الجمعة، 30 يناير 2015

حدث في العاشر من ربيع الآخر

في العاشر من ربيع الآخر من سنة 1294 الموافق 24 نيسان/أبريل 1877 أعلنت روسيا الحرب على الدولة العثمانية، وقوفاً منها إلى جانب بلغاريا والبوسنة والهرسك اللتين تمردتا على الدولة العثمانية، وهي الحرب التي ستكون آخر في سلسلة حروب نشبت بين الجارتين روسيا وتركيا على مدى قرنين من الزمن، وانتهت الحرب بهزيمة الدولة العثمانية وتنازلها عن سيادتها على الولايات المتمردة، وحددت الحرب بشكل عام حدود تركيا كما نعرفها اليوم.
وتعود بداية الحرب إلى تمرد النصارى من سكان البوسنة والهرسك في منتصف سنة 1292=1875 على ملاك الأراضي المسلمين، وكان للتمرد أسباب متعددة، أهمها تشجيع الإمبراطورية النمساوية- المجرية لهم، إذ كانت تطمع في وضع هذه البلاد المجاورة لها تحت سيطرتها، وتلى ذلك بعد قرابة سنة تمرد البلغار، بتمويل وإمداد روسي بدأ من سنوات، وبلغت الأمور غايتها عندما حل القحط بالبلاد في سنة 1873 ثم تلته فيضانات عام 1874، ونتج عن ذلك شح في المحاصيل وصل إلى حد المجاعة بين الفلاحين في بعض المناطق، وكانت الدولة العثمانية في سنة 1869 قد أعادت تنظيم طريقة تشكيل جيوشها تحت ضغط من الدول الأوربية، فألغت النظام الذي أعفى أهل الذمة من الخدمة العسكرية، وأجبرت مواطنيها من غير المسلمين على أداء الخدمة العسكرية في جيشها أسوة بنظرائهم من المسلمين، ولكن نتيجة تلك المساواة كانت زيادة النقمة على الدولة بين النصارى، إذ كان عليهم الآن أن يقدموا فلذات أكبادهم طعمة لساحات القتال في حروب لم تكن تعنيهم في كثير. 
وكان جواب الدولة العثمانية على التمرد ذا شقين: سياسي وعسكري. فعلى الصعيد السياسي أصدر السلطان عبد العزيز فرماناً في نهاية عام 1875 جعل فيه قضاة البلاد من أهاليها معينين بالانتخاب، ووحد الضرائب وساوى فيها بين المسيحيين والمسلمين، وعلى الصعيد العسكري أرسل قوة عسكرية ترأسها الغازي مختار باشا أحد أقدر قواده وأكثرهم حكمة وخبرة في قمع  التمرد والتعامل مع الأقليات، ونجحت الإجراءات التركية نجاحاً ملحوظاً في قمع التمرد البلغاري.
وتدخلت الدول الأوربية بحجة حماية الأقليات، واجتمع في برلين وزيرا خارجية روسيا والنمسا مع المستشار الألماني بسمارك، وأصدروا في مايو 1876 لائحة برلين التي صدقت عليها كذلك إيطاليا وفرنسا، والتي تضمنت التأكيد على الباب العالي تنفيذ ما جاء في فرمان 1875، وتعيين مجلس دولي لمراقبة تنفيذه، وإجراء كل ما فيه إصلاح حال المسيحيين في هذه الولايات، وأن تبرم الدولة مع الثائرين هدنة قدرها شهران أو ستة اسابيع على الأقل للوصول إلى اتفاق مرض لهم، وأنه إن لم تتفق مع الثائرين في خلال هذه الهدنة تكون الدول الموقعة عليها مضطرة لاستعمال القوة لإجبار الباب العالي على تنفيذ هذه اللائحة!
ومع أن السلطنة كانت تمر بمرحلة اضطراب جرى فيها عزل السلطان عبد العزيز ومبايعة السلطان مراد الخامس، وذلك في 7 جمادى الأولى سنة 1293= 31 أيار/مايو 1876، وجرَّأ ذلك الدول الأوربية على الاشتطاط في طلباتها، فإن الحكومة العثمانية لم تقبل هذه الطلبات المجحفة بحقوقها على رعاياها، ولم تأخذ هذا التهديد على محمل الجد لعلمها بصعوبة اتفاق هذا الدول على ترجمة القول إلى عمل لاختلاف اطماعها، ومن ناحية أخرى لعدم موافقة انكلترا على هذه اللائحة.
وشجع موقف الدول الأوربية الثوارَ البلغار على المجاهرة بالثورة وقاموا بإشعال النيران في مناطق المسلمين وقتلهم وتهجيرهم، واحتلال بعض المدن التي توجد بها حاميات ضعيفة، فقام الوالي بطلب المدد من استانبول ووزع الأسلحة على المسلمين ليتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم، ولما جاء المدد من الجيش النظامي أمكن قمع الثورة بسهولة، وهنا لجأ الثوار ومناصروهم من الدول والجمعيات لإثارة الرأي العام الأوربي، فأشاعوا أن العساكر العثمانية ارتكبت أعمالاً بربرية يندى لها جبين الإنسانية، وتجاهلوا تماماً ما اقترفه البلغاريون من قتل المسلمين في بادئ الأمر، وكانت بريطانيا أهم ساحة لهذه المعركة الإعلامية، فقد كانت حكومة حزب المحافظين التي ترأسها دزرائيلي تعارض المطامح الروسية، وتقف إلى جانب الدولة العثمانية، ولكن الرأي العام البريطاني يحركه حزب الأحرار اتخذ موقفاً معادياً للدولة العثمانية في بداية التمرد في البلقان، وكان السياسي العجوز جلادستون يلقي الخطبة تلو الأخرى حول الأعمال التركية الوحشية المشينة، ويبدو أنه لم يسمع بما فعلته القوات البريطانية مع الكاثوليك في  إيرلندا أو روسيا مع اليهود أو فرنسا في الجزائر.
وأوعزت روسيا إلى إمارة صربيا والجبل الأسود بإعلان الحرب على الدولة العثمانية، فأخذت الإمارتان في شراء الأسلحة والذخائر وجمع الجيوش وتدريبها، وأرسلت روسيا إلى بلاد الصرب الجنرال تشرنايف الذي استولى من قبل على مدينة طشقند، فذهب إليها مع كثير من الضباط الروس، وكانوا يقالون مؤقتا من خدمة الجيش الروسي العامل للالتحاق بالجيش الصربي، ولم يخف ذلك على الدولة العثمانية فأعدت جيشا قوامه 40.000 جندي لصد الصربيين لو تعدوا الحدود، وفي منتصف 1293=1876 اجتازت القوات الصربية الحدود تحت قيادة الجنرال تشرنايف، وكانت تتكون من 4 فرق هاجمت إحداها بقيادته الطريق المؤدية إلى صوفيا متوقعاً المعونة من البلغار، ولكنهم بعد أن جربوا النقمة العثمانية تقاعسوا عن مساعدته، واستطاعت الجيوش العثمانية بقيادة السردار عبد الكريم باشا والمشير عثمان باشا هزيمة الجيوش الصربية في فترة 10 أيام، وقرر السردار أن يحتل بلغراد عاصمة الصرب، وصار على أبوابها في أول سبتمبر 1876، قبل أن تصله أوامر من استانبول بالتوقف، وذلك بسبب تدخل الدول الغربية للحيلولة دون هزيمة الصرب وعودة السيطرة العثمانية إلى صربيا.
وصادف ذلك عزل السلطان مراد بسبب اختلاله عقلياً وتعيين أخيه عبد الحميد سلطاناً على البلاد في 10 شعبان سنة 1293= 31 آب/أغسطس 1876، مما جعل الحكومة العثمانية تميل إلى التريث أملاً في تفادي الحرب الوشيكة، وقد أشار لذلك السلطان عبد الحميد في خطاب العرش الذي وجهه للباب العالي الذي ورد فيه:  وحيث إن الحوادث التي ظهرت في العام الماضي في أطراف البوسنة والهرسك بإغراء أرباب الأغراض قد انضم لها أيضا مسألة عصيان الصرب، وهذا الدم المهرق من الطرفين إنما هو دم أولاد وطن واحد، فإن استمرار هذه الحال التي يرثى لها مبعث لكدرنا وتأثرنا الشديد، وينبغي الحرص على القيام بالإجراءات الفعالة التي تؤدي لانتهائها.
واشترطت الدولة العثمانية عدة شروط على الصرب لإيقاف تقدم جيوشها نحو بلغراد، رفضتها الدول الأوربية الست الموقعة على معاهدة باريس سنة 1856 بعد حرب القِرِم، وهي بريطانيا وروسيا وفرنسا والنمسا وألمانيا وإيطاليا، والتي ضمنت فيها هذه الدول استقلال وسلامة الأراضي التركية، بل وزادت هذه الدول على المعاهدة مقترحات تتعلق بحكم البوسنة والهرسك وبلغاريا، وبفرض رقابة تلك الدول على تنفيذ مقترحاتها، وقدم السفير البريطاني الرسالة للحكومة العثمانية في 25 أيلول/سبتمبر 1876، فأجاب الباب العالي عليها بأنه لا يرى وجها لإعطاء هذه الولايات امتيازات إدارية حيث أن مجلس المبعوثان سيشكل قريبا، وسيكون فيه مندوبون منتخبون من جميع الولايات بدون استثناء، وأن الدولة لا ترى ضرورة لإبرام اتفاق جديد مع الدول بهذا الخصوص.
ولما لم يجد الموقف التركي القبول من الدول الأوربية أوعزت الحكومة التركية إلى جيشها بالتقدم نحو بلغراد، فبدأ زحفه نحوها في أواخر أكتوبر 1876 هازماً الصرب في كل معركة خاضها معهم، فطلبت روسيا من تركيا إيقاف القتال فورا، وإعلان هدنة في صربيا والجبل الأسود مدتها 6- 8 أاسابيع، وإلا فستسحب سفارتها من الاستانة، وذلك يعني عملياً إعلان الحرب، فقبلت الدولة هذا الطلب رغبة في السلم، وأعلنت هدنة مدة شهرين مددتها فيما بعد إلى شهر آذار/ مارس سنة 1877.
ودعت بريطانيا في أكتوبر 1876 الدول الأوربية الست إلى اجتماع في استانبول لإيجاد تسوية دائمة لأوضاع مسيحيي الدولة العثمانية درءاً لوقوع الحرب بينها وبين روسيا، ولم تلق الدعوة استجابة في أول الأمر، ولكن تسارع الخطوات الروسية على طريق الحرب التي صارت قاب قوسين أو أدنى جعل الدول توافق على ذلك، واجتمع مندوبوها في استانبول في شهر  ديسمبر وتداولوا الأمور دون دعوة مندوبين عن تركيا، وقرروا تقسيم بلغاريا إلى ولايتين يكون ولاتها من المسيحيين، وانسحاب القوات العثمانية منها باستثناء بعض المواقع، وتشكيل شرطة من المسيحيين يكون ضباطها من المسيحيين والمسلمين الذين تعينهم الدولة العثمانية، وتشكيل لجنة دولية لمدة سنة لمراقبة تنفيذ الإصلاحات، ومنح ذات الامتيازات إلى البوسنة والهرسك، وأن تتنازل تركيا عن بعض الأراضي في إطار الصلح الذي سيعقد مع الصرب والجبل الأسود، وهددت هذه الدول تركيا إذا هي لم تقبل هذه الاقتراحات فإن جميع الدول ستقطع علاقاتها السياسية معها وتشرع في اتخاذ ما تراه مناسباً لفرض هذه الحلول.
وفي يوم 23 ديسمبر سنة 1876 اجتمع المؤتمر بصفة رسمية برئاسة صفوت باشا وزير الخارجية التركي، وأتته الرئاسة لانعقاد المؤتمر في الاستانة، وعضوية كل من أدهم باشا سفير الدولة ببرلين، والكونت فرنسوا دي بورجوان والكونت دي شودوردي عن فرنسا، والبارون كارل فون وِرزر عن ألمانيا، والسفير الإيطالي الكونت لويجي كورتي، وعن النمسا سفيرها الكونت فِرنِك زيكي المجري والسفير البارون هنريش فون كاليس، والسفير الجنرال نيقولاي إغناتييف عن روسيا، واللورد سالسبوري وزير شؤون الهند والسفير السير هنري إليوت عن بريطانيا.
