الجمعة، 27 مارس 2015

حدث في الخامس من جمادى الآخرة

في الخامس من جمادى الآخرة من سنة 1286، الموافق 12 أيلول/سبتمبر 1869، ولد في روما المستشرق الإيطالي لْيونِهْ كايتاني، أو كيتاني، Leone Caetani، مؤسس المدرسة الاستشراقية الجديدة في إيطاليا، وأحد المؤلفين المكثرين في التاريخ الإسلامي وبخاصة باللغة الإيطالية. ومعنى لْيونِهْ بالإيطالية: الأسد.
ولد كايتاني لعائلة من أعرق العائلات الإيطالية النبيلة الثرية، ويعود أصل العائلة واسمها إلى بلدة جاييتا Gaeta الواقعة على البحر المتوسط شمال نابولي، وينتمي إلى عائلته اثنان من من البابوات السابقين، هما البابا جيلاسيوس الثاني الذي تولى البابوية فترة شهور قصيرة قبل موته في سنة 512=1119م، والبابا بونيفاسه الثامن، واسمه بندكيت كايتاني، الذي تولى البابوية من سنة 693=1294 إلى موته في سنة 703=1303، وكان له دور في توطيد مكانة العائلة وثروتها، فقد كان البابا في تلك الحقبة ملكاً دنيوياً وزعيماً روحياً، فعين أفراد عائلته في الجيش وبعض مناصب الدولة، ومنحهم من الإقطاعات ما ينتاسب مع هذه المناصب، كما تسنم بعدها عدد من أفراد الأسرة مناصب هامة في روما والدولة الإيطالية في القرنين الماضيين، وعُرفوا برعايتهم للأدب والفن، وكانت عمته إرسيليا أول امرأة تنال عضوية الأكاديمية الإيطالية، وللعائلة عدة مؤسسات ثقافية في إيطاليا إلى يومنا هذا منها قلعة من القرون الوسطى وحديقة تخلب الألباب.
وكان والده أُنوراتو، المولود في سنة 1842 والمتوفى سنة 1917، يلقب بأمير تيانو الرابع ودوق سيرمونيتا الرابع عشر، وكان وزير خارجية إيطاليا وعضواً في مجلس النواب الإيطالي وانتخب كذلك عمدة لروما، وكان الرئيس الثاني للجمعية الجغرافية الإيطالية، أما أمه فهي ابنة أسرة إنجليزية نبيلة تزوجها والده أثناء إقامة طويلة له في إنجلترا، وكان ليونه أول أولاد خمسة لوالده، فورث عنه اسم الأمير ولقبه الرسمي: دوق سيرمونيتا، وصار أخوه ليفيو سفير إيطاليا في إيران وأخوه جيلازيو سفيرها في أمريكا.
توجه كايتاني لدراسة اللغات الشرقية في سن الخامسة عشرة، ثم تابع ذلك في قسم الآداب من جامعة روما فدرس العربية والعبرية والفارسية والسنسكريتية والسريانية، على يد شيخ المستشرقين المعمَّر إغنازيو جويدي، المولود سنة 1260= 1844 والمتوفى سنة 1354=1935،  وتخرج من قسم الآداب من جامعة روما في سنة 1891، وقام وهو لا يزال طالباً بأولى رحلاته فزار في سنة 1889- 1889 مصر واتجه جنوباً حتى خزانات النيل ثم دخل شبه جزيرة سيناء وزار دير القديسة كاترينا، وعرج في عودته على إزمير فاستانبول فاليونان، وكتب عن رحلته إليها كتاباً صغيراً نشره في سنة 1891 بعنوان: في صحراء سيناء، ثم قام برحلة في آخر سنة 1889 إلى الجزائر وتونس وزار فيها مع دليلين مسلمين من البربر وهران وتلمسان ودخل الصحراء الجزائرية حتى وصل بسكرة وتقرت، ومنها إلى تونس وطرابلس، وفي سنة 1894 قام برحلة ثالثة بدأت من القاهرة فالقدس ثم شكّل قافلته الصغيرة فسافر من القدس إلى دمشق فتدمر فدير الزور، ثم زار اليزيدين في جبل سنجار قرب الموصل ثم عرج على النجف وكربلاء، ثم تابع إلى إيران فزار أهم المدن الإيرانية، ومنها عبر إلى روسيا وعاد منها براً إلى إيطاليا. وفي سنتي 1899-1900 قام كايتاني برحلة في الهند دامت 6 أشهر زار فيها مدنها ومعالمها الإسلامية، وشارك في الصيد بالفهود التي كانت لا تزال باقية في بعض المناطق، وفيها رأى لأول مرة من يفوقه في طوله البالغ 194سم، وفي سنة 1908 قام برحلة إلى مصر والشام دامت بضعة أسابيع زار فيها مواقع المعارك الإسلامية الفاصلة مثل المتعلقة بفتوح مصر والشام مثل أجنادين واليرموك ودمشق.
تزوج كايتاني في سنة 1901 من السيدة فيكتوريا كولونّا التي تنتمي لأسرة رومانية عريقة أخرى، ولكن الزواج لم يكن ناجحاً لاختلاف المزاج بين الباحث المحب للوحدة والذي يدفن نفسه في مكتبته ويأنس بكتبه وأبحاثه، وبين سيدة المجتمع المرموقة التي لا تتخلف عن الحفلات والمناسبات الاجتماعية، ولم ينجبا إلا ولداً وحيداً ذا إعاقة فكرية أرسل إلى مدرسة داخلية في سويسرا ثم توفي بعد العاشرة، ولذا أخفق هذا الزواج، وعاشر كايتاني امرأة أخرى هي أوفيليا فابياني،  وجاءته منها في سنة 1917 ابنته التي أسماها ﺳْﭭْﻴﭭا، وكان من المستحيل آنذاك أن يطلق كايتاني زوجته ويتزوج أوفيليا، كما كان من المستحيل أن تحمل ابنته اسم عائلته، فقد كان المجتمع الإيطالي ملتزماً أشد الالتزام بالتعاليم الكاثوليكية التي تحرم الطلاق، وقد قال عن ذلك كايتاني فيما بعد في رسالة أرسلها إلى صديقه ديلافيدا فقال: لقد اخترت زوجة ليس لديها أية اهتمام بدراساتي التي هي محور تفكيري، ولذا لم تقدم لي من الحياة سوى الحزن والصعوبات. وانتقد النظام الاجتماعي فقال: ولدت بنيتي في ظروف بتعامل معها قانون الأسرة بنفاق شديد القسوة.
وسار كايتاني على نهج أسرته فخاض غمار السياسة وانتمى للحزب الديمقراطي الدستوري، وانتخب نائباً عن روما في البرلمان الإيطالي في سنوات 1909-1913،  وتبدت ميوله الحرة، والتي نبزت بالاشتراكية آنذاك، عندما قامت حكومة رئيس الوزراء جيوليتي بغزو ليبيا في سنة 1911، فقد كان أحد نائبين عبرا عن معارضتهما الصريحة للحرب، ورغم أن إحدى نظريات كايتاني كانت نظرية تقوم على أن الإسلام كان الرد الآسيوي على هيمنة الحضارة الأوربية القائمة على أسس إغريقية رومانية، إلا أنه كان يرى أنه يجب إقامة علاقة حسنة مع العالم الإسلامي، وأن تطور العالم الإسلامي ينبغي أن يكون تطوراً ذاتياً غير مفروض عليه.
واعتبرت الطبقات العريقة تشبيه كايتاني لغزو ليبيا باللصوصية المسلحة خيانة للوطن وعاراً عليها، وتهكم عليه بعض السفهاء من السياسيين فنبزوه بأنه النائب التركي في البرلمان الإيطالي، وبسبب ذلك لم ينجح في انتخابات البرلمان في الدورة التالية، ولم يمنع هذا كايتاني من التطوع في الجيش عندما دخلت إيطاليا الحرب العالمية الأولى في سنة 1915، وخدم في سلاح المدفعية على الجبهة النمساوية في جبال الدولوميت حتى وضعت الحرب أوزارها في سنة 1918.
كان كايتاني عالماً ذا همة عالية ودأب لا ينقطع، موسوعياً مولعاً بالمشاريع الضخمة، وقد خلد ذكره كتابه العظيم: حوليات الإسلام، Annali dell' Islam، الذي صدرت منه 10 مجلدات تغطي السيرة وحياة الخلفاء الراشدين مرتبة على السنوات من السنة الأولى للهجرة إلى سنة 40 للهجرة، وتعد قرابة 5000 صفحة، وكان في مخططه أن يستمر فيها حتى انتهاء الحقبة الأموية في سنة 132، وقدر أن تبلغ 25 مجلداً، والكتاب مزين بالرسوم والخرائط، واستقصى فيه كايتاني ما توفر لديه من المصادر العربية وقارنها بما وصل إليه من المصادر اللاتينية والسريانية، ليصل وفق اجتهاده إلى الحقائق التاريخية أو يقترب منها، وكان يرسل مسودات الطبع إلى عدد من المختصين بالتاريخ ليتفضلوا عليه باقتراحاتهم وملاحظاتهم، وهو في هذا كله ينفق من ماله الخاص، وقد صدر الجزء الأول من الحوليات في سنة 1904، وطبع منه 300 نسخة فقط، وصدر العاشر في سنة 1926، ولكن كايتاني ألفها كلها قبل سنة 1915.
ويبدو أن فكرة تصنيف هذا الكتاب راودت كايتاني منذ سن الدراسة، فجمع منذ ذلك الوقت مكتبة واسعة حول تاريخ الإسلام، وكان في رحلاته يتوخى الوقوف على المواقع التاريخية، فهو مثلاً قد زار مكان موقعتي اليرموك وأجنادين، وتولى كايتاني العمل في كتابه بمفرده في البداية ثم استعان بثلاثة من أمهر دارسي العربية والذين أصبحوا فيما بعد من كبار المستشرقين الإيطاليين، وهم: ميكلنجلو جويدي، المولود سنة 1886 والمتوفى سنة 1940، وجورجيو ليفي دلافيدا، المولود سنة 1886 والمتوفى سنة 1967، وجوزبّه جابريلّي، المولود سنة 1872 والمتوفى سنة 1942، وكلفهم بترجمة بعض المصادر العربية التي احتاج إليها في تآليفه، ولم يكن لهم أي دور في تحرير كتابه.
ولما صدر الكتاب وأحدث وقعاً كبيراً في إيطاليا وخارجها، روج بعض المغرضين إشاعة أن الكتاب من تأليف هؤلاء المساكين الذين استغلهم الأمير الثري ثم وضع اسمه على الكتاب، ولعل للأيدي الفاشية دوراً في ذلك، فقام كايتاني برفع الأمر للقضاء، فشهد هؤلاء الثلاثة أنهم لم يكتبوا كلمة واحدة في تحرير الكتاب، وأن عملهم اقتصر على ترجمة ما كلفهم به كايتاني من نصوص من العربية إلى الإيطالية، وصدر حكم القضاء مؤكداً أن الكتاب من تأليف كايتاني فهو وحده الذي قام بنقد المصادر التاريخية وتصوير الأحداث وتحقيق الوثائق وتحليل المواقف.
وهنا ننقل بتصرف عن كتاب موسوعة المستشرقين للمرحوم الدكتور عبد الرحمن بدوي، المولود سنة 1335=1917 والمتوفى سنة 1323=2002، تقييمه لهذا الكتاب الضخم، يقول: ينزع كايتاني نزعة نقدية مفرطة تتسم بالشك المبالغ فيه أحياناً في قبول وثائق التاريخ الإسلامي، ويهمل الجانب الديني تماماً مع إبراز العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والجغرافية، ولم يحسب أي حساب لتأثير الإيمان بالدين الجديد في نفوس العرب الفاتحين، ولا في تفسير نفوذه أولاً في الجزيرة العربية نفسها.
ثم يقول الدكتور بدوى مبيناً ميزة الكتاب الكبيرة في حينها والنقلة الكبيرة التي أحدثها في منهج دراسة وكتابة التاريخ الإسلامي لدى المستشرقين، وأنه يمثل من أحد جوانبه رد الاعتبار للدين الإسلامي ورسوله، بعد قرون من استصغار الإسلام والتهجم على رسوله الكريم،: والروح النقدية التي سادت نظرة كايتاني إلى السيرة النبوية وأولية الإسلام لم تصدر عن تحامل على الإسلام كما هو الحال عند كثير من المستشرقين، بل عن نزعة وضعية في معالجة أحداث التاريخ على النحو الذي صار شائعاً عند المؤرخين ذوي النزعة العلمية الوضعية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
ونورد مثالاً على النزعة الوضعية ما كتبه في تحليله لحركة الردة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد صنف القبائل العربية من حيث علاقتها بالردة إلى خمسة أصناف، فوضع في الصنف الأول القبائل التي أسلمت منذ مدة طويلة وخضعت لسلطة المدينة خضوعاً تاماً، ووضع في الصنف الثاني القبائل التي تعاقدت مع الرسول واشتركت في المدة الأخيرة في حروبه وقد كان فيها على إسلامها أقلية مختلفة تنتهز الفرص للتملص من سلطة المدينة، ووضع في الصنف الثالث القبائل الساكنة على حدود المملكة الإسلامية، فخضعت هذه القبائل سياسياً لسلطة المدينة، ودفعت الصدقات إلى الرسول، وفيها أكثرية تتحين الفرص للرجوع إلى حالتها القديمة، ووضع في الصنف الرابع القبائل التي لم تخضع لسلطة المدينة، بل اكتفت بإرسال الوفود إلى الرسول وتظاهرت بالخضوع له، وفيها أقلية مسلمة ضئيلة تستند إلى قوة المسلمين في المدينة للاحتفاظ بمنزلتها، وأوفد الرسول إليها عمالاً ليمثلوا الإسلام، وليعلموا المسلمين أمور الدين، ويمثلها بنو حنيفة وعبد القيس وأزد عمان وأكثر قبائل حضرموت واليمن، أما القبائل التي وضعها في الصنف الخامس فهي القبائل التي لم تسلم وكانت نصرانية أو مشركة.
