الجمعة، 28 نوفمبر 2014

حدث في السادس من صفر


في السادس من صفر من سنة 260 توفي في بغداد، عن 66 عاماً، الطبيب أبو زيد حُنين بن إسحاق العِبادي، علاَّمة وقته في الطب وأغزر وأمتن معرب من اللغة اليونانية. والعِبادي نسبة إلى العِباد، قال في لسان العرب: قوم من قبائل شتى من بطون العرب اجتمعوا على النصرانية نزلوا بالحِيرَة فأَِنِفُوا أن يتَسَمَّوْا بالعبِيد وقالوا نحن العِبادُ، ومنهم الشاعر الجاهلي عدي بن زيد العبادي.

ولد حنين بالحيرة سنة 194 وكان والده صيدلانياً يعمل في العقاقير، وكان ينتمي لطائفة النساطرة النصرانية، المعروفين اليوم بالآشوريين، والذي ينتمون لنسطور الراهب المولود في مرعش والمتوفى سنة 451 ميلادية في مصر، والذي كان يرى أن طبيعة المسيح البشرية ليست ذات وجود مستقل، بل هي تَـمَثُّـلٌ متفرع من طبيعته الإلهية، وهو مبدأ اعتبرته المجامع الكنسية آنذاك خروجاً على المسيحية.

ولما نشأ حنين أحب التعلم فرحل إلى بغداد ودخل في جملة تلاميذ يوحنا بن ماسويه، المتوفى سنة 243، كبير الأطباء في زمانه، وطبيب الرشيد والمأمون ومن بعدهما، وكان حنين يُكثر سؤال أستاذه مستفهماً عن كل ما يُشكل عليه، فصعب ذلك على يوحنا بن ماسويه، وبخاصة أن الطب كان يستند كثيراً إلى الكتب اليونانية المترجمة ترجمة سقيمة، فضاق به مرة وقال له: ما لأهل الحيرة والطب؟! عليك ببيع الفلوس في الطريق! وأمر به فأُخرج من داره.

وجاء قول ابن ماسويه لأن أهل الحيرة كانوا مشهورين بالعمل في الصرافة ونقد الفلوس لبيان صحيحها من زائفها، وهناك سبب آخر يذكره بعض المؤرخين وهو أن دراسة الطب وممارسته كانت وقفاً على أهل جنديسابور، يكرهون أن يدخل في مهنتهم غيرهم.

وخرج حنين حزيناً باكياً، ولكن هذا الطرد حفزه لمزيد من الدرس والاجتهاد، واتجه لتعلم اللغة اليونانية وإتقانها حتى أصبح متقدماً في ذلك على أهلها، وتختلف الأقوال في مكان دراسته بين الإسكندرية وبين  أراضي الدولة البيزنطية، وأُرجِّح الثاني لسبب سيرد بعد قليل في قصة له مع الخليفة العباسي المتوكل، وأياً كان مكان دراسته فلا شك أنه نجح في هدفه، وأنه كذلك اطلع في رحلته على أمهات الكتب اليونانية في الطب والمنطق والرياضيات والهندسة، ولما رجع إلى بغداد لم يظهر نفسه ويشهر ما أحرزه، وآثر أن يبقى مغموراً إلى حين، ولما التقى به صدفة أحد أصحابه من الأطباء وهو ينشد باليونانية إلياذة هوميروس، عرفه من نبرة صوته، وأخبره حنين ما يفعل قائلاً: ذكر يوحنا ابن الفاعلة أنه كان من المحال أن يتعلم الطب عبادي! وأنا برئ من دين النصرانية إن رضيت أن أتعلم الطب حتى أُحكم اللسان اليوناني! وطلب حنين من صديقه أن يكتم ذكره، فكتم ذلك قرابة 4 سنين.

ثم دخل ذلك الصديق يوماً على جبرائيل بن بختيشوع، وكان أكبر أطباء زمانه، مقرباً من السلاطين، وتوفي في سنة 213 في زمن المأمون، فوجد عنده حنيناً وقد ترجم له أقساماً قسمها بعض الروم فِي كتاب من كتب التشريح لجالينوس، وجبرائيل يخاطبه بالتبجيل، فأعظمه ما رأى وتبين لجبرائيل استغرابه، فقال له: لا تستكثر هذا مني في أمر هذا الفتى، فوالله لئن مُدًّ له في العمر ليفضحن سرجيس! وسرجيس الذي تذكره القصة هو مار سرجيس وهو من بلدة رأس العين، ومن أول من نقل علوم اليونانيين إلى السريانية والعربية في أيام الأمويين، فهو أستاذ المترجمين في صدر الإسلام.

وقال لحنين صاحبُه: أنا مسوِّدٌ وجه يوحنا بما سمعت من مدح أبي عيسى لك. فأخرج حنين من كمه نسخة ما كان دفعه إلى جبرائيل، وقال له: تمام سواد وجه يوحنا يكون بدفعك إليه هذه النسخة، ولا تقل له من نقلها، فإذا رأيته قد اشتد عجبه بها أعلمه أنه إخراجي. فلما قرأ يوحنا تلك الفصول، وهي كتاب حنين المسمى بالجوامع، كثر تعجبه وقال: تُرى أوحى الله تعالى في دهرنا إلى أحد؟! ما هذا إِلا إخراج مؤيد بروح القدس! فقال له: هذا إخراج حنين بن إسحاق الذي طردته من مجلسك، وأمرته أن يبيع الفلوس! وحدثه بما سمعه من جبرائيل فتحير وسأله التلطف في إصلاح ما بينهما، ففعل  ذلك الصديق وصار يوحنا يثني على حنين ويحسن إليه.

وانضم حنين إلى مجموعة من المترجمين كانت متصلة ببلاط الخليفة المأمون، وتعمل تحت إشراف بني موسى بن شاكر، ترجمت كثيراً من الكتب في الفلسفة والهندسة والرياضيات والطب والموسيقى، وفي هذا الصدد سافر حنين إلى أقصى بلاد الروم لطلب الكتب التي يراد ترجمتها، وتذكر بعض المراجع أن المأمون كان يعطيه من الذهب زنة ما ينقله من الكتب إلى العربي مِثلاً بمثل، ولكن مصادر أخرى تذكر أن بني موسى كانوا ينفقون 500 دينار في الشهر على المترجمين، وهو مبلغ كبير جداً بمقياس ذلك الزمان.

ولما انتشر ذكر حنين بين الأطباء اتصل خبره بالخليفة المتوكل فأمر بإحضاره، وأقطعه إقطاعاً سَنياً وقرر له راتباً  جزيلاً، وجعله رئيس الأطباء ببغداد، وتذكر المصادر أنه كان يلبس الزنار، أي زنار القساوسة المربوط به الصليب، وكان الخليفة في بداية الأمر يتوجس خيفة منه خشية أن يكون مدسوساً عليه من ملك الروم البيزنطيين، فكان لا يأخذ بقوله دواء يصفه حتى يشاور غيره، ثم امتحنه الخليفة ليتبين حقيقة أمره، فأمر بأن يخلع عليه وأخرج توقيعاً له فيه إقطاع يشتمل على خمسين ألف درهم، ثم قال الخليفة لحنين بعد فترة: أريد أن تصف لي دواء يقتل عدواً أريد قتله بالسر ودون أن يتبين سبب موته، فقال حنين: ما تعلمت غير الأدوية النافعة، ولا علمت أن أمير المؤمنين يطلب مني غيرها، فإن أحب أن أمضي وأتعلم؛ فعلت. فقال الخليفة: هذا شيء يطول، وأنا أحتاجه بالعجل، ورغبه وهدده وهو لا يزيد على ما قال إلى أن أمر بحبسه ووكل بِهِ من يرفع خبره إليه وقتاً بوقت، فحبس سنة وكان ينقل ويفسر ويصنف وهو غير مكترث بما هو فيه، ولما كان بعد سنة أمر الخليفة بإحضاره ورغبه بأموال أحضرها ثم هدده بالسيف، فقال حنين: قد قلت لأمير المؤمنين إنني ما أحسن غير الشيء النافع ولا تعلمت غيره، قال الخليفة: فإنني أقتلك، فقال حنين: إلى رب يأخذ بحقي غداً فِي الموقف الأعظم، فإن اختار أمير المؤمنين أن يظلم نفسه فليفعل! فتبسم الخليفة وقال له: يا حنين طب نفساً وثِقْ بنا، فهذا الفعل منا كان لامتحانك، لأننا حذرنا من كيد الملوك فأردنا الطمأنينة إِليك والثقة بك لننفع بعلمك.

