النساء والناس من المرور في الشوارع وأن يقتصر النوح والنشيد بالصحراء، فجمع القاضي عبد العزيز بن النعمان المنشدين الذين يتكسبون بالنوح والنشيد وقال لهم: لا تُلزِموا الناسَ أخذَ شيء منهم إذا وقفتم على حوانيتهم، ولا تؤذوهم، ولا تتكسبوا بالنوح والنشيد، ومن أراد ذلك فعليه بالصحراء. ثم اجتمع بعد ذلك طائفة منهم يوم الجمعة في الجامع العتيق بعد الصلاة، وأنشدوا، وخرجوا على الشارع بجمعهم، وسبوا السلف، فقبضوا على رجل، ونودي عليه: هذا جزاء من سب عائشة، وزوجُها صلى الله عليه وسلم، وقُدِّم الرجلُ بعد النداء، وضربت عنقه.
ولانشغال عبد العزيز بخدمة الحاكم وملازمته، استأذن الحاكم أن يستخلف نائبه مالك بن سعيد بن مالك الفارقي نائباً عنه إذا انشغل بالركوب إلى مجلس الحكم، فأذن له.
وفي منتصف سنة 398 شاع بين الناس أن القاضي عبد العزيز ابن النعمان قد عُزِل، وأن خليفته هو مالك بن سعيد، فارتفع النهار ولم ينزل إلى مجلس الحكم، إلى قرب الظهر، ثم نزل وحكم وصلى بالناس الظهر إلى أن انصرف بمفرده، من غير حاجب ولا رِكَابيّ حتى دخل داره، ودعا الحاكم بأمر الله كبار رجال الدولة إلى اجتماع في قصره في اليوم التالي، فحضروا ومن بينهم مالك بن سعيد، فقُلِّد جميع ما كان بيد عبد العزيز، ووكانت مدة ولاية عبد العزيز قرابة 4 سنوات.
وعزل الحاكم كذلك قائد القواد حسين بن جوهر، وهو أخو زوجة القاضي، وأمره والقاضي عبد العزيز بن النعمان بأن يلزما داريهما، ومُنِعا من الركوب وسائر أولادهما، فلبسوا الصوف وامتنع الداخل إليهم، وجلسوا على الحُصر، ثم عفا الحاكم عنهما بعد أسبوعين وأذن لهما في الركوب فركبا إلى القصر بزيهما من غير حلق شعر ولا تغيير حال.
ولما عين الحاكمُ بأمر الله مالكَ بن سعيد بن مالك الفارقي قاضياً محل القاضي المعزول عبد العزيز بن محمد بن النعمان، جرى ذلك وفقاً لمراسم منضبطة، فقد قُرِئ مرسوم تعيينه بالقصر وهو قائم على رجليه، وكان القاضي كلما مرّ ذكر الحاكم في السِّجل قَبَّل الأرض، فلما فرغ خُلع عليه قميص مصمت وغلالة وعمامة وطيلسان كلها مذهبة، وقُلِّدَ سيفاً وخرج وبين يديه بقجة ثياب، وقُدّمت له بغلة مسرَجة، وسيقت بين يديه بغلتان كذلك، فتوجه ومعه الناس إلى المسجد الجامع بمصر ولم يتأخر عنه أحد من وجوه البلد. وقُرىء سِجِله بالجامع أيضاً وهو قائم، وكلما مَر ذِكرُ الحاكم قبّل الأرض.
ورُفعت إلى مالك بن سعيد شكوى على القاضي قبله عبد العزيز بن محمد بن النعمان، فأحضره إلى داره فأدُّعيَ عليه والتُمس يمينه، وتسامع الناس بذلك فحضر جمع كثير مِمَّن في قلبه غيظ على القاضي المعزول، فادَّعوا عليه بدعاوي كثيرة أنكرها كلها، فاستحلفوه، فحلّفه مالك بن سعيد ولم يُغلّظ عليه الأيمان، إلا أنه قال له: قل: والله الذي لا إله إلا هو إني بريء من دعواهم براءةً صحيحة. فحلف وانصرف.