وفي يوم انعقاد المؤتمر أصدر السلطان عبد الحميد فرماناً أعلن فيه القانون الأساسي للدولة العثمانية، وتضمن أن دين الدولة الإسلام، ولغتها الرسمية اللغة التركية، وأن الدولة جسم واحد لا يمكن تفريقه أو تجزئته، وأن جميع الرعايا يطلق عليهم اسم عثماني، وبيَّن اختصاصات مجلسي المبعوثان والأعيان وكيفية الانتخاب، ووجوب ضع ميزانية سنوية تعرض على هيئة المبعوثان ثم الأعيان، وإذا أقرها كلاهما تكون ملزمة للحكومة، وبيَّن كيفية نظام الولايات وصلاحيات الولاة، ومَنعَ عزل القضاة إلا بسبب شرعي، وضمن لجميع رعايا الدولة الحرية والمساواة أمام القانون، وأباح حرية التعليم مع جعله إجباريا على جميع العثمانيين، كما التزم بحرية المطبوعات.
وعقدت الحكومة العثمانية في 18 يناير سنة 1877 اجتماعاً ضم 200 من ذوات الدولة وأعيانها ورؤساء الديانات فيها، وعرضت عليهم اقتراحات المؤتمر، فأجمعوا  على رفضها، وهكذا كان، فقد قال صفوت باشا لمجلس الدول: إن الدولة مستعدة لقبول تشكيل مجالس انتخابية في البوسنة والهرسك وبلغاريا يكون انتخابها لمدة سنة فقط، ويكون أعضائها مناصفة من المسلمين ومن المسيحيين، وأنها مصرة على رفض الرقابة الأوربية كل الرفض لأن ذلك يدل على عدم ثقة الدول بوعود جلالة السلطان، ومصرة ايضا على عدم إعطاء الصرب والجبل الأسود شيئا من أراضيها. وتكلم بعده بعض المندوبين مهددا بالعواقب، وانفض المؤتمر وسافر المندوبون والسفراء دون مقابلة السلطان إيذاناً بقطع العلاقات الدبلوماسية.
وتحركت الدبلوماسية التركية واستطاعت التوصل في أوائل 1877 إلى الصلح مع صربيا، ودخلت في مفاوضات مع الجبل الأسود كان يتعذر نجاحها لطلبه أن تتنازل له عن بعض الأراضي ليصبح له ميناء على البحر الأدرياتيكي، وتحركت روسيا على الفور وأعدت لائحة مطالب ظاهرها تحسين أحوال النصارى من سكان الممالك العثمانية، وأنذرت الدولة بوجوب تنفيذها، ومررتها على الدول الأوربية لتوقيعها ومن ثم تقديمها للحكومة العثمانية، ودعيت بلائحة لندن، وكان من الطبيعي أن ترفضها تركيا التي أعلنت أن معاهدة باريس 1856 لا تخول هذه الدول أن تتدخل في شؤون تركيا الداخلية.
ومما يحسن ذكره في هذا المقام أن المجر، أو الهنغار، كانوا الشعب المسيحي الوحيد الذي عبر عن إخلاص وولاء للأمة العثمانية في هذا الوقت الحرج الذي كانت فيه جميع الدول المسيحية متألبة عليها، وذلك لأن الدولة العثمانية حمت من التجأ اليها من رؤساء الثورة المجرية على النمسا سنة 1848، وامتنعت عن تسليمهم إلى النمسا رغما عن تهديدها، ولو فعلت لأعدمتهم النمسا كلهم، أما روسيا فإنها ساعدت النمسا على قمع الثورة وإذلال الأمة المجرية بعد أن كادت تفوز بالنجاح وتتمتع بالحرية وتنفصل عن النمسا تمام الانفصال كما كانت أمنيتها.
وقبل إعلانها الحرب بأسبوع عقدت روسيا اتفاقاً سرياً مع إمارة رومانيا وضعت فيه رومانيا جميع مخازنها ومؤنها وذخائرها تحت تصرف روسيا التي تعتبر نفسها حامية البلقان والعرق السلافي، ثم أعلنت الحرب على الدولة العثمانية في 10 ربيع الآخر 1294، ولم تظهر الدول الأوربية الأخرى أي عتب أو تأنيب لروسيا على مخالفتها لمعاهدة باريس التي زعمت هذه الدول أنها تمنحها الحق في التدخل في الشؤون الداخلية التركية، والتي تقول المادة الثامنة منها: إذا حدث بين الباب العالي وإحدى الدول المتعاهدة خلاف خيف منه على اختلال ألفتهم وقطع سلطتهم، فمِن قَبلِ أن يعتمد الباب العالي وتلك الدولة المنازعة له على أعمال القوة والجبر يقيمان الدول الاخرى الداخلة في المعاهدة وسيطا بينهما منعا لما ينشأ عن ذلك الخلاف من الضرر.
وتوجست بريطانيا خيفة من أن تتعرض مصر، التابعة إسمياً للدولة العثمانية، لهجوم روسي، فأظهرت معارضتها للأعمال الحربية، ولكنها كفت عن المعارضة والتزمت الحياد كباقي الدول بمجرد ما أجابها وزير خارجية روسيا أن روسيا لا تعتزم حصار خليج السويس ولن تتعرض لمنع سير السفن فيه، لأنها تعتبره مصلحة عمومية تشترك فيها تجارة جميع الأمم فيجب أن يبقى دائما سالما من التعرض، أما مصر فهي جزء من الممالك العثمانية ويقاتل جيشها إلى جانب الجيوش التركية، ومن ثَم يحق لروسيا أن تعتبرها محاربة لها، ومع ذلك فإن روسيا لن تقوم بأعمال حربية فيها مراعاة للمصالح البريطانية على وجه الخصوص.
وفي بداية الحرب حققت القوات الروسية بعض النجاح غير المتوقع، وكان ذلك بفضل الإصلاحات التي قام بها وزير الدفاع الروسي الكونت ديمتري ميلوتين، والتي تضمنت إدخال الخدمة العسكرية الإلزامية مع تخفيف سنوات الخدمة، وبناء جيش احتياطي منظم، وقبل هذا وذاك تعليم وتدريب الضباط والجنود بطريقة منهجية مستمرة.
واستطاعت القوات الروسية عبور نهر الدانوب على الجبهة البلغاربة بعد حوالي شهر من بدء الحرب، وتقدمت بسرعة في جبال البلقان، واستولت على مضيق شبكا بعد معركة دامية تكبدت فيها خسائر فادحة أمام القوة التركية المدافعة التي كان عددها 4.000 جندي، ولكن الهجوم الروسي توقف تماماً بعد ذلك في مدينة بلفنا، في بلغاريا اليوم، حين صدته وأوقفت تقدمه القوات العثمانية التي كان يقودها عثمان نوري باشا الجندي المخضرم الشجاع.
ذلك إن عثمان باشا خمن تخميناً صحيحاً أن روسيا ستتجاوز البلقان وستتقدم لاحتلال استانبول، وأن الوسيلة الوحيدة لإيقاف الهجوم الروسي هي وجود جيش عدو قوي وراءه يمنعه من التقدم، فاتجه إلى بلفنا على رأس 15000 جندي واستفاد من موقعها الاستراتيجي وطبيعتها الملأى بالتلال والوديان، وبنى فيها سلسلة من  الاستحكامات وعدة خطوط من الخنادق، واستفاد كذلك من التفوق التقني لمدفعيته الألمانية الصنع وبنادق جنوده الأمريكية، واستطاع بسهولة أن يصد القوات الروسية في أول هجوم لها عليه رغم تفوقها العددي.
وسميت هذه المعركة معركة بلفنا الأولى، وحاولت القوات الروسية أن تزحزح قوات عثمان باشا فقامت بهجوم آخر بعد عشرة أيام، سمي بالمعركةالثانية، ومنيت القوات الروسية في كلي الهجومين بالفشل الذريع وتكبدت خسائر فادحة أصبحت بسببها عاجزة عن القيام بهجوم جديد فعال، وطلب الغراندوق نيقولا قائد القوات الروسية العون من رومانيا، فأرسلت له 40.000 جندي يقودهم الأمير كارول ومزودين بمدافع ألمانية تماثل ما لدى عثمان باشا.
وكانت الحكومة التركية قد أرسلت مدداً لعثمان باشا فوصل عدد قواته إلى 40.000 جندي مقابل 80.000 جندي في الطرف الروسي الذي شن هجوماً آخر بعد 6 أسابيع من بدء القتال، سمي بالمعركة الثالثة، استطاع احتلال بعض التحصينات التي ما لبث الجيش التركي أن استعادها مكبداً الروس والرومانيين خسائر فادحة.
وإزاء هذا الفشل لم يكن لدى روسيا غير محاولة حصار الجيش التركي، فاستشارت القيادة الروسية الكولونيل الكونت فون تودليبِن الضابط المهندس الذي قاد الدفاع عن سيباستبول أيام حرب القِرِم قبل حوالي 30 سنة، فأشار بجدوى حصار بلفنا، واستمر الحصار قرابة 5 أشهر في أشهر الخريف والشتاء، ودافعت عنها حاميتها دفاع المستميت رغم قلة المؤن والذخائر، وتناقص عدد القادرين على القتال، وأثار صمودها إعجاب واحترام الروس أنفسهم.
وقام عثمان باشا بمحاولة لكسر الحصار والخروج بما تبقى من جنوده، ولكنه جرح في أثناء المحاولة فدب في جنوده الاضطراب واضطر للاستسلام في ديسمبر 1877، فقدم له اسكندر الثاني سيفه قائلاً له: لا يحزنك أيها الباشا أنك اضطررت للتسليم فإنك لم تسلم جبنا ولا تقصيرا، بل دافعت عن وطنك أشد الدفاع، وانتهيت في الشجاعة والثبات إلى الغاية التي لا وراءها، وإنني لا أنظر إليك كما أنظر إلى الأسير، وإنما أنظر إلى بسالتك بعين الاحترام والتوقير، وأراني ذا حظ بالتقائي بشجاع مثلك في حومة الوغى، وها أنا ذا أعيد إليك سيفك، وأبيح لك أن تتقلده في بلادي إقرارًا بشجاعتك واعترافًا بجدارتك.
ونقف قليلاً لنتحدث عن عثمان باشا، البطل القومي التركي، المولود في توقاد سنة 1248=1832، والذي دخل الجيش العثماني في الحادية والعشرين وشارك في حرب القرم وحملات لبنان وكريت واليمن، وكان قائد الفرقة الأولى التي شاركت في قمع التمرد في بلاد الصرب فنجح في ذلك نجاحاً ألجأهم إلى طلب الصلح، فأنعم عليه السلطان سنة 1876 برتبة مشير، وبعد صموده في حصار بلفنا أنعم عليه السلطان عبد الحميد برتبة الغازي وجعله مستشاره العسكري، وزوج اثنتين من بناته لابني عثمان باشا؛ نور الدين وكمال الدين، وتولى عثمان باشا وزارة الحربية 4 مرات قبل أن يدركه الأجل في سنة 1317=1900، ويدفن وفقاً لوصيته في ضريح بالقرب من السلطان محمد الفاتح، وقد خلدت موسيقى الجيش العثماني هذه الموقعة بمارش شهير يحمل اسم بلفنا مارش، وأطلق اسم هذا المجاهد الباسل، غازي عثمان باشا، على حي كبير من أحياء استانبول.
خلّد أمير الشعراء أحمد شوقى هذه البطل عند وفاته بمرثية أشار فيها لهذه المواقع وتناول الأحداث والأزمات التي تلتها:
هالةٌ للهلال فيها اعتصامُ ... كيف حامت حيالها الأيامُ؟
فبرغم المشير أن يتولى ... والخطوب المروِّعات جِسام
ويدُ الملك تستجيرُ يديه ... والسرايا تدعوه والأعلام
وبنوه يرجونه، وهم الجُندُ ... وهم قادة الجنود العظام
مثَّلتهم صفاته للبرايا ... رُبِّ فرد سادت به أقوام
بطلَ الشرقِ، قد بَكتْك المعالي ... ورثـاك الوَلِيُّ والأَخصام
خذل المُلكَ زَندّه يوم أوديت ... وأهوى من راحيته الحسام
علّمُ العصر والممالك ولّى ... وقليل أمثاله الأعلام
سل بلفنا أكنت تُدرك فيها ... ولو أنّ المحاصِريـن الأنــام
كما جــرّدَ المحاصـرُ سـيـفـاً ... قطع السيفَ رأْيُكَ الصّمصام
وإذا كانــت الـعــقــولُ كِبــاراً ... سلِمت في المضايق الأجسام
 