وسأل الخليفة حنيناً: ما الذي منعك من الإجابة مع ما رأيته من صدق عزيمتنا في الحالتين؟ قال حنين: شيئان يا أمير المؤمنين، قال: وما هما؟ قال: الدين والصناعة، قال: وكيف؟ قال: الدين يأمرنا باستعمال الخير والجميل مع أعدائنا، فكيف ظنك بالأصدقاء؟! والصناعة تمنعنا من الإضرار بأبناء الجنس لأنها موضوعة لنفعهم ومقصورة على معالجتهم، ومع هذا فقد جُعل في رقاب الأطباء عهد مؤكد بأيمان مغلظة أن لا يعطوا دواء قتَّالاً، فلم أر أن أخالف هذين الأمرين الشريفين، ووطنت نفسي على القتل فإن الله تعالى ما كان يضيع لي بَذلَ نفسي فِي طاعته.  فأمر الخليفة بالخلع فأفيضت عليه وحمل المال معه، فخرج وهو أحسن الناس حالاً وجاهاً.

ترجم حنين 260 كتاباً من اللغة اليونانية إلى اللغتين السريانية والعربية، منها كتاب الفصول الأبُقراطية في الطب، ويعد أبُقراط، المولود في اليونان سنة 460 قبل المسيح والمتوفى سنة 377، أبو علم الطب، وإليه يعود أصل قَسَم الأطباء الذي يقسمونه عند تخرجهم، وترجم حنين عدداً من الكتب أهمها التوراة ويذكر المسعودي المتوفى سنة 346 أن ترجمة حنين من أصح ترجمات التوراة عند كثير من الناس، وإضافة لها ترجم حنين كتاب ما وراء الطبيعة لأفلاطون، وكتاب المعادن لأرسطوطاليس، وهو كتاب ظلَّ زماناً طويلاً مرجعاً من أهم المراجع في دراسة الكيمياء، وترجم حنين عدداّ من الكتب التي ألفها الطبيب اليوناني جالينوس، المولود في الأناضول سنة 129 للميلاد والمتوفى سنة 216، منها كتاب حيلة البرء، وكتاب التشريح الكبير، وكتاب قوى الأغذية عن جالينوس، وكتاب تدبير الأصحاء. وينبغي أن نذكر أن الطب العربي تأثر لقرون طويلة كثيراً بكتابات جالينوس التي ترجمها حنين وغيره، والتي بلغت 129 مؤلفاً، والتي اندثرت أصول بعضها وبقيت منها ترجماتها العربية أو السريانية.

وكانت ترجمة حنين أمينة في نقلها، وافية في أدائها، فصيحة سلسة لا تعتريها ركاكة أو ضعف أو غموض، وسبب ذلك أنه كان بارعاً في اللغة العربية وضليعاً في المواضيع التي يترجمها، ولذا كانت ترجمته أفضل الترجمات وأصحها، ولصلاح الدين الصفدي، خليل بن أيبك المولود سنة 696 والمتوفى سنة 764، كلمة حول أساليب الترجمة نوردها لأهميتها: وللتراجمة في النقل طريقان: أحدهما طريق يوحنا بن البطريق وابن الناعمة الحمصي وغيرهما، وهو أن ينظر إلى كل كلمة مفردة من الكلمات اليونانية، وما تدل عليه من المعاني، فيأتي بلفظة مفردة من الكلمات العربية ترادفها في الدلالة على ذلك المعنى فيثبتها وينتقل إلى الأخرى كذلك حتى يأتي على جملة ما يريد تعريبه، وهذه الطريقة رديئة بوجهين:

1.    أحدهما أنه لا يوجد في الكلمات العربية كلمات تقابل جميع الكلمات اليونانية، ولهذا وقع في خلال هذا التعريب كثير من الألفاظ اليونانية على حالها.

2.    الثاني أن خواص التركيب والنسب الإسنادية لا تطابق نظيرها من لغة أخرى دائماً، وأيضاً يقع الخلل من جهة استعمال المجازات وهي كثيرة في جميع اللغات.

الطريق الثاني في التعريب طريق حنين بن إسحق والجوهري وغيرهما، وهو أن يأتي الجملة فيحصل معناها في ذهنه ويعبر عنها من اللغة الأخرى بجملة تطابقها، سواء ساوت ألفاظها أم خالفتها، وهذا الطريق أجود، ولهذا لم تحتج كتب حنين بن إسحق إلى تهذيب إلا في العلوم الرياضية لأنه لم يكن قيماً بها، بخلاف كتب الطب والمنطق والطبيعي والإلهي فإن الذي عربه منها لم يحتج إلى الإصلاح، فأما إقليدس فقد هذبه ثابت بن قرة الحراني وكذلك المجسطي والمتوسطات بينهما.

وإلى جانب ما ترجمه لحنين بن إسحاق من الكتب اليونانية كانت له مؤلفات قدر عددها بعض الباحثين بنحو 115 تأليفاً، ونورد أسماء بعضها لتدل على تنوع معرفته واتساعها: كتاب نوادر الفلاسفة والحكماء، كتاب أحكام الإعراب على مذهب اليونانيين مقالتان، كتاب المسائل، وهو المدخل إلى تعلم الطب لأنه قد جمع فيه جملاً وجوامع تجري مجرى المبادئ والأوائل لهذا العلم ليسير عليها المتعلمون وزاد فيها حبيش بن الحسن الأعسم الدمشقي تلميذه وابن أخته، كتاب الحمام مقالة، كتاب اللبن مقالة، كتاب الأغذية ثلاث مقالات، كتاب تقسيم علل العين، كتاب اختيار أدوية علل العين مقالة، كتاب مداواة أمراض العين بالحديد مقالة، كتاب آلات الغذاء ثلاث مقالات، كتاب القول في حفظ الأسنان واستصلاحها، كتاب الباه مقالة، كتاب معرفة أوجاع المعدة وعلاجها مقالتان، كتاب تدبير الناقهين مقالة، كتاب المد والجزر مقالة، كتاب السبب الذي صارت له مياه البحر مالحة، كتاب الألوان مقالة، كتاب المولودين لثمانية أشهر مقالة عمله لأم ولد المتوكل، كتاب فِي البول على طريق المسألة والجواب ثلاث مقالات، كتاب مرض الورد، كتاب الفرُّوج وتولده من مح البيضة مقالة، كتاب الآجال مقالة، كتاب تولد الحصاة مقالة، كتاب تولد النار بين حجرين مقالة، كتاب اختيار الأدوية المحرقة مقالة، كتاب في تدبير السوداويين، رسالة في دلالة القدر على التوحيد، كتاب في أسماء الأدوية المفردة، رتبه على حروف المعجم.

ونذكر هنا مقالات كتابه عن العين الذي كان المحتسب يمتحن به الكحالين قبل مزاولة مهنتهم:

المقالة الأولى يذكر فيها طبيعة العين وتركيبها

المقالة الثانية يذكر فيها طبيعة الدماغ ومنافعه.

المقالة الثالثة يذكر فيها العصب الباصر والروح الباصر وفي نفس الإبصار كيف يكون.

والمقالة الرابعة فيها جمل الأشياء التي لا بد منها في حفظ الصحة واختلافها.

والمقالة الخامسة يذكر فيها أسباب الأعراض الكائنة في العين.

المقالة السادسة في علامات الأمراض التي تحدث في العين.

المقالة السابعة يذكر فيها قوى جميع الأدوية عامة.

المقالة الثامنة يذكر فيها أجناس الأدوية للعين خاصة وأنواعها.

المقالة التاسعة يذكر فيها مداواة أمراض العين.

المقالة العاشرة في الأدوية المركبة الموافقة لعلل العين.

