الجمعة، 27 فبراير 2015

حدث في الثامن من جمادى الأولى

في الثامن من جمادى الأولى من عام 1323= 11 تموز/يوليو 1905 توفي في الإسكندرية، عن قرابة 58 سنة، الشيخ محمد عبده، المجدد الإسلامي ومفتي مصر، والذي تعزا إليه حركة الإحياء الإسلامي الحديثة، وهذه ترجمة مستقاة مما نشره السيد محمد رشيد رضا في مجلة المنار، ومن ترجمة مطولة كتبها بعد وفاة الأستاذ الإمام كما كان يقال له، وعذراً لإطالتها أكثر من المألوف، لأننا نتحدث عن شخص تباينت فيه الآراء فلعل الإطالة تجلو شيئاً من الحقيقة.
هو محمد بن عبده بن حسن خير الله من قرية محلة نصر في مديرية البحيرة، وبيت خير الله تركماني الأصل، ولا يعرف تاريخ قدوم العشيرة إلى مصر، وأمه من عشيرة كبيرة في مديرية الغربية تنسب إلى بني عدي قبيلة سيدنا عمر بن الخطاب، ويقال إنها من ذريته.
كان والده شهما شجاعا وقورا سخي النفس، وكانت والدته برة رحيمة بالمساكين ذكية الفؤاد، شديدة الحياء، وكانت هذه الأخلاق فيهما موروثة ومكتسبة بالمعاشرة والقدوة لا بالتعليم والتأديب.
ولد محمد عبده في أواخر سنة 1265 أو 1266، في قرية من قرى مديرية الغربية كان والده هاجر هو وأخوه بهنس إلى قرابة لهما في تلك القرية فرارا من ظلم حكام مديرية البحيرة في أواخر حكم محمد علي باشا الكبير، وفي أثناء إقامته تزوج بفتاة من قرية تسمى حصة شبشير قريبة من طنطا، ثم عاد بعدها إلى بلده.
ونشأ محمد عبده كما ينشأ أمثاله من أبناء البيوت المعروفة في القرى، ولم يدخل المكتب لتعلم القراءة والكتابة إلا بعد أن جاوز العاشرة من سنه، وقال هو عن بداية تعلمه: تعلمت القراءة والكتابة في منزل والدي، ثم انتقلت إلى دار حافظ قرآن قرأت عليه وحدي جميع القرآن أول مرة، ثم أعدت القراءة حتى أتممت حفظه جميعه في مدة سنتين، وبعد ذلك نقلني والدي في سنة 1279 إلى طنطا حيث كان أخي لأمي الشيخ مجاهد رحمه الله، لأُجَوِّد القرآن في المسجد الأحمدي لشهرة قرائه بفنون التجويد.
وفي سنة 1281جلست في دروس العلم، وبدأت بتلقي شرح الكفراوي على الأجرومية في المسجد الأحمدي بطنطا، وقضيت سنة ونصفًا لا أفهم شيئًا لرداءة طريقة التعليم، فإن المدرسين كانوا يفاجئوننا باصطلاحات نحوية أو فقهية لا نفهمها، ولا عناية لهم بتفهيم معانيها لمن لم يعرفها، فأدركني اليأس وهربت من الدرس، واختفيت عند أخوالي مدة ثلاثة أشهر، ثم عثر عليَّ أخي، فأراد إكراهي على طلب العلم فأبيت وقلت له: قد أيقنتُ أن لا نجاح لي في طلب العلم، ولم يبق عليّ إلا أن أعود وأشتغل بملاحظة الزراعة كما يشتغل الكثير من أقاربي. وانتهى الجدال بتغلبي عليه، ورجعت إلى محلة نصر على نية أن لا أعود إلى طلب العلم، وتزوجت في سنة 1282 على هذه النية.
فهذا أول أثر وجدت في نفسي من طريقة التعليم في طنطا، وهي بعينها طريقته في الأزهر ... إلقاء المعلم ما يعرفه أو ما لا يعرفه بدون أن يراعي المتعلم ودرجة استعداده للفهم، غير أن الأغلب من الطلبة الذين لا يفهمون تغشُّهم أنفسُهم،  فيظنون أنهم فهموا شيئًا فيستمرون على الطلب ... ثم يبتلى بهم الناس وتصاب بهم العامة فتعظم بهم الرزية.
وبعد أن تزوجت بأربعين يوما ألزمني والدي بالذهاب إلى طنطا لطلب العلم، فلم أجد مندوحة عن إطاعة الأمر، وأصحبني والدي بأحد أقاربي وكان قوي البنية ليشيعني إلى محطة إيتاي البارود التي أركب منها القطار إلى طنطا، فهربت منه إلى بلدة كنيسة أدرين، وغالب سكانها من خؤولة أبي، وفرح بي شبان القرية لأنني كنت معروفًا بالفروسية واللعب بالسلاح، ولكني بقيت في هذه القرية 15يوما تحولت فيها حالتي، وبدلت فيها رغبة غير رغبتي.
ذلك أن أحد أخوال أبي واسمه الشيخ درويش سبقت له أسفار إلى ليبيا وصل فيها إلى طرابلس الغرب وجلس إلى السيد محمد المدني، وتعلم عنده شيئًا من العلم وأخذ عنه الطريقة الشاذلية، وكان يحفظ الموطأ وبعض كتب الحديث ويجيد حفظ القرآن وفهمه، ثم رجع من أسفاره إلى قريته هذه واشتغل بما يشتغل به الناس من فلح الأرض وكسب الرزق بالزراعة، وجاءني هذا الشيخ صبيحة الليلة التي بتها في القرية وبيده رسائل كتبها السيد محمد المدني إلى بعض مريديه بخط مغربي دقيق، وسألني أن أقرأ له فيها شيئًا لضعف بصره، فنفرت من طلبه أشد النفور ورميت الكتاب بعيدا، ولكن الشيخ تبسم وتجلى في ألطف مظاهر الحلم، ولم يزل بي حتى أخذت الكتاب، وقرأت منه بضعة أسطر فاندفع يفسر لي معاني ما قرأت بعبارة واضحة تغالب إعراضي فتغلبه وتسبق إلى نفسي.
وفعل الشيخ ذلك في اليوم الثاني كما فعل في الأول، أما اليوم الثالث فقد بقيت أقرأ له فيه وهو يشرح لي معاني ما أقرأ نحو ثلاث ساعات لم أملّ فيها، فقال لي: إني في حاجة إلى الذهاب إلى المزرعة لأعمل فيها. فطلبت منه إبقاء الكتاب معي فتركه، ومضيت أقرأه وكلما مررت بعبارة لم أفهمها وضعت عليها علامة لأسأله عنها، إلى أن جاء وقت الظهر وعصيت في ذلك اليوم كل رغبة في اللعب وهوى ينازعني إلى البطالة، وعصر ذلك اليوم سألته عما لم أفهمه فأبان معناه على عادته، وظهر عليه الفرح بما تجدد عندي من الرغبة في المطالعة والميل إلى الفهم.
كانت هذه الرسائل تحتوي على كثير من كلام الصوفية في آداب النفس، وترويضها على مكارم الأخلاق، وتطهيرها من دنس الرذائل، وتزهيدها في الباطل من مظاهر هذه الحياة الدنيا، ولم يأت عليَّ اليوم الخامس إلا وقد صار أحب شيء إلى ما كنت أبغضه من مطالعة وفهم، وفي اليوم السابع سألت: الشيخ ما هي طريقتكم؟ فقال: طريقتنا الإسلام، فقلت: أو ليس كل هؤلاء الناس بمسلمين؟ قال: لو كانوا مسلمين لما رأيتهم يتنازعون على التافه من الأمر، ولما سمعتهم يحلفون بالله كاذبين بسبب وبغير سبب. هذه الكلمات كانت كأنها نار أحرقت جميع ما كان عندي من متاع الغرور بأننا مسلمون ناجون، وإن كنا في غمرة ساهين، سألته: ما وردكم الذي يتلى في الخلوات أو عقب الصلوات؟ فقال: لا ورد لنا سوى القرآن؛ تقرأ بعد كل صلاة أربعة أرباع مع الفهم والتدبر. قلت: أنى لي أن أفهم القرآن ولم أتعلم شيئًا؟ قال: أقرأ معك ويكفيك أن تفهم الجملة، وببركتها يفيض الله عليك التفصيل، وإذا خلوت فاذكر الله على طريقة بيَّنها.
ولم تمض عليَّ بضعة أيام إلا وقد رأيتني أطير بنفسي في عالم آخر، وتفرقت عني جميع الهموم ولم يبق لي إلا هم واحد وهو أن أكون كامل المعرفة وأدب النفس، ولم أجد إمامًا إلا ذلك الشيخ الذي أخرجني في بضعة أيام من سجن الجهل إلى فضاء المعرفة، هذا هو الأثر الذي وجدته في نفسي من صحبة الشيخ درويش خضر، وهو مفتاح سعادتي، وهو الذي كشف لي ما كان خفي عني مما أودع في فطرتي.
وبعد ذلك ذهبت إلى طنطا قرب آخر السنة الدراسية في شهر جمادى الآخرة من سنة 1282، لكن اتفق أن بعض المشايخ كانت ماتت ابنته فعاقه الحزن عليها عن إتمام شرح الزرقاني على العزِّية، وآخر عرض له عارض منعه عن إتمام شرح الشيخ خالد على الأجرومية، فأدركت كلاًّ منهما في أوائل الكتاب الذي كان يدرسه وجلست في الدرسين، فوجدت نفسي أفهم ما أقرأ وما أسمع والحمد لله، وعرف ذلك مني بعض الطلبة فكانوا يلتفون حولي؛ لأطالع معهم قبل الدرس ما سنتلقاه.
وفي منتصف شوال من تلك السنة ذهبت إلى الأزهر وداومت على طلب العلم على شيوخه مع محافظتي على العزلة والبعد عن الناس حتى كنت أستغفر الله إذا كلمت شخصا كلمة لغير ضرورة، وفي أواخر كل سنة دراسية كنت أذهب إلى محلة نصر لأقيم بها شهرين، وكنت عند وصولي إلى البلد أجد خال والدي الشيخ درويشا قد سبقني إليه فكان يستمر معي يدارسني القرآن والعلم إلى يوم سفري، وكل سنة كان يسألني، ماذا قرأت؟ فأذكر له ما درست فيقول: ما درستَ المنطق؟ ما درست الحساب؟ ما درست شيئا من مبادئ الهندسة؟ وكنت أقول له بعض هذه العلوم غير معروف الدراسة في الأزهر، فيقول: طالب العلم لا يعجز عن تحصيله في أي مكان، فكنت إذا رجعت إلى القاهرة ألتمس هذه العلوم عند من يعرفها.
نعود إلى كلام السيد محمد رشيد رضا: كان الشاب محمد عبده لكثرة الانهماك في الذكر والفكر والنظر في كتب التصوف والتنقل في أحوال القوم ومقاماتهم يخرج عن حسه ويزج في عالم الخيال أو عالم المثال كما يقولون فيناجي أرواح السابقين، وما كان يجيز شرح ذلك، وكان يقول: إن ما يحصل للصوفية من الأحوال غير الطبيعية، لا يجوز ذكره لغير العارف به، ولا تجوز كتابته بحال، ولو كنت ملِكًا لحكمت بقتل الذين يكتبون ذلك؛ لأنهم يفتنون كثيرا من الناس ولا يفيدون به أحدا.
ورأى الشيخ درويش أن مريده قد كملت نفسه وسلوكه، فأمره بمخالطة الناس والتعرض لإرشادهم، وقد كتب محمد عبده رحمه الله عن ذلك: عندما رجعت إلى محلة نصر في سنة 1288 قال لي: إلى متى العزلة؟ وما الفائدة في العلم وتحصيله إذا لم يكن لك نورا تهتدي به ويهتدي به الناس؟ إن المكروه أن تستأثر بالفائدة دون أهل ملتك، وإن من لم ينفع بما تعلم فقد أضاع أهم ثمرة تقصد من غراس المعرفة، فعليك أن تخالط الناس وتعظهم، وترشدهم إلى الطريق القويمة والسنة الصالحة. ثم أخذ يستصحبني في مجالس العامة ويوجه إليّ الخطاب لأتكلم فيتكلم الحاضرون فأجيبهم، وأنطلق في القول على وَجَل في أول الأمر، وما زال بي حتى وجد عندي شيئًا من الألفة مع الناس والاستئناس بمكالمتهم، وفي شوال من تلك السنة ودعني وبكى بكاءً شديدًا ومات في السنة الثانية رحمه الله تعالى
وجاء المرحوم السيد جمال الدين الأفغاني إلى مصر أواخر سنة 1286، وقد صاحبته من ابتداء شهر المحرم سنة 1287 وأخذت أتلقى عنه بعض العلوم الرياضية والحكمية الفلسفية والكلامية، وأدعو الناس إلى التلقي عنه كذلك، وأخَذَ مشايخ الأزهر والجمهور من طلبته يتقولون عليه وعلينا، ويزعمون أن تلقي تلك العلوم قد يفضي إلى زعزعة العقائد الصحيحة، فكنتُ إذا رجعت إلى بلدي عرضت ذلك على الشيخ درويش فكان يقول لي: ما تقرب أحد إلى الله بأفضل من العلم والحكمة، إلا ما يسميه بعض الناس علما وليس في الحقيقة بعلم؛ كالسحر والشعوذة ونحوهما.