واستمر القاضي عبد العزيز بعد عزله يتردد إلى القصر خائفاً يترقب القتل، وفي منتصف سنة  399 ركب مع أخي زوجته القائد حسين بن جوهر على عادتهما، فسلما وانصرفا، فأَرسل الحاكم إليهما، فحضر عبد العزيز أولاً فاعتقل، ورجع خادمه ببغلته، واختفى القائد وولده فكُسِر بابُه، وحرّض الحاكم على تحصيله فتعذر عليه، فأمر بإِطلاق عبد العزيز، فرجع إلى منزله وقد أقام أهله عليه العزاء، فسكَّنهم، وكان الباعة في أسواق القاهرة قد أغلقوا حوانيتهم فأمرهم بفتحها، ثم بعد ثلاثة أيام حضر القائد بالأمان، فخلع عليه وعلى عبد العزيز خلعاً سنية وحملت قدامَهُما ثياب كثيرة، وحُمِلا على فرسين، وأعاد الحاكم النظر فِي المظالم إلى القاضي عبد العزيز، وقرئ سجله وخلع عليه خلعاً وطيلساناً، وحمل عَلَى بغلته وبين يديه أخرى، وحمل بين يديه سفَط ثياب، فاستمر بضعة أشهر ثم نُحِّيَ في أول سنة 400 وضُرب على باب داره لوح بمصادرتها باسم الديوان.
وفي هذه السنة زوّج القاضيُ ولديه بابنتي القائد فضل بن صالح، وكان من القواد الذين أبلوا بلاءً حسناً في قتال المتمردين على الحاكم ثم قتله الحاكم في السنة السابقة، ورغم أن القاضي كان معزولاً إلا أن العقد تم بقصر الحاكم وكان الصداق أربعة آلاف دينار أنعم الحاكم بها من بيت المال.
وفي أواخر سنة 400 قتل الحاكمُ مجموعة من رجال أسرة ابن المغربي، وهي أسرة عريقة في الوزراة خدمت العباسيين والحمدانيين، فقد قتل الوزيرَ علي بن الحسين وأخاه وابنيه، ففر ابنه أبو القاسم الحسين بن المغربي المعروف بالوزير المغربي في زي حمال إلى الرملة قبل أن يلتحق بالعراق، وتوجس خيفة من هذه الأحداث القاضي عبد العزيز والقائدُ حسين بن جوهر وأحسا أن الحاكم يبيت الغدر بهما، فهرب القاضي وقائد القواد وأتباعهما وصَحِبَهما جماعة، ومعهما من الأموال شيء كثير، إلى قرية دُجوة شمالي القاهرة، فلما بلغ الحاكم ذلك سير الخيل في طلبهم فلم يدركهم، وأشيع أنّهم احتموا ببني قرّة بالبحيرة، فختم على دورهما، وأمر مالكَ بن سعيد الفارقي بضبط ما فيهما وحَمْلِه إلى الديوان المفرد، وهو ديوان أحدثه الحاكم يتعلّق بما يقبض من أموال من يسخط عليه، وأرسل فأنفدت إليهما الكتب بالأمان واستدعائهما للعودة.
ويزعم بعض المؤرخين أن بطش الحاكم بهؤلاء كان بتأثير كاتب نصراني استوزره الحاكم بأمر الله وهو أبو نصر بن عبدون، ولعل مما يؤكد ذلك أن الحاكم عَهِدَ إليه ليمثله في المفاوضات التي أجراها مع الوزير والقائد ليعودا إلى القاهرة بالأمان والعهود، فأبى القائد ابن جوهر أن يدخل ابن عبدون واسطة، وقال: أنا أحسنتُ إليه، فسعى فيَّ إلى أمير المؤمنين ونال مني كل منال، لا أعود أبداً وهو وزير!