قال المرحوم الفريق طه باشا الهاشمي رئيس أركان حرب الجيش العراقي، بعد أن أورد ما سبق: ولكني لا أجاري المؤرخ الطلياني في تصنيفه هذا؛ فلم يكن تأثير الردة في القبائل على نمط واحد، بل كان الأثر يختلف باختلاف العوامل، والواقع أن الرسول لم يمت إلا وقد ظهرت حركة الردة في القبائل، فمنها من طلب إعفاءه من إعطاء الزكاة، ومنها من امتنع من إعطائها، ومنها من قدّم رِجْلاً وأخّر أخرى في ذلك فأمسك عن الصدقة، وأخيراً منها من ارتد وطرد عمال الرسول أو قتل المسلمين ومثل بهم.
وكان المشروع الثاني لكايتاني هو كتابة تاريخ موجز للإسلام منذ السنة الأولى للهجرة وحتى سنة 922 التي استولى فيها الأتراك العثمانيون على مصر، ولكن لم تظهر منه غير ست كراسات تبدأ في سنة الهجرة وتنتهي في سنة 144.
والمشروع الثالث لكايتاني كان تصنيف معجم الأعلام العربية، وهو معجم أبجدي لأسماء الأشخاص والأماكن المذكورة في كتب التاريخ والتراجم والبلدان، وقد عاونه في هذا العمل المستشرق جوزيِه جابريلّي، ولم يصدر منه سوى مجلدين: المقدمة بقلم جابريلّي ومجلد فيه قسمين من حرف الألف.
والمشروع الرابع لكايتاني خارج عن نطاق الإسلام والعالم الإسلامي وكان يهدف إلى وضع معجم شامل للمؤلفين الإيطاليين ومؤلفاتهم، ولم يصدر منه إلا مجلد واحد وصل فيه إلى أول حرف الباء.
وإلى جانب هذه المشاريع نشر الأمير كايتاني جزءاً من كتاب تجارب الأمم لمسكويه، في شكل صور عن المخطوطة الموجودة في حوزته، ولكنه صدّره بمقدمات مفيدة وذيله بفهرس واسع وهو أمر لم يكن مألوفا في ذلك الوقت، ونشرت الكتاب مبرة جيب الخيرية في سنة 1910 التي أنشأتها والدة المستشرق إلياس جيب تخليداً لذكرى ابنها المتوفى سنة 1901 عن 44 سنة.
جمع كايتاني مكتبة زاخرة بالكتب النفيسة وبالمخطوطات ومصوراتها النادرة، وأضاف إليها ما استنسخه من مكتبة المستشرق الأسباني الأب آسين بلاثيوس، ويذكر الأستاذ الزركلي عدداً من المخطوطات التي حوتها، ولا أدري هل زار مؤسسة كايتاني التي تحويها واطلع عليها، أم نقل ذلك عن غيره، وقد زار كايتاني في سنة 1913 الأستاذ محمد كرد علي ومكث في ضيافته بضعة أيام وضع الأمير تحت تصرفه مكتبته ولم يمنعه من تصوير أو استنساخ ما يريد من كتاب أو مخطوط، وقال عنها في المقتبس: فمن زار هذه المكتبة فكأنه زار مكاتب العالم أجمع واطلع على ما فيها من المواد التاريخية والجغرافية في هذا الباب.
ويقول الأستاذ محمد كرد علي عن كايتاني: والأمير على ما رزق من الشهرة العلمية لجمعه بين المجد التالد والطارف رقيق الحاشية يغلب عليه عدم التكلف، ولما قابلته لأول مرة حاملا إليه من صديقه أحمد زكي باشا العالم المصري كتاب توصية ليقبلني للبحث في مكتبته، اعتذر عن كونه قابلني بثياب عمله، وقال إن عنده شيئا من المخطوطات العربية أخذت بالتصوير الشمسي ولا يدري إن كان فيها حاجتي، على أنه تفضل ودلني على مظانها، وما برح اليوم بعد الأخر يشير علي بالرجوع إلى كتاب كذا ففيه كذا وهو يبش، ويقول في الأحايين إنه مسرور لعثوري على شذرات تهمني، كل هذا وهو لا يضيع دقيقة من وقته الثمين.
وفي آخر سنة 1922 جرت الانتخابات في إيطاليا وأتت نتائجها بموسوليني ليصبح وهو في التاسعة والثلاثين أصغر رئيس وزراء عرفته لحينها إيطاليا، واستغل موسوليني شعبيته العارمة فوطد نزعته الدكتاتورية بتمرير قوانين تمنحه صلاحيات واسعة وتحد من الحريات العامة، وأطلق العنان لسفهاء حزبه لإرهاب معارضيه، ثم أجرى في سنة 1924 انتخابات ثانية سادها التزوير فصار الحاكم الأوحد الذي لا يجرؤ على معارضته أحد.
وحيث كان كايتاني من أعداء النظام الفاشستي الذين جاهروه بعدائهم، فقد قلق كايتاني على مصيره ومصير مكتبته الغنية إزاء نظام تقوده القسوة الغوغائية والحقد على الأحرار، وكانت الأكاديمية الإيطالية، وتدعى أكاديمية لنشاي Academia dei Lincei، قد اختارته عضوا مراسلاً لها في سنة 1911 ثم عضواً كاملاً في سنة 1919، ولذا ارتأى كايتاني أن ينقذ مكتبته بإهدائها للأكاديمية لتكون نواة لمؤسسة كايتاني للدراسات الإسلامية، وأوقف على المؤسسة من أمواله لتؤسس في الوقت المواتي، ولا تزال قائمة في روما إلى يومنا هذا ضمن الأكاديمية، وهنا ينبغي أن نذكر للطرافة أن اسم الأكاديمية مشتق من حيوان الوَشَق، وقد أطلق عليها هذا الاسم عند تأسيسها في سنة 1603إذ توسم مؤسسوها أن يكون أعضاؤها حديدي البصر مثل ما يعرف عن هذا الحيوان.
وكانت هذه القشة التي قصمت ظهر صبر كايتاني، فقد كان مهموماً أن تنشئة بنيته في وسط علية القوم ستعرضها للغيبة والازدراء والنظرات الساخرة، وأنها لن تحمل اسم كايتاني، ولذا قرر كايتاني في سنة 1927 أن يهاجر إلى كندا التي كان قد زارها في سنة 1890، فباع حصته من أملاك العائلة في إيطاليا، واشترى مزرعة في بليدة فرنون الصغيرة في غربي كندا في مقاطعة بريتش كولومبيا، ولعله اختارها لأن تضاريسها الجبلية تشبه أملاك العائلة في إيطاليا، وعاش فيها مع زوجته الثانية وابنته، ويبدو أن ذلك كانت نهاية النشاط العلمي الاستشراقي للأمير كايتاني، فلم يصدر له بعدها أي كتاب، وترك جزازاته الهائلة لدى الأكاديمية، وبقيت فيها دون تصنيف حتى سنة 2004 عندما قامت باحثة إيطالية بتصنيفها تحت إشراف المستشرقة فالنتينا ساجاري روسّي في كتاب يقارب 600 صفحة، وكانت له مساهمات في مجلات أدبية إيطالية تحت اسم مستعار، كان آخرها على مايبدو في سنة 1929.
وانقطعت صلة كايتاني بالوسط الثقافي في إيطاليا إلا قليلاً منهم صديقه جورجيو ديلافيدا الذي عانى كذلك من النظام الفاشي لكونه يهودياً، وقد أرسل ديلافيدا رسالة لكايتاني أجابه عليها برسالة مطولة نادرة قال فيها:  إنه بعد أن عمل في الزراعة وجد أنها لا تناسبه فاتجه لبيع الحطب من الأحراش الواسعة، ثم يقول بعاطفة الأب الحنون: إنه قد نذر نفسه لابنته المفعمة بالحيوية والبالغة الذكاء، وإن سعادتها تعوضه عن كل ما خسره في تركه إيطاليا، ثم قال إن مكسبه الكبير بعد ابنته هو في الوحدة والتأمل وقربه من الطبيعة، ثم ينعي على البشرية وبخاصة مثقفيها لأنهم لم يتطوروا من حالة الإنسان البدائي، ويتحدث عن حنينه لإيطاليا التي لن يراها إذ لا تزال الفاشية في إيطاليا تريد من المثقف أن يكون عبداً مسخراً لها، ولكن يأبى المثقف ألا أن يتمرد ليبقى حراً، ويضرب على هذا بعض الأمثلة منها النزاعات الدموية التي دامت قرناً بين الحنابلة في بغداد وبين ما أسماه المدارس الأكثر تقدمية.
ولما حصل كايتاني على الجنسية الكندية في سنة 1935، واتت الفرصة الحكومة الفاشية في إيطاليا، فجردته من جنسيته الإيطالية وفصلته من الأكاديمية الإبطالية، ولكنه ما لبث أن توفي بالسرطان في مدينة فانكوفر في 25 كانون الأول/ديسمبر 1935، وأقامت ابنته الرسامة والشاعرة، التي توفيت سنة 1977، في المزرعة مؤسسة ثقافية خيرية في فيرنون لا تزال إلى اليوم تحمل اسم العائلة، وفي مقبرة فرنون يوجد قبر بسيط يحمل ثلاثة بلاطات متوسطة من الرخام تشير إلى أنه يضم الأم والأب والبنت.
وينبغي أن نذكر هنا أن الأستاذ الزركلي في الأعلام ذكر أن وفاة كايتاني كانت في روما في سنة 1926، وهو في ذلك ناقل عن نجيب العقيقي في كتابه المستشرقون، ولكن الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه موسوعة المستشرقين يورد الترجمة حياته بتفاصيل دقيقة وصحيحة تؤكدها المصادر الإيطالية والأفرنجية.
وجاء بعد كايتاني فوج من المستشرقين الإيطاليين الذين ساهموا في التحقيق والأبحاث التاريخية والأثرية، وساعد في ذلك احتلال إيطاليا لليبيا ومحاولة استعمارها، وكذلك العلاقات التجارية الوثيقة بين مصر وإيطاليا والتي زادتها قوة العلاقة الشخصية بين حكام مصر من أسرة محمد علي مع ملوك إيطاليا، ولما تخلت إيطاليا عن أطماعها الاستعمارية وكادت علاقاتها مع العالم العربي تقتصر على التجارة، وزاد اهتمامها بمحيطها الأوربي، كان من المحتم أن تتأثر الدراسات الاستشراقية فيها كماً وكيفاً، وأصبح وزنها أخف بكثير مما كانت عليه في السابق، رغم المجموعات التراثية الهامة التي تحويها مكتبات الفاتيكان والأمبروزيانا والبندقية وفلورنسا.

الجمعة، 13 مارس 2015

حدث في الثاني والعشرين من جمادى الأولى

في الثاني والعشرين من جمادى الأولى من عام 1298 الموافق 21 أبريل 1881 انسحبت القوات البريطانية من مدينة قندهار في أفغانستان بعد احتلال لها دام قرابة 8 أشهر، ويعد الانسحاب نهاية الحرب الأفغانية البريطانية الثانية، التي بدأتها بريطانيا في سنة 1878 على أمير أفغانستان شير علي خان بسبب ميوله لروسيا، والذي وافته المنية في أثناء الحرب، وانجلت الحرب عن عزل خليفته وابنه يعقوب خان وتنصيب ابن عمه عبد الرحمن خان أميراً  على أفغانستان.
وهنا نتوقف قليلاً ونعود القهقرى من أجل رؤية أشمل ولنستعرض تسلسل الأحداث في هذا البلد وكيف نال استقلاله في الحقبة التي تلت القرون الوسطى.
كان شاه إيران نادر شاه قد استولى في سنة 1151= 1738  على كابل ومن قبلها هراة ثم قندهار وأخضع بذلك أفغانستان كلها لنفوذه بعد أن كانت تابعة للدولة المغولية في الهند، وكانت هذه المناطق أراضي قبيلة الأبدال الكبيرة والتي اتبع معها نادر شاه سياسة الاستعياب والتعاون، فجند أعداداً كبيرة من أبنائها في جيشه، وكانوا من أعوانه المقربين وأمرائه المخلصين، وسبب هذا أنه كان قد اجتث نفوذ رجال الدين الشيعة في إيران، وكانت له تطلعات لتعديل المذهب الشيعي بما يمهد لانخراطه في جسم الأمة الإسلامية الكبير، وكان لذلك يتوجس من الفرس خشية أن يكونوا تحت تأثير هؤلاء الشيوخ، وقد قضى نادر شاه حياته محارباً، ومات غيلة في سنة 1160=1747 في خراسان وهو يقمع تمرداً لقواته هناك.
وانتهز فرصة مقتل نادر شاه أحدُ أبناء قبيلة الأبدال الأفغانية الذي كان من كبار قواد نادر شاه وهو أحمد خان، وكان في فرقة قوامها أبناء قبيلته من الأبدالية، فسار إلى قندهار ونادى بنفسه أميراً على البلاد واتخذ لقب دُرّ دُرِّاني أي درة الدرر، ومنذ ذلك اليوم غلب لقب دراني على قبيلته وعلى تلك الحقبة من تاريخ أفغانستان.