تَخرقـون الجيـوشَ جيشاً فجيشـاً ... مِثلَمــا يَخــرقُ الخَـواءَ الغَمام
والمنايا مُحيطة ٌ، وحصونُ الرُّوسِ ... تـحمــي الطـريـقَ والألغام
جُرِحَ الليثُ يــومَ ذاكَ، فخان ... الجيـشَ قلـبٌ، وزُلزِلَتْ أَقدام
ما دفَعْتَ الحُسـامَ عجــزاً، ولـكن ... عَجّــَزتَ ضَيْغَمَ الحـروبِ الكِلام
فأعادوه خيـرَ شيءٍ أعـادوا ...  وكذا يعرفُ الكرامَ الكرام
سل كريداً وأين منا كريدٌ ... سلبتنا كليكما الأيام
ما لها عودة ولا لك رد ... نمت عنها ومن تركت نيام
إنما المُلكُ صارم ويراع ... فإذا فارقاه ساد الطَّغام
ونظام الأمور عقل وعدل ... فإذا ولَّيا تولى النظام
وعجيبٌ خُلقت للحرب ليثا ... وسجاياك كلهن سلام
فهي في رأيك القويم حلالٌ ... وهي في قلبك الرحيم حرام
لك سيف إلى اليتامى بغيض ... وحنان يحبه الأيتام
مستبدٌ على قوي، حليمٌ ... عن ضعيف، وهكذا الإسلام
 
وحيث ذكرنا عثمان باشا فلا بأس أن نذكر بطلاً عثمانيا آخر من أبطال هذه الحرب هو المارشال محمد علي باشا، المولود سنة 1827 في ألمانيا تحت اسم لُدوفيغ ديترويت، والذي هاجر إلى تركيا وهو في السادسة عشر واعتنق الإسلام، فأرسله عالي باشا للكلية العسكرية حيث تخرج ضابطاً  سنة 1853، وقاتل روسيا في حرب القرم، ولما جرت هذه الحرب كان قائد الجيش التركي في بلغاريا، واستطاع في البداية تحقيق عدة انتصارات قبل أن يضطر للتراجع أمام القوات التي تفوقه في العدد والعدة، ثم اختاره السلطان ليكون ضمن الوفد التركي إلى مباحثات برلين التي أعقبت الحرب، ولقي مصرعه في كوسوفو على يد الوطنيين الألبان سنة 1295=1878.
ولم تكن الحرب فقط في البلقان بل نشبت المعارك في شرقي شمال تركيا في المناطق الواقعة اليوم في أرمينيا وجورجيا، وقاد الغازي أحمد مختار باشا الجيوش التركية وحقق انتصارات مبدئية على الروس، منحه بسببها السلطان لقب الغازي، قبل أن يتقهقر بسبب ضعف الإمدادات وقلة الذخائر، فاستولت قوات الجنرال مليكوف على مدينتي باطومي وقارص في تلك المناطق وحاصرت أرضروم.
وبعد سقوط بلفنا أعلنت صربيا الحرب على الدولة العثمانية وانضمت إلى روسيا التي حاولت المضي في مخططها للاستيلاء على كل الأراضي التركية الواقعة في أوربا، ورغم الشتاء والثلوج احتلت قوات الجنرال الروسي القدير يوسيف جوركو صوفيا ثم أدرنة وصارت على أبواب استانبول، فاضطرت الدولة العثمانية بعد 3 أشهر من سقوط بلفنا إلى عقد معاهدة تنهي الحرب وتحافظ على بقاء الدولة.
وجرت مفاوضات بين المنتصر والمهزوم في ضاحية سان ستيفانو غربي استانبول، وتدعى اليوم يشيل كوي ويقع عليها المطار الدولي، ومثَّل الدولة العثمانية فيها وزير الخارجية صفوت باشا و سعد الله بك سفيرها لدى ألمانيا، وقادها من الجانب الروسي الكونت نيقولاي إغناتييف سفير روسيا السابق لدى استانبول، والذي كان شديد التعصب للرابطة السلافية، يعمل على تحرير السلافيين المسيحيين من الحكم االعثماني المسلم، وكان له من قبل الدور الأكبر في تحريض الصرب والبلغار على التمرد والعصيان على الدولة العثمانية، وكان في ذات الوقت يظهر للسلطان عبد العزيز أنه أخلص أصدقائه وأصدق ناصحيه، ويرشي من حوله من رجال البلاط بالمال والهدايا.
وانجلت المفاوضات عن إذعان الأتراك وتوقيعهم معاهدة سان ستيفانو في 28 صفر 1295= 3 مارس 1878، والتي قضت فقراتها بتقسيم المقاطعات العثمانية في أوروبا، وإنشاء مملكة بلغاريا الكبرى تضم أغلب مقدونيا وتنتهي حدودها عند نهر الدانوب وتمتد من بحر إيجة إلى البحر الأسود، واعترفت الدولة العثمانية في المعاهدة باستقلال الدول الثلاث: صربيا والجبل الأسود ورومانيا، وجعلت البوسنة والهرسك ولاية ذات حكم ذاتي، وجرى تعديل حدود صربيا والجبل الأسود لتبقى متصلة، وأجبرت رومانيا على التنازل لروسيا عن جنوب بيسارابيا وأعطتها عوضا عنها دُبرودجا التي اقتطعت من تركيا، وتنازلت تركيا في المعاهدة عن قارص وباطوم في جنوبي القوقاز، وضمن السلطان أمن وسلامة رعاياه من المسيحيين، كما تعهد بدفع تعويضات.
ورغم وجود تجمع ضم ألمانيا والنمسا وروسيا تحت اسم رابطة القياصرة الثلاث، قام في سنة 1290=1873 بمساعي الدبلوماسي الألماني المخضرم بسمارك ليسود السلام في أوروبا، إلا أن التجمع انهار بسبب الحرب التي شنتها روسيا وبوادر تفتت الدولة العثمانية من جرائها، ذلك إن الدول الأوربية توجست خيفة من هذه المعاهدة التي ستمكن روسيا من تحقيق طموحها في أن تصبح دولة أوربية عظمى ذات نفوذ وقوة لا تخضد شوكتها.
فقد كانت المعاهدة ستضعف إمبراطورية النمسا والمجر لما ستؤدي إليه من تشجيع النزعة الوطنية لدى العرق السلافي في مناطق نفوذها في البلقان، حيث ستملأ روسيا الفراغ الذي ستخلفه الدولة العثمانية في البلقان، وسيمتد نفوذها لليونان ورومانيا بحكم اتباعهما للمذهب الأرثوذكسي.
أما بريطانيا فكانت تخشي أن ينفتح الطريق أمام روسيا للنفوذ من البحر الأسود إلى البحر المتوسط وتهديد طريق الهند البحري، وبخاصة لكون روسيا قد أعلنت أنها لا تعترف بمعاهدة باريس لسنة 1856 التي كانت تحظر عليها أن تنشأ أسطولاً حربياً في البحر الأسود، وكانت بريطانيا تعتقد أن الدولة البلغارية الوليدة ستكون دولة تابعة لروسيا تهدد منها استانبول وتجعلها تلين لطلباتها.
وكان بسمارك في ألمانيا يخشى أنه في حالة انهيار إمبراطورية النمسا والمجر الذي ظهرت مؤشراته، فإن روسيا ستتمكن من التوسع في وسط أوروبا، وستحدث كارثة أخرى حين يهرب ملايين من الكاثوليك الألمان والنمساويين من بلادهم لاجئين إلى ألمانيا، وحتى صربيا حليفة روسيا ساورها القلق لقيام دولة بلغاريا العظمى التي شملت كثيراً من الأراضي ذات الأغلبية السلافية.
وكان الرأي العام البريطاني يعادي الدولة العثمانية في بداية التمرد في البلقان، ولكنه ما لبث أن تحول عندما أعلنت روسيا الحرب على الدولة العثمانية، فقد كان العداء لروسيا والخوف منها أقوى من كل اعتبار، وظن بعض الساسة البريطانيين أن روسيا لن تغير موقفها إلا بالحرب، ولكن دزرائيلي رئيس الوزراء البريطاني من حزب المحافظين، قدَّر مصيباً أن التلويح بالقوة سيكون كافياً، فأرسلت بريطانيا أسطولها إلى مضائق الدردنيل، واستدعت جنودها الاحتياطيين وحركت جزءاً من جيش الهند إلى البحر المتوسط.
ودعا وزير خارجية النمسا الكونت أندراسي لعقد مؤتمر في برلين، وانعقد المؤتمر في سنة 1295=1878 برئاسة المستشار الألماني بسمارك، ودام قرابة شهر، وشارك فيه دزرائيلي رئيس وزراء بريطانيا، ووزير خارجية النمسا والمجر، والكساندر جورتشاكوف وزير خارجية روسيا، وألكساندر قرا ثيودري باشا وزير الأشغال العامة التركية، وكان بسمارك قد وضع نصب عينيه تجنب استمرار الحروب في أوربا، فلعب دور الوسيط الشريف، وهكذا تمخض المؤتمر في منتصف سنة 1295=1878 عن معاهدة برلين التي خسرت فيها روسيا كثيراً مما كسبته في معاهدة سان ستيفانو، ولم يكن ذلك حباً في الدولة العثمانية بقدر ما كان حفاظاً على مصالح الدول، فقد تضمنت المعاهدة إنقاص الأراضي التي مُنحت لبلغاريا، وإنشاء إمارة مستقلة في جنوبها تحت مسمى روم إيلي الشرقية يحكمها وال مسيحي، وحقق هذا مصالح بريطانيا في حرمان بلغاريا من شواطئ على بحر إيجة والبحر الأبيض، أما الإمبراطورية النمساوية فقد حققت مصالحها في زيادة نفوذها في البلقان حين تضمنت المعاهدة إعادة احتلالها للبوسنة والهرسك، وهكذا تقلصت رقعة الدولة العثمانية في أوروبا لتقتصر على مقدونيا وألبانيا وتراقيا.
ومكافأة لجهود الحكومة البريطانية في مواجهة الروس والتخفيف من الخسارة التي منيت بها الدولة العثمانية، أبرمت تركيا وبريطانيا في سنة 1296=1878 اتفاقاً منفصلاً يقضي أن تدفع بريطانيا عن تركيا أي اعتداء روسي مقابل جعل جزيرة قبرص في البحر المتوسط تحت الإدارة البريطانية، مع بقائها تابعة للدولة العثمانية، وأداء مبلغ يماثل الجزية التي كانت تحملها للخزينة العثمانية، فأصبح لبريطانيا قاعدة بحرية قوية قريبة تحمي بها طريق الهند المار بالمتوسط ثم قناة السويس، التي كانت بريطانيا من قريب قد اشترت الأسهم التي تملكها مصر في القناة من الخديوي إسماعيل.
واعتبر الرأي العام الروسي معاهدة برلين ومهندسها الأكبر بسمارك مصدر إذلال كبير لروسيا التي بذلت في هذه الحرب تضحيات ليس لها مثيل في تاريخها، كما تجاهلت المعاهدة تطلعات الصرب للاستقلال والوحدة السلافية، واعتبر الصرب أن تضحياتهم ذهبت هباء منثورا، وأن حلفاءهم الروس لم يراعوا مصالحهم في المفاوضات، وبسببٍ مما سبق فإن المعاهدة كانت تؤسس لمزيد من الأزمات الأوربية التي ستكون منطقة البلقان محورها، والتي ستبلغ ذروتها في حروب البلقان سنتي 1912-1913، ثم في اندلاع الحرب العالمية الأولى سنة 1914.
وشارك في هذه الحرب الروسية التركية الأمير ألكساندر ولي عهد روسيا، والذي سيصبح القيصر بعد اغتيال والده في سنة 1881 وسيدوم حكمه حتى وفاته سنة 1894، وكان يتطلع لروسيا ذات عرق واحد ولغة واحدة وديانة واحد تديرها حكومة مركزية قوية واحدة، ولذا اتسم حكمه بمحاولة أن يصهر في بوتقة روسيا كل الأعراق والأديان واللغات في المناطق التي يحكمها القيصر، فلقي الألمان والبولنديون والسويديون واليهود والمسلمون في عهده الاضطهاد وأغلقت معاهدهم ومؤسساتهم.
وينبغي أن نشير أن داغستان المسلمة التي كانت ثورتها على روسيا قد انتهت باستسلام الإمام شامل في سنة 1276= 1859، انتهزت فرصة الحرب الروسية التركية، فانتفضت من جديد، ولكن سرعان ما تفرغت الحكومة الروسية لإخماد الانتفاضة بعد انتهاء حربها مع العثمانيين، فاستطاعت أن تقضي عليها بسرعة، وعرضت على أهل داغستان الطاعة التامة مع الإخلاص، أو الجلاء عن البلاد والخروج منها إلى حيث يريدون، ففضل كثير منهم الهجرة إلى تركيا وهاجر بعضهم إلى سورية والأردن والعراق.
كانت هذه الحرب أول تحدي يواجهه السلطان عبد الحميد بعد 6 أشهر من توليه السلطنة في 10 شعبان سنة 1293= 31 آب/أغسطس 1876، وكان قد أصدر الدستور العثماني في آخر سنة 1293=1876 وعين البرلمان في صورة مجلس المبعوثان الذي اجتمع قبل الحرب بشهر، وأدرك السلطان عبد الحميد بعد نتائج هذه الحرب الكارثية، أن أية مساعدة تقدمها له الدول الأوربية على الصعيد الداخلي أو الخارجي مهما كانت قليلة سيكون ثمنها أن تتدخل هذه الدول في شؤون الرجل المريض، كما كانت أوربا تسمي الدولة العثمانية، وأنه لمواجهة التحديات لا بد له من أن تكون يده مطلقة في الحكم، لا يقيدها أو يعيقها برلمان فأقدم على حل البرلمان، ثم علق الدستور قبل توقيع معاهدة سان ستيفانو، وأمضى 40 سنة يحكم البلاد حكماً مطلقاً اعتمد فيه على مجموعة من الأعوان المخلصين الذين استأمنهم لتنفيذ مشاريعه التي كانت ذات هدفين أساسين: النهوض بالدولة العثمانية من خلال تحديث وتنمية التعليم والصناعة والتجارة، وتوطيد الوحدة بين عناصر الدولة العثمانية تحت شعار الرابطة الإسلامية.
وتحققت نظرة السلطان عبد الحميد عندما استغلت فرنسا وبريطانيا ضعف الدولة العثمانية بعد هذه الحرب، فقامت فرنسا باحتلال تونس في سنة 1298=1181، وتلتها بريطانيا التي أصبح جلادستون رئيس وزرائها، فقصفت سفنها الإسكندرية واحتلت مصر سنة 1299=1882، بحجة تأييد الخديوي توفيق إزاء تمرد عرابي باشا، فاتجه عبد الحميد للاعتماد على ألمانيا للمساعدة التقنية، وزاد في دعوته للرابطة الإسلامية، وهي الفكرة التي شكلت تهديداً خطيراً للدول الأوربية الاستعمارية في مستعمراتها المسلمة، فإن كان السلطان هو الخليفة المسلم الواجبة طاعته شرعاً على كل المسلمين، فإن على مسلمي الهند والجزائر وتونس وغيرها من البلدان المسلمة المحتلة أن يدينوا له بالولاء والطاعة، كما هو كذلك واجب سلاطين هذه البلاد الذين أقامهم المحتل.
 وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ

الجمعة، 23 يناير 2015

حدث في الثالث من ربيع الآخر

في الثالث من ربيع الآخر من عام 6 وقعت غزوة ذي قَرَد، ويقال لها كذلك غزوة الغابة، وذلك على إثر غارة على إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بها زعيم غطفان عُيينة بن حِصن الفَزاري، وقامت بها مجموعة من فرسان غطفان يقودهم ابنه عبد الرحمن، وأحبط الغارة الصحابي الشجاع سَلَمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي حين تصدى للمغيرين بمفرده، ثم لحق به رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم لكسر شوكة كل من تفكر نفسه في العدوان على المدينة.
وكانت إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين، وتسمى اللقاح لأنها حوامل ذات ألبان، وكان الراعي يؤوب بلبنها كل ليلة عند المغرب، وكانت ترعى في مكان يدعى البيضاء على طريق خيبر، فأجدب فقربوها إلى الغابة، تصيب من أثلها وطرفائها وتغدو في الشجر، والغابة موضع شمالي المدينة فيه شجر كثير كما هو واضح من اسمه.
وابتدأت الغارة كعادة العرب في أن تقوم مجموعة من الخيالة فتهجم على حين غرة ليلاً أو فجراً على مرعى الإبل وتقتل رعاتها أو ينهزموا وتستاق الإبل إلى مضاربها دون كثير قتال، وفي هذه الحالة كانت الإبل يرعاها رجل من غفار وامرأة له، ويقال هو أبو ذر أو ابنه، فقتل المغيرون، وكانوا 40 رجلاً، الرجل واحتملوا المرأة مع الإبل.
وكاد الأمر أن يتم كما خطط له عيينة بن حصن، لولا أن الله قيض سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي، وكان من شباب الصحابة الأبطال، رامياً لا يخطئ الهدف، عدَّاء لا يدركه أحد، وكان قد خرج في الغلس إلى الغابة، متوشحاً قوسه ونبله، ومعه رباح غلام النبي صلى الله عليه وسلم وفرس لطلحة بن عبيد الله يقوده يريد أن يتركه يرعى مع الإبل، حتى إذا علا سلمة ثنية الوداع نظر إلى بعض خيول المغيرين وأدرك ما يجري، فقال للغلام: يا رباح، اقعد على هذا فألْحقهُ بطلحة، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد أُغير على سَرْحه. ثم صعد سلمة على سلع وصرخ بأعلى صوته: واصباحاه! وهي كلمة تعني الخطر الداهم والنفير القائم اللازم.
وقد روى الإمام أحمد في مسنده عن سلمة بن الأكوع قصة ما حدث بعدها، ونوردها هنا ببعض الزيادات والتصرف من كتب الحديث الأخرى، قال سلمة: ثم اتَّبعت القوم معي سيفي ونبلي، فجعلت أرميهم وأعقِر بهم، وذلك حين يكثر الشجر، فإذا رجع إليّ فارس جلست له في أصل شجرة ثم رميت، فلا يُقبل إليّ فارس إلا عقرت به، فجعلت أرميهم وأنا أقول:
أنا ابن الأكوعِ ... واليومُ يومُ الرُّضَّع
قال: فألحق برجل منهم فأرميه وهو على راحلة، فيقع سهمي في الرجل حتى أنتظم كتفه، فقلت:                                       
خذها وأنا ابن الأكوعِ ... واليوم يوم الرُّضَّعِ
فإذا كنت في الشجر أحرقتهم بالنبل، فإذا تضايقت الثنايا عَلَوت الجبل فردَّيتهم بالحجارة.
ومعنى ما ارتجزه سلمة: خُذ الرَّمْية مني واليومُ يومُ هَلاَك اللِّئَامِ، والرُّضع هنا جمع راضع بمعنى لئيم.
نعود إلى قول سلمة: فما زال ذلك شأني وشأنهم أتبعهم، وأرتجز حتى ما خلق الله شيئاً من ظَهْر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خلَّفته وراء ظهري، فاستنقذته من أيديهم، ثم لم أزل أرميهم حتى ألقَوا أكثر من ثلاثين رمحاً وأكثر من ثلاثين بُرْدة يَستخِفُّون منها، ولا يُلْقون من ذلك شيئاً إلا جعلت عليه حجارة، وجمعته على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حتى إذا امتدّ الضحى أتاهم عُيَينة بن حصن الفَزاري مَدداً لهم وهم في ثنيَّة ضيِّقة، ثم علَوت الجبل فأنا فوقهم، فقال عيينة: ما هذا الذي أرى؟ قالوا: لقينا من هذا البَرح! ما فارقنا بسَحَر حتى الآن، وأخذ كلَّ شيء بأيدينا وجعله وراء ظهره. فقال عيينة: لولا أنَّ هذا يرى أن وراءه طلباً لقد ترككم! ليَقُم إِليه نفر منكم، فقام نفر منهم أربعة فصعدوا في الجبل، فلما أسمعتهم الصوت قلت: أتعرفونني؟ قالوا: ومن أنت؟ قلت: أنا ابن الأكوع، والذي كرّم وجه محمد لا يطلبني رجل منكم فيدركني، ولا أطلبه فيفوتني. فقال رجل منهم: إنّ أظنّ. تصديقاً للقول.
ونترك حديث سلمة ونقول: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم صياح ابن الأكوع، فصرخ بالمدينة الفزع الفزع، ونودي: يا خيل الله اركبي، ولم تكن تقال قبلها، فترامت الخيول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أول من انتهى إليه الفرسان المقداد بن عمرو الكندي الحضرمي، ويقال له كذلك: المقداد بن الأسود، وكان أحد أول سبعة أظهروا الإسلام، وتلاه ستة من فرسان الأنصار، فلما اجتمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّر عليهم سعد بن زيد، وقال له: اخرج في طلب القوم حتى ألحقك في الناس.
وكان ممن لبى نداء الرسول صلى الله عليه وسلم أبو عياش عبيد بن زيد بن صامت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا عياش، لو أعطيتَ هذا الفرس رجلا هو أفرس منك، فلحق بالقوم. قال أبو عياش: فقلت: يا رسول الله أنا أفرس الناس! ثم ضربت الفرس فوالله ما جرى بي خمسين ذراعا حتى طرحني. وكان أبو عياش يقول: عجبا لي!؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لو أعطيتَ فرسك هذا من هو أفرس منك. وأقول: أنا أفرس الناس. وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرس أبي عياش معاذ أو عائذ بن ماعص.
وكانت رغبة الرسول صلى الله عليه وسلم في حشد جيش إزاء هجمة يقوم بها بعض لصوص الإبل، إدراكاً منه أن القضية ليست أمراً يتعلق بالإبل، بل كانت هيبة الدولة الناشئة في المدينة على المحك، فكان لزاماً عليه أن يردع كل من يستهين بالمسلمين أو يطمع في الغدر بهم أو سرقة أموالهم، وليبسط سلطانه على المناطق المحيطة بالمدينة المنورة.
واكتسب هذا القرار أهمية أكثر لكون الغارة من تدبير عيينة بن حصن زعيم غَطَفان، القبيلة القيسية العربية الكبيرة، وكانت أراضيها تجاور المدينة المنورة من الشرق والغرب، وكان معروفاً بالغلظة والشدة، وكان عيينة يُعدُّ في الجاهلية من الجرّارين، يقود عشر آلاف، وهو أحد من تحالفوا مع قريش لغزو المدينة يوم الأحزاب، وكانت بلاده قد أجدبت فسار في نحو مئة بيت من آله حتى أشرف على بطن نخل، فهاب النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فورد المدينة ولم يسلم ولم يبعد، وقال: أريد أدنو من جوارك فوادِعْني، فوادعه النبي ثلاثة أشهر، فلما فرغت انصرف عيينة إلى بلادهم فأغار على لقاح النبي صلى الله عليه وسلم بالغابة، فقال له الحارث بن عوف: عاهدتَ محمداً في بلاده ثم غزوته!
وسيعلن عيينة إسلامه  بعد فتح مكة في سنة 8، واعتبره الرسول بعدها في المؤلفة قلوبهم، ونعته بالأحمق المطاع في قومه، وارتد عيينة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولحق بطليحة بن خويلد الأسدي، فأسره خالد بن الوليد رضي الله عنه وأخذ مقيداً للمدينة، يضربه صبيانها،  ولما كلمه أبو بكر رضي الله عنه رجع إلى الإسلام، فقبل منه أبو بكر ذلك وعفا عنه وكتب له أماناً. وتزوج ابنته عثمان رضي الله عنه.
وخرج الفرسان في طلب القوم، فكان أول من لحق بالقوم مُحرِز بن نَضلة الأسدي، ويقال له الأخرم كذلك، وكان على فرس لمحمود بن مسلمة، وذلك أن الفرس كان مربوطاً بجذع نخل في بستان، فلما سمع صاهلة الخيل بدأ يجول في حبله يريد اللحاق بهم، وكان فرساً صنيعاً جامَّاً، أي لم يُركب فهو مرتاح، فقال نساء من نساء بني عبد الأشهل حين رأين صنيع الفرس: هل لك في أن تركب هذا الفرس؟ فإنه كما ترى ثم تلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمسلمين؟ قال: نعم، فأعطينه إياه، فخرج عليه فلم يلبث أن بذَّ الخيل بجَمامه حتى أدرك القوم فوقف لهم بين أيديهم ثم قال: قفوا يا معشر بني اللكيعة حتى يلحق بكم من وراءكم من أدباركم من المهاجرين والأنصار. فحمل عليه رجل منهم فقتله، وجال الفرس فلم يقدر الرجل عليه وعاد إلى مربطه. وكان محرز قد رأى في منامه كأن السماء انفرجت له، فدخلها حتى بلغ سدرة المنتهى فقيل له هذا منزلك، فقص رؤياه على أبي بكر، وكان من أعبر الناس للرؤيا، فقال: أبشر بالشهادة. فقتل بعد ذلك بيوم، وكان يوم استشهد ابن 37 سنة.
وجاء بعد محرز أبو قَتَادة الحارثُ بن رِبعي، المتوفى سنة 54 وقد ناهز 70 سنة، أدرك حبيب ابن عيينة بن حصن فقتله، وغشَّاه بُرده ثم تابع جريه وراء القوم، وقتل قاتل محرز بن نضلة. قال سلمة: فما برحت مقعدي ذلك حتى نظرت إلى فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلّلون الشجر، وإِذ أولهم الأخرم الأسديّ، وعلى أثره أبو قتادة فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى أثره المقداد بن الأسود الكِندي، فولّى المشركون مدبرين، وأنزِل من الجبل فآخذ عِنان فرسه، فقلت: يا أخرم إئذن القوم، يعني احذرهم، فإني لا آمن أن يقتطعوك فاتئد حتى يلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. قال: يا سلمة إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر، وتعلم أنَّ الجنة حق والنار حق فلا تَحُل بيني وبين الشهادة. فخلّيت عنان فرسه، فيلحق بعبد الرحمن بن عيينة، ويعطف عليه عبد الرحمن فاختلفا طعنتين، فعقر الأخرم بعبد الرحمن، وطعنه عبد الرحمن فقتله؛ فتحول عبد الرحمن على فرس الأخرم، فيلحق أبو قتادة بعبد الرحمن، فاختلفا طعنتين فعَقَر بأبي قتادة وقتله أبو قتادة، وتحول أبو قتادة على فرس الأخرم.
نعود إلى حديث سلمة بن الأكوع: ثم إنِّي خرجت أعدو في أثر القوم حتى ما أرى من غبار صحابة النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، ويعرضون قبل غيبوبة الشمس إلى شِعْب فيه ماء يقال له ذو قَرَد، فأرادوا أن يشربوا منه، فأبصروني أعدو وراءهم فعطفوا عنه، وأسندوا في الثنيّة ثنيّة ذي بئر، وغربت الشمس وألحق رجلاً فأرميه فقلت:
خذها وأنا ابن الأكوعِ ... واليوم يوم الرُّضَّعِ