نعود إلى كلام السيد محمد رشيد رضا: ثم إن السيد جمال الدين أرشده كغيره من تلامذته إلى الإنشاء وكتابة المقالات الأدبية والاجتماعية والسياسية، ومرَّنهم على الخطابة، فبرع الشيخ محمد عبده في ذلك حتى صار أبرع من أستاذه نفسه؛ لأن عبارة السيد رحمه الله تعالى لم تصف من كُدورة العُجمة.
نقف هنا لنقول إن طالب العلم محمد عبده قبل أخذ شهادة التدريس بدأ يقرأ لطائفة من الطلاب شرح العقائد النسفية، وهو كتاب معروف في علم التوحيد ألفه نجم الدين النَسَفي، عمر بن محمد، المولود بنَسَف سنة 461 والمتوفى بسمرقند سنة 537، ونما ذلك إلى الشيخ عليش، محمد بن أحمد، المولود سنة 1217 والمتوفى سنة 1299، وكان من كبار علماء مصر ومن أعيان فقهاء المالكية، وجاءه أن الطالب محمد عبده قد رجح مذهب المعتزلة على مذهب الأشعرية، وكان الشيخ عليش رحمه الله أُذنًا يصدق بكل ما سمع، وكان شديد الغيرة في الدين، سريع الغضب، فأرسل إلى محمد عبده، وسأله مستنكراً عما بلغه، فرد عليه محمد عبده جواباً وكأنه ند له، فكبُر على الطلبة مثل هذا من طالب للشيخ عليش المهيب، وكان لهذه الحادثة تأثير كبير  على سمعة الشيخ محمد عبده، وكانت كما يقول السيد رشيد رضا: مبدأ خوض بعض الجامدين في دين كل من السيد الحكيم والأستاذ الإمام رحمهما الله تعالى.
ولما تقدم الطالب محمد عبده للامتحان في سنة 1294، تمالأت اللجنة على أن لا ينجح في الامتحان، نظراً لموقفه الشائن من الشيخ عليش، ولكن تميزه في الإجابة جعل أفرادها يثقلون كاهله بأسئلة إضافية أجاب عنها أفضل إجابة، وكان الشيخ محمد العباسي عضواً في اللجنة فحلف أن لو كان فوق الدرجة الأولى درجة ممتازة لاستحقها، وإزاء ذلك أعطته اللجنة الدرجة الثانية.
قال السيد محمد رشيد رضا: إنني على إعجابي بسعة علومه ورسوخه في معارفه التي كان بها جديرا بلقب الأستاذ الإمام، الذي قبله وأجازه الرأي العام، أثبتُ أنه كان مقصرا في علوم الحديث من حيث الرواية والحفظ والجرح والتعديل كغيره من علماء الأزهر.
وإضافة إلى دراسته في الأزهر وعند السيد جمال الدين الأفغاني، نظر الشيخ محمد عبده في كتب الفرنج المترجمة، ثم تعلم اللغة الفرنسية وهو في الرابعة والأربعين، فصار يقرأ فيها لا يكاد يتركها يوما من الأيام، وكانت عنايته بعلوم الأخلاق والنفس، وأصول الاجتماع الإنساني، والتاريخ وفلسفته، وفن التربية، ومكنّه ذلك من الدفاع عن الإسلام، وكان يقول: لا يمكن لأحد أن يدعي أنه على شيء من العلم، يتمكن به من خدمة أمته والدفاع عن مصالحها، إلا إذا كان يعرف لغة أوربية، كيف لا وقد أصبحت مصالح المسلمين مشتبكة مع الأوربيين في جميع أقطار الأرض؟ وهل يمكن مع ذلك لمن لا يعرف لغتهم أن يشتغل للاستفادة من خيرهم أو للخلاص من شر الأشرار منهم؟
دخل السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده في سلك الجمعية الماسونية ثم انسحبا منها، ويقول السيد رشيد رضا عن هذا الأمر ما يلي: أخذ الأفغاني على نفسه العهود والمواثيق أن يعمل عملاً عظيما ينهض بدولة إسلامية نهوضا يعيد للإسلام مجده وكان مضطلعا بذلك، إلا أنه كان مستعجلاً يريد أن يعمل هذا العمل العظيم ويرى أثر نجاحه وثمرة غراسه في حياته؛ لذلك جاءه من طريق الحكومة والسلطة، وتوسل إليه بالعلم، فاتخذ له في مصر تلاميذ بدأ يقرأ لهم كتب أصول الدين والفلسفة، حتى إذا ما وثق بهم مزج لهم السياسة بالعلم، وخاف استبدادَ إسماعيل باشا أن يحول بينهم وبين ما يشتهون، فانتظم مع مريديه في سمط الجمعية الماسونية، وكان فيها رئيس محفل مرّن فيه تلامذته على الخطابة والبحث في حياة الأمم وموتها، ونهوض الدول وسقوطها، وقد دخل في هذا المحفل شريف باشا وبطرس باشا غالي وكثيرون من الكبراء والأذكياء.
وكان توفيق باشا ولي عهد الخديوية مشايعا للسيد الأفغاني ومحفله، وكان محمد عبده أخلص تلاميذ الأفغاني، فكان دخوله في الماسونية متممًا لتربيته وتعليمه، وصلةً بينَه وبين توفيق باشا وكثير من رجال مصر، وسببا لبحثه في أحوال الحكومة المصرية، ووقوفه على نقائصها ومساويها وتوجهه إلى السعي في إصلاحها، وممهدًا له الطريق للعمل الذي قام به قبل الثورة العرابية وبعدها، على أن الأستاذ الإمام ترك الماسونية من زمن طويل، وقد أكثر أبناؤها من دعوته إلى محافلها بعد رجوعه من النفي إلى مصر فلم يجب، وأهدوا إليه وسامًا فلم يقبله، وقد سألتُه عن حقيقتها مرة فقال: إن عملها في البلاد التي وجدت فيها للعمل قد انتهى، وهو مقاومة سلطة الملوك والباباوات الذين كانوا يحاربون العلم والحرية، وهو عمل عظيم كان ركنا من أركان ارتقاء أوربا، وإنما يحافظون عليها الآن كما يحافظون على الآثار القديمة، ويرونها جمعية أدبية تفيد التعارف بين الناس، وأخبرني بأن دخوله مع السيد فيها كان لغرض سياسي اجتماعي، وأنه قد تركها من سنين ولن يعود إليها، وأنها ابتُذِلت في مصر ابتذالاً لم يكن من قبل، وأخبرني أنه أرشد مرة أحد ولاة بيروت إلى إبطال محفل ماسوني علم أنه يكيد للدولة العلية بإيعاز بعض الدول الأوربية، فهاب ذلك الوالي وظن أنه فوق قدرته، ولكن الأستاذ هداه السبيل إلى ذلك وشد من عزيمته ففعل. ولما رأى بعض علماء الأزهر بعد ذلك ترقي الأستاذ الإمام ونفوذه في الحكومة توهموا أن ذلك بمساعدة الجمعية له، فدخل كثيرون منهم فيها ومنهم من دخل بدعوة بعض أصحابه من أهلها، ولم يدخل أحد منهم لأجل عمل يفيد الأمة والبلاد إلا جماعة السيد جمال الدين.
عمل الشيخ محمد عبده في سنة 1295 مدرسًا للتاريخ في مدرسة دار العلوم، ولعلوم العربية في مدرسة الألسن الخديوية، فكان يدرّس فيهما مع الاستمرار على التدريس في الجامع الأزهر؛ فبدأ في دار العلوم بقراءة مقدمة ابن خلدون؛ بغرض بث أفكاره السياسية والاجتماعية في أذهان التلاميذ حول نهوض الدول وضعفها وسقوطها وشؤون العمران وأصوله، وكانت دروسه في الأزهر بناءً جديدًا للعقائد على أسس البراهين القطعية، وتجديدًا لما بلي من سائر العلوم العقلية، وكانت حلقة درسه في الرواق العباسي من  الأزهر واسعة جدًّا تحيط بأعمدة كثيرة، وكان يقرأ في بيته درسا لطائفة من المجاورين في كتاب تهذيب الأخلاق لابن مسكويه.
كان القصد من هذه الدروس تكوين نابتة جديدة في مصر تحيي اللغة العربية والعلوم الإسلامية، وتقوِّم عِوج الحكومة المصرية،التي كانت قد وقعت في النزع أو أوشكت، عظم فيها سلطان الأجانب، وضُرِبت عليها الذلة والمسكنة، ذلك بما أسرف إسماعيل باشا في الضرائب والمكوس، وتعذيب الأجساد والنفوس.
وكان السيد جمال الدين ومريديه قد اتصلوا بولي العهد توفيق باشا، واتفقوا معه على إصلاح شؤؤن الحكومة؛ ولما انتهى الجور والخلل بخلع إسماعيل وتنصيب توفيق أميرا على مصر في رجب سنة 1296، طفق السيد جمال الدين يطالبه بإنجاز وعوده، وأولها إنشاء مجلس نواب للحكومة وجعل الوزارة مسؤولة، وظهرت طلائع الإصلاح على يده، ولكن وجد من الواشين من غَيَّرَ قلبه على السيد والشيخ، وأوهمه أنهما يسعيان في تقييد سلطته أو إزالتها، فأمر في رمضان من سنة 1296 بنفي السيد، فأُخِذَ ليلاً وأرسل في قطار خاص إلى السويس ومنها إلى الهند، وأمر بعزل الشيخ من التعليم وبأن يقيم في قريته لا يفارقها.
وفي أواسط سنة 1297 اهتم رئيس الوزراء مصطفى رياض باشا، المولود سنة 1250 والمتوفى سنة 1329=1911، بتحسين الجريدة الرسمية وجعلها مفيدة مرغوبا فيها من الناس، فأشاروا عليه بجعل الشيخ محمد عبده محرِّرًا فيها، ففعل بعد أن استرضى الخديوي؛ ثم إنه طلب أن تكتب الجريدة مقالة عن مالية مصر تلم بشيء من تاريخها الماضي وحالها الحاضر الذي وضع له قانون تصفية الديون والذي جعل للدول الأوربية حق الإشراف على مالية مصر، فكتبها الشيخ محمد عبده في مجلس واحد، وأعجب بها رياض باشا أشد الإعجاب، وزاد عجبه أن وجد في الأزهر شاب واقف على تاريخ المالية في مصر، عارف بجميع شئونها، قادر على بيان ذلك والإفصاح عنه.
وفي أواخر هذه السنة سأله  رياض باشا عن رأيه في إصلاح الجريدة؛ فاقترح وضع لائحة تضبط قلم المطبوعات وتحرير الجريدة الرسمية، فأمضى رياض باشا رأيه، وكان من محرريها سعد زغلول وهو ممن كانوا يحضرون دروسه ودروس السيد جمال الدين، ونهج محمد عبده في تنفيذ لائحة قلم المطبوعات نهجاً فريداً، فألزم الصحف المصرية أن تكتب بلغة عربية صحيحة فصيحة، تحت طائلة إغلاقها إن لم تتدارك الأمر، فنتج عن ذلك اهتمام باللغة والبيان، ونشأ من ذلك جيل من الكتاب والقراء الفصحاء البلغاء، وألزمت اللائحة إدارات الحكومة أن تكتب إلى إدارة المطبوعات تقريراً بأعمالها وإنجازاتها، وألزمت المحاكم أن ترسل إليها أحكامها، ومنحت اللائحة إدارة المطبوعات الحق في انتقاد كل ما تراه من الأعمال، وحق المراقبة على الجرائد الوطنية والأجنبية التي تصدر في القطر المصري، والتحقيق فيما تقوله في رجال الحكومة وأعمالها، فإن كان حقًّا ما نشر في الجريدة، وجب على الحكومة مؤاخذة من نسب إليه الذنب؛ وذكر ذلك في الجريدة الرسمية، وإن كان كذبًا طولب مدير الجريدة بإثباته، وإلا أنذر، وإذا تكرر إنذار جريدة ثلاث مرات يمنع إصدارها ألبتة أو إلى الأجل الذي تراه الإدارة.
ورغب بعض الكبراء إلى الإمام محمد عبده أن يستبدل الطربوش بالعمامة؛ لأن صاحب العمامة لا يعين في الوزارة، فأبى عليهم ذلك فاستعانوا عليه برياض باشا، فسأله فأخبره أنه لا يرغب في ترك زيه إلا إذا ألزمه بذلك، فإذا خرج من عمله عاد إلى عمامته؛ فقال رياض باشا: كلا، إنني لا أرضى لك الطربوش؛ لأنني أحب أن يعلم الناس أنه يوجد تحت العمائم من العقول والأفهام مثل ما يوجد تحت الطرابيش وغيرها.
وانتقد الشيخ محمد عبده نظارة المعارف ومساوئ التعليم والتربية في مدارسها، فضاق ذرع ناظر المعارف لذلك العهد فلاذ برياض باشا شاكيًا من الجريدة الرسمية، فقال له رياض باشا: إن كان ما كتب حقًّا فلا وجه للشكوى منه، وإن كان باطلاً فعليك أن تبين ذلك بالدليل والبرهان، وفلان ينشره في الجريدة الرسمية نفسها؛ فإنه لا يقصد بما يكتب فيها إلا المصلحة. فسكت الناظر واجمًا.