ومن عاصمته قندهار تحرك أحمد شاه شرقاً فانتزع من مملكة نادر شاه على كل الأراضي الواقعة شرقاً حتى نهر السند، ثم استولى بعدها على هراة، ثم توالت فتوحاته في الهند ضد الممالك السيخية والإمبراطورية المغولية فضم إلى مملكته لاهور وملتان وكشمير، واحتل دلهي، وكان رجلاً يتسم بالحلم والسياسة فوطد سلطانه بين القبائل بالمحبة ولم يرهقهم بالضرائب بل اعتمد على غنائم الحروب ووزع كثيراً منها على مقاتليه وزعماء القبائل، فأحبته العامة واعتقدوا أنه مؤيد بنصر الله ومنحوه اللقب المحبب: بابا، وتوفى سنة 1187=1773 وخلفه ابنه الأمير تيمور شاه.
وحكم تيمور شاه أفغانستان 20 سنة، ونقل عاصمته من قندهار إلى كابل، لأن القندهاريين استصغروه في بداية حكمه، وواجه تيمور محاولات من أمراء السند وبخارى للاستيلاء على بعض أراضي مملكته أفشلها جميعاً، وتوفي سنة 1207=1793 وقد اضمحل عنفوان المملكة وأصبح السيخ في إقليم ملتان في الهند لا يخفون أطماعهم فيها، وفي نفس الوقت بدأت عشيرة الباركزائي الأبدالية تقوى ويشتد نفوذها.
ولم يعين تيمور شاه في حياته ولياً لعهده من بين أبنائه الأربع والعشرين، ولم يترك وصية بالملك لأحد منهم، فدخل أولاده في صراعات متتالية للاستيلاء على الحكم، وعصفت بالبلاد من بعده قلاقل وفتن انتهت بتمكن ابنه زمان شاه من الاستيلاء على الحكم بعد أن هزم منافسَيه وأخويه همايون أمير قندهار ومحمود أمير هراة الذي فر إلى فارس.
وأراد زمان شاه توسعة مملكته فاتجه شرقاً لغزو الممالك السيخية، ولكن فاته مراعاة التطورات التي طرأت في المنطقة، فقد صارت الهند أهم موقع تجاري للمصالح البريطانية التي كانت متمثلة في شركة الهند الشرقية، واعتبرت الشركة غزوات شاه زمان تهديداً لنفوذها وللاستقرار الذي تنشده في الهند، فحفزَّت عليه فتحَ علي شاه في إيران على أمل أن يثنيه التهديد الإيراني عن غزو البنجاب، ومضى فتح شاه لأكثر مما أرادته بريطانيا فقد أراد إقامة حكومة تابعة له في أفغانستان، ولذا جهز جيشاً لأمير هراة الهارب محمود، وتقدم هذا الجيش فاحتل قندهار ثم تقدم إلى كابل، فعاد زمان شاه من غزواته في الهند إلى أفغانستان، ولكنه هزم ووقع أسيراً في يد أخيه محمود شاه في سنة 1215=1800 الذي أمر بسمل عينيه وسجنه في كابل، وأعلن نفسه أميراً على أفغانستان.
والحقيقة أن أفغانستان منذ الاحتلال البريطاني للهند وقعت ضحية التجاذب بين الهند البريطانية من الشرق وبين روسيا من الشمال، وصارت أراضيها وقبائلها محور التدافع بين دولتين استعماريتين قويتين تتنازعان السيادة والنفوذ في أواسط آسيا، وقد حاول حكام أفغانستان بنجاح متفاوت أن يجعلوا من هذا التجاذب أداة لتدعيم استقلال البلاد وإقامة التوازن بين السياستين المتنافستين، ولكن حماية حدود الهند من الغزو الروسي كانت لدى بريطانيا أهم مما هي المطامع لدى روسيا، ولذا كانت بريطانيا تحرص دائماً على أن تكون راجحة النفوذ والكلمة في أفغانستان ولم تتردد في استخدام القوة لإبقاء أفغانستان خارج التفوذ الروسي.
واستولى القائد السيخي رانجيت سينغ على لاهور في سنة 1799فأقره عليها زمان شاه، ولكن سينغ ما لبث أن أعلن نفسه مهراجا على البنجاب، ولما أراد التوسع شرقاً اصطدم بالإنكليز فوقع معهم اتفاقية أمريتسار  سنة 1809، وبدأ في التوسع شمالاً وغرباً على حساب الأفغان، فاستولى في سنة 1818 على ملتان ثم لاهور ، وبحلول سنة 1820 كان قد قضى تماماً على النفوذ الأفغاني في وادي كشمير وأقام دولة متكاملة الأركان تضم في حكومتها وجيشها السيخ والهندوس والمسلمين.
لم يكن محمود ملكاً حازماً مدبراً، فقد التفت إلى الترف والملذات، وترك مقاليد البلاد بيد وزيره فتح خان الباركزائي، وبسبب ميله للمذهب الشيعي نفرت منه قلوب العلماء، وكان ذلك فرصة لأخيه شجاع أن يستولي على بشاور ويعلن نفسه أميراً على البلاد، وقامت ثورة شعبية ضد محمود شاه ألقته في السجن، وفي سنة 1218=1803 دانت البلاد لشاه شجاع باستثناء قندهار التي بقيت فترة من الزمن في يد قمران بن محمود يؤيده الوزير فتح خان، ثم ما لبث أن استولى عليها وسجن الوزير فتح خان.
ولم يستطع شاه شجاع أن يعيد الاستقرار والأمن إلى البلاد، فلم يخضع له زعماء المناطق وبدأ بعضهم في النزوع للاستقلال، وفي نفس الوقت تعاظمت قوة الزعيم السيخي رانجيت سينغ، وصار التهديد السيخي من الشرق أخطر من أي فترة مضت، وفي تلك الفترة شاع أن الإمبراطور الفرنسي نابليون الأول والإمبراطور الروسي إسكندر الأول قد تحالفا على غزو الهند وتقاسمها، فبادرت بريطانيا إلى إنفاذ سفير إلى شاه شجاع في كابل وعقدت معه في سنة 1224=1809 تحالفاً لمواجهة الغزو المحتمل تعهد فيه ألا يسمح للقوات الأجنبية بعبور بلاده، وبعد ذلك بقليل تمكن أخوه محمود شاه من الفرار من سجنه في كابل، وانضم إليه الوزير فتح خان الذي هرب كذلك من سجنه في قندهار، وتمكنوا من جمع قوات كافية أنفقوا عليها من أسلاب قافلتين تجاريتين استولوا عليها، وتقدم محمود إلى قندهار واستولى عليها بعد معركة ضارية، ثم حشد جيشاً أكبر وسار نحو شاه شجاع في كابل، وفر شاه شجاع إلى الهند ودخل محمود كابل في سنة 1225=1810 وأصبح أمير البلاد من جديد.
ولجأ شاه شجاع إلى الإمبراطور السيخي رانجيت سينغ ومعه الألماسة الضخمة كوهينور التي قدمها لسينغ مقابل أن يساعده لاسترجاع عرشه، ولكن سينغ ماطله في ذلك ليقوم بتقوية سلطانه، فما لبث أن تركه ولجأ إلى البريطانيين في سنة 1816.
وحكم محمود البلاد مدة 21 سنة، كانت فيها مقاليد الحكم بيد الوزير فتح خان، فاستعان بإخوته وعشيرته، وجعلهم في عليا المناصب، وجعل أخاه محمد أعظم والياً على كشمير، وجعل أخاه دوست محمد قائد الجيش، وأثار هذا غيرة كامران الإبن الأكبر للملك محمود فسمل عيني الوزير وأودعه السجن، فخاف أخوه دوست محمد وهرب إلى أخيه أعظم خان الوالي على كشمير، وطلب محمود شاه من الوزير السجين أن يأمر أخوته بالطاعة للملك محمود فرفض متذرعاً أنه لا سلطان له عليهم، فأمر محمود شاه بقتله وتقطيعه أشلاء.
وجمع دوست محمد قواته من كشمير واستولى على بشاور فكابل في سنة 1235=1818، وخضعت له مدن أفغانستان ولم يبق في يد محمد سوى هراة وإن كان لبضع سنوات، وانتهز فرصة الاضطراب جيران أفغانستان فاستولى أمير بخارى على بلخ، وهي اليوم مزار شريف، واستولى السيخ على مناطق ما وراء نهر الهندوس، وأعلنت مقاطعات السند وبلوشستان استقلالها.
وهنا انتهت الحقبة الدُرَّانية وبدأت الحقبة الباركزائية، أو المحمدزائية نسبة لمحمد الجد الأكبر للقبيلة، فقد أعلن دوست محمد نفسه أميراً على أفغانستان في سنة 1826، وحاول أن ينتزع بشاور من رانجيت سينغ، فأعلن الجهاد وحشد الجيوش، ولكن قواده خانوه وانفضوا من حوله لأن سينغ استطاع بث الفرقة في صفوف الأفغان.
وفي سنة 1253=1838 حاصر شاه إيران محمد القاجاري هراة بتأييد من روسيا، وكان البريطانيون يعتبرون هراة مفتاح الهند، فاعتبروا حصارها تمهيداً لوقوع أفغانستان تحت النفوذ الروسي، فقاموا بعقد التحالفات مع أمراء هراة وقندهار، وجاءت إلى كابل بعثة بريطانية يرأسها الكابتن الكساندر بيرنز لعقد اتفاق مماثل مع دوست محمد، ورحب به دوست محمد طامعاً في أن يساعده البريطانيون في استرجاع بشاور التي كانت قضيته الأولى، ولكن بيرنز لم يعده بذلك فامتنع دوست محمد عن توقيع أي اتفاق ما لم يكن ثمنه معادلاً لما يتعرض له من الضغوط الإيرانية والروسية التي ستزداد إن هو وقع الإتفاق مع بريطانيا، فما كان من الكابتن بيرنز إلا أن عاد أدراجه إلى الهند تحت ذريعة أن دوست محمد استقبل مبعوثاً روسياً ليتباحث معه في تحالف بديل ولذا فإن الاتفاقية المقترحة صارت غير ذات مغزى.
وهكذا بدأت الحرب الأفغانية البريطانية الأولى، فقد قرر اللورد اوكلاند الحاكم العام للهند أن ميول دوست محمد لروسيا لا يمكن غض النظر عنها، وقرر غزو أفغانستان وإعادة شاه شجاع للحكم، فأعد حملة عسكرية جنودها من الهنود وضباطها من الإنكليز تكبدت خسائر باهظة جداً قبل أن تتمكن من احتلال قندهار في أول سنة 1255= 1839، ثم تلتها غزنة فكابل حيث توج شاه شجاع من جديد أميراً على أفغانستان، وهرب دوست محمد إلى بلخ ثم إلى بخارى حيث ألقى به أميرها في غيابة السجن.
ولكن ذلك لم يوفر الأمان للمحتل البريطاني، فما كان الأفغان ليقبلوا باحتلال الأجنبي الكافر لبلادهم، وماكانوا ليقبلوا أن يفرض عليهم المحتل أميرهم، ولذا لم تتوقف الهجمات على الجيش البريطاني المحتل، واستطاع دوست محمد أن يهرب من سجنه ويعود إلى أفغانستان ليقود المقاومة، ويحقق الانتصار تلو الانتصار، ولكنه سلم نفسه للبريطانيين في رمضان 1256= 1840 عندما أخذوا أفراد أسرته كرهائن، فنفوه وأسرته إلى الهند.
ولكن الجهاد الأفغاني لم يتوقف وأدرك البريطانيون أن تكاليف بقائهم في أفغانستان غير مجزية، فقد هددت ماليةَ الهند بالاستنزاف المبالغُ التي كانوا يدفعوها لرؤساء القبائل ليأمنوا جانبهم، فأوقفوا دفعها ناقضين وعودهم ومفاقمين في استياء الأفغان منهم واحتقارهم لهم، وقرر البريطانيون أن ينسحبوا وتباحثوا في ذلك مع أكبر خان ابن دوست محمد، ولكن المبعوث البريطاني السير وليام ماكنغتن قُتِل أثناء خلاف شجر في المفاوضات، وانسحب البريطانيون من كابل في 23 ذي القعدة من سنة 1257 الموافق 6 كانون الثاني/يناير 1842، فانقض عليهم الأفغان المتربصين يلاحقونهم وقتلوا أغلب جنود الحملة الذين بلغ عددهم حوالي 4.500 جندي و12.000 معاون وخادم، وقتل الأفغان كذلك شاه شجاع الذي أتى به البريطانيون ليحكم البلاد.
وما كانت بريطانيا لتترك هذا التحدي يمر دون استعراض لقوتها، فعادت واحتلت كابل بعد 6 أشهر، ولكن الكارثة أطاحت باللورد اوكلاند فعُزل من منصب الحاكم العام في الهند، وجاء مكانه اللورد ألنبوروه ومن ضمن مهامه أن يقوم بالانسحاب من أفغانستان، وهكذا رجع دوست محمد إلى كابل في سنة 1258=1842 وحكم أفغانستان مدة 20 سنة بسط فيها سلطانه بالتدريج ففتح قندهار سنة 1855 ثم بلخ والشمال في سنة 1859 ثم هراة قبل شهر من وفاته في سنة 1279=1863، وأعاد دوست محمد العلاقات مع بريطانيا ووقع معها معاهدتي صداقة في سنتي 1855 و1857 وتضمنت أن تدفع له بريطانيا مليون روبية سنوياً وأن يسمح لها بوجود سفارة في كابل، ويقال إن جمال الدين الأفغاني كان مقرباً من دوست محمد بل العقل المدبر لحكومته.