فقال: يا ثُكَلْ أمِّ؛ أأكوعُ بُكرة؟ يعني أنت الأكْوع الذي قد تَبِعنا بُكْرة اليوم. فقلت: نعم، أي عدوَّ نفسه! وكان الذي رميته بُكرة، فأتبعته سهماً آخر، فعلق به سهمان، ويخلِّفون فرسين فجئت بهما أسوقهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الماء الذي أجليتهم عنه عند ذي قَرَد .
وجاء عُكاشة بن مِحصن  فوجد اثنين من المغيرين على بعير واحد رديفين فشكهما برمحه فقتلهما معاً، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: منا خير فارس في العرب. قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: عكاشة بن محصن. فقال ضرار بن الأزور الأسدي: ذلك رجل منا يا رسول الله. قال: ليس منكم، ولكنه منا للحِلف. وعكاشة هو الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمعه يقول: يدخل الجنة سبعون ألفا من أمتي على صورة القمر ليلة البدر. فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم. قال: اللهم اجعله منهم. فقام رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم. قال: سبقك بها عكاشة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استعمل على المدينة عبد الله ابن أم مكتوم، وأقام سعد بن عبادة في ثلاثمئة من قومه يحرسون المدينة، وسار مع الجيش باتجاه ذي قَرَد، وفي الطريق وجد الناس القتيل الذي سجَّاه ببرده أبو قتادة، فقال رجل من الصحابة: يا رسول الله، قد استشهد أبو قتادة، قال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحم الله أبا قتادة، والذي أكرمني بما أكرمني به؛ إن أبا قتادة على آثار القوم يرتجز. فأدخل الشيطان الشك في قلوب بعض الصحابة أن الرسول يقول هو حي يطارد القوم، وهم ينظرون الى فرسه قد عُرقبت، وينظرون إليه مسجى عليه ثيابه، فخرج عمر بن الخطاب وأبو بكر رضي الله عنهما يسعيان حتى كشف الثوب، فقالا: الله أكبر، صدق الله ورسوله! وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس بأبي قتادة، ولكنه قتيل لأبي قتادة وضع عليه برده لتعرفوا أنه صاحبه.
ولم يلبث أن طلع عليهم أبو قتادة يحوش اللقاح، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم بارك في شعره وبَشَرَه، وقال لأبي قتادة: أفلح وجهك. قال: ووجهك يا رسول الله. قال: فما الذي بوجهك؟ قال: سهم رميت به أصابني يا رسول الله، قال: ادن مني يا أبا قتادة، قال أبو قتادة: فدنوت منه، فنزع النصل نزعا رفيقا، ثم بزق فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع راحته عليه، فو الذي أكرم محمدا صلى الله عليه وسلم بالنبوة ما ضرب علي ساعة قط، ولا قرح قط علي. وقيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي قتادة: من اتخذ شعراً فليحسن إليه أو ليحلقه، وقال له: أكرم جمَّتك وأحسن إليها. فكان يرجّلها غبّاً.
ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء يقال له بيسان، فسأل عنه، فقيل: اسمه يا رسول الله بيسان، وهو مالح. فقال: بل هو نعمان، وهو طيب. فغير رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه، وغير الله الماء، واشتراه طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، ثم تصدق به، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: ما أنت يا طلحة إلا فياض! فسُمىَّ بذلك الفياض، وكان هو الذي ينحر للجيش لكل مئة جَزور كل يوم، فأطعمهم وسقاهم.
وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بالجبل من ذي قرد، على مسافة 35 كيلاً شمال شرقي المدينة، وتلاحق به الناس، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم به وأقام عليه يوماً وليلة، يتحسس خبر المغيرين لئلا يجمعوا قواتهم ويكروا في هجوم آخر على المدينة، وصلى رسول الله بأصحابه صلاة الخوف، ولعلها أول مرة يصليها، فصف الناس خلفه صفين: صف خلفه، وصف موازي العدو، فصلى بالصف الذي يليه ركعة، ثم نهض هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، وهؤلاء إلى مصاف هؤلاء، فصلى بهم ركعة.
نعود إلى رواية سلمة رضي الله عنه: وإذا بنبي الله صلى الله عليه وسلم في خمس مئة، وإِذا بلال قد نحر جزوراً ممَّا خلَّفت فهو يشوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كبدها وسنامها، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إن القوم عطاش وليس لهم ماء دون أحساء كذا وكذا؛ خلِّني فأنتخبُ من أصحابك مائة، فآخذ على الكفار بالعَشوة فلا يبقى منهم مُخْبر إلا قتلته. فقال: أكنت فاعلاً ذلك يا سلَمة؟ قال: قلت: نعم، والذي أكرمك. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأيت نواجذه في ضوء النار، ثم قال: يا ابن الأكوع؛ ملكتَ فاسجِح، إنهم يُقْرَون الآن بأرض غطفان. أي يضيّفون. فجاء رجل من غطفان فقال: مرّوا على فلان الغطفاني، فنحر لهم جزوراً، فلما أخذوا يكشِطون جلدها رأوا غَبَرة، فتركوها وخرجوا هراباً.
فلما أصبحنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير فرساننا أبو قتادة، وخير رجَّالتِنا سلمة. فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سَهْمَ الفارس والراجل جميعاً، ثم أردفني وراءه على العَضْباء راجعين إلى المدينة.
فلما كان بيننا وبينها قريبٌ من ضحوة، وفي القوم رجل من الأنصار كان لا يُسبق، جعل ينادي: هل من مسبق؟ ألا رجل يسابق إِلى المدينة؟ فأعاد ذلك مراراً وأنا وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم مُرْدِفي على ناقته العضباء، فقلت له: أما تُكرم كريماً، ولا تهاب شريفاً؟ قال: لا، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمِّي خلّني فلأسبق الرجل. قال: إن شئت. قلت: اذهب إِليك. فطفر عن راحلته، وثنيت رجلي فطفرت عن الناقة، ثم إنِّي ربطت عليه شَرَفاً أو شَرَفين، يعني استبقيت من نَفَسي، ثم إني عدوت حتى ألحقه فأصكَّ بين كتفيه بيدي، قلت: سبقتك والله! قال: فضحك وقال: إِن أظنُّ.
وغاب الرسول صلى الله عليه وسلم عن المدينة 5 ليال، أرسل إليه في أثنائها سعد بن عبادة بأحمال تمر وبعشرة جمال للذبح، أرسلها مع ابنه قيس بن سعد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا قيس، بعثك أبوك فارسا، وقوَّى المجاهدين، وحرس المدينة من العدو، اللهم ارحم سعدا وآل سعد! ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم المرء سعد بن عبادة. فتكلمت الخزرج فقالت: يا رسول الله هو بيتنا وسيدنا وابن سيدنا، كانوا يطعمون في المحْل، ويحملون الكَّل، ويُقرُون الضيف، ويعطون في النائبة، ويحملون عن العشيرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خيار الناس في الإسلام؛ خيارهم في الجاهلية، إذا فقهوا في الدين.
وقتل في هذه الغزوة مسلماً هشام بن صبابة الليثي، أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت وهو يرى أنه من العدو فقتله خطأ.
ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلاً حتى قدم المدينة، ولم يشتبك جيشه في قتال، ولكن كل من حول المدينة علم أن حمى الرسول والمسلمين لا تضام، وأن عواقب عدوانه ستكون سريعة ووخيمة.
ولما وصل الرسول مكاناً يقال له ظريب التأويل، قالت بنو حارثة من الانصار: يا رسول الله! ها هنا مسارح إبلنا ومرعى غنمنا ومخرج نسائنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قطع شجرة فليغرس مكانها ودية. أي فسيلة. فغرست الغابة.
أما امرأة الغفاري فأفلتت من القوم وعادت إلى المدينة على ناقة من إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدم على الرسول أخبرته الخبر فلما فرغت قالت: يا رسول الله إني قد نذرت لله أن أنحرها إن نجاني الله عليها. قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: بئس ما جزيتها، أن حملك الله عليها ونجاك بها ثم تنحرينها! إنه لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا تملكين، إنما هي ناقة من إبلي، فارجعي إلى أهلك على بركة الله.
وقال حسان بن ثابت في يوم ذي قرد:
أظنَّ عيينةُ إذ زارها ... بأن سوف يهدم فيها قصورا
فأُكذِبتَ ما كنت صدَّقتَه ... وقلتم سنغنم أمراً كبيرا
فعِفت المدينة إذ زرتها ... وآنست للأُسد فيها زئيرا
فولوا سراعاً كَشَدِّ النعام ... ولم يكشفوا عن مُلِطٍّ حصيرا
أميرٌ علينا رسولُ المليك ... أحبب بذاك إلينا أميرا
رسولٌ نصدَّق ما جاءه ... ويتلو كتاباً مضيئاً منيراً
وقال كعب بن مالك في يوم ذي قرد للفوارس:
أتحسب أولادُ اللقيطة أننا ... على الخيل لسنا مثلهم في الفوارس
وإنا أناس لا نرى القتل سُبّة ... ولا ننثني عند الرماح المداعس
وإنا لنَقري الضيف من قَمَعِ الذّرا ... ونضرب رأس الأبلخ المتشاوس
نرد كُماة الـمُعلَمين إذا انتخوا ... بضرب يسلي نخوة المتقاعس
بكل فتى حامي الحقيقة ماجد ... كريم كسرحان الغَضاة مُخالس
يذودون عن أحسابهم وتلادهم ... ببيض تقد الهام تحت القوانس
فسائل بني بدر إذا ما لقيتَهم ... بما فعل الإخوان يوم التمارس
إذا ما خرجتم فاصدقوا من لقيتم ... ولا تكتموا أخباركم في المجالس
وقولوا زَلِلنا عن مخالب خادر ... به وَحَرٌ في الصدر ما لم يمارس
توفي سلمة بن الأكوع رحمه الله في المدينة سنة 74، بعد حياة حافلة بالجهاد مع الرسول صلى الله عليه وسلم، شهد بيعة الرضوان بالحديبية، وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ثلاث مرات؛ فى أول الناس ووسطهم وآخرهم، وغزا مع الرسول 7 غزوات، وأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم في ترك المدينة وسكنى البادية، فلما قُتل عثمان خرج من المدينة معتزلاً، فسكن الربذة وتزوج هناك وولد له، فلم يزل بها حتى كان قبل وفاته بليال عاد إلى المدينة فتوفى بها بعد أن كُفَّ بصره، وكان قد ناهز 90 سنة، قال سلمة بن الأكوع: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم مرارا، ومسح على وجهي مرارا، واستغفر لي مرارا عدد ما في يدي من الأصابع.
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