وفي سنة 1298 أنشأ رياض باشا المجلس الأعلى للمعارف ليشرف على إدارة المعارف العمومية، وجعل محمد عبده عضوا في هذا المجلس؛ فكان من اقتراحاته أن تقوم الحكومة المصرية بإعانة المدارس الأجنبية مكافأة لها على نشر العلم في البلاد، فهش الأعضاء الأوربيون لهذا الاقتراح، ثم إنه اقترح في جلسة أخرى وجوب جعل المدارس الأجنبية تحت مراقبة المعارف حتى تعلم الحكومة أنها لا تضيع دراهمها، بل تنفقها فيما ينفع بلادها. وهكذا كان.
وكانت الأمور تسير في طريق الإصلاح بالأمير الجديد توفيق باشا لعفته عن الأموال، ورغبته في إصلاح الحال، وبالوزير العامل المخلص رياض باشا، وإذا بضباط الجيش من المصريين يطالبون بحقوقهم، وأيديهم على مقابض سيوفهم، وتلك هي ما يسمونه بالثورة العُرابية.
وكان الشيخ محمد عبده كارها للثورة، منددًا بزعمائها وهو بينهم؛ لأنه كان يعلم أنها تحبط كل إصلاح تعمله الحكومة أو تنويه، وأنها تمهد للأجانب سبيل الاستيلاء على البلاد، وكان ينتقد زعماء الثورة خطابة وجدالاً في أنديتهم، وبالكتابة في الجريدة الرسمية، وساءت علاقاته مع عرابي وكان عرابي وأعوانه ينفضون من المجلس يدخل فيه. وسبب ذلك أن محمد عبده  كان يرى: أن أول ما يجب أن يُبدأ به التربية والتعليم لتكوين رجال يقومون بأعمال الحكومة النيابية على بصيرة وعزيمة، وحمل الحكومة على العدل والإصلاح، ومنه تعويدها الأهالي على البحث في المصالح العامة واستشارتها إياهم في الأمر بمجالس خاصة تنشأ في المديريات والمحافظات، وليس من الحكمة أن تعطى الرعية ما لم تستعد له فذلك بمثابة تمكين القاصر من التصرف بماله قبل بلوغ سن الرشد، وكمال التربية المؤهلة والمعدة للتصرف المفيد، وأخشى أن يجر هذا الشغب على البلاد احتلالاً أجنبيًّا يسجل على مسببه اللعنة إلى يوم القيامة.
بل خطب محمد عبده في العرابيين وأنصارهم خطبة استغرب فيها أن يكون علية القوم هم الذين يخرجون على الحكومة، فالمعهود في سير الأمم أن الخروج على الحكومات الاستبدادية، وتقييد سلطتها وإلزامها بالشورى وبالمساواة بين الرعية، إنما يكون من الطبقات الوسطى والدنيا إذا فشا فيهم التعليم الصحيح والتربية النافعة، وصار لهم رأي عامّ، وأنه لم يعهد في أمة من أمم الأرض أن الخواص والأغنياء ورجال الحكومة يطلبون مساواة أنفسهم بسائر الناس وإزالة امتيازاتهم واستئثارهم بالجاه والوظائف، ومشاركة الطبقات الدنيا لهم في ذلك، فكيف حصل في هذه المرة ومن أهل هذا المجتمع؟ فهل تغيرت سنة الله في الخلق وانقلب سير العالم الإنساني؟ أم بلغت الفضيلة فيكم حدًّا لم يبلغ إليه أحد من العالمين، حتى رضيتم أن تساووا الصعاليك حبًّا بالعدالة الإنسانية؟ أم تسيرون إلى حيث لا تدرون، وتعملون ما لا تعلمون؟
كان محمد عبده خصما للثورة العسكرية، وإن كان روحا مدبرة لتلك الحركة الفكرية، وهو لم يفارق القوم المطالبين بالإصلاح عند مهب الفتنة، ويلجأ إلى قصر الإمارة أو يتفيأ ظلال العزلة، لأنه في فكره وسط بين الطرفين، وفي عمله بين المصلحتين، وقد قال لعرابي مرارًا كثيرة: عليك بالهدوء والسكينة، وأنا أضمن لك أكثر مما تطلب في بضع سنين، ونهاه بعد ذلك عن محاربة الإنكليز.
انتهت ثورة عرابي بالاحتلال الإنكليزي، وقبض على زعمائها وألقوا في غيابة السجن ليحاكموا، و لأمر ما جُعِل محمد عبده منهم، وفي سنة 1300=1883 صدر الحكم على عرابي ورفاقه بالنفي، وعلى الشيخ محمد عبده بالنفي ثلاث سنين وثلاثة أشهر، وكان النفي مزيدًا في كمال علمه وتربيته وسببا لنشر علمه في بلاد كثيرة، ولما كان في السجن نظم قصيدة قال في أواخرها:
وأحفظَ الدهرَ أني لا أشاكله... فيما تبطن من غش وتمويه
أحارب الدهر وحدي ليس ينفعني... إلا الثبات وحسبي من أصافيه
تعلم الدهرُ مني كيف يطعنني... فخاب ظنًّا وخانته مزاكيه
وليس يعجزني عن كسر فيْلَقه... إلا المنايا تفاجيني فتحميه
إن المنايا سهام الله سددها... وليس يخطئ سهم الله مرميه
سافر رحمه الله تعالى إلى سوريا فأقام فيها نحو سنة، ثم سافر إلى فرنسا التي كانت على خلاف مع بريطانيا حول تقاسم استعمار الشرق العربي، وكان قد سبقه إليها أستاذه وصديقه السيد جمال الدين الأفغاني، فأقام فيها عشرة أشهر معظمها في باريس حيث أصدرا جريدة العروة الوثقى، وكان السيد جمال الدين مدير سياسة الجريدة والشيخ محمد عبده المحرر الأول لها؛ وكان السيد منبع الأفكار والآراء السياسية التي تنشر في الجريدة لا سيما ما هو من سيئات الإنكليز في الهند وغيرها، وكان الشيخ يبرز هذه المسائل في صورة تروع الأبصار، وتحرك الأفكار ويتصرف فيها ما شاء، وكانت له مقالات يكتبها في الاجتماع والوعظ، والأخلاق والسياسة الإسلامية، وكان للجريدة تأثير كبير في البلاد الإسلامية في بثها الأمل ودعوتها للإصلاح ورسمها لخطط العمل.
ولم يقتصر الشيخان على الوعظ والإرشاد في أوربا، بل كانت لهما مساع سياسية لدى حكومات وسياسي فرنسا وإنكلترا في المسألة المصرية ومسألة السودان، وزار محمد عبده بريطانيا والتقى فيها بأهل الرأي والحكم، وتحت عنوان: هؤلاء رجال الإنكليز وهذه أفكارهم، ذكرت جريدة العروة الوثقى في شوال 1301= آب/أغسطس 1884 أنه التقى باللورد هارتينغتون، وكان آنذاك وزير الحربية البريطانية ومن قبلها وزير الهند، وأوردت حواره مع الشيخ محمد عبده، وأن اللورد هارتينغتون سأله: ألا يرضى المصريون أن يكونوا في أمن وراحة تحت سلطة الحكومة الإنكليزية؟ أَوَلا يرون حكومتنا خيرًا لهم من حكومة الأتراك، وفلان باشا وفلان باشا؟ فأجاب الشيخ محمد عبده: كلا، إن المصريين قوم عرب، وكلهم مسلمون إلا قليلاً، وفيهم من محبي أوطانهم مثل ما في الشعب الإنكليزي، فلا يخطر ببال أحد منهم الميل إلى الخضوع لسلطة من يخالفه في الدين والجنس، ولا يصح لحضرة اللورد، وهو على علم بطبائع الأمم، أن يتصور هذا الميل في المصريين.
فقال الوزير: هل تنكر أن الجهالة عامة في أقطار مصر، وأن الكافة لا تفرق بين الحاكم الأجنبي والحاكم الوطني، وأن ما ذكرته من النفرة من سلطة الأجانب إنما يكون في الأمم المهذبة؟ فاحتد الشيخ وقال: إن النفرة من ولاية الأجنبي ونبذ الطبع لسلطته مما أُودع في فطرة البشر وليس يحتاج للدرس والمطالعة، وهو شعور إنساني ظهرت قوته في أشد الأمم توحشًا كقبائل الزولو الأفريقية؛ الذين لم تنسوا ما كابدتموه منهم في الدفاع عن أوطانهم. وثانيًا، إن الأميين من المسلمين لا يفوتهم العلم بضروريات الدين، ومن أجلاها وأظهرها عندهم أن لا يدينوا لمخالفيهم فيه، وإن لهم في خطب الجمعة، ومواعظ الوعاظ في مساجدهم ما يقوم مقام العلوم الابتدائية.
وعلقت الجريدة بعد ذلك: كل ذي شكل إنساني وصورة بشرية يدرك ما وراء هذه الأسئلة وما تشف عنه هذه الظنون العجيبة! هذا اللورد هارتينغتون وزير الحربية الإنكليزية يظن أن الجهل يبلغ من المسلمين عمومًا، والمصريين خصوصًا إلى حد سلب عنهم كل إحساس إنساني، وأنهم في حضيض من الجهل لا يميزون فيه بين الغريب والقريب، ولا بين العدو والحبيب.
ضاقت الحرية الإنكليزية الواسعة أن تسع جريدة العروة الوثقى، فمنعتها من الهند ومصر، وفرضت الحكومة المصرية غرامة وعقوبة على من تُرى عنده؛ فتوقفت عن الصدور بعد 18 عدداً، ثم سافر محمد عبده من فرنسا إلى تونس، وكانت تحت الاحتلال الفرنسي، فأقام فيها أياما، ثم دخل مصر متنكرا، بغرض تأسيس معارضة سرية، ولكنه لم يلق التأييد الذي كان يتوقعه، فعاد منها خائبا وذهب إلى بيروت حيث أقام حوالي 3 سنوات يدرس في المدرسة السلطانية وفي الجامع الكبير، واشتغل كذلك بالتأليف، فقد ترجم رسالة السيد جمال الدين الأفغاني في الرد على الدهريين، وشَرَحَ نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ومقامات بديع الزمان الهمذاني، وترك نهذيبه وأخلاقه أثراً كبيراً عند الطوائف غير المسلمة في لبنان.
وفي سنة 1306= 1888 عاد إلى القطر المصري، وقد كتب عن تأثير الأسفار في نفسه: أما الأسفار ... فقد كان من نتائجها عندي أني عرفت حق المعرفة أن مرض المسلمين نشأ من أمرين: الأول: الجهل بدينهم ... واختلاط ما هو من الدين بما ليس منه حتى صار عليه دينًا أجنبيًّا عن أصل الدين الإسلامي الطاهر الرفيع. والأمر الثاني: استبداد الحكام الظالمين.
ويتحدث عن أماله في نهضة الأمة: وهذه الآمال تضعف في نفسي عندما أعود إلى دياري لكثرة ما ألاقي من العنت ... وسوء ما أرى من انصراف المسلمين عن النظر في منافعهم، وشدة عداوتهم لأنفسهم، وقوة رغبتم في تمكين ظالميهم من رقابهم، وحبهم في الاستعباد لهم لغير سبب معقول.
وبعد عودته أصدر الخديوي توفيق عفواً عنه وعينه قاضياً في المحاكم الأهلية في الزقازيق، ليبعده عن التعليم وعن تربية التلاميذ على أفكاره السياسية المستقلة، ورغم امتعاضه من هذا العمل، برز محمد عبده في القضاء حتى بلغ أعلى درجة منه، وتميز بمعاقبة المزورين وشهداء الزور بعد أن استفحلوا وطغوا، وكان يجتهد في الإصلاح بين أهل البيوت وذوي القربي، ويبالغ فيحفظ حقوق اليتامى، ومما كان يحكم فيه باجتهاده واعتقاده مسائل الربا، فإنه كان إذا تعذر عليه الصلح يحكم برأس المال دون الربا؛ فيلجأ رب المال إلى الاستئناف؛ ليحكم له بالربا.
وفي سنة 1309=1892 توفي الخديوي توفيق وجاء بعده ابنه عباس حلمي باشا، المولود في القاهرة سنة 1291=1874 والمتوفى منفياً في سويسرا سنة 1363=1944، وكان معروفاً بميوله الوطنية ورغبته في استقلال مصر، فتجددت الآمال في النهضة والجلاء.
وكان ما جرى من قبل للشيخ محمد عبده ولشيخه مع توفيق باشا في مصر، قد جعله ضعيف الأمل في تحقيق الإصلاح السياسي، وخاب أمله في أهل السياسة بسبب ما رآه فيهم من اختلاف وخلاف وتنازع على المصالح المؤقتة، فرأى أن مفتاح الإصلاح هو في التربية من خلال مؤسسات التعليم، وأن التربية على خدمة الأمة والتضحية في سبيلها بالمصالح والرغبات الشخصية هي حجر الأساس لقيام حكومة إسلامية عادلة مُصلِحة، ونورد هنا جزءاً من مذكرة مطولة في هذا الصدد كتبها الشيخ محمد عبده في هذه الفترة:
أهل مصر مضى عليهم الزمن الطويل والقرون العديدة، ولم يروا مربيًا يأخذهم بدينهم، فحُرِموا خيره، ولم يبق عندهم إلا ما فيه المضرة لهم ولغيرهم، تحت اسم الدين وليس بدين. على أنه ليس فيهم من ينكر أن القرآن كلام الله، وأنه ينبوع الدين، ولكن ليس لهم من معاهد التربية إلا جهتان: المدارس الأميرية، ومدرسة الأزهر الدينية، وليس في الجهتين ما يهديهم لما يجعلهم رعية صالحة، وهم الآن على غاية الاستعداد لقبول ما يصلحهم.