وخلف دوست محمد ابنه الثالث شير علي خان الذي دخل في نزاع مع أخويه الأكبر فانتزعوا الحكم منه في سنة 1282=1866، ولكنه استعاده بعد سنتين ونيف في سنة 1285=1868 واستقرت له الأمور على الصعيد الداخلي، ولكنه واجه مشاكل كبيرة على الصعيد الخارجي، ذلك إن بريطانيا تعاونت معه في البداية وأمدته بالسلاح، واتبع شير علي سياسة الحياد بين الدولتين الكبيرتين المتنافستين اللتين أطبقتا على بلاده؛ روسيا من الشمال وبريطانيا جنوباً في الهند، ولكن بريطانيا لم ترض عنه واعتبرته واقعاً تحت النفوذ الروسي ولا يمكن الوثوق به، واحتلت كويتا في سنة 1876، فكان من الطبيعي أن تسوء علاقاته مع بريطانيا ويميل إلى روسيا التي استقبل منها بعثة في كابل في حين رفض بعض الشروط التي اشترطتها بريطانيا لإرسال بعثة مماثلة، وبسبب ذلك قررت شن الحرب عليه واحتلال أفغانستان بادئة الحرب الأفغانية البريطانية الثانية.
وقامت بريطانيا في سنة 1878بشن هجوم من ثلاث شعب أعدت له إعداداً جيداً مستفيدة من إخفاقاتها وهزائمها السابقة، ولما حل الشتاء خيمت في جلال آباد، أما شير علي فترك ابنه يعقوب خان نائباً عنه في كابل وذهب إلى تركستان ليطلب من الروس مساعدته، فنصحوه بالتفاهم مع البريطانيين ومصالحتهم، وتوفي شير علي في أثناء الرحلة في مزار شريف في 28 من صفر سنة 1296= فبراير 1879، وقد بلغ من العمر 55 سنة، وخلفه ابنه يعقوب خان.
وأجرى يعقوب خان مفاوضات مع المندوب البريطاني بيير لويس نابليون كافانياري، الإيطالي الأصل، تكللت بمعاهدة  گندُمك في أيار/مايو سنة 1879، واعترفت فيها بريطانيا بيعقوب خان أميراً على أفغانستان، ووافق هو على أن يكون لبريطانيا سفارة دائمة في كابل وأن يبني علاقاته الخارجية مع الدول الأخرى وفقاً لرغبات ونصائح الحكومة البريطانية، وانسحبت بناء على ذلك القوات البريطانية من كابل ولكنها ما لبثت أن عادت فقد وقع حادث قلب الموازين كلها، وعادت معه الحرب الأفغانية البريطانية.
ذلك أن الحكومة البريطانية كافأت كافنياري بأن جعلته المندوب البريطاني المقيم في كابل، وكان متغطرساً يميل للمجازفة، وحدث تمرد لبعض الجنود الأفغان هاجموا على إثره دار كافنياري وقتلوه مع مرافقيه في في 16 رمضان سنة 1296= 3 أيلول/سبتمبر 1879، وقامت بريطانيا على إثر ذلك بإرسال جيش من الهند يقوده الجنرال روبرتس تمكن في غضون شهرين من احتلال كابل في تشرين الأول/أكتوبر 1879، وأجبر يعقوب خان على التخلي عن عرش أفغانستان ونفاه إلى الهند حيث مات فيها سنة 1923.
وفي غياب الملك قامت حركة جهادية شعبية ضد الغزاة تزعمها الغازي محمد جان ورد وضمت 10.000 مجاهد واستطاعت أن تحاصر قوة بريطانية في شيربور، ولكنها افتقدت التخطيط الطويل المدى فاستطاع البريطانيون إضعافها وشل فاعليتها.
وتغيرت الحكومة البريطانية إلى حزب الأحرار فعزلت اللورد ليتّون من منصب نائب الملك في الهند وأرسلت مكانه اللورد ريبون مع تعليماتها له بالانسحاب من أفغانستان، وفي تلك الأثناء جاء من بخارى حيث كان لاجئاً الأمير عبد الرحمن خان، وهو حفيد الملك السابق دوست محمد وابن عم الملك السابق شير علي، وكان قد لجأ إليها سنة 1869 عقيب عودة شير خان للحكم، فانتهز فرصة الحرب وخلو كرسي المُلك ورجع إلى كابل في سنة 1880، فرحب به الناس وانتخبه أمراء القبائل أميراً على أفغانستان، واتصلت به بريطانيا واتفقت معه على الانسحاب من أفغانستان.
ولكن أيوب خان أخا الملك المعزول يعقوب خان وأمير هراة أعد جيشاً من 10.000 مجاهد لقتال البريطانيين، فأرسل البريطانيون لاعتراضه قوة من 1.500 جندي بريطاني وهندي ومعهم رديف من الأفغان، ووقعت المعركة في ميوند قرب قندهار ودارت الدوائر على البريطانيين فقد انضم جنودهم الأفغان إلى أيوب خان، وقاتل الهنود قتال الخائف المتوجس، فانسحب البريطانيون إلى قندهار والأفغان في إثرهم فلم يصل منهم إلى القوات البريطانية في قندهار سوى أقل من 500، وسار وراءهم أيوب خان وحصر الجميع في قلعة قندهار، ولم تجد محاولات البريطانيين المحصورين في فك الحصار.
وأرسلت القيادة البريطانية قوتين لفك الحصار واحدة من كابل والثانية من كويتا، وفي نفس الوقت تابعت مخططاتها للانسحاب من أفغانستان، واشتبك البريطانيون مع أيوب خان وكسروه، وفر أيوب خان إلى فارس، وانسحبت القوات البريطانية من قندهار في الثاني والعشرين من جمادى الأولى من عام 1298، كما أسلفنا في بداية المقال.
وأمضى الأمير عبد الرحمن بضع سنين حتى استتبت له الأمور في داخل البلاد، وكانت بريطانيا قد انشغلت في حرب البوير في جنوب أفريقيا، وبدرت من روسيا بوادر أطماع في أفغانستان وبخاصة هراة، فاتجه عبد الرحمن لتنظيم جيش حديث أمدته بريطانيا بكثير من أسلحته وذخائره، وأنشأ بعض المصانع العسكرية، وكان يطمح في أن يجعل من أفغانستان قوة عسكرية مخيفة تستطيع تجنيد مليون جندي عند النفير، ونظَّم الإدارة الحكومية في أفغانستان وأدخل إليها كثيراً من الوسائل المستحدثة، وحدَّث الجباية الضريبية ورشّد الإنفاق الحكومي، وأنشأ أول مستشفى حديث في تاريخ أفغانستان.
ومن ناحية أخرى عُرف عبد الرحمن بالأمير الحديدي لاستعماله القوة المفرطة في فرض سلطة وسطوة الحكومة المركزية على القبائل وبخاصة الهزارة الشيعة، إلا أنه كان من الحكمة بحيث ترك القبائل وشأنها فيما يتعلق بتقاليدها القبلية في معاملة الجناة واللصوص وفك الخصومات، ولكنه أجبر سكان مقاطعة كافرستان، بلد الكفار، على اعتناق الإسلام وغير اسمها إلى نورستان أي بلد الزهر، وفي سنة 1319=1901 توفي عبد الرحمن عن 57 سنة بعد أن حكم أفغانستان 21 سنة اتسمت بالاستقرار في ظل إدارة ساهرة حازمة، ولذا يعده كثير من المؤرخين مؤسس أفغانستان الحديثة.
وفي عهد عبد الرحمن تحددت حدود أفغانستان كما هي اليوم، فقد تفاوض مع الروس واتفق معهم على معالم الحدود الأفغانية الروسية وتحديدها، واتفق كذلك مع بريطانيا على خط الحدود بين أفغانستان وبين الهند في سنة 1893 مع بعثة جاءته إلى كابل ترأسها السير مورتيمر دوراند، ولذا عُرفت الحدود باسم خط دوراند، وقد تنازل عبد الرحمن في هذه الاتفاقية عن مناطق قطنتها منذ مئات السنين القبائل الأفغانية التي دانت بالولاء لكابل، وقسم خط الحدود الذي رسمته بريطانيا قبائل البشتون الأفغانية على جانبي الحدود الأفغانية الباكستانية التي لم تقبل بها ولم تحترمها إلى هذا اليوم هذه القبائل الشديدة المراس.
وتجلية لشخصية الأمير عبد الرحمن وأسلوبه في الحكم، نورد جانباً من وصية قيمة أوصى بها ابنه وولي عهده حبيب الله خان: يجب عليك يا بني أن تتمسك بمبادئ دينك الشريف، فتجعل له المقام الأول، وتنظر للواجبات الخاصة به قبل نظرك إلى أشغالك وسياستك، لتكون قدوة حسنة في التقى والدين لكافة أفراد رعيتك، واعلم أن نجاح البلاد وفلاحها متوقفان على الثروة، وأن الثروة والنفوذ لا يدرَكان بغير وسائط الزراعة والتجارة والصناعة، وأن هذه الوسائل تحتاج في ترقيتها وتنجيحها إلى التعليم والتربية، ويلزمك أن تعتقد أن من أقدس الواجبات عليك هو أن تبعث في نفوس رعيتك ميلاً إلى التربية والتعليم، عامِلْ رعيتك باللطف والمحبة الأبوية إذ هذا العمل يزيد في محبتهم لك ويجعلك أسمى مكانة في أعينهم، ولكن لا يجب أن تعامل الأجانب بمثل هذه المعاملة الأبوية لأنها تزيد في جسارتهم ووقاحتهم، ولا تمكِّن الأجانب من فرصة ينالون بها حقًّا من الحقوق أو نفوذًا كيف كان، لأنك لو ملكتهم قليلاً من الفرصة فإنك تمهد لهم الطريق إلى خراب مملكتك وضياع بلادك.
وليكن من أول الواجبات التي تكلف نفسك بها: حماية مصالح رعاياك في كل حال من الأحوال، واعلم أنه يلزمك أن تكون قواتك الحربية على قدم الاستعداد كأنما تريد أن تزحف بها في الغد إلى ساحة القتال لمحاربة دولة أقوى منك جأشًا وأكثر عددًا وعِدَدًا، واعلم أن من أول الضروريات أن يكون الجيش دائما على أهبة الاستعداد التام مع زيادة الذخائر في زمن السلم لأنه من الصعب أن تزود جيشك بما يكفيه في زمن الحرب، واعلم أن بيت المال ملك الأمة، وليس الأمير إلا الحارس الأمين على ما فيه، فإذا ابتدأ الحاكم يصرف المال المودع عنده على مصالحه ومطالبه الخصوصية؛ فإنه يكون خائنًا لمن ولوه الأمانة، وسلموه القيادة، والخائن لا قيمة له في أعين الأمة مطلقًا، ويبغضه الله والناس أجمعون، ويجب أن يكون بيت المال دائمًا ممتلئًا لأن ضعف الحكومة يظهر في قلة مالها أكثر من ظهوره في شيء آخر، ويلزمك أن تدقق في المصروفات والإيرادات، وكل ما يزيد يضم إلى بيت المال بالتوالي.
وقد رثى مصطفى صادق الرافعي الأمير عبد الرحمن بقصيدة منها:
   يافاجعَ الموت ماذا ينفع الحذر... وقد عهدناك لا تبقي ولا تذر
يا لهف كابل إذ فاجأتَ كافلَها... وقد تركتَ قلوب القوم تنفطر
وجئتَ ضيغمها الضاري بمخلبه... فلم يواثبك ذاك الضيغم الهصر
كم كان يزجي المنايا للعدا زمرًا... حتى بُعثن له من ربه الزمر
وكان يأتيه ريب الدهر معتذرًا... فاليوم عنه صروف الدهر تعتذر
سلوا المآثر عنه فهي خالدة... في كل قلب له من حبه أثر
طارت بنعيك للإسلام بارقة... فانهل دمع بني الإسلام ينهمر
وجاء بعد عبد الرحمن ابنه حبيب الله خان في سنة 1901، وكان في الثامنة والعشرين من عمره، واتسم حكمه الذي دام 18 عاماً بتوطد النفوذ البريطاني في أفغانستان وتضاؤل النفوذ الروسي إلى أعظم حد، وكانت بريطانيا تمده سنوياً بمبلغ 160.000 جنيه، ولما نشبت الحرب العالمية الأولى سنة 1914 حافَظَ حبيبُ الله على صداقته مع بريطانيا، وقاوم كل مسعى بذلته العناصر المعادية لبريطانيا لتحريضه على دخول أفغانستان الحرب مع ألمانيا وتركيا وضد بريطانيا وحلفائها، وكان من بين هذه العناصر ابنه الثالث: أمان الله خان، ومن وراءه أبو زوجته ثريا المولودة في دمشق لأم سورية؛ محمود بك الطرزي صاحب جريدة سراج الأخبار التي كان لها تأثير كبير في النخبة الأفغانية.
ورغم انتهاء الحرب العالمية الأولى في آخر سنة 1918 بانتصار المعسكر البريطاني واستسلام ألمانيا، إلا أن حبيب الله سقط ضحية لها حين اغتاله أحد المعادين لبريطانيا في أوائل سنة 1919، وخلفه أخوه نصر الله، ولكن أولاد أخيه تمردوا عليه وعزلوه وتبوأ عرش أفغانستان أمان الله خان.