قال ابن أبي أصيبعة، أحمد بن القاسم المولود سنة 596 والمتوفى سنة 668، في ترجمته لحنين في كتابه عيون الأنباء في طبقات الأطباء: وجدت من هذه الكتب كتباً كثيرة، وكثيراً منها اقتنيته، وهي مكتوبة بخط الأزرق كاتب حنين، وهي حروف كبار بخط غليظ في أسطر متفرقة، وورقها كل ورقة منها بغلظ ما يكون من هذه الأوراق المصنوعة يومئذ ثلاث ورقات أو أربع، وكان قصد حنين بذلك تعظيم حجم الكتاب وتكثير وزنه، لأجل ما يقابل به من وزنه دراهم، وكان ذلك الورق يستعمله بالقصد، ولا جرم أن لغلظه بقي هذه السنين المتطاولة من الزمان... وقد رأيت أشياء كثيرة من كتب جالينوس وغيره بخطه، وبعضها عليه تنكيت بخط حنين بن إسحاق باليوناني، وعلى تلك الكتب علامة المأمون.

كان لحنين ولدان أحدهما اسمه داود والثاني اسمه إسحاق، فأما إسحاق فخدم من خدم أبوه من الخلفاء والرؤساء، وكان منقطعاً إلى الوزير القاسم ابن عبيد الله وخصيصاً به، وتابع عمل والده في الترجمة، ونقل من الكتب اليونانية إلى اللغة العربية كتباً كثيرة، إلا أن عنايته كانت مصروفة إلى نقل الكتب الفلسفية، وتوفي بالفالج في سنة 298، أما داود فاتجه إلى الطب ولكنه لم ينبغ فيه مثل والده أو أخيه.

ومن بلغت هذه مكانته جذب إليه الحساد وتآلب عليه المنافسون، ولذا لا عجب أن نرى حنيناً وقد تعرض لعدد من المحن والشدائد حتى إنه ألف في ذلك رسالة ذكر فيها ما ناله، وأوردها بنصها ابن أبي أصيبعة في عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ومما جاء فيها مع بعض التصرف:

إنه لحقني من أعدائي ومضطهديّ، الكافرين بنعمتي، الجاحدين لحقي، الظالمين لي، المتعدين عليّ، من المحن والمصائب والشرور ما منعني من النوم وأسهر عيني وأشغلني عن مهماتي، وكل ذلك من الحسد لي على علمي وما وهبه الله عزّ وجلّ لي من علو المرتبة على أهل زماني، وأكثر أولئك أهلي وأقربائي، فإنهم أول شروري، وابتداء محني، ثم من بعدهم الذين علَّمتهم وأقرأتهم وأحسنت إليهم وفضلتهم على جماعة أهل البلد من أهل الصناعة، وقرَّبت إليهم علوم الفاضل جالينوس، فكافؤوني عوض المحاسن مساوئ بحسب ما أوجبته طباعهم، وبلغوا بي إلى أقبح ما يكون من إذاعة أوحش الأخبار حتى ساءت بي الظنون، وامتدت إليَّ العيون... فأوقعوا بغضتي في نفوس سائر أهل الملل فضلاً عن أهل مذهبي.

ولما اتصل ذلك بي حمدت الله حمداً جديداً، وصبرت على ما قد دفعت إليه، فآلت القضية بي إلى أن بقيت بأسوأ ما يكون من الحال من الإضاقة والضر، محبوساً مضيقاً علي مدة من الزمان لا تصل يدي إلى شيء من ذهب ولا فضة ولا كتاب ولا ورقة أنظر فيها، ثم إن الله عزّ وجلّ نظر إليّ بعين رحمته، فجدد لي نعمه وردني إلى ما كنت عارفاً به من فضله، وكان سبب رد نعمتي إليَّ بعض من كان قد التزم عداوتي واختص بها، ومن ها هنا صح ما قاله جالينوس إن الأخيار من الناس قد ينتفعون بأعدائهم الأشرار. فلعمري لقد كان ذلك أفضل الأعداء!

وكيف لا أُبغَض ويكثر حاسديِّ، ويكثر ثلبي في مجالس ذوي المراتب؛ كل ذلك بغير جرم لي إلى واحد منهم ولا جناية، لكنهم لما رأوني فوقهم، وعالياً عليهم بالعلم والعمل، ونقلي إليهم العلوم الفاخرة من اللغات التي لا يحسنونها ولا يهتدون إليها ولا يعرفون شيئاً منها، في نهاية ما يكون من حسن العبارة والفصاحة، ولا نقص فيها ولا زلل، ولا ميل لأحد من الملل، ولا استغلاق ولا لحن، باعتبار أصحاب البلاغة من العرب الذين يقومون بمعرفة وجوه النحو والغريب، ولا يعثرون على سيئة، بأعذب ما يكون عن اللفظ، وأقربه إلى الفهم، يسمعه من ليس صناعته الطب، ولا يعرف شيئاً من طرقات الفلسفة، ولا من ينتحل ديانة النصرانية وكل الملل، فيستحسنه ويعرف قدره...

وأيضاً فأقول ولا أخطئ إن سائر أهل الأدب، وإن اختلفت مللهم، محبون لي، مائلون إلي، مكرمون لي، يأخذون ما أفيدهم بشكر، ويجازوني بكل ما يصلون إليه من الجميل، فأما هؤلاء الأطباء النصارى الذين أكثرهم تعلموا بين يدي، ونشأوا قُدَّامي هم الذين يرومون سفك دمي على أنهم لا بد لهم مني، فمرة يقولون من هو حنين؟ إنما حنين ناقل لهذه الكتب يأخذ على نقله الأجرة كما يأخذ الصناع الأجرة على صناعتهم، ولا فرق عندنا بينه وبينهم؛ لأن الفارس قد يعمل له الحداد بالسيف في المثل بدينار، ويأخذ هو من أجله في كل شهر مائة دينار، كما أن الحداد، وإن كان يحسن صنعة السيف،إلا أنه ليس يحسن يعمل به، فما للحداد وطلب الفروسية؟!

لكني كنت أضمر وأعلم أن حسدهم هو الذي يدعوهم إلى سائر الأشياء، وإن كان لا يخفى عليهم قبحها، فإن الحسد لم يزل بين الناس على قديم الأيام... وهذا أيضاً مع أن أكثرهم إذا دهمهم الأمر في مرض صعب فإليّ يصير، حتى يتحقق معرفته مني، ويأخذ عني له صفة دوائه وتدبيره، ويتبين الصلاح فيما أُمر به أن يعمل لا مرة ولا مراراً، وهذا الذي يجيئني ويقتدي برأيي هو أشد الناس علي غيظاَ، وأكثرهم لي ثلباً، وليس أزيدهم على أن أحكم رب الكل بيني وبينهم، وإنما سكوتي عنهم لأنهم ليس هم واحداً ولا اثنين ولا ثلاثة، بل هم ستة وخمسون رجلاً جملتهم من أهل المذهب، محتاجون إلي وأنا غير محتاج إليهم، وأيضاً فإن إثرتهم مع كثرتهم قوية بخدمة الخلفاء وهم أصحاب المملكة وأنا فأضعف عنهم من وجهين أحدهما وحدتي، والثانية إن الذين يعنون بي من الناس محتاجون إلى الأصل الذي يعنى بأعدائي الذي هو أمير المؤمنين، ومع هذا كله لا أشكو إلى أحد ما أنا عليه وإن كان عظيماً، بل أبوح بشكرهم في المحافل وعند الرؤساء، فإن قيل لي إنهم يثلبونك وينتقصون بك في مجالسهم، أدفع ذلك وأرى أني غير مصدق شيء مما يقال لي، بل أقول إنا نحن شيء واحد تجمعنا الديانة والبلدة والصناعة، فما أصدق أن مثلهم يذكر أحداً من الناس فضلاً عني بسوء، فإذا سمعوا عني مثل هذا القول قالوا قد جزع وأعطى من نفسه الدعة، وكلما ثلبوني زدت في الشكر لهم، وأنا الآن ذاكر ها هنا آخر الآبار التي حفروها لي، سوى ما كان لي معهم قديماً...