المدارس الأميرية ليس فيها شيء من المعارف الحقيقية؛ ولا التربية الصحيحة، أنشأها محمد علي باشا بإشارة بعض الفرنسويين؛ لتعليم بعض أولاد الأرناؤوط والأتراك والمورلية؛ ليكون منهم رجال عندهم إلمام ببعض الفنون المحتاج إليها في نظام الحكومة التي أسسها ... أما التربية على أخلاق سليمة، فلم تخطر له ولا لمن تولى إدارة هذه المدارس على بال ... ولم يكن القصد تربية العقول، ولا تهذيب النفوس.
وأما المدارس الأجنبية على تنوعها ... غلط من زعم: أن لتلك المدارس الأجنبية أثرا سياسيًّا أو أدبيًّا في مصر بل قد أحدثت بعض النفرة في قلوب المسلمين من رؤساء تلك المدارس وأممهم، ولذلك تاريخ في البلاد معروف فهي ضارة بالألفة، مبعدة للمحبة، رغمًا عما يزعمه أربابها مما يخالف ذلك.
الجامع الأزهر مدرسة دينية عامة، يأتي إليها الناس: إما رغبة في تعليم علوم الدين؛ رجاء ثواب الآخرة، وإما طمعًا في بعض الامتيازات لطلاب العلم فيه، ولا يزال بعضها إلي اليوم، ولكن مما يؤسف عليه: أنه لا نظام لها في دروسها، ولا يسأل فيها التلميذ أيام الطلب عن شيء من أعماله، ولا يبالي أستاذه حضر عنده في الدرس أم غاب، فَهِم أم لم يفهم، صلحت أخلاقه أم فسدت، ويمر عليه الزمان الطويل، لا يسمع فيه نصيحة من أستاذه تعود عليه بالإصلاح في دنياه أو دينه، وإنما يسمع منه ما يملأ القلب بغضا لكل من لم يكن على شاكلته في الاعتقاد حتى من بني ملته... إصلاح الأزهر لابد أن يكون بالتدريج؛ في تغيير نظام الدروس بحيث يقرر فيها أن كل من أدرج اسمه في جدول الطلبة، يلزم بالحضور في الدروس وإلا حرم الامتياز. ويُدخل فيه تدريس الآداب الدينية المفقود الآن بالكلية، ويكلف الأستاذ بتعهد أخلاق تلميذه؛ لتكون منطبقة على تلك الآداب بقدر الإمكان، ويجعل شيخ الجامع رقيبًا على الأساتذة والتلامذة في ذلك.
ولذا توجه محمد عبده للإصلاح الديني والأدبي، وبالغ في ذم السياسة فقال في كتابه مقالات الإسلام والنصرانية: فإن شئت أن تقول إن السياسة تضطهد الفكر أو الدين أو العلم، فأنا معك من الشاهدين؛ أعوذ بالله من السياسة، ومن لفظ السياسة، ومن معنى السياسة، ومن كل حرف يلفظ من كلمة السياسة، ومن كل خيال يخطر ببالي من السياسة، ومن كل أرض تذكر فيها السياسة، ومن كل شخص يتكلم أو يتعلم أو يُجن أو يعقل في السياسة، ومن ساس ويسوس وسائس ومسوس.
ولكن تسنم الخديوي الجديد أحيا الآمال لدى محمد عبده في الإصلاح من خلال المؤسسات السياسية، وبخاصة أن أكثر شيوخ الأزهر ناصبوه العداء في محاولته الإصلاحية السابقة، فاتصل بالخديوي الجديد وحظي عنده وقال له: إن لدى أفندينا ثلاث مصالح لا يمكن أن يمد إليها الإنكليز أيديهم الآن وهي الأوقاف والأزهر والمحاكم الشرعية، فإذا هو عُني بإصلاحها فإنه يصلح بها البلاد كلها، وأصدر الخديوي في سنة 1312=1896 قانوناً لإصلاح الأزهر يقوم على أن يدير الأزهر مجلس مؤلف من أكابر علماء المذاهب في الأزهر ينتخبون انتخابا، ومعهم محمد عبده تعييناً، وكانت ميزانية 1895 خصصت مبلغاً يصرف على مشايخ الأزهر وفقاً لترتيب محدد.
وكان الأزهر في جانب من جوانبه في ذلك الحين أشبه بتكية، ينفق المجاورون من أعمارهم الأعوام الطوال في الأزهر، دون أية رقابة على أعمالهم، وكانت مدة الدراسة غير محددة والامتحانات السنوية غير مألوفة، وهو نظام جيد لو كان فيه رقابة وصرامة، ولكنه ترهل فصار يخرَّج بضعة علماء أقوياء متينين وأفواجاً من الضعفاء المتكسبين الخاملين، الذين يظهر ضرر ضعفهم جلياً عندما يتسنمون مناصب القضاء الشرعي في مجتمع زراعي خرج من عزلته ليصبح محور التجارة العالمية وأهم سوق لبائع أو مشتر في شرق المتوسط ومعبر بريطانيا إلى الهند.
ووضع محمد عبده خطة ليقوم مجلس الأزهر بمراجعة وتطوير نظام التدريس والامتحان، وبيان وسائل العلوم ومقاصدها، واختيار كتب العلوم، وكان منطلقه في ذلك أن يكون التطوير برأي كبار الشيوخ؛ ليسهل تنفيذه بالرغبة لا بالقوة، ولكن أكثر كبار الشيوخ تنازعهم الخوف من التغريب، والتوجس من التغيير، والشك في محمد عبده والغيرة منه، ووقف في وجه الخطة شيخ الأزهر سليم البِشري، فلم يكتب لمساعي الإصلاح أن تكتمل.
وجاءت الفرصة للشيخ محمد عبده ليتابع نشاطه الإصلاحي من منبر جديد هو مجلة المنار التي أسسها السيد محمد رشيد رضا في القاهرة بعد أن هاجر إليها من طرابلس في سنة 1315=1898، والتي ستصبح في حياة محمد عبده ومن بعده أهم منبر يدعو للنهضة الإسلامية، فقد كان السيد رشيد رضا قد تأثر أشد التأثر بمجلة العروة الوثقى، فلما جاء القاهرة والتقى بالشيخ محمد عبده، فاتحه برغبته في إنشاء المجلة، فشجعه على ذلك وصار مرشده الروحي وأستاذه في طوره الجديد، وأصبح السيد رشيد رضا من أخلص وأقرب تلاميذه، وصارت مجلة المنار بمثابة منبر لدعوات الشيخ محمد عبده، تسميه الأستاذ الإمام، وتنشر مقالاته وتدافع عنه، وبقيت على ذلك بعد وفاته، وإن كان الاتجاه السلفى التقليدي عند السيد محمد رشيد رضا أقوى كثيراً مما هو عند محمد عبده، وازداد تميزاً بعد وفاته، رحمها الله جميعا.
وفي أول سنة 1317=1899، صدر أمر الخديوي بناء على قرار مجلس الوزراء بعزل الشيخ حسونة النواوي عن مشيخة الأزهر وإفتاء الديار المصرية،وتعيين الشيخ محمد عبده مفتياً، فوجه اهتمامه لتحسين أداء المحاكم الشرعية، وأجرى تفتيشاً عاماً عليها، وكتب تقريراً بذلك بين فيه مواطن الخلل والمعايب والتدهور الذي وصلت إليه المحاكم في المعاني والمباني، وكان القضاء محصوراً في الحنفية فأوصى بتوسعته للمذاهب الأخرى، واقترح أيضا أن تؤلف لجنة من العلماء لاستخراج كتاب في أحكام المعاملات الشرعية ينطبق على مصالح الناس في هذا العصر، وألفت الحكومة لجنة في وزارة العدل للبحث في تنفيذ ما يتيسر تنفيذه منه بالتدريج.
وبعدها في نفس السنة عين محمد عبده عضوًا دائمًا في مجلس شورى القوانين، فكان له أثر كبير في دور تنشيط المجلس،وأزال سوء التفاهم بينه وبين الحكومة، فصارت تحفل برأيه، وتبين له سبب ما لم تأخذ به، فعظمت ثقة الأمة برجاله، وكان هناك من يرى أن الاشتغال بعمل المجلس مضيعة للوقت، لأن الحكومة المصرية كثيراً ما تعود عن قرارتها بعد زمن قصير أو طويل، ولكن محمد عبده رد على ذلك فقال: إن الغرض الأول من العمل في المجلس هو التعاون مع الأعضاء على الجد والاهتمام بالبحث في الأمور العامة ومصالح البلاد وتربية الرأي العام في الأمة ليكون ذلك إعدادًا لنفوس طائفة منا لفصل الأحكام بالشورى، ويكون ذلك بداية من بدايات الإصلاح في البلاد.
ويعزو بعض المتحاملين على الشيخ محمد عبده جهاده في إصلاح الأزهر إلى نزعته التغريبية بل والعلمانية، والحقيقة أن محمد عبده كان يريد لخريجي الأزهر أن يكونوا أرقى طبقة في الأمة يديرون كل جوانب حياتها الدينية والمدنية والسياسية، ولكن أغلبهم عارضوا أن يخرجوا من شرنقتهم الضيقة إلى العالم الوسيع بتحدياته وتناقضاته وإشكالاته، والتقى ذلك مع رغبة اللورد كرومر في أن يُترك الأزهر وشأنه، أي ليبقى على هامش الحكم، وهكذا تراجعت مكانة الأزهر وخريجيه وتقدم التعليم المدني وخريجوه وأصبحوا هم قوام الحكومة في مصر، ولم يدرك حزب الأزهر تقهقر مكانته وتأخر مصالحه المعيشية إلا بعد فترة، فخرج طلبة الأزهر والمعاهد الدينية يتظاهرون مطالبين بالإصلاح في عهد المك فؤاد الأول في سنة 1343=1925، واستجابت لهم وزارة أحمد زيور باشا فأصدرت قانوناً يمكِّن من أراد منهم أن يلحق بقطار الوظائف المدنية ولكن بعد أن ملأه غير الأزهريين.
ولسبب ما تغيَّر الخديوي عباس على محمد عبده ولم يعد يؤيده في مسعاه الإصلاحي، فأدرك أن غايته لن تدرك كلها، فقنع ببعضها، وكان بإمكانه أن يثير أزمة ويطلب رسميًّا من الحكومة تنفيذ القانون، ولكن لم يفعل، إذ لم يكن يرغب أن يكون للحكومة تصرف في الأزهر، بل أن يبقى مستقلاًّ يصلحه أهله برضا واقتناع، وقد انتقل الأزهر بهذا الإصلاح من خلل عام إلى شيء من النظام، ولا بد أن نشير أن الشيخ البشري قد تحول شيئاً فشيئاً لتأييد الإصلاح، وأن الخديوي ما لبث كذلك أن سعى في تنفيذه من جديد.
ولم أتيقن من سبب استياء العلاقات بين الشيخ محمد عبده وبين الخديوي عباس، ويقول ويلفرد بلنت في مذكراته إن محمد عبده كان يتحدث عن الخديوي بلهجة احتقار واستياء لجشعه وضغطه على الأوقاف لتبيعه الأطيان الموقوفة، وقال له محمد عبده إن الخديوي تغير عليه بسبب فتاو أفتى بها مسلمي حنوب أفريقيا أباح لهم أكل ذبائح أهل الكتاب وإن لم تذبح على الطريقة الإسلامية، وأن لا ضير  للمسلم المقيم في بلاد أوربية أن يلبس القبعة، وهي فتاوى أحدثت في حينها دوياً هائلاً وجرَّت على المفتي اعتراضات كثيرة ونقمة عارمة، ولعل هناك سبباً آخر، وقد يكون نتيجة وليس سبباً في سوء العلاقات، وهو أن ويلفرد بلنت طلب من محمد عبده رأيه في ترتيب الحكم في مصر بعد اتفاق فرنسا وبريطانيا على تقاسم المستعمرات، فكتب له في منتصف سنة 1904 مقترحات تجعل الخديوي مَلِكاً دستورياً ليست له سلطة تخوله التداخل في أعمال الهيئات التنفيذية للوزارات ولا إدارة الأوقاف والأزهر ولا المحاكم الشرعية، كما أن محمد عبده كتب في أول سنة 1905 مقالة بمناسبة مرور 100 سنة على تولى أسرة محمد علي الحكم في مصر، أودعها صراحة الناقم ومما جاء فيها:
أخذ محمد علي يرفع الأسافل ويعليهم في البلاد والقرى، كأنه كان... يحن لشَبَهٍ فيه ورثه عن أصله الكريم، حتى انحط الكرام وساد اللئام، ولم يبق في البلاد إلا آلات له يستعملها في جباية الأموال وجمع العساكر بأية طريقة، وعلى أية وجهة.. فمحق بذلك جميع عناصر الحياة الطيبة من رأي وعزيمة واستقلال نفسي لتصير البلاد المصرية جميعها إقطاعاً واحداً له ولأولاده على أثر إقطاعات كثيرة كانت لأمراء عدة.