واستجاب أمان الله خان للمشاعر الوطنية الأفغانية وشن في أيار/مايو 1919 الحرب الأفغانية البريطانية الثالثة، والتي دامت شهراً ولم تنته بنتائج بينة على أرض المعركة لصالح أي طرف، إذ كانت بريطانيا لا تزال تلعق الجراح التي خرجت بها من الحرب العالمية الأولى، فمالت للحل السلمي وتفاوضت مع أمان الله حتى توصل الطرفان لمعاهدة راولبندي في سنة 1337=1919 والتي عدلت في سنة 1921، والتي اعترفت فيها بريطانيا باستقلال أفغانستان الخارجي والداخلي؛ واعترفت أفغانستان فيها بالحدود الهندية الأفغانية القائمة؛ ونصت كذلك على تبادل التمثيل السياسي والقنصلي، وفي أثناء تفاوضه الأول مع بريطانيا قام أمان الله بعقد اتفاقية صداقة مع الاتحاد السوفياتي الذي انبثق عن الثورة البلشفية، وكانت أفغانستان من أوائل الدول التي اعترفت بالحكومة السوفياتية ومهد ذلك لنشوء علاقة خاصة بين البلدين دامت حتى آخر سنة 1979 عندما احتل الاتحاد السوفياتي أفغانستان.
وفي سنة 1923 ترك أمان الله خان لقب أمير أفغانستان الذي درج ملوكها على استعماله لقرون، وتلقب بالملك، وفي سنة 1927 قام الملك أمان الله مع زوجته الملكة ثريا برحلة رسمية خارجية بدأت في الهند ثم مصر، وفوجئ المسلمون في مصر، وهم المتأثرون بجمال الدين الأفغاني، أن ملك الأفغان يرتدي القبعة الأوربية، وأن الملكة ثريا كانت سافرة في الوقت الذي كانت فيه زوجة الملك فؤاد تلتزم الحجاب ولا تشارك في المناسبات الرسمية.
وسافر أمان الله من مصر إلى إيطاليا، حيث التقى بموسوليني، وفرنسا وإنكلترا وألمانيا، ثم روسيا فاستقبله حلفاؤه البلاشفة أعظم استقبال، وأبرم في موسكو معاهدة أفغانية روسية تجارية جديدة، وأبدى أمان الله أثناء رحلته اهتماماً عظيماً بمظاهر الحضارة الغربية، ولم يخف نيته في الاقتباس منها لبلاده بأعظم قدر، والعمل على تجديد أفغانستان ودفعها إلى طريق الحضارة الغربية بأسرع ما يستطاع، ولم تخف زوجته الملكة ثريا نيتها في العمل على تعليم المرأة الأفغانية وتحريرها، وكان لهما في ذلك تصريحات رنانة، والطريف أن الصحف الأوربية اهتمت برحلة الملك أمان الله وأغدقت الثناء على برنامجه الإصلاحي، ولكن حماستها فترت مذ شدَّ أمان الله رحاله إلى موسكو، وأن الصحف البريطانية بخاصة أخذت تحمل على سياسته، وتنتقد زيارته لموسكو وتورطه في محالفة البلاشفة، ومن موسكو ذهب أمان الله إلى تركيا والتقى بأتاتورك وتأثر بما رأى في تركيا من مظاهر التجديد الأوربي، وعرج على إيران والتقى  فيها برضا شاه الذي كان قد توج قبل سنتين ملكاً على إيران، وكان لديه مثل أتاتورك برنامج للتغيير التغريبي القسري.
وفور عودته إلى أفغانستان بدأ أمان الله خان في تنفيذ برنامجه الذي شمل كل مناحي الحياة، والذي تضمن على الصعيد السياسي إلغاء مجلس الشورى الذي يضم كبار علماء الإسلام ومشايخ القبائل، وإنشاء مجلس نيابي ينتخب أعضاؤه، وإلغاء سلطات الأشراف والمشايخ، وفرض الضرائب العامة المنظمة والخدمة العسكرية الإجبارية على كل أفغاني.
وعلى الصعيد الاجتماعي قلَّد أمان الله أتاتورك في قسر الشعب على تبني مظاهر التمدن الأوربي، وكانت وراءه تدفعه زوجته الملكة ثريا الغريبة التي لم تفهم روح الشعب الأفغاني الذي أصبحت ملكته، فأصدر طائفة من القوانين الاجتماعيةالجديدة ترمي إلى تحرير المرأة وسفورها، وإلغاء تعدد الزوجات، ورفع سن الزواج، وإلزام الأفغان بلبس القبعة والثياب الأوربية، ووقعت هذه القوانين وقع الصاعقة على الشعب الأفغاني الذي مارس تعاليم الإسلام الدينية والاجتماعية عبر قرون طويلة وصارت لها فيه هيبة ورسوخ، وقابل علماء الإسلام وزعماء القبائل محاولة تبديد سلطانهم العريق المستقل بكل استهجان ومقاومة، ولم تمض أشهر قلائل حتى سرى ضرام الثورة في صفوف الشعب الأفغاني الحر الذي حطم من قبل كل سلطان حاول إرغامه على ما لا يرضى، فكيف بمن أراده أن ينخلع من دينه وتقاليده.
نشبت الثورة بادئ بدئ في الشرق في منطقة جلال أباد، ثم امتدت بسرعة مدهشة إلى المناطق الأخرى، واستطاع أمان الله أن يهزم الثوار في البداية ورجحت كفته عليهم، واعتقد أنه أصبح سيد الموقف، ولكن الحوادث تفاقمت بسرعة وامتدت الثورة إلى الجيش، وزحف الثوار على العاصمة الأفغانية بقيادة ثائر من أصل طاجكي هو باشا السقا، وحاول أمان الله عبثاً أن يهدئ الثورة بإلغاء القوانين الجديدة التي أصدرها، فلما رأى أنها لن ترضى به بعد اليوم، تنازل عن العرش لأخيه الأكبر عناية الله الذي وجد أنه أضعف من أن يواجه تيار الثورة، ففر ناجياً بنفسه، ودخل باشه السقا كابول ظافراً، وتربع على العرش باسم حبيب الله الثاني في أوائل سنة 1929.
ولما رأى أمان الله خروج الملك من أسرته، عاد عن تنازله عن العرش، وجمع فلوله وحاول السير إلى كابل، ووقعت بينه وبين خصومه معارك عديدة انتهت بهزيمته، فانسحب من الميدان أخيراً وفر مع زوجته وأسرته في مايو سنة 1929 إلى الهند ومنها إلى أوربا منفياً طريداً حيث مات في زيوريخ سنة 1960.
ولم يطل الأمر بحبيب الله الثاني، فقد التف أبناء عمومة أمان الله حول واحد منهم هو السردار محمد نادر خان، المولود سنة 1300= 1883، وكان قائد الجيش ووزير الحربية في حكومة أمان الله خان، ثم اعتزلها عندما بدأت القوانين التغريبية، واصطفت القبائل وراء نادر خان وأعلنت رفضها لحبيب الله، وما لبثوا أن هزموه وأعدموه في سنة 1348=1929، ورفض نادر شاه  بعد انتصاره أن يعلن نفسه ملكاً على البلاد وانتظر حتى انعقد مجلس الشورى المكون من المشايخ وزعماء القبائل وانتخبه بالإجماع.
ولم يدم حكم نادر شاه سوى 4 سنوات استطاع فيها لململة أمور البلاد وإقناع بعض القبائل القوية لتقبل بسلطة الحكومة المركزية، وكان متواضعاً يميل إلى البساطة فأحبته العامة واحترمته الخاصة، وأصدر في سنة 1931 دستوراً جديداً خلا من كل ما من شأنه المساس بالشعائر والرموز الدينية والقبلية،  وبذل نادر خان جهوداً صادقة للإصلاح المعتدل الذي يناسب أوضاع البلاد، فتراجع عن ربط بلاده اقتصاديا بالاتحاد السوفياتي، وأصلح العلاقات مع بريطانيا التي أعادت سفارتها إلى كابل، وفتح جامعة كابل ودعا إليها الشاعر محمد إقبال ليستفيد من نصائحه، ولما بدا أن البلاد تتجه نحو الاستقرار والتقدم جرى اغتيال نادر شاه أثناء حضوره مباراة رياضية مدرسية في منتصف سنة 1352=1933 على يد شاب من أسرة تشركي ثأراً لزعيم كان من أبنائها كان نادر شاه قد أمر بإعدامه لتآمره عليه في سبيل إعادة الملك أمان الله.
وكان مخططو الاغتيال يتخيلون أن مقتل الملك سيثير الاضطرابات في أنحاء البلاد، وأن القبائل التي قمع تمردها ستتحرك من جديد فتسود الفوضى في البلاد، وبذلك تسنح الفرصة لعودة الملك أمان الله من منفاه، وأدلى أمان الله بتصريح إثر مقتل نادر خان أعلن فيه استعداده لخدمة البلاد متى طُلب منه ذلك.
ولكن خابت آمال المتآمرين بفضل حنكة وتدبير السردار محمود خان وزير الحربية وأصغر إخوة الملك نادر شاه، فقد تصرف بسرعة مبدياً تضحية وحكمة سياسية بعيدة المدى، ونادى على الفور بأن يكون ملك البلاد ظاهر شاه الولد الوحيد للملك القتيل، وكانت وراثة الملك من حق إخوة الملك، وكانوا ثلاثة، ولكن محمود خشي أن يتنازع أخوته على العرش ويودي هذا باستقرار البلاد الحرج، فحسم الأمر خلال ساعة من مقتل نادر شاه، ودعا الوزراء والقادة والزعماء إلى القصر حيث بايعوا ظاهر شاه ملكا على أفغانستان مكان أبيه وهو لما يبلغ العشرين من عمره.
ولم تكن مقاليد الأمور في الحقيقة في يد ظاهر شاه بل كان أعمامه وأقاربه هم الذين يتحكمون بمقاليد الأمور من خلال منصب رئيس الوزراء، واتبعت الحكومة الأفغانية سياسة حذرة محافظة في أول 20 سنة من حكم ظاهر شاه الذي دام 40 سنة، وكانت أهدافها هي تمتين وحدة البلاد وتنميتها اعتماداً على الأموال الأفغانية، وحافظت على حياد أفغانستان التقليدي أثناء الحرب العالمية الثانية، وفي سنة 1949 أجرى رئيس الوزراء شاه محمود انتخابات نيابية حرة في أفغانستان ومنح الصحافة قدراً كبيراً من الحرية، وأدى ذلك لبروز النخبة الأفغانية الداعية إلى الأخذ بمظاهر الحضارة الغربية، وهو ما أدى بدوره لاستياء الزعماء الدينيين والقبليين، فانتهز ذلك المقدم محمد داود خان، زوج أخت الملك وابن عمه، وأطاح بالبرلمان واستلم هو رئاسة الوزراء في سنة 1953.
وبقي داود رئيساً للوزراء مدة 10 سنوات، أدخل فيها عديداً من الإصلاحات المعنية بمظاهر الحضارة الغربية، فسمح بالاختلاط ونزع الحجاب، وكان ذلك مبلغ إصلاحاته التي لم تتناول حرية الرأي والمعارضة، فقد كان قاسياً أشد القسوة على كل من عارضه، وعلى الصعيد الخارجي يمم داود وجهه تلقاء الاتحاد السوفياتي ليحصل منه على المعونة الاقتصادية والعسكرية، ليصبح الشريك التجاري والتنموي الأكبر لأفغانستان، ومع ذلك رفضت حكومة داود أن تنجر لصراعات الحرب الباردة بين الغرب وروسيا، وبقيت أبوابها مفتوحة للمساعدات الغربية التي جاء أغلبها من أمريكا.
كانت أكبر مشكلة خارجية واجهتها أفغانستان في تلك الحقبة بعد استقلال الباكستان هي مشكلة قبائل البشتون الذين كانوا يرغبون أن يلحقوا بإخوتهم في أفغانستان، والذين كان ولاءهم للدولة الباكستانية الوليدة محل شك كبير في كراتشي، وعلى خلاف من سبقوه شجع داود البشتون في الطرف الباكستاني على إثارة القلاقل والاضطرابات، وقد يكون لعلاقته بالاتحاد السوفياتي دور في هذا رداً على تحالف باكستان الوثيق مع الولايات المتحدة الأمريكية، فقامت الباكستان بإغلاق حدودها مع أفغانستان قرابة سنة ونصف ولم تفتحها إلا بعد سقوط حكومة داود خان بسبب ما عانته أفغانستان من جراء ذلك.
وبعد رحيل داود بدأ ظاهر شاه يحكم البلاد حقيقة، فسار بها نحو الحكم الملكي الدستوري، وفي سنة 1964 وافقت الجمعية العمومية الأفغانية على دستور جديد للبلاد يتضمن مجلس نيابياً منتخباً ومجلس شورى منتخب ومعين، وأجريت الانتخابات على أساس الدستور الجديد في سنتي 1965 و1969 وأظهرت نتائجها الاستقطاب الحاد في المجتمع الأفغاني بين النخبة المتغربة والإسلاميين التقليديين، وبدلا من أن تسير البلاد على قلب رجل واحد أضحت الساحة السياسية حلبة مصارعة للتيارات السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، حتى إن الملك غيّر رؤساء الوزارة 5 مرات خلال 7 سنوات، وإزاء هذا الصراع المستمر تقاعس الملك في تنفيذ كثير من المؤسسات والإجراءات التي تضمنها الدستور ومنها على سبيل المثال المحكمة الدستورية العليا.