وهذه قصة المحنة الأخيرة القريبة، وهي أن بختيشوع بن جبرائيل المتطبب عمل علىَّ حيلة تمت له علي، وأمكنته من إرادته في، وذلك أنه استعمل أيقونة عليها صورة السيدة مريم، وفي حِجرها سيدنا المسيح والملائكة قد احتاطوا بهما، وعملها في غاية ما يكون من الحسن وصحة الصورة بعد أن غرم عليها من المال شيئاً كثيراً، ثم حملها إلى أمير المؤمنين المتوكل، وكان هو المستقبل لها من يد الخادم الحامل لها، وهو الذي وضعها بين يدي المتوكل، فاستحسنها المتوكل جداً، وجعل بختيشوع يقبلها بين يديه مراراً كثيرة، فقال له المتوكل: لم تقبلها؟ فقال له: يا مولانا إذا لم أقبل صورة سيدة العالمين فمن أقبل؟ فقال له المتوكل: وكل النصارى هكذا يفعلون؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، وأفضلَ مني، لأني أنا قصرت حيث أنا بين يديك، ومع تفضيلنا معشر النصارى، فإني أعرف رجلاً في خدمتك وإفضالك وأرزاقك جارية عليه من النصارى يتهاون بها ويبصق عليها، وهو زنديق ملحد، لا يقر بالوحدانية ولا يعرف آخرة، يستتر بالنصرانية وهو معطل مكذب بالرسل، فقال له المتوكل: من هذا الذي هذه صفته؟ فقال له: حنين المترجم، فقال المتوكل: أوجِّه أُحضره، فإن كان الأمر على ما وصفت، نكلت به وخلدته المطبق، مع ما أتقدم به في أمره من التضييق عليه، وتجديد العذاب، فقال: أنا أحب أن يؤخر مولاي أمير المؤمنين إلى أن أخرج وأقيم ساعة، ثم تأمر بإحضاره، فقال: إني أفعل ذلك. فخرج بختيشوع من الدار وجاءني، فقال: يا أبا زيد، أعزك الله، ينبغي أن تعلم أنه قد أُهدِي إلى أمير المؤمنين أيقونة قد عظم عجبه بها، وأحسبها من صور الشام، وقد استحسنها جداً، وإن نحن تركناها عنده ومدحناها بين يديه تولع بنا بها في كل وقت، وقال: هذا ربكم وأمه مصورين، وقد قال لي أمير المؤمنين: انظر إلى هذه الصورة ما أحسنها، وأيش تقول فيها؟ فقلت له: صورة مثلها تكون في الحمامات، وفي البيع وفي المواضع المصورة، وهذا مما لا نبالي به ولا نلتفت إليه، فقال: وليس هي عندك شيء؟ قلت: لا، قال: فإن تكن صادقاً فابصق عليها! فبصقت، وخرجت من عنده وهو يضحك ويعطعط بي، وإنما فعلتُ ذلك ليرمي بها ولا يكثر الولع بنا بسببها، ويميزنا دائماً، ولا سيما إن حرد أحد من ذلك، فإن الولع يكون أزيد، والصواب إن دعا بك وسألك عن مثل ما سألني أن تفعل كما فعلت أنا، فإني قد عملت على لقاء سائر من يدخل إليه من أصحابنا، وأتقدم إليهم أن يفعلوا مثل ذلك، فقبلت ما وصاني به، وجازت عليَّ سخريته، وانصرف.

فما كان إلا ساعة حتى جاءني رسول أمير المؤمنين فأخذني إليه، فلما دخلت عليه إذ الأيقونة موضوعة بين يديه فقال لي: يا حنين تَرى ما أحسن هذه الصورة وأعجبها؟ فقلت: والله إنه لكما ذكر أمير المؤمنين، فقال: فأيش تقول فيها؟ أو ليست هي صورة ربكم وأمه؟ فقلت: معاذ الله يا أمير المؤمنين أن لله تعالى صورة أو يصور؟ ولكن هذا مثال في سائر المواضع التي فيها الصور، فقال: فهذه لا تنفع ولا تضر؟! فقلتُ: هو كذلك يا أمير المؤمنين. فقال: فإن كان الأمر على ما ذكرت، فابصق عليها! فبصقت عليها فللوقت أمر بحبسي، ووجه إلى ثوذسيس الجاثليق فأحضره، فلما دخل عليه ورأى الأيقونة موضوعة بين يديه وقع عليها، قبل أن يدعو له، فاعتنقها ولم يزل يقبلها ويبكي طويلاً، فذهب الخدم ليمنعوه فأمر بتركه، فلما قبَّلها طويلاً على تيك الحالة أخذها بيده وقام قائماً، فدعا لأمير المؤمنين وأطنب في دعائه، فرد عليه وأمره بالجلوس، فجلس وترك الأيقونة في حجره.

فقال له المتوكل: أي فِعل هذا؟ تأخذ شيئاً كان بين يدي وتتركه في حِجرك عن غير إذني؟ فقال له الجاثليق: نعم يا أمير المؤمنين، أنا أحق بهذه التي بين يديك، وإن كان لأمير المؤمنين، أطال اللّه بقاءه، أفضل الحقوق، غير أن ديانتي لم تدعني أن أدع صورة ساداتي مرمية على الأرض، وفي موضع لا يعرف مقدارها... لأن هذه حقها أن تكون في موضع يعرف فيه حقها، ويسرج بين يديها أفضل الأدهان من حيث لا تطفأ قناديلها مع ما يبخر به بين يديها من أطاييب البخور في أكثر الأوقات، فقال أمير المؤمنين: فدعها في حجرك الآن، فقال الجاثليق: إني أسأل مولاي أمير المؤمنين أن يجود بها علي، ويعمل على أنه قد يقطعني ما مقدار قيمته مئة ألف دينار في كل سنة حتى أقضي من حقها ما يجب علي، ثم يسألني أمير المؤمنين ما أحب بعد ذلك فيما أرسل إلي بسببه، فقال له: قد وهبتها لك، وأنا أريد أن تعرِّفني ما جزاء من بصق عليها عندك؟ فقال له الجاثليق: إن كان مسلماً فلا شيء عليه لأنه لا يعرف مقدارها، لكن يعرّف ذلك ويلام ويوبخ على مقدار ما فعل حتى لا يعود إلى مثل ذلك مرة أخرى، وإن كان نصرانياً وكان جاهلاً لا يفهم ولا معرفة عنده فيلام ويزجر بين الناس ويتهدد بالجروم العظيمة ويعذل حتى يتوب؛ وبالجملة إن هذا فعل لا يقوم عليه إلا جاهل لا يعرف مقدار الديانة، فإن كان عاقلاً وقد بصق عليها فقد بصق على مريم أم سيدنا وعلى سيدنا المسيح! فقال له أمير المؤمنين: فما الذي يجب على من فعل ذلك عندك؟ فقال: ما عندي يا أمير المؤمنين، إذ كنت لا سلطان لي، أن أعاقبه بسوط أو بعصا، ولا لي حبس ضنك، بل أحرمه وأمنعه من الدخول إلى البيع ومن القربان؛ وأمنع النصارى من ملابسته وكلامه؛ وأضيق عليه، ولا يزال مرفوضاً عندنا إلى أن يتوب ويقلع عما كان عليه، وينتقل ويتصدق ببعض ماله على الفقراء والمساكين، مع لزوم الصوم والصلاة، فحينئذ نرجع إلى ما قال كتابنا وهو إن لم تعفوا للخاطئين لم يغفر لكم خطاياكم، فنحل حرم الجاني، ونرجع إلى ما كنا عليه.

ثم إن أمير المؤمنين أمر الجاثليق بأن يأخذ الأيقونة، وقال له: افعل بها ما تريد، وأمر له معها ببدرة دراهم، وقال له أنفق ما تأخذه على أيقونتك.

فلما خرج الجاثليق لبث قليلاً يتعجب منه ومن محبته لمعبوده وتعظيمه إياه، ثم قال إن هذا الأمر عجيب، ثم أمر بإحضاري فأحضرت إليه وأحضر السوط والحبال، وأمر بي فشُددت مجرداً بين يديه وضربت مئة سوط، وأمر باعتقالي والتضييق علي، ووجه فحمل جميع ما كان لي من رحل وأثاث وكتب وما شاكل ذلك، وأمر بنقض منازلي إلى الماء، وأقمت في داخل داره معتقلاً ستة أشهر في أسوأ ما يكون من الحال، حتى صرت رحمة لمن رآني، وكان أيضاً في كل يسيرٍ من الأيام يوجه يضربني ويجدد لي العذاب.