ماذا صنع بعد ذلك؟.. اشرأبت نفسه لأن يكون ملكاً غير تابع للسلطان العثماني.. فجعل من العدة لذلك أن يستعين بالأجانب من الأوروبيين فأوسع لهم في المجاملة وزاد لهم في الامتياز خارجاً عن حدود المعاهدات المنعقدة بينهم وبين الدولة العثمانية، حتى صار كل صعلوك منهم لم يكن يملك قوت يومه ملكاً من الملوك في بلادنا، يفعل ما يشاء، ولا يسأل عما يفعل، وصغرت نفوس الأهالي بين أيدي الأجانب بقوة الحكم، وتمتع الأجنبي بحقوق الوطني التي حرم منها، وانقلب الوطني غريباً في داره، غير مطمئن في قراره، فاجتمع على سكان البلاد المصرية ذلان: ذل ضربته الحكومة الاستبدادية المطلقة، وذل سامهم الأجنبي إياه ليصل إلى ما يريده منهم غير واقف عند حد أو مردود إلى شريعة!
وفي  أول سنة 1323 استقال شيخ الأزهر علي الببلاوي، وتلاه استقالة الشيخ محمد عبده وعدد من الأعضاء، بعد 10 سنوات من مسيرته في إصلاح الأزهر، وقد صدر من جانبه كتاب غُفل من الاسم، أبرز بالأرقام الإحصائية إنجازات إصلاح الأزهر، ثم ما لبثت الأسقام أن سبقت الشيخ إلى جسمه، فاعتل فترة شهور ثم وافته المنية في 8 جمادى الأولى من سنة 1323.
وكان لتعثر الإصلاح في الأزهر عواقب لعل أهمها أن الحكومة استحدثت مدرسة خارجه للقضاء الشرعي، فما عاد الأزهريون مؤهلين للقضاء إلا بعد مرورهم بهذه المدرسة، وينبغي أن نذكر أبرزَ من تابعوا مسيرة الشيخ محمد عبده في إصلاح الأزهر: الشيخ محمد مصطفى المراغي، المولود سنة 1298والمتوفى سنة 1364=1945، والذي كان رئيس المحكمة العليا الشرعية، ثم شيخاً للأزهر بعد ذلك في سنوات 1927- 1930، ثم سنوات 1934- 1945.
ولم تمنع هذه المناصب التي عددناها وتبعاتها الثقيلة الشيخ محمد عبده من العمل العلمي والتدريس، بل بدأ في أول سنة 1317 تدريس تفسير القرآن الكريم في الأزهر، وبقى عليه حتى وفاته دون أن يكمله،  وأمضى سنوات عمره الأخيرة في شغل دائم دائب بين كل هذه المشاغل والالتزامات، ولكنه كان يشعر أن كثيراً مما أراد تحقيقه قد خرج إلى عالم الواقع، وكان يسافر كثيراً في البلاد الأوربية للاطلاع على مدارسها وجامعاتها واللقاء ببعض كبار شخصياتها التعليمية والفكرية والسياسية.
ذكرنا من قبل اسم الشاعر الإنجليزي الثري ويلفرد بْلَنْت، المولود سنة 1840 والمتوفى سنة 1922، والذي صادقه محمد عبده صداقة متينة، فقد كان بلنت من أشد المعادين للاستعمار وللسياسات البريطانية التي لا تراعي مصالح الشعوب، وعمل في الخارجية البريطانية ثم استقال منها، وعمل في تجارة الخيول العربية التي قادته لمصر، وكان يقيم في ضاحية عين شمس في القاهرة، وأهدى الأرض المجاورة لبيته لمحمد عبده، فبنى عليها بيته المتواضع، وكان بلنت يكتب المذكرة تلو المذكرة للحكومة البريطانية ويكتب ويحاضر مؤيداً لاستقلال مصر، ولكن الوطنيين المصريين بالغوا كثيراً في تأثيره على السياسة البريطانية.
وكان الشيخ محمد عبده كذلك على علاقة ودية بالمعتمد البريطاني في مصر اللورد إيفلين كرومر، المولود سنة 1841 والمتوفى سنة 1917، والذي كان الحاكم الفعلي لمصر، وكان كرومر يثني على محمد عبده وينفح عنه أحياناً أمام الخديوي، ومنحت هذه العلاقات بعض الكتاب ذريعة ليتهموا محمد عبده بمعاونة أو خدمة الاحتلال البريطاني، وهم في هذا يبتعدون عن الإنصاف، ويغفلون دعوته مع الأفغاني في العروة الوثقى لطرد الاستعمار البريطاني من كل البلاد الإسلامية، والواقع أن الشيخ محمد عبده لمس أن مصر لا تستطيع طرد أقوى دولة استعمارية وهي على حالها الراهن من جهل وفرقة وعمالة، فعدل إلى التعامل مع السلطة المحتلة بما يتفق مع أهدافه، ورغباتها، في رفع مستوى البلاد، وإن تباين ما يريدانه من وراء ذلك، فكان المحتل يريد تخفيف العبأ الإداري وتحسين الأداء الوظيفي، ليصبح استعمار مصر قليل التكاليف خفيف المؤونة كثير المردود، أما محمد عبده فكان يعتبر التطوير والتربية سبيلاً إلى هدفه الأسمى: الاستقلال ومن بعده عودة مصر لدورها الإسلامي الرائد.
وقد أبرزت مذكرات كرومر هذ الأمر إبرازاً جلياً، فقد بدت فيها شخصيته الاستعمارية البريطانية التقليدية، والتي تتعايش عملياً مع الإسلام والمسلمين، ولكن تبقى النظرة الدونية إليهم مسيطرة على أفكارها وسياساتها، وقد تحدث كرومر عن محمد عبده حديثاً فيه سخرية وانتقاد، وأن نقاط التقائهما كانت هي في تطوير مؤسسات الحكم، وإن تباينت المرامي من وراء ذلك. قال الأمير شكيب أرسلان حول هذا الموضوع: وبينما كان بعض حساده يتهمونه بمماشاة الدولة المحتلة ومواثقة اللورد كرومر كان يكتب إليَّ قائلاً: الأحوال هي مما يتعاظم له الألم، ويعجز عن وصفه القلم. فكنت أعلم أنه ما أراد إلا تخفيف الداء، وتقريب أجل البلاء، وتمهيد طريق الجلاء.
على أننا لا نٌغفِل أن حركة محمد عبده قد أفادت التيار التغريبي من حيث لم تقصد، فهي في سعيها لكسر الجمود الفقهي وإعادة تشكيل الفكر الإسلامي عند النخبة، وفي مهاجمتها الخرافات والتقاليد عند العامة، جاءت في وقت كان فيه المسلمون في أضعف حالاتهم الفكرية انهزاماً، وكان فيه التيار التغريبي في أوج عنفوانه جراءة وإقداماً، فصارت الحركة الإصلاحية كالمصدِّق أو المؤيد لدعاوى التغريبيين، وبخاصة لتلوثها بجوانب انهزامية تلفيقية، وقد تناول ذلك أحد المقربين من الشيخ محمد عبده ومن نالهم فضله وحدبه، وهو الأديب مصطفى لطفي المنفلوطي فقد كتب في كتابه النظرات مقالة مضمونها أنه بَصُر بالشيخ محمد عبده و قاسم أمين يتناجيان في الآخرة ويقول أولهما لآخرهما: إنك أفسدت المرأة بكتابك، فيرد عليه قاسم أمين: وأنت أردت أن تحيي الإسلام فقتلته! إنك فاجأت جهلة المسلمين بما لا يفهمون من الآراء الدينية الصحيحة والأغراض الشريفة، فأرادوا غير ما أردت وفهموا غير ما فهمت، فأصبحوا ملحدين، بعد أن كانوا مخرِّفين، وأنت تعلم أن دينا خرافيا خير من لا دين، أوَّلت لهم بعض آيات الكتاب فاتخذوا التأويل قاعدة حتى أولوا المَلَكَ والشيطان والجنة والنار، وبينت لهم حكم العبادات وأسرارها، وسفهت لهم رأيهم في الأخذ بقشورها دون لبابها، فتركوها جملة واحدة! وقلت لهم: إن الولي إله باطل، والله إله حق، فأنكروا الألوهية حقها وباطلها!
والحق أن الحركة الإصلاحية التي قادها محمد عبده كانت في موقف لا تحسد عليه، وبين أمرين أحلاهما مُرّ، فاجتهدت فأقدمت، وتعرض قادتها في ذلك لانتقادات واتهامات وصلت إلى حد التضليل والتكفير، لا يزال صداها يتردد إلى اليوم.
للشيخ محمد عبده مؤلفات منها كتابه الإسلام والنصرانية، ردَّ فيه على مقال للأستاذ فرح أنطون في مجلته الجامعة قال فيه: إن المسيحية أكثر تسامحاً مع العلم من الإسلام، وإن الإسلام أكثر اضطهاداً للعلم والفلسفة منها. فانبرى له وفند هذا الرأي في مقالات نشرت بمجلة المنار، ثم جمعت بعد ذلك في كتاب.
وفي سنة 1317=1900 كتب وزير الخارجية الفرنسية السابق جابريل هانوتو Hanotaux مقالة في مجلة الجورنال دي باريس بعنوان في الإسلام والمسألة الإسلامية، عالج فيها مقاومة المسلمين للاستعمار الفرنسي، ونقل فيها متخابثاً أشد الأراء تطرفاً واستهزاءً بالإسلام والمسلمين، متذرعاً بمبدأ: ناقل الكفر ليس بكافر، فتصدى له الشيخ محمد عبده وكتب ست مقالات في جريدة المؤيد قال عنها الكاتب توفيق الحكيم رحمه الله: هي أقوى ما قرأت دفاعاً عن الإسلام، وإظهاراً لحقيقة مبادئه الخافية على أغلب الأوربيين. وكان لمقالة هانوتو دوي كبير في حينها، ولذا لقي رد الشيخ محمد عبده القبول والاستحسان في الأوساط المسلمة إذ ألزمه الحجة، وأرغمه على اعتذار تقلب فيه كالأفعى.
كان الشيخ محمد عبده على جانب كبير من أخلاق الدعاة والقادة المصلحين، اتسم بالصدق والشجاعة والصبر على المكاره، صريحاً في رأيه وإن خالف العلماء والحكام والرأي العام، وكان مستقلاًّ برأيه مع الاستشارة، مستقلاًّ بإرادته مع الاستعانة، يستخدم في سعيه كل من استطاع استخدامه من موافق ومخالف ووطني وأجنبي، ولكنه لا يعتمد في قلبه على أحد من الناس، ولا يغتر بأحد منهم، وقد عُرف رحمه الله تعالى بسلامة الصدر وصفاء القلب والحلم والصفح، يقبل من الناس ما أظهروا، ويتغابى عما أضمروا، وكان يكره أن تُقَبل يدُه بل يصافح الناس مصافحة، وكان يكره أن يمدح وينفر من ذلك.
كان الشيخ محمد عبده رَبْعَة بادنا متماسكا قوي العضل، أسمر اللون، برَّاق العينيين جهوري الصوت، وخالف علماء مصر في بعض لباسهم فكان زيه أقرب إلى زي علماء سوريا منه إلى زي علماء مصر، وكان يدخن اللفائف والنارجيلة، ثم ترك التدخين بالمرة، وجعل ما كان ينفقه فيه صدقة.
كثرت الأقوال في الشيخ محمد عبده وأستاذه الأفغاني وتباينت فيهما الأراء تبايناً شديداً، بين مُغال يراهما مجددين فريدين بددا ظلمة الجهل بين المسلمين، وبين مشكك في نواياهم وارتباطاتهم ومنهجهم وعقيدتهم، ولعل ما أوردناه يجلو كثيراً من الأمور، والعبد الضعيف يرجح أنهما مجتهدان بذلا جهدهما في حدود الزمان والأحوال، وتغير اجتهادهما مع تغير الدول وتطورات السياسة، فأصابا في أمور وجانبهما الصواب في أمور، وخير ما نختم به أن نسمع من محمد عبده ذاته ما ندب نفسه إليه، قال رحمه الله: ارتفع صوتي بالدعوة إلى أمرين عظيمين:
الأول: تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقه سلف الأمة قبل ظهور الخلاف ... واعتباره من موازين العقل البشري التي وضعها الله لترد من شططه، وتقلل من خلطه وخبطه ... وأنه على هذا الوجه يعد صديقًا للعلم، باعثًا على البحث في أسرار الكون، داعيًا إلى احترام الحقائق الثابتة... وقد خالفتُ في الدعوة إليه رأى الفئتين العظيمتين اللتين يتركب منهما جسم الأمة: طلاب علوم الدين ومن على شاكلتهم، وطلاب فنون هذا العصر ومن هو في ناحيتهم.
أما الأمر الثاني: فهو إصلاح أساليب اللغة العربية في التحرير سواء كان في المخاطبات الرسمية بين دواوين الحكومة ومصالحها أو فيما تنشره الجرائد على الكافة منشأ أو مترجمًا من لغات أخرى...