ودخلت البلاد في حالة من الركود السياسي الذي انتهزه محمد داود خان فقام بانقلابه في  6 جمادى الآخرة من سنة 1393=7 تموز/يوليو 1973 وأطاح بالملك ظاهر شاه وألغى الملكية، وأعلن جمهورية أفغانستان التي حكمها بالتعاون مع الضباط والموظفين المنتمين إلى حزب بارشام، أي الراية، اليساري، وكان منصبه فيها رئيس اللجنة المركزية للجمهورية ورئيس الوزراء، وهكذا انتهت الحقبة البركزائية من تاريخ أفغانستان.
وحكم داود أفغانستان كأي طاغية يساري سلاحه البطش والقتل، وعدوه الأول الإسلام ورجال الدين، وما لبث بعد فترة أن أبعد حلفاءه اليساريين وجمع حوله المتملقين والمنافقين من أسرته  وعشيرته، فأدى هذا إلى اتحاد الحزبين اليساريين، خلق والراية، بعد افتراقهما، وعلم بذلك داود فأراد اعتقال حفيظ الله أمين زعيم حزب خلق، ولكن حفيظ الله دبر على عجل مع اعضاء حزبه في الجيش انقلابا أطاح بداود الذي لقي مصرعه مع عدد من أفراد عائلته، وأعلن الانقلابيون قيام جمهورية أفغانستان الديمقراطية في 19 جمادى الأولى من عام 1398= 27 نيسان/أبريل 1978.

الجمعة، 6 مارس 2015

حدث في الخامس عشر من جمادى الأولى

في الخامس عشر من جمادى الأولى من سنة 72 قتل، عن قرابة 40 سنة، مُصعب بن الزبير بن العوام، الفارس الشجاع وأمير العراقيين الوسيم السخي، وذلك في معركة مع جيش الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان في دير الجاثليق قرب بغداد، وبمقتله انتهت في العراق دولة أخيه عبد الله بن الزبير، وتمهد الطريق لعبد الملك بن مروان لهزيمة عبد الله بعدها بسنة في مكة المكرمة.
ولد مصعب في سنة 32 أي قبل 4 سنوات من مقتل والده الزبير في سنة 36، وأمه الرباب بنت أنيف بن عبيد الكلبي، كان أبوها سيد العرب من أهل الضواحي، وللزبير منها ولدان حمزة ورملة، وللزبير رضي الله عنه من الوالد 11 ولداً و9 بنات.
ويغلب الظن أن مصعباً نشأ في حجر أخيه عبد الله الذي يكبره بحوالي 30 عاماً، ولا تفيدنا المصادر كثيراً عن نشأته، ولكنه كان من وجهاء قومه وعلمائهم، فقد كان من أقران عبد الملك بن مروان وأخيه عروة وكانا من العلماء، وكان يصاحب عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
ويروى أنه اجتمع في حِجر إسماعيل في فناء الكعبة عبد الله بن الزبير وأخواه مصعب وعروة، وعبد الله بن عمر، فقال: تمنوا، فقال ابن الزبير: أتمنى الخلافة، وقال عروة: أتمنى أن يؤخذ عني العلم، وقال مصعب: أتمنى إمرة العراق، والجمع بين عائشة بنت طلحة، وسكينة بنت الحسين. فقال ابن عمر: أما أنا فأتمنى المغفرة. فنالوا ما تمنوا، ولعل ابن عمر قد غفر له.
وفي سنة 64 مات يزيد بن معاوية، وكان الحجاز قد تمرد على يزيد فأرسل قبل وفاته جيشاً فتك بأهل المدينة في موقعة الحَرّة، ثم اتجه ليحاصر عبد الله بن الزبير في مكة المكرمة، وكان إذ ذاك يسمي نفسه العائذ ببيت الله، ولم يطلب من الناس مبايعته، فلما بلغت الجيشَ وفاةُ يزيد انسحبوا، واضطرب أمر مروان بن الحكم اضطراباً شديداً في بدايته، ولم يبق معه إلا الشام فسار بجيش إلى مصر وأعادها للحكم الأموي، وانتهز ذلك عبد الله بن الزبير فأرسل أخاه مصعباً إلى فلسطين على رأس جيش، وكان مروان قد عاد من مصر واستقرت أحواله، فأرسل إليه جيشاً يقوده عمرو بن سعيد بن العاص، المسمى عمرو الأشدق،  فاستقبله قبل أن يدخل بلاد الشام وهزمه.
وفي رمضان من سنة 65 توفي في دمشق مروان بن الحكم بعد أن تولى الخلافة الأموية قرابة سنة، وتولى بعده بعهد منه ابنه عبد الملك، المولود سنة 26، وكان فقيهاً راوياً، متنسكاً قبل أن يلي الحكم حتى دعي حمامة المسجد، واستعمله معاوية على المدينة وهو ابن ست عشرة سنة.
ودخلت الدولة الأموية مع تولى عبد الملك في طور جديد من الاستقرار والبناء، وكان أول عمل لعبد الملك هو استعادة السيطرة على الحجاز من ابن الزبير، فأرسل فور توليه في رمضان إلى المدينة المنورة جيشاً من سبعة آلاف يقوده حُبيش بن دُلجة القَيسيّ فاستولى على المدينة ثم خرج إلى الرَبَذة يريد العراق، فكتب ابن الزبير إلى العباس بن سهل الساعديّ بالمدينة أن يسير إليه فسار حتى لقيه بالربذة، وبعث عامل ابن الزبير على البصرة الحارث بن عبد اللّه بن أبي ربيعة 900 من أهل البصرة مدداً إلى العباس بن سهل، والتقى الجيشان فدارت الدائرة على جيش عبد الملك، وقتل حُبيش، وتحصن 500 من جيشه بجبل الربذة، وطلبوا الأمان، فقال لهم العباس بن سهل: انزلوا على حُكمي. ففعلوا فضرب أَعناقَهم أجمعين.
وفي نفس السنة ولى عبد الله بن الزبير أخاه مصعباً على المدينة المنورة بعد أن عزل عنها أخاه عبيدة بن الزبير، وكان سبب عزله أنه خطب الناس فقال لهم: قد رأيتم ما صُنِع بقوم في ناقة قيمتها خمسمئة درهم، فسمي مقوِّمَ الناقة؛ وبلغ ذلك ابن الزبير فقال: إن هذا لهو التكلف.
وبدأ المختار بن أبي عبيد الثقفي في الكوفة يتطلع للاستقلال عن عبد الله بن الزبير وبدأ في شق الجبهة المعارضة للأمويين باستمالة أولاد علي رضي الله عنه، فأصبح يشكل تهديداً سياسياً لدولة عبد الله بن الزبير، وادعى مع ذلك النبوة فصار يشكل تهديداً للعقيدة الإسلامية، ولأهمية الأحداث التي كان محورها المختار، كان لا بد أن نتوقف للحديث عنه مستقين مما أورده الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء.
كان والده الأمير أبو عبيد بن مسعود الثقفي قد أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تُعلم له صحبة، واستعمله عمر بن الخطاب على جيش غزا العراق واستشهد فيه، وتزوج عبد الله بن عمر ابنته، ونشأ المختار، فكان من كبراء ثقيف، وذوي الرأي والفصاحة والشجاعة والدهاء، وكان قد طُرِد لشره إلى الطائف، فسار بعد مصرع الحسين إلى مكة، فأتى ابن الزبير، فأظهر المناصحة، وتردد إلى ابن الإمام علي؛ محمد بن الحنفية، وكان قد أبى بيعة ابن الزبير هو وعبد الله بن عباس وجماعة من بنى هاشم.
ولما مات يزيد سنة 64، استأذن المختارُ ابنَ الزبير في الرواح إلى العراق، فركن إليه، وأذن له، وكتب إلى نائبه بالعراق عبد الله بن مطيع يوصيه به، فكان يختلف إلى ابن مطيع، ثم أخذ يعيب في الباطن ابن الزبير، ويثني على ابن الحنفية، ويدعو إليه، وأخذ يشغب على ابن مطيع، ويمكر ويكذب، فاستغوى جماعة، والتفت عليه الشيعة، فخافه ابن مطيع، وفر من الكوفة، وأصبح المختار أميرها الفعلي، وكان عبد الله بن الزبير قد حبس محمد بن الحنفية في خمسة عشر من بني هاشم، فتبنى المختار قضيتهم لإضعاف ابن الزبير وشق الصف عليه، وكانت الشيعة قد هاجت لطلب ثأر الحسين، فأخذ المختار يفسدهم، ويقول: إني جئت من قبل المهدي ابن الوصي، يريد ابن الحنفية، فتبعه خلق، بل إنه أرسل 4.000 فارس إلى مكة فأخرجوا محمد بن الحنيفة من الشِعب، ولم يقدر ابن الزبير على منعهم، وأقاموا في خدمة محمد ثمانية أشهر، حتى قُتِل المختار، وسار محمد بن الحنفية إلى عبد الملك بن مروان بالشام، فلما علم أنه سيُكرِهُه على بيعته عاد إلى الحجاز واحتمى بابن عباس في الطائف.
وكانت قد سرت في العراق حركة قادها سليمان بن صرد سميت بالتوابين لأنها ضمت من شعروا بالندم على خذلان الحسين بن علي رضي الله عنهما، وخرج هؤلاء في ربيع الآخر من سنة 65 إلى لقاء الجيش الأموي الذي يقوده عبيد الله بن زياد، وهو قائد الجيش الذي قتل الحسين بن علي رضي الله عنه في سنة 61، فوقفوا على قبر الحسين ونادوا: يا رب إنا قد خذلنا ابن بنت نبينا، فاغفر لنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وارحم حسيناً وأصحابه الشهداء الصديقين، وإنا نشهدك يا رب أنا على مثل ما قتلوا عليه، فإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. ولم يُعِد هؤلاء للأمر عدته ولم يسمعوا نصح الناصحين، فهزموا في موقعة عين الوردة بالميادين وقُتِل ابن صرد وعامة التوابين.
وخلا الجو للمختار بمقتل هذه العصبة الصادقة، فغلب على الكوفة، وقتل جماعة ممن قاتلوا الحسين مثل شمر بن ذى الجوشن الذى باشر قتل الحسين، وخولي بن يزيد الذى سار برأسه إلى الكوفة، وعمر بن سعد بن أبى وقاص أمير الجيش الذى حاربه، وقال: إن جبريل ينزل علي بالوحي، واختلق كتابا عن ابن الحنفية إليه يأمره بنصر الشيعة، وانضم إليه إبراهيم بن الأشتر النخعي في عشيرته فقوي به وتمكن، والأشتر النخعي كان من رؤوس التمرد على عثمان رضي الله عنه.
وأخذ المختار في العدل، وحسن السيرة، ووجد في بيت المال سبعة آلاف ألف درهم، فأنفق في جيشه، وكتب إلى ابن الزبير: إني رأيت عاملك مداهنا لبني أمية، فلم يسعني أن أقره. فانخدع له ابن الزبير، أو أظهر ذلك، وكتب إليه بولاية الكوفة، وبعث معه على خراج الكوفة إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله التيمي، الذي تزوج بعد وفاة الحسن زوجتَه فاطمة بنت الحسين بن علي.
وفي آخر سنة 66 أرسل المختار  جيشاً من ثمانية آلاف لملاقاة عبيد الله بن زياد الذي كان قد حاصر الموصل على رأس جيش من ستين ألف مقاتل، وجعل عليه إبراهيم بن الأشتر النخعي، وأرسل المختار مع الجيش كرسياً على بغل أشهب، زعم أنه آية كما كان التابوت لبني إسرائيل، فتألم ابن الأشتر، وقال: اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا؛ سنة بني إسرائيل إذ عكفوا على العجل.
والتقى الجيشان على نهر الخازر بأرض الموصل في المحرم من سنة 67، وكان الظفر لإبراهيم بن الأشتر، وقُتل عبيد الله بن زياد، وحصين بن نمير السكوني الذي حاصر ابن الزبير، وشرحبيل بن ذي الكلاع، وأرسل المختار رأس ابن زياد إلى علي بن الحسين رضي الله عنه في المدينة، وجعل يتتبع قتلة الحسين بن علي ومن خذله ويقتلهم، وأراد بذلك أن يَستأصل وجوه الناس ومن تخشى معارضته، ثم أخرج من الكوفة عبد الله بن مطيع عامل عبد الله بن الزبير، وادّعى أنّ جبريل ينزل عليه ويَأتيه بالوحي من الله، وكتب إلى أهل البصرة: بلغني أنكم تُكَذبونني وتكذبون رُسلي، وقد كُذبت الأنبياء من قبلي، ولست بخير من كثير منهم. قيل لعبد الله بن عمر: إن المختار ليزعم أنه يوحَى إليه. قال: صَدق، الشياطين يوحون إلى أوليائهم. وثار على المختار أهل الكوفة فقاتلهم وظفر بهم.