فلم أزل على ما شرحته إلى أن اعتل أمير المؤمنين، وذلك في اليوم الخامس من الشهر الرابع من يوم حبسي، وكانت علته صعبة جداً فأقعد ولم تمكنه الحركة وأُيس منه، وأيس هو أيضاً من نفسه، ومع ذلك، فإن أعدائي الأطباء عنده ليلاً ونهاراً ولا يزايلونه ساعة واحدة، وهم يعالجونه ويداوونه، ويسألونه في كل وقت في أمري ويقولون له لو أراحنا مولانا أمير المؤمنين من ذلك الزنديق الملحد لأراح منه الدنيا، وانكشف عن الدين منه محنة عظيمة، فلما طالت مسألتهم له في أمري وكثر ذكرهم لي بين يديه بكل سوء، قال لهم فما الذي يسركم أن أفعل به؟ قالوا: تريح العالم منه، وكان مع ذلك، كل من سأل في أمري وتشفع في من أصدقائي يقول بختيشوع يا أمير المؤمنين هذا بعض تلاميذه وهو يعتقد اعتقاده، فيقل المعين لي ويكثر المحرك علي، وأيست من الحياة، فقال لهم أمير المؤمنين، وقد لجوا عليه في السؤال: فإني أقتله في غد يومنا هذا وأريحكم منه، فسر بذلك الجماعة وانصرفوا على ما يحبون.

فجاءني بعض الخدم وقال لي إنه جرى في أمرك العيش كذا وكذا، فسألت اللّه عزّ وجلّ التفضل بما لم تزل أياديه إلي بأمثاله، مع ما أنا فيه من كثرة الاهتمام وشغل القلب مما أخاف نزوله بي في غد بغير جرم أستوجبه ولا جناية جنيتها، بل بحيلة من احتال علي وطاعتي من اغتالني، وقلت اللهم إنك عالم براءتي فأنت أولى بنصرتي، وطال بي الفكر إلى أن حملني النوم، فإذا بهاتف يحركني ويقول لي قم فاحمد اللّه وأثن عليه فقد خلصك من أيدي أعدائك، وجعل عافية أمير المؤمنين على يديك فطب نفساً. فانتبهت مرعوباً، ثم قلت كلما كثر ذكره في اليقظة لم تنكر رؤيته عند النوم، فلم أزل أحمد اللّه وأثني عليه إلى أن جاء وجه الصبح، فجاءني الخادم ففتح علي الباب ولم يكن وقته الذي يجيئني فيه فقلت: هذا وقت منكر، جاءني ما وُعِدتُ به البارحة، وقد جاء وقت رضاء أعدائي وشماتتهم بي! واستعنت بالله.

فما جلس الخادم إلا هنيهة، إذ جاء غلامه ومعه مزين فأخذ من شعري ثم مضى بي إلى الحمام فأمر بغسلي وتنظيفي والقيام علي بالطيب، كما أمره مولاي أمير المؤمنين، ثم خرجت من الحمام فطرح علي ثياباً فاخرة، وردني إلى مقصورته إلى أن حضر سائر الأطباء عند أمير المؤمنين، وأخذ كل واحد منهم موضعه، فدعاني أمير المؤمنين وقال هاتوا حنيناً، فلم تشك الجماعة أنه إنما دعاني لقتلي، فأدخلت إليه فنظر إلي ولم يزل يدنيني إلى أن أجلسني بين يديه وقال لي: قد غفرت لك ذنبك، وأجبت السائل فيك، فاحمد اللّه على حياتك، وأشر علي بما ترى، فقد طالت علتي! فأخذت مجسته وأشرت بأخذ خيار شنبر منقى من قصبه وترنجبين، لأنه شكا اعتقالاً مع ما كان يوجبه الصورة من استعمال هذا الدواء، فقال الأطباء الأعداء نعوذ باللّه يا أمير المؤمنين من استعمال هذا الدواء إذ كان له غائلة ردية، فقال لهم أمسكوا فقد أمرت أن آخذ ما يصفه لي، ثم إنه أمر بإصلاحه، فأصلح وأخذه لوقته، ثم قال لي يا حنين اجعلني من كل ما فعلته بك من حل فشفيعك إلي قوي، فقلت له: مولاي أمير المؤمنين في حل من دمي فكيف وقد مَنَّ علي بالحياة، ثم قال تسمع الجماعة ما أقوله فأنصتوا إليه، فقال: اعلموا أنكم انصرفتم البارحة مساء على أني أبكر أقتل حنيناً كما ضمنت لكم، فلم أزل أقلق إلى نصف الليل متوجعاً، فلما كان ذلك الوقت أغفيت فرأيت كأني جالس في موضع ضيق وأنتم معشر الأطباء بعيدون عني بعداً كثيراً مع سائر خدمي وحاشيتي، وأنا أقول لكم ويحكم ما تنظرون إلي في أي موضع أنا هذا يصلح لمثلي، وأنتم سكوت لا تجيبوني عما أخاطبكم به، فإذا أنا كذلك حتى أشرق علي في ذلك الموضع ضياء عظيم مهول حتى رعبت منه، وإذا أنا برجل قد وافى، جميل الوجه ومعه آخر خلفه عليه ثياب حسنة فقال: السلام عليك، فرددت عليه، فقال لي: تعرفني؟ فقلت: لا، فقال: أنا المسيح، فقلقت وتزعزعت وقلت: من هذا الذي معك؟ فقال: حنين بن إسحاق، فقلت: اعذرني فلست أقدر أن أقوم أصافحك، فقال: اعف عن حنين، واغفر ذنبه فقد غفر الله له، واقبل ما يشير به عليك، فإنك تبرأ من علتك. فانتبهت وأنا مغموم بما جرى على حنين مني ومفكر في قوة شفيعه إلي، وأن حقه الآن علي واجب، فانصرفوا ليلزمني كما أُمرت، وليحمل إلي كل واحد منكم عشرة آلاف درهم لتكون دية من سأل في قتله، وهذا المال يلزم من حضر المجلس البارحة وسأل في قتله، ومن لم يكن حاضراً فلا شيء عليه، ومن لم يحمل ما أمرت بحمله من هذا المال لأضربن عنقه، ثم قال لي: اجلس أنت والزم رتبتك.

وخرج الجماعة فحمل كل واحد منهم عشرة آلاف درهم، فلما اجتمع سائر ما حملوه أمر بأن يضاف إليه مثله من خزانته، فكان زائداً عن مئتي ألف درهم، وأن يسلم إلي، ففعل ذلك، فلما كان آخر النهار وقد أقامه الدواء ثلاثة مجالس أحس بصلاح، وخف ما كان يجد، فقال: يا حنين أبشر بكل ما تحب، فقد عظمت رتبتك عندي، وزادت طبقتك أضعاف ما كنت عليه عندي فسأعوضك أضعاف ما كان لك، وأحوج أعداءك إليك، وأرفعك على سائر أهل صناعتك... وأمر لي في كل شهر بخمسة عشر ألف درهم، وأطلق لي الفائت من رزقي في وقت حبسي، فكان شيئاً كثيراً، وحُمِلَ من جهة الخدم والحرم وسائر الحاشية والأهل ما لا يمكن أن يحصى من الأموال والخلع والإقطاع، وحصلت وظائفي التي كنت آخذها خارج الدار من سائر الناس، آخذها من داخل الدار، وصرت المقدم على سائر الأطباء من أعواني وغيرهم

وإني لأعلم مراراً كثيرة أن أول من كان يعدو إلى باب داري في حاجة تكون له إلى أمير المؤمنين، أو أن يسألني عن مرض قد حار فيه؛ أحدُ أعدائي الذين قد عرفتك ما لحقني منهم، وكنت وحق معبودي، العلة الأولى، أسارع في قضاء حوائجهم وأخلص لهم المودة، ولم أكافئهم على شيء مما صنعوه بي ولا واحداً منهم أخذته بذلك، فكان سائر الناس يتعجبون من حسن قضائي حوائجهم بعد ما كانوا يسمعونهم يقولون في عند الناس وخاصة عند مولاي أمير المؤمنين، وصرت أنقل لهم الكتب على الرسم بغير عوض ولا جزاء، وأسارع إلى جميع محابهم بعد أن كنت إذا نقلت لأحدهم كتاباً أخذت منه وزنه دراهم

وإنما ذكرت سائر ما تقدم ذكره ليعلم العاقل أن المحن قد تنزل بالعاقل والجاهل، والشديد والضعيف، والكبير والصغير، وأنها وإن كانت لا شك واقعة بهذه الطبقات التي ذكرنا، فما سبيل العاقل أن ييئس من تفضل اللّه عليه بالخلاص مما بلي به، بل يثق ويحسن ثقته بخالقه، ويزيد في تعظيمه وتمجيده، فالحمد لله الذي منَّ علي بتجديد الحياة، وأظهرني على أعدائي الظالمين لي، وجعلني أفضلهم رتبة، وأكثرهم حالاً، حمداً جديداً دائماً.