ثم قال: وهناك أمر آخر كنت من دعاته والناس جميعا في عمى عنه... وما أصابهم الوهن والضعف والذل إلا بخلوِّ مجتمعهم منه، وذلك هو التمييز بين ما للحكومة من حق الطاعة على الشعب وما للشعب من حق العدالة على الحكومة. نعم كنت فيمن دعا الأمة المصرية إلى معرفة حقها على حاكمها، وهي هذه الأمة التي لم يخطر لها هذا الخاطر على بال من مدة تزيد على عشرين قرنًا! دعونا إلى الاعتقاد بأن الحاكم وإن وجبت طاعته هو من البشر الذين يخطئون وتغلبهم شهواتهم، وأنه لا يرده عن خطأه ولا يوقف طغيان شهوته إلا نصح الأمة له بالقول وبالفعل، جهرنا بهذا القول والاستبداد في عنفوانه، والظلم قابض على صولجانه، ويد الظالم من حديد، والناس كلهم عبيد له أي عبيد.
نعم إنني في كل ذلك لم أكن الإمام المتبع، ولا الرئيس المطاع، غير أني كنت روح الدعوة، وهي لا تزال بي في كثير مما ذكرت قائمة، ولا أبرح أدعو إلى عقيدتي في الدين، وأطالب بإتمام الإصلاح في اللغة وقد قارب، أما أمر الحكومة والمحكوم فتركته للقدر يقدره، وليد الله بعد ذلك تدبره، لأنني قد عرفت أنه ثمرة تجنيها الأمم من غراس تغرسه وتقوم على تنميته السنين الطوال، فهذا الغراس هو الذي ينبغي أن يُعنى به الآن، والله المستعان.

الجمعة، 20 فبراير 2015

حدث في التاسع والعشرين من ربيع الآخر

في التاسع والعشرين من ربيع الآخر من سنة 927، الموافق 7 أبريل 1521، رسا الرحالة والبحار البرتغالي ماجلّان على شواطئ جزيرة مَكتان Mactan، في جزيرة سيبو Cebu في وسط أرخبيل الفيلبين اليوم، ورغم أن ماجلان لقي حتفه بعد 13 يوماً، في 12 جمادى الأولى، في معركة على الجزيرة مع الزعيم الفيلينيي لابولابو، إلا أن وصوله كتب فصلاً جديداً في تاريخ الإسلام في جنوبي شرقي آسيا، يماثل في أهميته سقوط الأندلس، فقد ترسخ الوجود الأسباني بالتدريج وتحولت هذه البلاد بأغلبيتها إلى النصرانية، وما زلنا لا نعرف عن هذا الفصل إلا القليل مما سنحاول تلمسه في هذه السطور.
ونبدأ بالحديث عن حقبة الاكتشافات البرتغالية التي بدأها فاسكو دي جاما، المولود سنة 1460 والمتوفى سنة 1524والتي قامت بالإبحار حول القارة الأفريقية مارة برأس الرجاء الصالح، ووصلت إلى الهند دون أن تضطر للمرور عبر  بلاد المشرق العربي الواقعة تحت سلطة الدولة المملوكية المسلمة، وتلاه ألفونسو دي البوكركي المولود سنة 1453 والمتوفى سنة 1515، والذي استولى على ميناء جوا في الهند ثم على مالقة في أرخبيل الملايو، ثم كان فرديناند ماجلان الرائد الثالث في هذه الاكتشافات التي قام بها تحت الراية الأسبانية.
ولد فرديناند ماجلان في البرتغال نحو سنة 885=1480 لأسرة من النبلاء، وعندما كان في الخامسة والعشرين شارك في حملة بحرية قادها فرانسيسكو دي ألميدا استهدفت أن تنتزع من السيطرة العربية الموانئ التجارية في سواحل أفريقيا الشرقية وسواحل الهند الغربية، ثم شارك في حملة البوكركي للسيطرة على مضيق مالقا، وفي سنة 923=1517 ترك ماجلان الخدمة في أسطول البرتغال هو وصديق له يدعى فاليرو وعرضا خدماتهما على الملك الأسباني شارل الأول، الذي سيصبح فيما بعد الإمبراطور شارل الخامس.
وكانت البرتغال وأسبانيا تتنافسان على الاكتشافات الجديدة وما صحبها من سيطرة تجارية وثروات خيالية ووجاهة دينية، وكان البابا الكساندر السادس قد أصدر قراراً بابوياً في سنة 899=1494 بتقسيم الاكتشافات الجديدة بين الدولتين، فتأخذ البرتغال كل ما هو شرق خط يمتد من الشمال إلى الجنوب ويبعد حوالي 1100 كيلومتر عن ساحل أفريقيا الغربي، وتأخذ أسبانيا كل ما هو غربه.
واقترح ماجلان أن يقود أسطولاً أسبانياً يأسس طريقاً أسبانياً خالصاً إلى سواحل التوابل ويثبت أنها غرب الخط الذي أمر به البابا، والذي لم تلتزم به الدولتان التزاماً جدياً في نهاية الأمر، وفي سنة 924= 1518 صدرت الإرادة الملكية بتشكيل الحملة المقترحة، وجعلت ماجلان وفاليرو رئيسين لها، وجعلت الحكم فيما يسيطران عليه من أراض حكراً عليهما وعلى ورثتهما، وسينالان خُمُس الأرباح الناتجة عن هذه الحملة، وفي سنة 925= 1519 أقلعت السفن الخمس التي تكونت منها الحملة وعلى متنها 270 رجلاً لم يكن بينهم فاليرو فقد أصابته لوثة جنون قبل إقلاعها.
واتجهت سفن ماجلان غرباً عبر الأطلسي حتى وصلت سواحل البرازيل ثم اتجهت جنوباً حتى عبرت مضيق سان انطونيو، الذي يعرف اليوم باسم مضيق ماجلان، لتصل إلى المحيط الهادئ وأبحرت منه 99 يوماً في ضنك وعطش وجوع حتى وصلت جزيرة جوام، وبذلك قام ماجلان بأول رحلة تجارية موثقة تدور من غرب الكرة الأرضية إلى شرقها، ثم اتجه من جوام غرباً نحو جزر الملايو، ولكنه قرر أن يتجه نحو الشمال الغربي ليكون له فيه موطأ قدم لا تهدده فيه أساطيل البرتغال، فأرسى سفنه وغرس صليباً على تلة مطلة على البحر وأعلن تملك الجزر باسم ملك أسبانيا وسماها أرخبيل القديس عازار.
واستطاع ماجلان استمالة قبيلة محلية في جزيرة مَكتان، وهي جزيرة صغيرة تتحكم بميناء سيبو، ولكن الزعيم الأقوى لابو لابو رفض التعاون مع الغرباء، فهاجمه ماجلان وجنوده ولكنهم هزموا هزيمة منكرة ولقي ماجلان مصرعه وانسحب جنوده من المعركة ثم ما ليثوا أن تركوا المنطقة بأكملها، ويقول عدد من المصادر إن الزعيم لابولابو كان مسلماً، والأرجح أنه لم يكن كذلك، وبعد الاسنقلال اعتبرته الفيلبين أحد رموز الوطن وأقامت له تمثالاً كبير في جزيرة مكتان وفي أحد ميادين العاصمة مانيلا.
وبعد مقتل ماجلان تولى قيلاد الحملة الأسبانية القبطان خوان إيلكانو، واستطاع أن يعود إلى أسبانيا رغم المخاطر الكثيرة التي اعترضته من  أعدائه البرتغاليين والجوع والمرض، ووصل إلى أسبانيا في  أواخر سنة 1522بما تبقى من الحملة: سفينة واحدة من أصل سبعة سفن و 21 رجلاً من أصل 270!
ولم يعد الأسبان إلى الفيلبين إلا في سنة 1564، حين أرسل نائب الملك في أسبانيا الجديدة، التي نعرفها اليوم بالمكسيك، المستكشف ميخيل لوبيز دي ليكازبي في حملة من 5 سفن أبحرت من أكابولكو في المكسيك عبر المحيط الهادي حتى وصلت سيبو في منتصف سنة 1565 وأنشأت أول مستعمرة أسبانية فيها، وكان دي ليكازبي حاكم الفيلبين حتى وفاته سنة 1572 عن 62 سنة، وقبل وفاته بسنة أطاح بأمير مانيلا المسلم، وجعلها عاصمة للمستعمرة الجديدة التي أطلق عليها رحالة أسباني في سنة 1543 اسم الفيلبين تيمناً باسم الملك الأسباني فيليب الثاني.
وكانت الفيلبين إدارياً مقاطعة تتبع أسبانيا الجديدة، وهي اليوم المكسيك، وبقيت كذلك حتى استقلال المكسيك في سنة 1821، وأدار الأسبان البلاد على أسس نظام الإقطاع الزراعي، فامتلك النبلاء الأراضي الشاسعة والتي عمل فيها أبناء الفيلبين مسخرين مستعبدين، لأنهم من قبل أسبانيا كانوا يعملون في زراعة هذه الأراضي في نظام أشبه بالتعاونيات، وقام هؤلاء بانتفاضات عديدة قمعها الأسبان، وفي الخارج واجه الأسبان في الفترة من 1600 إلى 1663 حرباً مستمرة مع الهولنديين الذين كانوا يؤسسون مستعمراتهم في جزر الهند الشرقية، ولكن المشكلة الأكبر كانت في المقاومة الإسلامية للاحتلال الأسباني والتي لم يستطع الأسبان احتواءها حتى ستوات 1850.
ويقدر المؤرخون أن الإسلام دخل الفيلبين قرابة سنة 800= 1380 على أيدي التجار العرب من الحجاز واليمن وحضرموت عندما كانوا يقومون برحلاتهم الشهيرة إلى الصين، وعلى أيدي دعاة الإسلام من الملايو وأندونسيا، وانتشر الإسلام من الشمال إلى الجنوب عندما تأسست سلطنة سُولك أو سولو أو صولو، وكان أول من تولى السلطنة فيها الشريف الهاشمي أبو بكر من حضرموت وذلك في سنة 1405، وفي نحو سنوات 1480 أقام السلطان بولقيه سلطان بروناي السلطنة الثالثة الكبيرة في مانيلا، وأول سلطان لها رجا سليمان، والتي استمرت إلى سنة 1521، وأكبر هذه السلطنات وأطولها عمراً هي سلطنة ماغِنداناو التي أسسها سنة 1520 السلطان الشريف محمد قابونصوان، وهو من جوهور، في ماليزيا اليوم، والذي جاء داعياً إلى جزيرة منداناو وتزوج إحدى أميراتها ثم ما لبث أن أسس سلطنة ماغِنداناو، ومنها انتشر الإسلام شمالاً في مانيلا.
قاوم أهل الجزر على اختلاف دياناتهم وبلدانهم المستعمر الأسباني، ولكن المقاومة كانت ضعيفة التظيم فلم تُجدِ أمام عدو متفوق في العتاد والتكتيك، واستطاع الأسبان بسط سيطرتهم على المناطق التي كان الوجود الإسلامي فيها ضعيفاً مثل مناطق الوسط التي تضم لوزون أكبر الجزر، وفرَّ من المسلمين من فرَّ بدينه إلى مينداناو وصولو التي لم يستطع المستعمر الأسباني التغلغل فيها لقوة الوجود الإسلامي فيها، وأطلق الأسبان على المسلمين اسم مورو، ويعني العبد الأسود، استمراراً لنهجهم مع مسلمي الأندلس والمغرب العربي، وبخاصة في عهد الملثمين والموحدين الذين غلب عليهم العرق البربري.
كان تنصير السكان أحد الأهداف الرئيسة للأسبان، واستطاعوا بالترغيب والترهيب تحقيقه متحالفين مع الكنيسة الكاثوليكية التي منحوها من المال والنفوذ ما تحتاجه لتحقيق هذا الهدف، ونجحوا في المناطق التي يكثر فيها الوثنيون البسطاء الذين اجتذبتهم التصاوير والتماثيل، ولما بدأ الضعف يعتري الدولة الأسبانية قامت الكنيسة وبخاصة الرهبان اليسوعيين؛ الجزويت، فملأت الفراغ الناجم واستولت على كثير من أراضي البلاد.
وظل الصراع بين المسلمين والأسبان محتدما طوال الحكم الأسباني أي قرابة 340 سنة من سنة 980 إلى سنة  1316= 1560-1898 ميلادية،  وكانت السلطنات المسلمة في الفيلبين أفضل تنظيماً من حيث الحكم ومؤسساته بفضل اتباعها مبادئ الشرع الإسلامي ووجود بعض الفقهاء فيها، ولذا فقد استطاعت مقاومة المستعمر الأسباني مقاومة ناجحة بحيث لم يتمكن من احتلال مناطقها اللهم قليلاً من الأماكن الساحلية، وحتى بعد اضمحلال هذه السلطنات بقيت المبادئ الإسلامية حاجزاً أمام قبول المورو للسلطة الأسبانية المسيحية التنصيرية.