وإزاء هذه الأحداث عزل عبد الله بن الزبير الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة عن العراق، وكانت ولايته عليها سنة، واستعمل مكانه أخاه مصعب بن الزبير، فقدم البصرة متلثما حتى أناخ على باب المسجد ثم دخل فصعد المنبر فقال الناس: أميرٌ أمير! وجاء الحارث بن عبد الله بن أبى ربيعة، فسَفَر مصعب فعرفوه، وقالوا: مصعب بن الزبير، فقال للحارث اظهر اظهر فصعد حتى جلس تحته من المنبر درجة، ثم قام مصعب فحمد الله وأثنى عليه، ثم تلى الآيات من أول سورة القصص: ﴿طسم، تِلْكَ آيَات الكتابِ المُبين، نَتْلُو عَلَيْكَ مِن نَبأ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بالحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، إنّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الأرْض وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَستَحِيْي نِسَاءَهُمْ إنَّه كَانَ مِنَ المُفْسِدِينَ، وأشار بيده نحو الشام، ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا في الأرْض وَنَجْعَلَهُمْ أَئمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينِ، وأشار نحو الحجاز، ﴿وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ، وأشار بيده نحو الشام.
وتهيأ مصعب للخروج إلى المختار ابن أبي عبيد في الكوفة، ثم التقى معه فهزمه، وتحصن أصحاب المختار في قصر الإمارة، فحصرهم مصعب فيه، وكان المختار يبرز في فرسانه، ويقاتل حتى قُتل في رمضان سنة 67، وكان عمره 67 ستة، ثم إن مصعبا أساء التصرف؛ أعطى الأمان لمن كان بقصر الإمارة، ولما خرجوا قتلهم غدراً، وكانوا زهاء 7000 رجل، ونزل في ذلك على رغبة الثأر الجامحة لدى أصحابه الموتورين، وأخذ زوجة المختار؛ عمرة بنت النعمان بن بشير الأنصاري رضي الله عنهما، فقال لها: ما تقولين في المختار بن أبي عبيد؟ قالت: أقول إنه كان تقيا، نقيا صواما. قال: يا عدوة الله أنت ممن يزكيه! فأمر بها فضرب عنقها، فأنكر الناس ذلك وأعظموه جداً لأنه أتى من حيث المبدأ ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سائر نساء المشركين،  ومن ناحية أخرى لمكانة والدها وجدها وخالها عبد الله بن رواحة رضي الله عنهم، فقال في ذلك عمرُ بن أبي ربيعة المخزومي:
إنَّ من أعظمِ المصائب عندي ... قَتْل حَوْراءَ غادةٍ عَيْطَبول
قُتلت باطلاً على غير ذنب ... إن لله دَرَّها من قَتيل
كُتب القَتل والقِتال علينا ... وعلى الغانيات جَرُ الذيول
قيل إن مصعبا لقي عبد الله بن عمر فسلم عليه وقال له: أنا ابن أخيك مصعب بن الزبير. قال: صاحب العراق؟ قال: نعم. فقال: أنت القاتل سبعة آلاف من أهل القبلة في غداة واحدة؟! فقال مصعب: إنهم كانوا كفرة سحرة، فقال ابن عمر: والله لو قتلت عِدَتهم غَنَماً من ميراث أبيك لكان ذلك سرفاً! أما كان فيهم مستَكْره يُراجع به التوبة أو جاهل ترجى رجعته؟
ولما قَتل مصعبٌ المختارَ بن أبي عُبيد ودانت له العراق كلها: الكوفة والبصرة، قال شاعره عبيدُ اللهّ بن قيس الرّقيات يحرضه على المسير إلى الشام:
كيف نَوْمي على الفِراش ولما ... تَشْمَل الشامَ غارةٌ شَعواءُ
تُذْهلُ الشيخَ عن بنيه وتُبدي ... عن خِدام العَقِيلةُ العَذْرَاء
إنما مصعبٌ شهاب من الله تجلّت عن وَجْهه الظلْماء
ملكه ملك عزة ليس فيها ... جبروت منه ولا كبرياء
يتقي الله في الأمور وقد أفلح من كان همه الاتقاء
ولسبب يختلف المؤرخون فيه عزل عبد الله بن الزبير مصعباً عن الولاية وجعل مكانه ابنَه حمزة بن عبد الله عاملاً على البصرة، فظهرت منه بالبصرة خفة وضعف، فكتب الأحنف إلى ابن الزبير بذلك وسأله أن يعيد مصعبا، فأعاده ولما رجع قال: يا أهل البصرة، بلغني أنه لا يَقْدَم عليكم أمير إلا لَقّبتموه، إني ألقَب لكم نفسي: أنا القصَّاب.
وفي سنة 70 حاول عبد الملك الاستيلاء على البصرة فيما يشبه العمليات الخاصة اليوم، فقد أرسل إليها خالد بن عبد الله بن خالد بن أُسيد في عدد قليل من مواليه وخاصته، فنزل على أحد قرابته، وكان مصعب خارج البصرة فاشتبك معهم الزبيرية في مكان يدعى الجفرة في قتال فاتر دام 24 يوماً وانتهى بمنحهم الأمان لينسحبوا، ولما جاء مصعب غضب غضباً شديداً وعاقب خليفته عقوبة مهينة، وكان يقول عن مثل هذه الحال: إذا رأيت يد الدهر قد لطمتْ عدوك فبادره برجلك، فإنْ سلم من الدهر لم يسلم منك.
ولم يفت الروم البيزنطيون الاستفادة من هذه النزاعات التي استنزفت المسلمين وقضت على مقاتلتهم، فاستجاشوا على من بالشام وحشدوا الحشود في سنة 70، فصالح عبد الملك ملك الروم على أن يؤدى إليه في كل جمعة ألف دينار خوفا منه على الشام.
واستفاد كذلك من هذه الحروب الخوارج، فاستولى نجدة بن عامر الحروري على الأحساء، وفي سنة 66 خرج زعيمهم المشهور قطري بن الفجاءة، وبقي عشرين سنة يقاتل ويُسلم عليه بالخلافة، وكان الحجاج بن يوسف الثقفي يُسيّر إليه جيشا بعد جيش وهو يستظهر عليهم، وبسببهم لم يكن مع مصعب بن الزبير أكثر قواده حكمة وحنكة، وهو المهلب بن أبي صفرة، فقد ولاه الموصل وجعله على قتال الخوارج.
وفي أول سنة 71 خرج مصعب من العراق في جيش يريد حرب عبد الملك بن مروان في الشام، ولكنه وهو في الطريق بلغه أن بذرة تمرد من بعض بطون القبائل قد بدأت على أخيه ولا بد من حسمها قبل أن تتفاقم، فعاد إلى البصرة وقاتلهم حتى هزمهم.
وكان مصعب غاية في السخاء على نقيض من أخيه عبد الله، وكان يسمى من سخائه آنية النحل، كان إذا كتب أخوه عبد الله لأحد بجائزة ألف درهم، جعلها مصعب مائة ألف، ووجد بعض عماله كنزاً في فارس فيه نخلة مصوغة من ذهب، عليها أنواع الجواهر منظومة بين السعف على مثال البسر والتمر، قومت بألفي ألف دينار، فسأل جلساءه: من ترونه أهلاً لها؟ قالوا: دعها لولدك، فقال: لا، بل أدفعها إلى رجل قدَّم عندنا يدا، وأولانا جميلا، وهو أنفع لنا منهم. فدعا عبد الله ابن أبي فروة، وكان ساعده الأيمن وكتوم أسراره، وقتل معه فيما بعد، فأعطاها له.
وفي سنة 71 حج مصعب بن الزبير وجاء إلى أخيه عبد الله ومعه وجوه أهل العراق، وقال لأخيه: يا أمير المؤمنين، قد جئتُك بوجوه أهل العراق، ولم أدعْ لهم بها نظيراً، فأعطِهم من المال. فقال عبد الله وكان معروفاً بالبخل: جئتني بعبيد أهل العراق لأعطيهم من مال الله، وددتُ أنّ لي بكل عشرْة منهم رجلاً من أهل الشام؛ صَرْفَ الدينار بالدرهم. فلما انصرف مُصعب ومعه الوفدُ من أهل العراق، وقد حرمهم عبدُ الله بن الزبير ما عنده، أبغضوه وفسدت قلوبهم، فراسلوا عبد الملك بن مروان.
وأعد عبد الملك جيشاً ليأخذ به العراق من مصعب بن الزبير، فلما كان من دمشق على ثلاث مراحل أغلق عمرو بن سعيد دمشق وخالف عليه، فقيل لعبد الملك: ما تصنعِ، أتريد العراق وتَدع دمشق؟ أهلُ الشام أشدّ عليك من أهل العراق؟ فرجع مكانه، فحاصر أهلٍ دمشق حتى صالح عمرو بن سعيد على أنه الخليفةُ بعدَه، وأن له مع كل عامل عاملا. ففَتح له دمشق، ثم بعد أيام استدعاه إليه بحجة المشورة وقتله بيده، وهرب ابنه يحيى بن سعيد فلحق بمصعب بن الزبير، وجعل عبدُ الملك الحجاجَ على نفير أهل الشام، وخرج في جيشه حتى دنا من العراق، وخرج مصعب بأهل البصرة والكوفة، فالتقوا بين الشام والعراق.
وقد كان عبد الملك كتب كُتباً إلى وجوه أهل العراق يدعوهم فيها إلى نفسه ويجعل لهم الأموال، على أن يخذلوا مُصعبا إذا التقوا، وكتب إلى إبراهيم بن الأشتر بمثل ذلك، فكلهم أخفى كتابه، إلا ابن الأشتر فإنه أحضر كتابه مختوما إلى مصعب، فقرأه فإذا عبد الملك يدعوه إلى نفسه، ويجعل له ولاية العراق. فقال له مصعب: أتدري ما فيه؟ قال: لا، قال: إنه يعرض عليك كذا وكذا، وإن هذا لما يرغب فيه. فقال إبراهيم: ما كنت لأتقلد الغدر والخيانة، والله ما عند عبد الملك من أحد من الناس بأيأس منه منى، ولقد كتب إلى جميع أصحابك مثل الذي كتب إلي، فادعُهم الساعةَ فاضرب أعناقَهم. قال: أقتُلُهم على ظن ظننتُه! ما كنت لأفعل ذلك حتى يَستبين لي أمرهم. قال: فأخرى. قال: ما هي؟ قال: احبِسْهم حتى يَستبين لك ذلك. قال: إذا تفسد قلوب عشائرهم، ويقول الناس: عبث مصعب بأصحابه. قال: دَعْني أدعو أهلَ الكوفة بما شرطه الله. فقال: لا واللّه، قتلتهُم أمس وأستنصر بهم اليوم! قال: فعليك السلام، وِالله لا تَراني بعدُ في مجلسك هذا أبداً.
وكان سُوَيد بن منجوف قد كتب إلى مُصعب بن الزبير:
فأبْلغْ مُصْعَباً عني رسولاً ... وهل يُلفَى النصيحُ بكل وادِ
أتعلمُ أنّ أكثرَ مَن تواخي ... وإن ضحكوا إليك هم الأعادي
ويبدو أن مصعب بن الزبير اغتر بشجاعته ودفعه إقدامه إلى المعركة دون التأمل فيها والإعداد لها، أُخبِرَ عبدُ الله بن خازم السلمي أمير خراسان، وكان من الأبطال والفرسان المعدودين المشهورين، بمسير مصعب إلى عبد الملك، فقال: أمعه عمر بن عبيد الله التيمي؟ قيل: لا، ذاك استعمله على فارس. قال أفمعه المهلب بن أبي صفرة؟ قيل: لا، ولاه الموصل. قال: أمعه عباد بن حصين؟ قيل: استعمله على البصرة. فقال: وأنا هنا؟! ثم تمثل بقول الشاعر:
خذيني وجريني ضِباع وأبشري ... بلحم امرئ لم يشهد اليوم ناصره
ولما التقى الجيشان قرب دير الجاثليق في أرض يقال لها مَسكَن، انسحب المتآمرون وصاروا إلى عبد الملك، وهجم ابن الأشتر بمقدم الجيش على مقدمة الشام وأميرها أخي عبد الملك؛ محمد بن مروان بن الحكم، فأزاله، فأردفه عبد الملك بعبد الله بن يزيد بن معاوية، فحملوا على ابن الأشتر ومن معه فطحنوهم، وقتل ابن الأشتر رحمه الله، وجعل مصعب بن الزبير وهو واقف في القلب ينهض أصحاب الرايات ويحث الشجعان والأبطال أن يتقدموا إلى أمام القوم، فلا يتحرك أحد.
وأرسل عبد الملك أخاه محمداً إلى مصعب فناداه: فداك أبي وأمي، إن القوم خاذلوك ولك الأمان، انصرف ولك ولاية العراق ما عشت. فأبى قبول ذلك وقال: مثلي لا ينصرف عن هذا المقام إلا غالبا أو مغلوبا. فدعا محمد بن مروان ابنه عيسى بن مصعب، فقال له أبوه: انظر ما يريد محمد، فدنا منه فقال له: إني لكم ناصح؛ إن القوم خاذلوكم ولك ولأبيك الأمان، وناشده. فرجع إلى أبيه فأخبره، فقال: إني أظن القوم سيفون، فإن أحببت أن تأتيهم فأتـِهِم، فقال: والله لا تتحدث نساء قريش أني خذلتك ورغبت بنفسي عنك، قال: فتقدم حتى أحتسبك، فتقدم وتقدم ناس معه فقُتل وقُتلوا، وترك أهل العراق مصعبا حتى بقي في سبعة، وسمعه أحد أصحابه يتمثل بهذه الأبيات:
ونحن أناس لا نرى القتل سُبَّة ... على أحد يحمي الذمار ويمنعُ
بنو الحرب أرضعنا به، غير فُحَش ، ... ولا نحن مما جرَّت الحرب نفزع
جِلاد على ريب الحوادث لا تُرى ... على هالك عينٌ لنا الدهر تدمع
وجاء عُبيد الله بن زياد بن ظَبيان، وكان من جنده، وكان مصعب قد قتل أخاه في قود، فقال: أين الناس أيها الأمير؟ فقال: قد غدرتم يا أهل العراق! فرفع عُبيد الله السيفَ ليضرب مصعبا، فبدره مصعب فضربه بالسيف على الخوذة، فنَشِب السيفُ فيها، فجاء غلامٌ لعُبيد الله فضرب مُصعبا بالسيف فقَتله، ثم جاء عُبيد الله برأسه إلى عبد الملك، فلما نظر إلى رأس مُصعب خَر ساجداً. فقال عُبيد الله وكان من فُتّاك العرب: ما ندمتُ على شيء قطُّ ندَمي على عبد الملك بن مروان إذ أتيتُه برأس مُصعب فخر ساجداً أن لا أكون ضربت عنقه، فأكون قد قَتلت مَلِكي العرب في يوم واحد!