ويبدو أن حنيناً كان من النصارى الذين حرموا الأيقونات، وهي حركة حرَّمت تمثيل المسيح ووالدته أو وضع أيقونات في الكنائس، ولكنها انتهت رسمياً بقرار مجمع نيقية الثاني قبل قرابة 100 سنة من وفاة حنين، فقد تكررت معه ثانية قصة شبيهة بالأولى، ما كانت لتتكرر لو لم يكن الأمر عقيدة عنده، فقد ذكر المؤرخون أن كاتباً نصرانياً يدعى الطيفوري، وهي أسرة فيها عدد من الأطباء، كان يحسد حنيناً ويعاديه، واجتمعا يوماً في دار بعض النصارى ببغداد وهناك صورة المسيح والتلاميذ وقنديل يشتعل بين يدي الصورة. فقال حنين لصاحب البيت: لم تضيع الزيت فليس هذا المسيح ولا هؤلاء التلاميذ وإنما هي صور. فقال الطيفوري: إن لم يستحقوا الإكرام فأبصق عليهم. فبصق فأشهد عليه الطيفوري، ورفعه إلى المتوكل فسأله إباحة الحكم عليه لديانة النصرانية فبعث إلى الجاثليق والأساقفة وسئلوا عن ذلك فأوجبوا حرم حنين فحرم وقطع زناره وانصرف حنين إلى داره ومات من ليلته فجأة وقيل إنه سقى نفسه سماً.

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن العين لتُدِخل الرجلَ القبر ، وتُدخل الجمل القدر.