ولم تكن مقاومة الاحتلال وقفاً على المسلمين، بل سرت في البلاد وبخاصة بين الطبقة الفيلبينة المتنورة دعوة للاستقلال عن الحكم الأسباني المتعنت الفاسد وتسلط الكنيسة الشديد، وفي سنة 1896 انطلقت ثورة شملت أنحاء البلاد بقيادة إيميليو أجينالدو وحققت نجاحاً كبيراً أجبر أسبانيا على التعجيل بالتفاوض مع الثوار وإبرام اتفاق سلام معهم، ولكن هذا الاتفاق لم ينفذ لأنه كان في حقيقته هدنة يحتاجها الطرفان، ولأن أسبانيا دخلت في حرب مع الولايات المتحدة الأمريكية.
ففي عام 1898 اندلعت الحرب بين أمريكا وأسبانيا بسبب جزيرة كوبا التي تمردت على مستعمريها الأسبان، ووقف الأمريكان إلى جانب المتمردين وطالبوا أسبانيا بالانسحاب ومنح الجزيرة استقلالها، ولما رفضت أسبانيا ذلك، شنت عليها أمريكا حملة عسكرية انتزعت كوبا في وقت قصير ثم جزيرة بورتوريكو في البحر الكاريبي، وفي مايو 1898 دمرت السفن الأمريكية الأسطول الأسباني المتهالك في ميناء مانيلا، ووقعت الدولتان معاهدة باريس في أواخر السنة تخلت فيها أسبانيا عن جزيرتي بورتوريكو وجوام، ولم تكن الحكومة الأمريكية حريصة على الفيلبين حرصها على كوبا القريبة، وفي المقابل لم يكن لدى تجار أمريكا أية حماسة للحرب على كوبا، ولكنهم اهتموا كثيراً بالفيلبين التي يمكن أن تكون ركيزة تجارتهم في الشرق الأقصى، ولذا طالبوا الحكومة الأمريكية ألا تعيدها لأسبانيا بأي وجه من الوجوه، فقام المفاوض الأمريكي وأملى على الأسبان أن يبيعوها لأمريكا مقابل 20 مليون دولار!
وفي البداية أطلق الأمريكان العنان للثوار لينقضوا على الحاميات الأسبانية ويسيطروا على كل جزيرة لوزون، وأعلن أجينالدو بلاد الفيلبين جمهورية مستقلة ذات دستور ديمقراطي، ولكن هذه الأحلام ما لبثت أن تبخرت ما أن تم الاتفاق بين أمريكا وبين أسبانيا، وبرر الرئيس الأمريكي مكينلي ذلك بأن: الفيلبين هبة من الله لأمريكا ... وإن أهلها غير مؤهلين ليحكموا أنفسهم ... ولذا فلا خيار لدينا سوى أن نضمهم إلينا ونعلمهم ونرقيهم ونحضِّرهم وننصِّرهم!
و وبعد بضعة شهور من توقيع معاهدة باريس اندلعت الحرب بين الجمهورية الفيلبينية بزعامة أجينالدو وبين الولايات المتحدة الأمريكية، وفي المعارك الميدانية هزم الأمريكان بسهولة القوات الفيلبينية الضعيفة التدريب والتجهيز، فلجأ الفيلبينون إلى حرب العصابات دون نجاح يذكر، ووقع أجينالدو في الأسر في سنة 1901، وكان قد أدرك آنذاك ألا جدوى من الاستمرار  في الحرب، فأعلن ولاءه للولايات المتحدة ودعا أبناء وطنه إلى إلقاء السلاح، ولكن الجنوب المسلم استمر في المقاومة التي لم تنته إلا في سنة 1913، ويقدر عدد ضحايا هذه الحرب من المدنيين بمليون شخص، ويقدر عدد من قتل فيها من القوات الفيلبينية بين 12.000 إلى 20.000 جندي مقابل 4.200 جندي أمريكي.
وحتى بعد انتهاء الحرب بقي المسلمون في الفيلبين على غاية التوجس من الأمريكان، وبقي نفوذ الدولة ضعيفاً جداً في المناطق المسلمة، وكانت أمريكا بعد إعلان أجينالدو قد بدأت في تغيير سياساتها وحولت الحكم في الفيلبين لأيدٍ مدنية، وأجرت انتخابات للكونجرس الفيلبيني في سنة 1907، وأعلنت أن سياستها تهدف في النهاية لاستقلال الفيلبين.
وبعد هذه الإصلاحات أرادت أمريكا أن تنهض بالفيلبين لتكون مستعمرة مثالية تختلف عن المستعمرات الأوربية، ولأجل ذلك قامت بجهود كبيرة في نشر التعليم وبناء المؤسسات والمنافع العامة، ولم تستثن من هذه المساعي مناطق المسلمين، وسلكت في ذلك أساليب شديدة الاختلاف عن الحكومة الأسبانية، فقد طلبت الحكومة الأمريكية من السلطان العثماني بصفته خليفة المسلمين أن يرسل شيخاً من طرفه ليكون المرشد الديني للمسلمين في الفيلبين.
ووقع الاختيار على السيد وجيه بن منيب زيد الكيلاني النابلسي، المولود سنة 1277=1867 الذي درس العلوم الشرعية في نابلس، وصار من كبار موظفي مشيخة الإسلام في الآستانة، ودرَّس أولاد السلطان محمد رشاد، فمُنح لقب شيخ الإسلام في الفيلبين، وسافر إليها سنة 1913 عن طريق البحر ماراً بمصر فالحجاز فالهند، ولما وصل الكيلاني الفيلبين ساءه التخلف الشديد لمسلميها، وينقل الأمير شكيب أرسلان عن الكيلاني قوله: إن السواد الأعظم من سكان تلك الجزر في جهالة عمياء لا يعرفون من الإسلام سوى كونهم مسلمين  إلا أفذاذا قلائل ممن حجوا الى بيت الله الحرام .
وكان السيد الكيلاني مدة إقامته في تلك الجزر على تفاهم تام مع رجال الحكومة الأمريكية، وكانوا يعتبرونه مرجعهم لحل ما يواجههم من مشاكل مع الفيلبينين المسلمين، وكانت الحكومة الأمريكية تريد إنشاء مدارس حكومية لتعليم المسلمين وإخراجهم من العزلة والتخلف، فاعترض السيد الكيلاني على ذلك وقال: إن المسلمين لا يطمئنون إلا إذا كانت مدرستهم تلاصق الجامع ويدرُسون فيها أول ما يدرسون كتابهم المقدس؛ القرآن الكريم.
ألم بالشيخ وجيه مرض بعد سنة من إقامته في الفيلبين فعاد إلى فلسطين للاستشفاء، ومنعه نشوب الحرب العالمية الأولى من العودة للفيلبين، وأرسلته الدولة العثمانية في مهمة سياسية، قيل إنها الحيلولة دون دخول الحكومة الأمريكية الحرب إلى جانب بريطانيا وفرنسا، ولا يوجد ما يدل على أنه عمل في هذا المجال، بل المحقق أنه نشر مقالات عن أحوال الفليبين في بعض الصحف الأمريكية، وفي الوقت نفسه سعى إلى تأليف جمعية تهذيبية تتولى أمر إنشاء المدارس الإسلامية في الفليبين يكون مركزها الرئيسي في الولايات المتحدة، وذات فرع إداري في الفليبين يتولى هو رئاسته نظرا لانقياد المسلمين هناك إليه، وتحققهم حسن مقاصده، فلا تداخلهم ريبة من مساعي الأمريكيين لو عمد هؤلاء إلى القيام بالمشروع مستقلين.
وأمضى السيد الكيلاني سنة ونصف في أمريكا قضاها بين فيلادلفيا وواشنطن، ولكنه اعتل فلم يستطع تحقيق ما أراد ثم أدركته المنية في منتصف سنة 1334=1916 في مدينة ريتشموند بولاية فرجينيا.
ولم يكن السيد الكيلاني الوحيد الذي استقدمته الحكومة الأمريكية للتعامل مع المسلمين، فهناك الطبيب الدكتور نجيب متري صليبي، المولود في لبنان سنة 1870 والمتوفى سنة 1935، والذي درس في الجامعة الأمريكية في بيروت، ثم جاء للفيلبين كطبيب في الجيش الأمريكي، ثم ما لبث أن صار مدير التعليم في منطقة مورو، ثم اتجه لكتابة تاريخ المسلمين في منداناو، وألف في نحو سنة 1908 عدة كتب عن تاريخ السلطنات الإسلامية في مناطق الفيلبين.
منحت الولايات المتحدة الفيلبين حكما ذاتيّا عام 1935، وكانت أكبر السلطنات المسلمة سلطنة ماغِندناوا قد تشرذمت إلى سلطنات محلية، ولما بدت بوادر منح الحكم الذاتي في تلك السنة وقع 30 سلطاناً و120 وجيها على عريضة طالبت الرئيس روزفلت والكونجرس الأمريكي بمنح المناطق المسلمة استقلالها المنفصل عن الفيلبين، وفضل الموقعون أن يبقوا تحت الحكم الأمريكي إلى أن يكونوا جاهزين لإعلان جمهورية بلاد المورو؛ بانجسا مورو، وهو طلب لم يأبه له الأمريكان الذي أعلنوا استقلال البلاد كما ورثوها من الأسبان، مع بقائهم في بعض القواعد البحرية والعسكرية فيها.
ولما هاجمتها اليابان في الحرب العالمية الثانية انسحب منها الأمريكان واحتلتها اليابان في سنوات 1942-1944، ثم استعادت الولايات المتحدة سيطرتها على الفيلبين عام 1945ومنحتها الاستقلال في الرابع من يوليو عام 1946، وهو نفس يوم الاستقلال الأمريكي.
نهجت الحكومات الفيلبينية المتعاقبة نهجاً أسبانياً في التعامل مع المسلمين، نظراً لقوة الكنيسة الكاثوليكية في الفيلبين وتأثيرها الشديد على الحكومة، وكان هذا النهج يقوم على استصغارهم وإبقائهم مستضعفين متخلفين في التنمية والتعليم عن باقي مناطق الفيلبين، ولذا لم يكن غريباً أن ينظر المسلمون ينظرون إليها بعين الريبة والخوف وهم يرون مخططاتها تتحول إلى واقع على أراضيهم، وكانت شكاوى المسلمين تدور حول مخططات الحكومة لتهجير النصارى من الشمال إلى الجنوب المسلم ومنحهم الأراضي الزراعية، وإسناد كثير من المناصب الكبيرة لهم، إلى جانب تشجيعها التنصير في الجنوب عن طريق إنشاء المدارس النصرانية الدينية والكنائس ونشر الفساد.
وفي سنة 1950 قام الداعية الباكستاني مولانا عبد العليم الصديقي بزيارة الفيلبين وإحياء روح الإسلام بين مسلميها، فكان ذلك أول انتعاش للمسلمين ببركة جهوده الصادقة المخلصة، وقام عقلاء المسلمين بمقاومة مخططات التنصير والتوطين من خلال الأنشطة السياسية والدعوية، فأسسوا الجمعيات والمعاهد والمدارس الإسلامية، ومن أوائل هذه الجمعيات جمعية إقامة الإسلام في مدينة ماراوي التي تأسست سنة 1375= 1955، وقدمت الجمهورية العربية المتحدة منحاً للطلبة الفلبينيين للدراسة بالأزهر والكليات الأخرى بمساعي وزير الأوقاف الداعية المفكر الدكتور محمد البهي رحمه الله تعالي، وزار الفيلبين الشيخ محمود شلتوت إمام الجامع الأزهر رحمه الله، وأثمر ذلك في وجود عدد من العلماء الواعين كانوا أركاناً راسخة للمجتعمات الإسلامية وهي تتلمس طريقها للنهوض والتقدم.
ولكن وتيرة الاستيطان والتنصير زادت بشكل كبير، وازداد فقر المسلمين وبؤسهم عندما أعطت الدولة أراضيهم الخصبة للنصارى القادمين من الشمال، وأدى ذلك لانتشار النقمة على الحكومة المركزية وعصيان بعض المناطق النائية، وكانت الدولة تسلك الترغيب والترهيب، وكليهما في حدود مرسومة، لإخضاع هذه المناطق النائية والمتخلفة لسلطتها.
وهنا لا بد أن نتوقف قليلاً ونضع الأمور موضعها، فنتحدث أولا عن الفيلبين التي تتكون من قرابة 7000 جزيرة صغيرة وكبيرة تقع على بعد 800 كيلومتر من ساحل جنوبي شرقي آسيا، وتتناثر على مسافة 1850 كيلومتراً، وتبلغ مساحة الأراضي الفيلبينية حوالي 300.000 كيلومتراً مربعاً، يعيش عليها قرابة 75 مليون  من السكان.
ثم نعرج على مناطق المسلمين في منداناو وسولو، فنقول إن مساحتها تبلغ 102.000 كيلومتراً مربعاً، أي ثلث أراضي الفيلبين، وتضم حوالي 10-12% من السكان، والسمة الأولى لهذه المناطق هي خصوبة أراضيها ووفرة محاصيلها الزراعية، كما توجد فيها نصف الغابات الاستوائية الفيلبينية، ويأتي من الصيد في سواحلها 60% من محصول الفيلبين من صيد سمك التونة والسردين، وتوجد في الجزر مناجم أثرية للذهب والفضة، وإضافة لما سبق فإنها تحتوي في جوفها على مخزون نفطي كبير، ومن الناحية العرقية يتكون المسلمون في هذه المناطق من 11 مجموعة عرقية، وترتبط هذه المجموعات بشكل أو آخر بالمجموعات العرقية المسلمة في أندونيسيا وماليزيا وبروناي والفطاني في تايلاند.