الجمعة، 16 يناير 2015

حدث في السادس والعشرين من ربيع الأول

في السادس والعشرين من ربيع الأول من عام 1348 الموافق 31 أغسطس 1929، أصدرت جمعية حراسة المسجد الأقصى والأماكن الإسلامية المقدسة، المنبثقة عن المؤتمر الإسلامي العام في فلسطين البيان التالي:
بيان إلى العالم الإسلامي
من جمعية حراسة المسجد الأقصى والأماكن الإسلامية المقدسة بالقدس
اليهود يثيرون الفتنة الدموية في فلسطين طمعًا في البراق الشريف والمسجد الأقصى المبارك.

إن جمعية حراسة المسجد الأقصى والأماكن الإسلامية المقدسة في القدس الشريف قيامًا بواجبها إزاء الفتنة الحالية التي سبَّبها اليهود بتوالي اعتداءاتهم على البراق الشريف، فَجَرُّوا البلاد إلى البلاء الشامل والخسارة العظيمة في النفوس والثمرات، تثابر على خطتها من الأخذ بكل الوسائل المشروعة الجائزة للدفاع عن البراق الشريف والمسجد الأقصى المبارك وسائر الأماكن الإسلامية المقدسة لصد كل طمع عنها يحاوله الطامعون، والجمعية تقوم بهذا من حيث تظل على صلة بالعالم الإسلامي وملوكه وأمرائه وأممه وصحفه وزعمائه وأهل الغيرة والحمية من المسلمين بمواصلة إرسال الأنباء عن الحالة، وعما يجدُّ من الأمور المهمة والحوادث الخطيرة؛ ليقف العالم الإسلامي على ذلك ويعمل وسعه لصيانة مقدسات المسلمين ودرء الأخطار عنها.
وهذا موجز ما حصل إلى اليوم في الأسابيع الأخيرة:
1- ضاعف اليهود في فلسطين جهودهم في الأسابيع الستة الأخيرة لامتلاك البراق، ثم ليتدرجوا منه إلى امتلاك المسجد الأقصى بحجة أن أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين هو هيكل سليمان، وبحجة أن الوطن القومي اليهودي يظل ناقصًا حتى يملك اليهود مكان الهيكل، وبهذا يصرح كبار زعمائهم.
2- عقد يهود العالم المؤتمر الصهيوني العالمي السادس عشر في زوريخ في أواخر شهر تموز/يوليو وأوائل آب/أغسطس من هذه السنة، وقد كان من محور المناقشات الحادة والمقررات الإجماعية في هذا المؤتمر استئناف العمل وتحريض يهود العالم على بذل كل ما يستطعيون من قوة لاستعادة الهيكل ولو كلفهم ذلك كل عظيم.
3- أعلن اليهود بلسان مؤتمر زوريخ وبلسان زعمائهم السياسيين والدينيين وصحفهم وجمعياتهم أنهم لا يرضون بما حدده لهم الكتاب الأبيض الذي أصدرته منذ نحو 10 أشهر الحكومة البريطانية، من أن يظل القديم على قدمه بحيث لا يجاوز اليهود زيارة الحائط الزيارة المعتادة، والبراق واقع في ملك الوقف الإسلامي البحت، ثم أعلن اليهود سخطهم على الكتاب الأبيض وأخذوا يجاهدون بكل قواهم لحمل الحكومة البريطانية للعدول عن العمل بمقتضاه، وهي قد وضعته بعد درسها القضية درسًا مدققًا استغرق عدة أشهر فضلاً عما كان قد سبق لها ملاحظته ومشاهدته من عدوان اليهود على البراق أثناء السنوات الأخيرة.
4- أثناء انعقاد مؤتمر زوريخ وبعده ظهر اليهود في فلسطين بمظهر المتعنت الطامع المحاول الباطل، مما دل دلالة قاطعة وأيدته الوقائع أن هناك خطة مدبرة وصلة وثيقة محكمة بين مقررات مؤتمر زوريخ والحوادث التي اقتحمها اليهود على أثره.
5- في 10 ربيع الأول سنة 1348= 15 آب/أغسطس 1929 سمحت الحكومة لليهود بأن يقوموا بمظاهرة، فقاموا بها وكانت مظاهرة ظاهرها زيارة البراق ومرماها محاولة إظهار القوة لامتلاكه، فمشوا من الحي اليهودي الذي يبعد من الحرم عدة كيلو مترات إلى البراق الشريف، فاحتشدت المئات منهم عنده، ورفعوا العلم الصهيوني، وخطب فيهم خطباؤهم خطبًا هائجة عنيفة شتموا فيها المسلمين كثيرا، وحرَّضوا جماهيرهم على امتلاك البراق تدريجيًّا لاستعادة الهيكل.
6- وصدرت الصحف اليهودية ومناشير الجمعيات الصهيونية وكلها تحريض ونداء نحو هذه الغاية، وأصدرت حكومة فلسطين بعدئذ بلاغًا رسميًّا بينت فيه أن القصد من مظاهرة اليهود المذكورة لم يكن كله لزيارة المبكى، أي البراق، زيارة دينية مجردة.
7- في 11 ربيع الأول= 16 أغسطس قام المسلمون بمظاهرة كبيرة مقابلة لمظاهرة اليهود في اليوم السابق، فمشوا من المسجد الأقصى إلى البراق الشريف إعلانا لتصميمهم أنهم متمسكون بملكهم، مدافعون عن حقهم، وطيرت البرقيات إلى الحكومة البريطانية، وقدَّمت الاحتجاجات إلى حكومة فلسطين شجبًا لأعمال اليهود ومحاولاتهم المتكررة التي لا تنتهي إلا بسوء العاقبة إذا سُمح لهم بالمثابرة عليها.
8- في 12 ربيع الأول= 17 أغسطس يوم مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، اعتدى اليهود على العرب المسلمين بالقرب من الحي اليهودي، فجرحوا 13 عربيًّا ودافع العرب عن أنفسهم، ثم انقلب اليهود يغدرون بالمارة من العرب في حيهم يترصدونهم للإيقاع بهم ليل نهار.
9- في 16 ربيع الأول= 21 أغسطس كان اليهود ذاهبين بموكب كبير لدفن أحد موتاهم الذي مات في مستشفى الحكومة متأثرًا من جراحه التي أصيب بها في حادثة اعتداء اليهود السابقة، فاجتمعوا مئات عديدة وخطبوا خطبًا مهيجة وشتموا المسلمين، ولما وصلوا بالميت إلى قرب دائرة البريد خارج المدينة القديمة عدلوا عن السير في الطريق العام المعتاد سلوكهم فيها إلى مقبرتهم، وحاولوا أن يحدثوا حدثا عظيما، فأرادوا أن يدخلوا بالميت الأحياء الإسلامية كلها ويأتوا إلى البراق قبل أن يدفنوه تحويلاً لجنازة الدفن إلى مظاهرة لم يسبق لها مثيل نوعًا وشكلاً، فصدَّهم البوليس البريطاني بالقوة، وجرح منهم 23 شخصا كما أفاد بلاغ الحكومة الرسمي.
وكان اليهود بعملهم هذا يرمون إلى الفتنة صراحة، إذ من تقاليدهم التي يراعونها بحسب دينهم مراعاة شديدة أنهم لن يؤخروا دفن ميتهم إلى الصباح إذا كان مات قبل نصف الليل، غير أنهم في هذه الحادثة أبطلوا العمل بتقاليدهم الدينية، فأخَّروا دفن الميت إلى قبيل ظهر اليوم التالي، وكان موته عصر اليوم السابق طلبًا لأسباب الشر والفتنة.
10- فهال أهالي فلسطين المسلمين ما أخذوا يرون في اليهود من التحكك بنار الفتنة، ومن الجرأة الغريبة في محاولتهم اقتحام البراق وامتلاكه والتصرف به تصرف المالك فاحتجت جمعية حراسة المسجد الأقصى وجمعية فرسان البراق وجمعيات الشبان المسلمين في فلسطين والهيئات الدينية على أعمال اليهود ومصارحتهم العرب العدوان مصارحة منافية للحق والقانون، ومعرضة الأمن العام في البلاد إلى خطر كبير.