الجمعة، 21 نوفمبر 2014

حدث في السابع والعشرين من المحرم

في السابع والعشرين من المحرم من عام 676 توفي في دمشق، عن 51 عاماً، الملك الظاهر بيبرس، مقارع المغول والفرنج، ومن أعظم ملوك مصر والشام، وباني العمائر والآثار، وامتدت دولته من ليبيا غرباً إلى الشام غرباً واليمن جنوباً.
ولد الظاهر بيبرس في أرض القِفْجاق سنة 625، ونتوقف هنا للحديث عن القفجاق، مستفيدين من بحث قيِّم للمرحوم الأستاذ البحاثة أحمد رمزي بك في مجلة الرسالة، بيّن فيه أن صحاري القفجاق هي المناطق الواقعة حول شبه جزيرة القرم والممتدة من نهر الفولجا شرقاً، وقال رحمه الله: في القرن السابع الهجري أتم جوشي ابن جنكيزخان، وهو عم هولاكو، فتح بلاد المسلمين وأخضع إيران، واتجهت كتائبه شمالاً إلى القوقاز حيث اقتحم الدربند وباب الأبواب، وفي الشمال التقى على نهر الدون بقبائل تركية هي القفجاق، فخضعت لأول وهلة للفاتحين كأبناء عمومة وأخوة، ولكن المعاملة القاسية التي لقيتها أقنعت غيرها من سكان بحر الأزق، بحر أزوف شمالي البحر الأسود، أن الأفضل لها وأسلم هو أن تتجه غرباً، وكان ذلك من أسباب مطاردتهم والفتك بهم وتشريدهم لإعادتهم إلى حكم الخان الأعظم. وترتب على هذه المطاردة أن توجه المغول بحملة إلى وادي الدنيبر فأتموا إخضاع الجزء الجنوبي من روسيا الحالية وهو المسمى بأراضي القفجاق.
في هذه الأثناء أي سنة 639 كانت إحدى قبائل القفجاق لا تجد مأوى أمامها، فاتجهت إلى القرم وكاتبت ملك الأولاق ليعبروا البحر إليه فراراً من جحافل التتار، وأجابهم إلى ذلك وأنزلهم وادياً بين جبلين، وكان عبورهم إليه سنة 640 فلما أطمأن بهم المقام غدر بهم وشن الغارة عليهم فقتل منهم وسبي، وكان من بين السبي غلام هو بيبرس الملك الظاهر، وكان عمره أربعة عشر عاماً، فكان أن بيع في مدينة سيواس، وأُخِذَ إلى حلب، وانضم في مصر إلى جماعة من جنسه القفجاق يعملون في خدمة سلطان مصر.
ونقل الأستاذ أحمد رمزي بك ما أورده القلقشندي في صبح الأعشى نقلاً عن تقويم البلدان لملك حماة أبي الفداء إسماعيل بن علي الأيوبي، المولود سنة 672 والمتوفى سنة 732، فهو معاصر لضحى عصر المماليك: ومن القفجاق معظم جيش الديار المصرية من ملوكها وأمرائها وجندها، إذ لما رغب الملك الصالح نجم الدين أيوب في مشترى المماليك منهم، ثم صار من مماليكه من انتهى إلى الملك والسلطنة، فمالت الجنسية إلى الجنسية، ووقعت الرغبة في الاستكثار منهم حتى أصبحت مصر بهم آهلة المعالم، محمية الجوانب، فهم أقمار مواكبها وصدور مجالسها وزعماء جيوشها وعظماء أرضها ... وحمد الإسلامُ مواقفَهم في حماية الدين حتى إنهم جاهدوا في الله أهليهم.
اشترى الظاهرَ بيبرس أميرٌ من كبار الأمراء يتسم بالعقل والرصانة، هو علاء الدين أيدكين الصالحي، وكان بندقدار الملك الصالح الأيوبي، أيوب بن محمد الملك الكامل، الولود سنة 603 والمتوفى سنة 647، ومن هنا قيل لبيبرس: العلائي البندقداري، والبندقدار وهو الذي يحمل جعبة البندق خلف السلطان أو الأمير، وكانت هناك أقواس خاصة ترمي البندق المصنوع من الطين، وغضب الملك الصالح على علاء الدين أيدكين في سنة 644، وصادر أمواله وأخذ ممالكيه ومنهم بيبرس، فجعله في خاصة خدمه، ثم أعتقه، ومن هنا قيل لبيبرس كذلك: الصالحي.
وفي سنة 647 أغار الفرنج بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا على دمياط، واحتلوها وهددوا بقية مصر، وكان الملك الصالح غائبا في دمشق، فقدم ونزل أمام الفرنج وهو مريض بالسل، ومات بناحية المنصورة، ونقل إلى القاهرة، وأخفت زوجته شجرة الدر خبر موته حتى جاء ابنه الملك المعظم توران شاه من حصن كيفا في جنوبي تركية، واستطاع قوات المسلمين بقيادة الأمير بيبرس هزيمة الفرنج في المنصورة في أول سنة 648، وأسرت الملك لويس التاسع، المعروف في الغرب بالقديس لويس.
وكان توران شاه يتسم بالتهور والحدة، وتهدد المماليك بالقتل في أكثر من مناسبة، فبادروا إلى قتله، وتولت الحكم زوجة أبيه شجرة الدر مدة ثمانية أشهر، ثم تولى الحكم الأشرف موسى بن الملك الناصر يوسف، ثم ما لبث بعد أيام أن خلع نفسه لتبدأ دولة المماليك وتنتهي الدولة الأيوبية بمصر، بتولي الملك المعز أيبك أول ملوك المماليك على مصر والشام، الذي تزوج شجرة الدر.
وكان من بين كبار أمراء المماليك أمير اسمه فارس الدين أقطاي، وكان طامعاً في السلطنة، لا يحترم الملك المعز أيبك، وبلغ به الأمر أنه لما تزوج طلب من الملك المعز القلعة ليسكن فيها، فدبر المعز قتله في سنة 652، فركبت مماليكه وأنصاره إلى القلعة، وكانوا نحو سبعمائة فارس، فرمى رأسه إليهم، فهربوا، وذهبت طائفة من الأمراء إلى الشام، مجاهرين بالعداوة للملك المعز ومنهم الأمير بيبرس، ورحب بهم الملك الناصر الأيوبي صاحب دمشق، وبقي بيبرس معه فترة تواترت عليه فيها كتب الأمراء تحرضه على قصد مصر، ولمَّا لم يستجب له الناصر، توجه بيبرس إلى الملك المغيث الأيوبي في الكَرَك، وتوجها معاً على رأس عسكر إلى مصر، فهزمهم العسكر المصري، وهربوا إلى الكرك.
وانضم إلى بيبرس بعض أمراء مصر فعاود الكرة في الهجوم على مصر مع الملك المغيث سنة 656، فأرسل إليهم الملك المعز قوة بقيادة الأمير قطز وهُزِموا بعد أن كادوا ينتصروا، ووقع أغلب الأمراء في الأسر وقتلوا، وهرب بيبرس مع الملك المغيث إلى الكرك، ثم ذهب إلى الملك الناصر بدمشق سنة 657.
وبقي المعز في الحكم إلى سنة 654 عندما قُتِل بتدبير من شجرة الدر، لأنه تزوج عليها! وتولى بعده ابنه الملك المنصور علي، وعمره 15 عاماً، وقام بتدبير ملكه الأمير علم الدين سنجر الحلبي، وقُتِلت شجرة الدر شر قتلة.
واجتاح المغول بقيادة هولاكو المشرق العربي، واحتلوا في سنة 656 بغداد وقتلوا الخليفة المستعصم، ثم استولوا على حلب ودمشق، وقصدوا مصر، فكلم كبار الأمراء الأميرَ قُطُز، وكان أتابك العسكر أي رئيسه، على أن يتولى السلطنة، ويقوم بأعباء مواجهة المغول، فجمع القضاة وأعيان الدولة فأجمعوا على خلع الملك المنصور من السلطنة لصغر سنه، فخُلِعَ وتسلطن قطز في سنة 657، وتسمى بالملك المظفر.
ولما ورد بيبرسَ الخبرُ أن الأمير قطز أصبح ملكاً حرض الملك الناصر على قصد الديار المصرية، فلم يجبه الناصر، وهنا برزت شجاعة بيبرس وهمته العالية، فقد قال للناصر: فقدِّمنى على أربعة آلاف فارس أقوم بهم إلى شط الفرات أمنع المغول من العبور إلى الشام! ولكن الملك الصالح صاحب حمص وقف في وجه هذه الحركة لأنه كان على تفاهم سري مع المغول، فراسل بيبرسُ الملكَ المظفر قطز، فرحب بقدومه إلى مصر، فعاد إليها في سنة 658، فركب الملك المظفر قطز للقائه، وأنزله في دار الوزارة، وخلع عليه وجعله أتابك العسكر.
وأعد المظفر قطز الجيوش والأموال، وخرج من مصر، وأرسل طليعة من جيشه بقيادة بيبرس تستطلع أحوال العدو المغولي، فأبدى بيبرس شجاعة وإقداماً كسرا حاجز الرعب النفسي الذي اعتمد عليه المغول، ذلك أنه ناوشهم القتال فور رؤيته لهم؛ فانهزموا أمامه فتبعهم يقتص آثارهم، ويقتل من وجد منهم حتى وصل إلى حمص. ثم عاد ليلتقي مع المظفر قطز بدمشق.
والتقى جيش المسلمين وجيش المغول على عين جالوت بفلسطين، في الخامس عشر من رمضان من عام 658، فهزم المسلمون المغول وطاردوا فلولهم إلى بيسان فظفر بهم، وكان لبيبرس دور عظيم في معركة عين جالوت وفي طرد المغول واسترجاع البلاد منهم، ودخل الملك المظفر قطز دمشق في موكب عظيم، وعزل من بقي من أمراء بني أيوب، واستبدل بهم من اختار من رجاله، ورحل يريد مصر.
وكان الملك المظفر قطز قد وعد الأمير بيبرس بولاية حلب، ولكنه لم يحقق وعده، فاستاء من ذلك بيبرس، وسارت الوشاة بينهما، وما أكثر الوشاة في دولة المماليك، وقيل لقطز إن الأمير بيبرس قد تغير عليه، وإنه عازم على التمرد، فأسرع قطز بالخروج من دمشق إلى مصر وهو يضمر السوء لبيبرس، وبلغ ذلك بيبرس فاستوحش من قطز، وأخذ كلّ منهما يحترس من الآخر على نفسه، وينتظر الفرصة، واتفق  بيبرس مع عدد من الأمراء على قتل المظفر، واغتالوه في مكان قرب العريش اليوم يقال له قُصير الصالحية، تقدم منه أتابك عسكره بيبرس ووراءه بعض من كبار الأمراء، فتناولوه بسيوفهم فقتلوه في 15 من ذي القعدة سنة 658، فكانت مدة حكمه رحمه الله سنة واحدة.