ولم يسلك المسلمون طريق العنف إلا بعد سنوات من النضال السلمي، وذلك في ظل حكومة الرئيس ماركوس الذي سلك سياسة العصا الغليظة معهم، وفي سنة 1969 اختار نور مِسواري، المولود سنة 1933 والمدرس في جامعة الفيلبين، المقاومة المسلحة وأسس جبهة تحرير مورو الوطنية وذلك بعد سنة من مجزرة قُتل فيها عدد من الجنود المسلمين كانوا تحت التدريب في الجيش الفيلبيني، وطالبت الجبهة بمساواة المسلمين بغيرهم من الأعراق والأديان، وكانت نجاحاتها العسكرية محدودة في البداية، ولكن ماركوس أعلن الأحكام العرفية في سنة 1972، وأطلق يد القوات الحكومية في سنة 1974 فشنت هجمات على المساجد وقتلت قرابة 1800 من المصلين، فازداد التأييد للجبهة بين المسلمين وحصلت على دعم من حكومة القذافي في ليبيا، وشكلت حكومة الرئيس ماركوس قوة الدفاع الوطني المدنية؛ إيلاكا، التي أمعنت بالمسلمين فتكاً وتدميراً وتهجيراً، ودفعت حكومة الرئيس الدكتاتور ماركوس ثمناً باهظاً في الأموال والأفراد والفرص الاقتصادية الضائعة قبل أن يتيقن السياسون فيها أن إنهاء التمرد بالقوة أمر غير ممكن ولا تقوى الدولة على الاستمرار فيه آمادا طويلة.
وفي سنة 1976 بدأت الحكومة الفيلبينية مفاوضات مع الجبهة في طرابلس الغرب برعاية القذافي ومنظمة المؤتمر الإسلامي وانتهت بتوقيع اتفاقية طرابلس التي تضمنت وقف العمليات العسكرية ومنح  13 مقاطعة الحكم الذاتي ضمن دولة الفيلبين، ولم يتم تنفيذ الاتفاقية التي كانت أشبه باتفاقية مبادئ عامة خلت من ملحقات تتضمن كيف تنفيذها على أرض الواقع، ولأن عناصر متنفذة قوية في الجيش الفيلبيني كان لا ترغب في السلام وما سيجلبه من خسارة لنفوذها ورشاويها وخواتها التي كانت تجنيها من وراء الحرب، فاستمر القتال سجالاً بين الطرفين.
وفي سنة 1986 ثار الشعب على ماركوس وطرده من البلاد، وجرت في البلاد انتخابات حرة جاءت بالرئيسة كوري أكينو، واستبشر المسلمون خيراً في أن تنفذ وعودها بإعادة حقوق المسلمين ومعاملتهم معاملة عادلة على قدم المساواة مع غيرهم من المواطنين، وزارت بنفسها نور مِسواري في سولو، وأجرت معه مباحثات انتهت بإعلان الحكم الذاتي في مناطق المسلمين وإدراج ذلك في دستور الفيلبين، وأجريت الانتخابات في منداناو لهذا الغرض في سنة 1989.
ولم يكن الثوار على قلب رجل واحد، وكانت المفاوضات السابقة بين الثوار وبين الحكومة الفيلبينية في ليبيا قد أدت إلى أن يعلن سلامات هاشم، المولود سنة 1942 والمتوفى سنة 2003، والرجل الثاني في الجبهة، رفضه للحكم الذاتي، وانشقاقه عن نور مسواري الذي وصمه بالعلمانية، وأعلن هاشم تشكيل جبهة أسماها جبهة تحرير مورو الإسلامية التي ستواصل القتال: إلى أن تتحرر أرض مورو من دنس الحكومة العميلة، ويقوم الحكم الإسلامي في هذه البقعة بإذن الله تعالى.
ولما انتهت مدة الرئيسة أكينو في سنة 1992 ونجح وزير دفاعها فيديل راموس في الانتخابات الرئاسية، أعلن أن أهم أولياته الوصول لاتفاقية سلام مع المسلمين، ووقع في سنة 1996 اتفاقية شاملة مع جبهة تحرير مورو الوطنية، تتضمن إنشاء مجلس جنوب الفيلبين للسلام والتنمية، ورفضت الجبهة الإسلامية الاتفاقية واستمرت في كفاحها المسلح لإنشاء دولة إسلامية.
وهنا نذكر أن انشقاق الجبهة الإسلامية بزعامات سلامات هاشم تلاه تطور آخر، ترددت أخباره في أرجاء العالم الذي لا يكترث عادة بما يجري في الفيلبين، وجرى على يد أبي سياف عبد الرزاق الجنجلاني، خريج الشريعة من جامعة أم القرى في مكة المكرمة، حين أسس في سنة 1991 مجموعة مقاتلة قاعدتها منطقته؛ جزيرة باسيلان المنعزلة، والتي سلكت طريق الأعمال الإرهابية، وبخاصة بعد مقتله سنة 1998 وتولي أخيه قذافي جنجلاني قيادة المجموعة، وتقول الجبهة الإسلامية لتحرير مورو إنها لا ترضى عن أساليب هذه الجماعة، وأنها قدمت النصح لقياداتها بالتخلي عن أسلوب اختطاف الأبرياء واستخدامهم رهائن للحصول على المال، كما وضَّحوا لهم عدم مشروعيته وأثره السيئ، واستغلال الإعلام المحلي والعالمي له في تشويه سمعة الإسلام وتلويث مقاصد الجهاد في الجنوب. ولكن هذه النصيحة لم تلق أي صدى عند قيادة هذه الجماعة التي هاجمت وقاتلت الجبهة الوطنية والجبهة الإسلامية.
وتلا الرئيس راموس انتخاب الرئيس جوزيف استرادا في سنة 1998، وكانت الجبهة الإسلامية قد حققت إنجازات عسكرية ومدنية كبيرة واستطاعت بسط سيطرتها على مناطق واسعة، وبدأت تديرها كحكومة فعلية، فقرر استرادا القضاء على الجبهة الإسلامية لتحرير مورو، وانتهز فرصة اختطاف جبهة أبي سياف لعدد من الرهائن الأوربيين، وما نتج عن ذلك من استعداء الرأي العام الغربي، فشنت حكومته حرباً شاملة في منتصف سنة 2000 حشدت لها قوات كبيرة شملت الجو والبحر، واستهدفت القواعد العسكرية لجبهة تحرير مورو والمناطق السكانية الداعمة لها، وذهب ضحية هذه الحرب عشرات الآلاف من السكان المسلمين بين قتلى وجرحى ولاجئين، وأحرقت ودمرت عدداً كبيراً من المنازل والمزارع والمساجد، وكلفت خزينة البلاد مبالغ باهظة، ونجحت الحرب في الاستيلاء على القواعد الرئيسية للجبهة التي لجأت بعد هزيمتها للغابات لنشن منها حرب عصابات.
وفي سنة 2001 عزل البرلمان الفيلبيني الرئيس استرادا لتلقيه تبرعات من مؤسسات القمار غير المرخص لها، وخلفته الرئيسة جلوريا أرّويو، وهي ابنة رئيس الفيلبين في الستينات والمعروف بتعاطفه مع المسلمين، وكانت تسير على خطى والدها، فقامت بالاتفاق مع الجبهة الإسلامية على وقف إطلاق النار والدخول في مفاوضات سلام، ولكن عناصر منشقة أو مندسة على الجبهة تابعت الهجمات على القوات الحكومية واختطفت راهباً إيطالياً مما جعل المفاوضات تتعثر إلى سنة 2008، ففي تلك السنة وصلت الحكومة لاتفاق مع الجبهة الإسلامية، ولكن اعترضت عليه لدى المحكمة العليا بعض المقاطعات الفيلبينية الجنوبية لاقتطاعه بعض أراضيها لضمها للمنطقة المسلمة، وأصدرت المحكمة قراراً بعدم دستورية الاتفاق، فبدأت الجبهة في الإعداد لهجوم كبير لم ينجح لأن الجيش الفيلبيني كان متوقعاً ومستعداً له، ونتج عن ذلك مقتل 300 شخص وتهجير 600.000 مسلم.
واستمرت الأمور تتقدم وتتأخر بين الحكومة وبين جماعة نور مسواري، جبهة تحرير مورو الوطنية، الذي انتخب حاكماً على بعض المقاطعات المسلمة المشمولة باتفاق الحكم الذاتي، بينما بقيت المواجهات العسكرية مستمرة مع الجبهة تحرير مورو الإسلامية، حتى أواخر سنة 2010 عندما أعلن مفاوضها مهاجر إقبال أنها تقبل أن تكون ولاية ضمن دولة الفيلبين على النمط الأمريكي.
وفي سنة 2012 أعلن الرئيس بينيو أكينو، ابن الرئيسة كورازون أكينو، عن اتفاق سلام مع الجبهة الإسلامية تضمن حكماً ذاتياً في المناطق المسلمة يشمل حقها في تطبيق الشريعة على المسلمين، وحصة مجزية من عوائد الموارد الطبيعية التي تستخرج من المنطقة، وفي أوائل سنة 2014 وقعت الجبهة والحكومة اتفاق سلام في كوالامبور في ماليزيا تضمن بعض التنازلات الفيلبنية مقابل تخلي الجبهة عن العمل العسكري.
ولا يقتصر الوجود الإسلامي في الفيلبين على أهل البلاد الأصليين، بل كانت هناك هجرات إسلامية متعاقبة، ولا تزال بعض الأسر الفيلبينية تحتفظ بأسمائها العربية مثل البديري وأبوبكر وباجنيد والمصمودي، وإلى جانبهم هناك مهاجرون من مسيحي العرب كثير منهم ينتمون للطائفة الروم الأرثوذكس، ومنهم والدا المؤرخ الفيلبيني المسلم الشهير قيصر أديب مَخْوُل.
ولد قيصر أديب مخول سنة 1923 في الفيلبين لأبوين هاجرا من سوريا، واعتنق الإسلام في شبابه، ودرس التاريخ في جامعة الفيلبين ثم كورنيل في أمريكا، وأصبح مؤرخاً أكاديمياً مرموقاً في تاريخ الفيلبين وبخاصة تاريخ شعب مورو وتاريخ الإسلام في الفيلبين، وقد ترجم الدكتور نبيل صبحي الطويل أحد بحوثه عن الإسلام في الفيلبين، وقد هاجم مخول في دراساته بناء تاريخ الفيلبين وفق النظرة الأسبانية التي تعتبر عصر الاحتلال عصر تنور وانفتاح وتعتبر الديانة الكاثوليكية الدين الطبيعي للفيلبين، وقال إنه مع هذا هذا التأسيس الخاطئ لا غرابة في أن يعتبر الفيلبينيون مسلمي مورو شعباً آخر هامشي الصلة بهم! ودرَّس مخول في جامعة الفيلبين سنوات طويلة، وكان من طلابه نور مسواري، وصار مخول عميداً لكلية الآداب والعلوم فيها، ونال عدداً من الجوائز على إنجازاته التاريخية، وتخرج على يديه عدد كبير من الطلاب الذين أصبحوا أساتذة في التاريخ، وتوفي رحمه الله سنة 2003 في سان بابلو في كاليفورنيا، ونظم بعض طلابه من الأساتذة الأوفياء ندوة في مانيلا في سنة 2013 برعاية هيئة التاريخ الوطني الفيلبينية تحت عنوان: تأريخ المسلمين في الفيلبين بعد مخول؛ إلى أين؟
ومع الاستقرار والهدوء النسبي الذي عمَّ المناطق المسلمة في الفيلبين خفَّ التوتر والعداء بين المسلمين وبين النصارى، وتشجع عدد محدود من الأكاديميين والسياسيين على إنصاف شعب مورو وإبراز دوره التاريخي العريق في تحويل الأرخبيل إلى بلد واحد وكذلك دوره التاريخي الحديث في مقاومة المحتلين من الأسبان والأمريكان.
ورغم التاريخ المشوب بالدماء والمحفوف بالشكوك بين المسلمين وبين الدولة الفيلبينية، فإن المسلمين استفادوا كثيراً من الأسس الديمقراطية التي قامت عليها الفيلبين، فأسسوا كثيراً من المؤسسات التعليمية والتربوية والدعوية التي مارست أنشطتها دون انقطاع إلى يومنا هذا، مع وجود مضايقات تتباين وفقاً لميول الحكومة القائمة، وانفرجت الأمور أكثر بعد الإطاحة بالدكتاتور ماركوس وفي ظل اتفاقيات السلام رغم هشاشتها وهزال تنفيذها، فقد أصبحت قضيتهم قضية تخضع للشورى في البرلمان ويتداولها الرأي العام، فتتعدد فيها الأراء وتتباين حولها الأفكار، وأقام المسلمون مئات من المؤسسات الدينية والتعليمية والإعلامية، وشهدت مناطقهم نهضة دينية إحيائية ودعوية برزت آثارها في مناطق المسلمين وفي إقبال جيرانهم على اعتناق الإسلام في أعداد متزايدة، فالشعب الفيلبيني طيب الفطرة متدين بطبعه تجذبه بساطة الإسلام، وهم في دول الخليح العربية أكثر الجاليات اعتناقاً للإسلام.
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ

 

 
log analyzer