11- في 18 ربيع الأول =23 آب/أغسطس خرج المسلمون من صلاة الجمعة من المسجد الأقصى حسب العادة، فلما وصلت زرافاتهم إلى باب الخليل ذاهبين في طريقهم إلى منازلهم وأعمالهم وجدوا اليهود هناك على حالة مريبة جدًّا، وكانت جماهير المسلمين التي خرجت إلى جهة باب العامود قد رأت مثل ذلك من اليهود الساكنين في حي ميشوريم القريب، فسبق أحد اليهود في باب الخليل إلى الاعتداء بإلقاء قنبلة، ثم أطلق اليهود الطلقات النارية على المسلمين فوقع المحذور، وحصل اصطدام قرب باب العامود في الوقت عينه، فاتقدت الفتنة ولم يكن بأيدي المسلمين إلا بعض العصي يحملها الواحد منهم على عادته، فأخذ الرصاص يدوي ولم تكن قوة البوليس كافية فاستعانت بإطلاق النار على المسلمين فقتلت وجرحت منهم، واحتشد اليهود في مبانيهم الكبيرة في حي ميشوريم، وأخذوا يطلقون النار من النوافذ على العرب واستمرت الفتنة على أشدها عدة ساعات، وأقفلت المدينة وتوالى إطلاق الرصاص في أماكن عديدة، وفي العصر حلَّقت الطيارات وجيء بقوات البوليس من الخارج وفي الساعة السادسة أعلنت الحكومة منع التجوال من السادسة ونصف مساء إلى السادسة صباحًا، وانقضى الليل والرصاص لم يهدأ حتى الصباح.
ولم تزل الحالة في القدس إلى هذا التاريخ غير اعتيادية رغم تكاثر القوة العسكرية وتحليق الطيارات يوميًّا، فحوادث القتل والاعتداء يوالي مزاولتها اليهود في أطراف الأحياء التي يسكنونها، ولم تنقض ليلة إلى الآن منذ 18 ربيع الأول دون أن يثابر على إطلاق النار الليل كله أو معظمه في ضواحي المدينة.
وبلغ عدد شهداء المسلمين في القدس العشرات، ولم يمكن إحصاء الإصابات إحصاء مضبوطًا إلى الآن وبلغ عدد الجرحى في القدس مبلغا كبيرا.
امتداد الفتنة إلى أنحاء فلسطين في الخليل:
وامتدت الفتنة إلى الخليل يوم السبت 29 ربيع الأول=25 آب/أغسطس، فقُتل من المسلمين ثمانية، وجُرح عدد لم نعرف صحته بعد.
في يافا:
وحصل اصطدام عنيف في يافا يوم الأحد 20 ربيع الأول=25 آب/أغسطس، فقتل وجرح من المسلمين برصاص الجنود البريطانية عدد لم يُعرف بعد.
في حيفا:
قام اليهود وباشروا مهاجمة العرب بالسلاح، فدافع العرب عن أنفسهم وعائلاتهم، وفي اليوم التالي وصلت البارجة البحرية (برهم) تحمل الجنود والطيارات والأعتاد الحربية، فكان العرب بقرب الرصيف يشاهدونها، وبينما هم على هذه الحال إذا بجنود الدراعة يطلقون عليهم النار بغتة بلا سبب ولا إنذار فقُتل 27 عربيًّا وجُرح 59.
في بيسان وضواحيها:
ووقع قتال في بيسان والأماكن المجاورة، ولم تُعرف تفاصيل الحوادث وعدد الإصابات بعد.
في صفد:
وحصل اصطدام شديد في صفد بين المسلمين واليهود مساء 24 ربيع الأول=29 آب/أغسطس لم تُعرف تفاصيله بعد.
في غزة والرملة:
اشتد الاضطراب في غزة وقامت المظاهرات، فنقلت الحكومة اليهود من هناك إلى تل أبيب المستعمرة اليهودية الكبيرة قرب يافا، وهاج مسلمو الرملة و اللد والسبع هياجًا كبيرًا.
في نابلس:
ووقع اصطدام كبير في نابلس بين الأهالي والبوليس فجُرح 9 من المسلمين.
في سائر أنحاء البلاد:
وعم الاضطراب جميع أنحاء البلاد من بئر السبع جنوبًا إلى الحولة شمالاً.
الشهداء والجرحى
أخذت حكومة فلسطين تصدر نشرات رسمية منذ نحو أسبوع في بيان الحالة العامة في البلاد، وجاء في النشرة المؤرخة في 29 أغسطس أن عدد الإصابات لغاية الساعة الثامنة من صباح 28 آب حسب أنباء المستشفيات ما يلي:
                                  مسلمون                مسيحيون              يهود                       المجموع
القتلى                              63                       4                    97                        164
الجرحى في المستشفيات        113                      9                     150                      272
الجرحى خارج المستشفيات              لم يرد نبأ عن عددهم بالضبط غير أن شهداء المسلمين وجرحاهم يفوق العدد الذي جاء في النشرة الرسمية المؤرخة في 29 أغسطس؛ لأنه لم يمكن إلى الآن القيام بإحصاء دقيق لإصابات المسلمين، وقد قالت النشرة المذكورة إن هذه الأرقام التي ذكرتها لا تشمل الإصابات التي أوقعتها القوات المسلحة في إخماد الاضطراب والتي لم تصل إلى المستشفيات.
13-ومع أن القوات العسكرية قد ازدادت بوصول النجدات من مصر ونزول قوات عسكرية من البارجتين اللتين رست إحدهما في يافا والأخرى في حيفا، فالحالة العامة في البلاد تسير باضطراب.
الفظائع تنزل بالمسلمين
ثبت أن كثيرا من اليهود مسلحون، وأن كثيرًا منهم في القدس كانوا يرتدون الألبسة العسكرية، ويتقلدون البنادق، ويتصيدون العرب في الطرق والأماكن المنعزلة، وقد راع العرب تسلح اليهود وتخطفهم للعرب تحت هذا الزي وبعد الاحتجاج للحكومة عثرت الحكومة على بعض المتسلحين منهم.
وتوزع الحكومة القوات العسكرية في البلاد بنشاط كبير، وقد كانت هائلة جدًّا الخطة التي باشرت القوات العسكرية العمل عليها من رمي المسلمين بالنار رميًا بلغ حد الفظائع الرائعة بلا سبب وبلا إنذار، بل بحجة التفتيش دون أن يعثروا على أي شيء مما تفتش القوات عليه، وقد سقط أكثر شهداء المسلمين وجرحاهم برصاص الجيش البريطاني والبوليس البريطاني، ففي قرية صور باهر الواقعة في الضاحية الجنوبية في القدس ذهبت حملة عسكرية باكرًا صباح 28 أغسطس مجهزة بالرشاشات والدبابات والطيارات فأحاطت بالقرية، وأخذت تطلق النار من جميع الجهات فقتلت ثمانية منهم النساء والأطفال وجرحت تسعة، وحصل شبه هذا في قرية قالونيا في الضاحية الشمالية.
ويجري من قبل المسلمين إحصاء مدقق للشهداء والجرحى الذين يذهبون ضحية رصاص الجند البريطاني، ويجري أيضًا إحصاء لإصابات العرب على العموم وستُرسل إليكم التفاصيل بوقت قريب.
13 طيارة فوق المسجد الأقصى
14- وقد حلقت البارحة، 30 آب/أغسطس، وقت صلاة الجمعة حين خروج المسلمين من المسجد الأقصى 13 طيارة، وقامت بحركات مختلفة فوق الحرم القدسي الشريف أكثر من ساعة.
المسلمون والمسيحيون يشتركون في الدفاع
15- وتشكر جمعية حراسة المسجد الأقصى لإخواننا المسيحين العرب وقوفهم وإخوانهم المسلمين موقف المؤازرة والاتحاد الوطني في هذه الفتنة، فالبلاد لأهلها مسلمين ومسيحيين على السواء.
إن جمعية حراسة المسجد الأقصى والأماكن الإسلامية المقدسة تدعو المسلمين بصفة عامة، وأرباب الحمية والغيرة منهم بصفة خاصة، والمهاجرين العرب الكرام في ديار المهجر إلى أن يسعفوا عائلات الشهداء والجرحى الذين ذهبوا في سبيل أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، والجرحى الذين سالت دماؤهم في هذا السبيل المقدس، في حين تستنجد الجمعية العرب والمسلمين عامة ليسارعوا إلى الاحتجاج المتوالي على جناية اليهود في هذه الفتنة على ما تنزله القوات العسكرية البريطانية بالمسلمين الأبرياء من الضربات العظيمة الذاهبة بالأرواح بلا حساب.
وسيظل المسلمون في فلسطين معتصمين بشرف السدانة الصادقة والحراسة الأمينة للمسجد الأقصى المبارك والبراق الشريف، وسائر الأماكن الإسلامية المقدسة ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ وهو ﴿نِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ.
جمعية حراسة الأماكن الإسلامية المقدسة
بيت المقدس 26 ربيع الأول سنة 1348 - 31 أغسطس 1929