وكان عبد الملك بن مروان قبل هذا صديقاً لمصعب بن الزبير، فلما أُتي برأسه نظر إليه مليّاً، ثم قال: والله ما كنت أقدر أن أصبر عليه ساعة واحدة من حبي له حتى دخل السيف بيننا، ولكن المُلك عقيم، ولقد كانت المحبة والحرمة بيننا قديمة، متى تلد النساء مثل مصعب؟ ثم أمر بمواراته ودفنه هو وابنه وإبراهيم بن الأشتر في أُوانى بالقرب من الكوفة.
قال التابعي الجليل عبد الملك بن عمير، قاضي الكوفة، المتوفى سنة 136 عن 103 سنين: كنت عند عبد الملك بن مروان بقصر الكوفة حين جيء برأس مصعب بن الزبير فوضع بين يديه، فرآني قد ارتعت، فقال لي: مالك؟ فقلت: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين، كنت بهذا القصر بهذا الموضع مع عبيد الله بن زياد فرأيت رأس الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما بين يديه في هذا المكان، ثم كنت فيه مع المختار بن أبي عبيد الثقفي فرأيت رأس عبيد الله بن زياد بين يديه، ثم كنت فيه مع مصعب بن الزبير هذا فرأيت رأس المختار فيه بين يديه، ثم هذا رأس مصعب بن الزبير بين يديك. قال: فقام عبد الملك من موضعه، وأمر بهدم ذلك الطاق الذي كنا فيه.
ودخل عبد الملك بن مروان الكوفة، فصعد المنبر فخطب وقال: أيها الناس، إن الحرب صعبة مرة، وإن السلم أمن ومسرة؛ وقد زبنتنا الحرب وزبناها، فعرفناها وألفناها، فنحن بنوها وهى أمنا. أيها الناس، فاستقيموا على سبل الهدى، ودعوا الأهواء المردية؛ وتجنبوا فراق جماعات المسلمين، ولا تكلفونا أعمال المهاجرين الأولين، وأنتم لا تعملون أعمالهم؛ ولا أظنكم تزدادون بعد الموعظة إلا شراً، ولن نزداد بعد الإعذار إليكم والحجة عليكم إلا عقوبة؛ فمن شاء منكم أن يعود بعد لمثلها فليعد، فإنما مثلى ومثلكم كما قال قيس بن رفاعة:
أنا النذير لكم منى مجاهرةً ... كى لا ألام على نهىٍ وإنذار
ولما قتل مصعب بن الزبير رحمه الله بلغ خبره أخاه عبد الله وهو بمكة، فصعد المنبرفجلس عليه، ثم سكت، فجعل لونُه يحمر مرة ويصفرّ مرة، ثم قال: الحمد لله الذي له الخلق والأمر، يؤتي المُلك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء. ألا وإنه لم يذلل الله من الحق معه، وإن كان فرداً، ولم يعزز الله من أولياء الشيطان وحزبه، وإن كان الأنام معه طُرَّاً. إنه أتانا خبرٌ من العراق فأحزننا وأفرحنا: قَتْلُ مصعب رحمة الله عليه، فأما الذي أحزننا من ذلك فإن لفراق الحميم لذعة يجدها حميمه عند المصيبة، ثم يرعوي من بعدها ذوو الرأي إلى جميل الصبر وكريم العزاء، وأما الذي أفرحنا فإن قتله له شهادة ولنا وله خِيَرة، أسلمه الطغام والصلْم الآذان؛ أهلُ العراق، وباعوه بأقل الثمن، فإن يُقتَل فقد قُتل أخوه وأبوه وابنُ عمه، وكانوا الخيارَ الصالحين. أما والله لا نموت حتف أُنوفنا، كما يموت بنو مروان، ولكن قَعْصاً بالرماح وموتاً تحت ظلالِ السيوف، فإن تقبل الدنيا علي لم آخذها مأخذَ الأشرِ البَطِر، وإن تدْبر عني لم أبْك عليها بُكاء الخَرِف الزائل العَقْل.
وقال عبيد الله بن قيس الرقيات يرثي مصعب بن الزبير:
لقد أورثَ المِصرين حزناً وذِلةً ... قتيلٌ بدير الجاثليق مُقيم
فما قاتلتْ في الله بكر بن وائلٍ ... ولا صدقت عند اللقاء تميمُ
فلو كان في قيسٍ تعطّفَ حولَه ... كتائبُ يغلي حميُها ويدومُ
ولكنه ضاع الذمامُ ولم يكن ... بها مضريّ يوم ذاك كريمُ
جزى الله كوفياً بذاك ملامةً ... وبصريّهم إن الكريم كريمُ
وإن بني العَلاَّت أخلَوا ظهورَنا ... ونحن صريح بينهم وصميم
فإن نفن لا يبقي أولئك بعدنا ... لذي حرمة في المسلمين حريم
وكانت أولى نتائج مقتل مصعب واستيلاء عبد الملك على العراق، أن قام في آخر سنة 72 قاضي المدينة المنورة طارق بن عمرو الأموي، مولى عثمان بن عفان، فأعلن عصيانه على ابن الزبير وأخرج واليه طلحة بن عبد الله بن عوف، وأرسل إليه عبد الملك بتعيينه والياً على المدينة المنورة، ثم أرسل عبد الملك الحجاج بن يوسف الثقفي فحاصر ابن الزبير بمكة قرابة سبعة أشهر حتى ظفر به وقتله في جمادى الأولى من  سنة 73، وأصبحت الدولة الأموية دون منافس، إلا ما كان يبدر من أمراء الأطراف البعيدة.
تزوج مصعب بن الزبير لما ملك العراق عَقيلتا قريش: عائشة بنت طلحة، وسُكَينةُ بنت الحسين.
وعائشة بنت طلحة بن عبيد الله، كان أبوها طلحة من أجمل قريش، وأمها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق، وقبل مصعب تزوجها عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق. ثم خلف عليها مصعب، وكان يقال: لم يُر أزواجٌ قطّ أحسن من ثلاثة: عائشة بنت طلحة ومصعب بن الزبير، ولبابة بنت عبد الله والوليد بن عتبة، وجعفر بن أبي طالب وأسماء بنت عُمَيس. ولما قُتل مصعب تزوجها ابن عمها عمر بن عبيد الله بن معمر بن عثمان التيمي.
وسُكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب، أمها الرباب بنت امرئ القيس بن عدي، وقبل مصعب تزوجها ابن عمها عبد الله بن الحسن بن علي، وتزوجت بعد مصعب عبد الله بن عثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام، وتوفيت سنة 125، وكان اسمها أميمة ولقبتها أمها بسُكينة لخفة روحها. ولما قُتل مُصعب خرجت سُكينة بنت الحسين تُريد المدينة، فأطاف بها أهل العراق، وقالوا: أحسنَ اللهُ صحابتَك يا ابنةَ رسول الله. فقالت: لا جزاكم الله عني خيراً، ولا أخلف عليكم بخير من أهل بلد، قتلتم أبي وجَدي وعمّي وزَوْجي، أيتمتموني صغيرة وأرملتموني كبيرة. وقالت سكينة ترثيه:
فإن تقتلوه تقتلوا الماجد الذي ... يرى الموت إلا بالسيوف حراما
وقبلَك ما خاض الحسينُ منية ... إلى القوم حتى أوردوه حِمَاما
ولئن تزوج مصعب بن الزبير جميلتا قريش فقد كان هو من أجمل الرجال، قال الشاعر جرير: ما رأيته إلا غرت منه على عزة، ومرة كان مصعب جالساً بفنائه بالبصرة إذ وقفت عليه امرأة من طيء تنظر إليه فقال: ما وقوفك عافاك الله؟ فقالت: طفئ مصباحنا فجئنا نقتبس من وجهك مصباحاً.
أما مروءته فقد شهد له بذلك عبد الملك بن مروان، قال له قائل متقرباً إليه: إن مصعب بن الزبير يشرب الطلاء - أي النبيذ المباح - فقال: لو علم مصعب أن الماء يفسد مروءته ما شربه! وكان مصعب يقول: نحن نرى قبول السعاية شرًّا من السعاية؛ لأن السعاية دلالة والقبول إجازة، وليس مَن دل على شيء فأخبر به كمَن قبله وأجازه، فاتقوا الساعي، فلو كان في قوله صادقًا كان في صدقه لئيمًا، حيث لم يحفظ الحرمة، ولم يستر العورة.
وعلى الرغم من سفكه دماء جماعة المختار الثقفي، إلا أنه كان في مواطن أخرى صاحب حلم وتريث وخشوع، أتي بقوم، وهو أمير الكوفة، فأمر بضرب أعناقهم، فأخذوا ليقتلوا، وكان الشعبي في مجلسه فقال له: أيها الأمير، إن أول من اتخذ السجن كان حكيماً، وأنت على العقوبة، أقدر منك على نزعها. فأمر مصعب بحبس القوم، ثم نظر في أمرهم بعده فوجدهم برآء، فأطلقهم. ولما كان في المدينة بلغه شئ عن عريف من عرفاء الأنصار، فهمَّ به، فأتاه أنس بن مالك رضي الله فقال: أُنشدك الله ووصية رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأنصار قال: وما أوصى به فيهم؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: استوصوا بالأنصار خيرا، اقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم. فألقى مصعب نفسه عن السرير وألصق خده بالأرض وقال: سمعاً وطاعة لله ورسوله. وكان مصعب يقول: ادفعْ سطوة الله بسرعة النزوع وحسن الرجوع.
ومصعب بن الزبير هو أول من ضرب الدنانير والدراهم بالعراق، فعل ذلك على ضرب الأكاسرة في سنة 70 بأمر أخيه عبد الله لما ولى بالحجاز، وكتب عليها في أحد الوجهين: بركة، وفي الآخر:من الله. ثم غيرها الحجاج يعد ذلك بسنة وكتب عليها: بسم الله - الحجاج.
روي عن عبد الملك بن مروان أنه قال يوما لجلسائه: من أشجع العرب؟ قالوا: ابن فلان شبيبٌ فلان. فقال عبد الملك: أشجع العرب مصعب بن الزبير؛ جمع بين سكينة بنت الحسين، وعائشة بنت طلحة، وأَمَة الحميد بنت عبد الله بن عامر بن كريز، وأمه الرباب بنت أنيف الكلبي سيد ضاحية العرب، وولاه أخوه عبد الله العراقين، فسار إليه، وقام به خمس سنين فأصاب ألف ألف وألف ألف وألف ألف، فبذلتُ له الأمان والحباء والولاية والعفو عما خلص في يده، فأبى قبول ذلك، وطرح كل ما كان مشغوفاً به وأهله وراء ظهره، وأقبل بسيفه قرماً يقاتل وما بقي معه إلا سبعة نفر حتى قتل كريماً.
ولم تمنع هذه الدماء أن تنشأ القربى من جديد بين آل الزبير وبني أمية، ففي سنة 73 وبعد مقتل عبد الله بن الزبير تزوج خالد بن يزيد بن معاوية أخته رملة بنت الزبير، وهي أخت مصعب لأبيه وأمه، وكانت معروفة بالجزالة والعقل والفضل، وعاتبه الحجاج على ذلك، وقال له: ما كنت أراك تخطب إلى آل الزبير حتى تشاورني، ولا كنت أراك تخطب إليهم وليسوا لك بأكفاء، وقد قاتلوا أباك على الخلافة ورموه بكل قبيح! فأجابه خالد: ما كنت أرى أن الأمور بلغت بك إلى أن أشاورك في خطبة النساء! هي قريش تقارع بعضها بعضا حتى إذا أقر الله الأمر مقره عادت إلى أحلامها وفضلها.
ومن الطريف المحزن أنه في سنة 389 تمادى الشيعة في الكرخ ببغداد عمل عاشوراء باللطم والعويل، وفي يوم الغدير بنصب القباب والزينة، فقابل جهال السنة من أهل باب البصرة هذه البدع ببدع مثلها، جعلوا مقابل يوم الغدير؛ يومَ الغار، وجعلوه في 26 من ذي الحجة بعد ثمانية أيام من يوم الغدير، وزعموا جهلاً وغلطاً أنه يوم دخل النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الغار، وجعلوا بإزاء عاشوراء وبعده بثمانية أيام، يوم مصرع مصعب بن الزبير، وزاروا قبره، وبكوا عليه، وجعلوه نظير الحسين لكونه صبر وقاتل حتى قتل، ولأن أباه ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم، وحواريّه وفارس الإسلام، كما أن أبا الحسين، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وفارس الإسلام.

 
log analyzer