وفي أول 401 عزل الحاكم أبا نصر بن عبدون وخلع على أحمد بن محمد القشوري الكاتب، وقرئ سجله في القصر بأنه تقلد الوساطة بين أولياء أمير المؤمنين الحاكم وبينه، ونجحت وساطة القشوري ورجع القائد حسين والقاضي عبد العزيز ومن خرج معهما، فنزل سائر أهل الدولة إلى لقائهما، وتلقتهما الخلع، وأفيضت عليهما وعلى أولادهما، وعندما وصلوا إلى باب القاهرة ترجلوا ومشوا، ومشى معهم سائر الناس إلى القصر؛ فمثلوا بحضرة الحاكم، ثم خرجوا وقد عفى عنهم، وحمل إليهما جميع ما قبض من مال وغيره، وأنعم عليهما.
وكتب الحاكم أماناً بخطه للمعزول ابن عبدون، وأثنى عليه بقوله: ما خدمني أحد ولا بلغ في خدمته ما بلغه ابن عبدون، ولقد جمع لي من الأموال ما هو خارج في أموال الدواوين ثلثمئة ألف دينار. ولم تطل الأيام بابن القشوري أكثر من عشرة أيام، فبينا هو يوقع إذ قبض عليه وضربت رقبته، فقد بلغ الحاكم عنه أنه يبالغ في تعظيم حسين بن جوهر، وأكثر من السؤال في حوائجه، ثم اعتقل ابن عبدون، وضربت عنقه وقبض ماله.
ولازم القاضي عبد العزيز وصهره القائد حسين الخدمة قرابة شهرين يترددان فيها على الديوان، إلى أن حضرا ذات يوم للخدمة، فلما أرادا الانصراف بعث إليهما زرعة بن نسطورس يقول إن الخليفة يريدكما لأمر، فجلسا حتى انصرف الناس، فقُتلا وقتل معهما أبو علي الحسين أخو القائد الفضل بن صالح، قتلهم جماعة من الأتراك في الدهليز، وأحيط في الحال بأموالهم وضياعهم ودورهم؛ فوُجِدَ لحسين بن جوهر في جملة ما وجد سبعة آلاف مبطنة حريرا من سائر أنواع الديباج والعتابي وغيره، وتسع مثارد صيني مملؤة حب كافور قنصوري وزن الحبة الواحدة ثلاثة مثاقيل، وأُخذت الأمانات والسجلات التي كتبت لهما، واستدعى الحاكم أولادهما ووعدهم بالإحسان والجميل وخلع عليهم، وحملهم على دواب.
ومن المفيد ذكره ان الخليفة الفاطمي الظاهر لإعزاز دين الله والذي تولى الخلافة بعد اختفاء الحاكم وقتله سنة 411 عين في سنة 418 القاسم الابن الأكبر للقاضي عبد العزيز في منصب قاضي القضاة ثم صرفه سنة 419، وعين محله عبد الحاكم بن سعيد الفارقي، أخا القاضي مالك بن سعيد الذي تولى القضاء بعد والد القاسم، وكان دنيء النفس طماعاً فصدرت منه تصرفات أدت إلى عزله في سنة 427، وأعيد القاسم ثانية، وطالت مدته إلى أن صرف في سنة 441، ولم يكن القاسم كذلك محمود السيرة،  ولما تولى القضاء خلفاً لعبد الحاكم قال بعض الشعراء فيهما:
ولما تولى ابن عبد العزيز ... قضاء القُضَاة تولى القَضا
وأعقب من بعده الفارِقِيُّ ... فأدبر إِقبالُه وانْقَضَى
وحَطَّ دعائم دين الإله ... وأوقد في الأرض جَمْر الغَضَا
وعاد القضاءُ إلى قاسم ... فأصبح عن رُشده مُعْرِضاً
فَلا ذَا بسيرته يُرتَضَى ... ولا ذَا بتدبيره يُسَتَضَا
فهذا رئيسٌ به لوثَة ... وهذا وَضيعٌ بعيد الرِّضا
فما فيهما أحد يُرْتجى ... ولا فيهما أحدٌ يُرْتَضَى
فلا بارك اللهُ فيمن أتَى ... ولا بارَك الله فيمن مَضَى

 
log analyzer