وكانت هذه القضية قد بدأت قبل سنة كما يفصل ذلك بيان أصدرته حكوم الانتداب البريطانية في أيلول/سبتمبر 1928، وهذا نصه:
بلاغ حكومة فلسطين

في مساء 23 أيلول الجاري أي ليلة عيد الغفران (يوم كيبور) رفع متولي وقف أبي مدين الذي يقع ضمن دائرته الرصيف ومنطقة البراق (المبكى) شكوى إلى جناب حاكم مقاطعة القدس بأن حاجزًا قد أنشئ على الرصيف الملاصق للبراق، وأدخل إليه أشياء أخرى تخالف العادة المتبعة كقناديل كاز وعدد من الحُصر وهيكل أكبر من الحجم الاعتيادي، فزار حاكم المقاطعة البراق في أثناء صلاة المساء، وقرَّر عملا بالعادة التي أقرتها الحكومة وجوب رفع الحاجز قبل إجراء الصلاة في اليوم التالي، وأعطى تعليمات بهذا المعنى إلى الشماس القائم بترتيبات الصلاة في البراق محتفظًا بقراره في مسألة القناديل بإزالته صباح اليوم التالي باكرا، وقبل تأكيداته بتنفيذ تعليماته، وبلغ في ذات الوقت ضابط البوليس البريطاني القائم بالوظيفة ضرورة رفع الحاجز من مكانه إذا لم يقم بتعهده.
فزار ضابط البوليس صباح اليوم التالي البراق، ورأى أن الحاجز لا يزال في مكانه، فسأل القائمين بالصلاة أن يرفعوه من ذلك المكان غير أنهم أجابوه بأنهم لا يستطيعون ذلك نظرًا لقداسة ذلك اليوم، فرفعه عندئذ رجال البوليس بنفسهم، ولم يكن المصلون عمومًا قد اطلعوا على ما جرى سابقًا، فعندما رأوا البوليس يرفعون الحاجز الذي استعمل لفصل النساء عن الرجال هاجوا وسعى بعضهم لمنع البوليس من رفعه بالقوة، وأخيرا رفع الحاجز.
ويعتبر جلب الحاجز ونصبه على الرصيف تعديًا على الحالة الراهنة مما لا يمكن الحكومة السماح به، غير أن الحكومة تأسف لما حصل من الخوف والانزعاج لجماعة كبيرة من المصلين في يوم مقدس كهذا لليهود، وقد علمت الحكومة أن المراجع اليهودية قد جازت الشماس المسئول عن الحادث بما يستحق على عمله، وقد شددت الحكومة عليهم في ضرورة مراجعة موظفي الحكومة المسئولين عن التدابير المسموح باتخاذها في أثناء الصلاة في البراق في أعياد اليهود الرسمية التي أبديت للمراجع اليهودية عند وقوع مثل هذه الحوادث في البراق في سنتي 1922 و1925 وهذه السنة أيضًا.
ولم يكن هنالك وقتئذ ضابط بوليس يهودي؛ لأن جميع البوليس اليهود كان قد أجيز لهم التغيب عن الخدمة يوم عيد الغفران، وستمعن الحكومة النظر في ضرورة وجود ضابط بوليس يهودي في المستقبل بين الذي يرسلون إلى البراق للمحافظة في أعياد اليهود الخطيرة، وفي الختام ترى الحكومة بأن رفع الحاجز كان ضروريًّا غير أنها تأسف لما وقع من جراء رفعه.
نعود إلى البيان الذي بدأنا به والذي صدر في 26 ربيع الأول سنة 1348= 1929، ونقول إن هذه الاضطرابات حدثت والمندوب السامي البريطاني، السير جون تشانسلور، في لندن، فقطع زيارته وعاد على عجل، وأصدر البيان التالي:
عدت من المملكة المتحدة فوجدت بمزيد الأسى أن البلاد في حالة اضطراب، فأصبحت فريسة لأعمال العنف غير المشروعة.
وقد راعني ما علمته من الأعمال الفظيعة التي اقترفتها جماعات من الأشرار، سفاكي الدماء، عديمي الرأفة، وأعمال القتل الوحشية التي ارتكبت في أفراد من الشعب اليهودي خلوا من وسائل الدفاع بقطع النظر عن عمرهم، وعما إذا كانوا ذكورا أو إناثا، والتي صحبتها - كما وقع في الخليل - أعمال همجية لا توصف، وحرق المزارع والمنازل في المدن وفي القرى ونهب وتدمير الأملاك.
إن هذه الجرائم قد أنزلت على فاعليها لعنات جميع الشعوب المتمدنة في أنحاء العالم قاطبة.
فواجبي الأول أن أعيد النظام إلى نصابه في البلاد، وأن أوقع القصاص الصارم بأولئك الذين سوف يثبت عليهم أنهم ارتكبوا أعمال العنف، وستُتخذ التدابير الضرورية لإنجاز هاتين الغايتين، وبناء عليه أطلب من جميع سكان فلسطين أن يساعدوني على القيام بهذا الواجب، ووفاقا لتعهد أعطيته للجنة التنفيذية العربية قبل مغادرتي فلسطين في شهر حزيران المنصرم، تباحثت في أثناء وجودي بإنكلترة مع وزير المستعمرات بشأن إجراء تغييرات دستورية في فلسطين، غير أني سأؤجل هذه المباحثات مع حكومة جلالته بسبب الحوادث الأخيرة.
ولكي أضع حدًّا للأخبار الملفقة التي ذاعت أخيرًا حول موضع حائط المبكى (البراق) أعلن لعموم الأهالي بأنني عازم - وحكومة جلالته موافقة - على تطبيق المبادئ التي ينطوي عليها الكتاب الأبيض الصادر في 19 تشرين سنة 1928 بعد تقرير الطرق لتطبيقها.
صدر هذا اليوم الأول من شهر أيلول سنة 1929،

المندوب السامي والقائد العام
ج. ر. تشانسلور
على إثر بيان المندوب السامي أبرقت إليه اللجنة التنفيذية العربية في فلسطين البيان التالي:
اطّلع عرب فلسطين بدهشة عظيمة على منشور فخامتكم الصادر في 1 أيلول 1929، ولم يكن أحد منهم يتوقع أن يرى (إغفال) الحقائق التي عرفها القاصي والداني، والتي اعترفت بها الحكومة وهي:
1.    أن أكثر اليهود كانوا مسلحين من أنفسهم.
2.    أن الحكومة قد سلَّحت عددًا منهم.
3.    أنه لا يوجد في قتلى اليهود تمثيل أو تشويه حتى في الخليل كما يؤيد هذا تصريح إدارة الصحة العامة البريطانية في فلسطين.
4.    أن بعض قتلى العرب قد مثَّل اليهود بهم.
5.    أن جموع اليهود قد قتلت نساء وأطفالاً من العرب على الانفراد.
6.    أن اليهود هم الذين بدأوا في قتل النساء والأطفال من العرب.
7.    أن الجنود البريطانية النظامية قتلت النساء والأطفال والرجال من العرب في بيوتهم وعلى فرشهم في قرية صور باهر وغيرها.
8.    أن اضطرابات فلسطين السابقة والحالية إنما هي ناشئة مباشرة عن السياسة البريطانية الصهيونية التي ترمي إلى إفناء القومية العربية في وطنها الطبيعي لكي تحل محلها قومية يهودية لا وجود لها.
كل هذه الحقائق لم يكن أحد من العرب يتوقع إغفالها في منشور صادر على عجل وسابق لأوانه، وتعلمون فخامتكم أن عرب فلسطين قد خسروا كل شيء من جراء هذه السياسة الصهيونية فلا يهمهم أي زيادة في الخسارة، وعليه فإن الجنود البريطانية ستجدهم عُزَّلاً من السلاح عند إنزال أي ضربة بهم، فإن كان لم يزل ثمة عدالة يحق للعرب أن يطلبوا نصيبهم منها، فهم يلحون بطلب إجراء تحقيق نزيه من قبل أشخاص من خارج فلسطين، لا يتأثرون أثناء قيامهم بواجبهم نحو العدالة بالنفوذ الصهيوني.
وإن التحقيقين اللذين أُجريا في فلسطين في ظروف مماثلة سابقة من قبل لجان بريطانية قد أظهرا للملأ مطالب العرب الحقة ومقاصدهم القومية النبيلة، كما أظهر مصائبهم السياسية.
إن العرب يعتقدون كل الاعتقاد أن تحقيقات نزيهة كتلك ستروي للعالم حكاية حالهم الآن في هذه الاضطرابات الحاضرة رواية أكثر صدقًا مما صورتموه للعالم في منشوركم الصادر قبل إعطاء العرب فرصة لاستماع صوتهم، وعندئذ يرى العالم أن اليهود الذين تجاوزوا التحرش السياسي إلى الديني، والذين أصبح تحرشهم في المدة الأخيرة مما لا يحتمل - كما صرَّحت بهذا الحكومة - والذين كانت أعمالهم الفظيعة في هذه الاضطرابات ينطبق عليها كلام فخامتكم في منشوركم بحق العرب، هم المسؤولون أولاً عن الاضطرابات الحالية السياسية...
وإن مثل هذا المنشور كان ينبغي إصداره بعد إجراء التحقيقات التي ينشدها العرب وليس قبل إجرائها، فلذلك نحن نتأكد أنكم لو أعدتم النظر في الحالة الحاضرة لوصلتم إلى حكم عادل.
في 28 ربيع الأول سنة 348 الموافق 2 أيلول 1929
رئيس اللجنة التنفيذية العربية
موسى كاظم الحسيني
الأمناء
مغنم إلياس مغنم      عوني عبد الهادي        جمال الحسيني

 
log analyzer