وتطلع عدد من الأمراء الحاضرين في القصير إلى أن يكون هو الملك، ولكن الأمير فارس الدين آقطاي قدَّم الأمير بيبرس، وبايعه على الفور فتبعه باقي الأمراء وحلفوا له، وتلقب بالملك الظاهر، وركب من وقته ومعه أمراؤه إلى مصر للسيطرة عليها وإعلان الظاهر بيبرس ملكاً على مصر والشام، ولقيهم في طريقهم الأمير عز الدين أيدمر الحليّ نائب الملك المظفر قطز بمصر، وقد خرج لتلقيه، فأخبروه بما جرى وحلَّفوه، فتقدّمهم إلى القلعة ووقف على بابها حتى وصلوا في الليل فدخلوا إليها، وكانت القاهرة قد زينت لقدوم السلطان الملك المظفر قطز، وفرح الناس بكسر المغول وعودة السلطان، فما راعهم وقد طلع النهار إلاّ والمشّاعليّ ينادي معاشر الناس ترحموا على الملك المظفر وادعوا لسلطانكم الملك الظاهر بيبرس، فدخل على الناس من ذلك حزن شديد وتخوف عظيم.
وجاءت أول عقبة أمام الظاهر بيبرس من دمشق، فقد استاء الأمير علم الدين سنجر الحلبي نائب دمشق من مقتل الملك قطز، ورفض أن يبايع بيبرس، وادعى السلطنة لنفسه مع الظاهر بيبرس، واستحلف الأمراء والأعيان وجلس بقلعة دمشق، وتلقب بالملك المجاهد، وكان حقاً من المجاهدين الشجعان، وضربت السكة باسمه، وكاتب الملك المنصور صاحب حماة ليحلف له فامتنع، وقال: أنا مع من يملك الديار المصرية كائناً من كان.
ولما علم المغول بمقتل قطز انتهزوا الخُلف الواقع بين ملوك مدن الشام، فشنوا حملة استولت على حلب وحماة، وتصدت لهم قوات حلب وحماة وحمص في سنة 659 قرب حمص وحملت عليهم حملة رجل واحد فهزمتهم وقتلت عدداً كبيراً منهم، واتفق أمراء الشام إثر هذه الموقعة على خلع الأمير سنجر، وأمسكوا به وأرسلوه إلى مصر حيث سجنه الظاهر بيبرس مدة طويلة، وتوفي سنجر سنة 692.
وأعد الظاهر بيبرس جيشاً اتجه إلى الشام وطرد المغول من حلب شر طردة، ثم جاء إلى مصر أحد أبناء الخلفاء العباسيين، وهو أحمد بن محمد الظاهر بن الناصر المستضيء، فسر به الظاهر بيبرس ووجد فيه قوة جديدة لملكه، تمنحه الشرعية، ومأثرة فريدة لحكمه حين جعل من مصر مقر الخلافة الإسلامية، فأصبحت القاهرة عملياً عاصمة العالم الإسلامي، فأُثبِتَ نسبه أمام القضاة والعلماء وأركان الدولة في مجلس حضره الظاهر بيبرس ، وبايعه بالخلافة، ولقبه بالمستنصر، وأمر أن يخطب باسمه على المنابر وأن ينقش اسمه على النقود وأقيمت له المظاهر وأنزل في دار فخمة، ولم تطل أيام المستنصر فقد كان رجلاً شجاعاً مقداماً، وطلب من الظاهر بيبرس أن يجهزه ليعود إلى العراق ويستردها من المغول، فخرج معه إلى الشام سنة 659 وسيره على رأس جيش إلى العراق، ولتتسع الجبهة على المغول جهز بيبرس في نفس الوقت ملوك الشرق: صاحب الموصل، وصاحب سنجار، وصاحب الجزيرة، وحقق المستنصر بعض الانتصارات المبدئية، ثم ما لبث المغول أن هاجموه قرب هيت وقضوا على جيشه، وفُقِدَ هو في المعركة.
أما ملك الموصل الملك الصالح إسماعيل بن لؤلؤ المعروف بابن الملك الرحيم، الذي جاء إلى بيبرس وطلب مساعدته في مواجهة المغول، فأعطاه عسكراً واجه المغول في نصيبين وهزمهم، وقتل رئيسهم، فأرسل هولاكو في سنة 660 عسكراً معهم ملك ماردين المسلم، حاصروا الموصل 10 أشهر، وأخذوها بالأمان ثم فتكوا بأهلها فتكاً ذريعاً وقتلوا ملكها وابنه.
ولا بد من أن نشير إلى أن والد الملك الصالح المعروف بالملك الرحيم، كان قد استسلم لهولاكو ودخل في طاعته، فأقره على الموصل، وقرر عليه مالاً يحمله، ومات سنة 657، وخلفه ولده الملك الصالح، وكان متزوجاً بابنة هولاكو فأغضبها وأغارها، فهاجمت المغول الموصل لهذا السبب.
وجاء القاهرة أمير عباسي آخر، كان شاباً سنه 15 عاماً، هو أحمد بن الأمير الحسن بن أبي بكر بن علي القُبّي، وكان قد نجا بعد سقوط بغداد، فسار إلى القاهرة سنة 659، وبويع فيها بالخلافة سنة 661، وتلقب بالحاكم بأمر الله، واستمرت خلافته فوق 40 عاماً إلى وفاته سنة 701 وهو في عشر الثمانين.
ومن علامات التوفيق أن إحياء الخلافة في مصر تصادف مع انشقاق كبير في صفوف المغول، فقد أسلم بركة خان بن جوشي، ملك القبيلة الذهبية، وهو أول من أسلم من المغول، وكانت أراضيه تمتد في الجزء الشمالي الغربي من الإمبراطورية المغولية وتغطي روسيا وأوكرانيا ومولدوفا وكازخستان والقوقاز، واصطدم في سنة 658 مع ابن عمه هولاكو بسبب مهاجمته وفتكه بالمسلمين، وقتله الخليفة في بغداد، ولأن الظاهر بيبرس يعود أصله للقفجاق الذين تقع عاصمة بركة في أراضيهم، وهو محسوب من المغول، فقد ساعد هذا في تمتين تحالفه مع  بركة خان، كما لجأ عدد لا بأس به من الأمراء من صفوف العدو المغولي إلى صف الظاهر بيبرس، الذي رحب بهم وأنزلهم منازلهم وفق رتبهم، وعمر لهم المساكن في ميدان اللوق، وبثَّ فيمن بقي وراءهم أخبار هذا الإكرام والإنعام، فتزايدت أعداد المنسحبين إليه، والمنضمين إلى صفوفه من أمراء المغول، واستطاع استيعابهم في صفوف جيشه.
ولما جرت بيعة الملك الظاهر على يد الخليفة العباسي الحاكم بالله، كتب الملك الظاهر بيبرس بخبر هذه البيعة إلى الآفاق، وحيث تمت البيعة بحضور رسل الملك بركة خان، أرسل الظاهر بيبرس إليه فقيهاً وأميراً من جيشه يخبراه بخبر البيعة، ويحضاه على الجهاد ضد هولاكو، ويخبراه أن الظاهر بيبرس أمر بالدعاء له في الحرمين الشريفين. وتوفي بركة خان في سنة 665.
ومات هولاكو في سنة 663 وخلفه ابنُه أَبَغا وهو في الواحدة والثلاثين، وتزوج أبغا من أميرة بيزنطية في إطار محاولة والده إقامة تحالف مغولي إفرنجي، ودام حكم أَبَغا 17 عاماً، وكان بينه وبين الظاهر بيبرس مراسلات، وأحياناً مهاداة، ولكن بيبرس وقف بالمرصاد لمحاولة أبغا السيطرة على سورية، مستفيداً من نزاع أبغا مع بركة خان الملك المغولي المسلم، وقبل وفاته بأقل من ثلاثة أشهر خاض بيبرس في سنة 675 آخر معاركه مع المغول في أبلستين، وتدعى اليوم البستان في جنوبي تركية، حين أحرز بشجاعته شخصياً نصراً حاسماً على المغول، جعل أبغا بن هولاكو يحسب له ألف حساب ويتخلى عن أطماعهم في الاستيلاء على المشرق العربي.
وفي سنة 664 حاصر الظاهر بيبرس الفرنج في صفد مدة 40 يوماً حتى استسلمت القلعة بالأمان، ولكن بيبرس أمر بقتل فرسانها لمخالفتهم شروط الاستسلام وإخفائهم كثيراً من أموال القلعة، وبسقوط صفد خضعت له منطقة الجليل خضوعا تاما، وبعد أسبوعين أرسل جيشاً إلى سيس، وكانت عاصمة الأرمن حلفاء المغول، وهي اليوم كوزان في ولاية أضنة، وكان جيش سيس قد فعل بأهل حلب الأفاعيل لما استولى عليها المغول، فأراد ملكها الخائف هيتوم إرضاء بيبرس فأرسل له رسولاً مع هدايا أثناء حصاره صفد، فرفض سماع الرسالة ورد الهدايا، واستولى جيش بيبرس على سيس بسرعة خاطفة وقتلوا عدداً كبيراً من سكانها وأسروا ليفون ابن ملكها وأكابر أمرائها، وعادوا نحو دمشق، فخرج الظاهر بيبرس لتلقيهم، وهاجم في خروجه قاعدة للفرنج في قارة في الطريق بين دمشق إلى حلب، واستولى عليها، وكان أهلها يأسرون المسلمين ويبيعونهم للفرنج.
وفي سنة 665 أظهر بيبرس أنه سيذهب من القاهرة إلى دمشق، وما أن غادر القاهرة حتى أمر عسكره بلبس آلة الحرب على الدوام، وسار سريعاً حتى شن هجوماً مباغتاً على يافا، فهرب من كان فيها من الفرنج إلى قلعتها، فملك السلطان المدينة وطلب أهل القلعة الأمان، فأمنهم وعوضهم عما نهب لهم أربعين ألف درهم، فركبوا في المراكب إلى عكا، وأمر بهدم قلعة يافا حتى لا يبقى للفرنج موطأ فيها، ثم اتجه إلى قلاع الشقيف والباشورة فاستولى عليها، ثم شن الغارة على طرابلس وأخرب قراها وقطع أشجارها وغور أنهارها، ثم سار منها إلى قلعة الحصن فطلب منه الفرنج السلم فانصرف بعد أن أخذ منهم مبلغاً باهظاً لقاء فك الحصار، وبعد استراحة قصيرة لبضعة أيام رحل ليلا وأمر العسكر بلبس آلة الحرب، ونزل على أنطاكية، فخرج إليه جماعة من أهلها يطلبون الأمان وشرطوا شروطا لم يجب إليها، وزحف عليها فملكها وقتل عدداً كبيراً ممن كانوا فيها يقدر بأربعين ألف شخص، وعادت إلى الدولة الإسلامية بعد أن بقيت بيد الفرنج 170 عاماً، وحقق بيبرس ما لم يتمكن صلاح الدين من تحقيقه.
وشكلت هذه الانتصارات تهديداً كبيراً للمغول فأرسل أبغا رسولاً يطلب الصلح مع بيبرس ويهدده إن لم يفعل، ومضمون الرسالة: إن الملك أبغا بن هولاكو من خالفه قُتِل، وأنت لو صعدت إلى السماء أو هبطت إلى الأرض ما تخلص منا، فالمصلحة أن تجعل بيننا صلحاً، وأنت مملوك أُبِعتَ في سيواس فكيف تشاقق ملوك الأرض؟! فرد بيبرس على الرسالة فوراً بجواب لا لبس فيه، ينم عن عزيمة وإباء، بأنه عازم على أن يسترد جميع ما استولى المغول عليه من العراق والجزيرة والروم والشام.
وفي سنة 667 قام الظاهر بيبرس بإصلاح اجتماعي وأخلاقي كبير، فقد أمر بإراقة الخمور في أنحاء المملكة وإبطال أنواع المفاسد، الخمر ونودي في يوم عيد الفطر وبيبرس والجند على باب صفد: من شرب خمرا أو جلبها شنق. وأمسك أحد أمرائه وهو سكران، فصلبه، وفي عنقه جرة الخمر!
وفي سنة 667 حج الظاهر بيبرس كما سنذكر بعد قليل، ورجع للقاهرة في أول سنة 668 فأقام بها مدة يسيرة، ثم توجه إلى الشام ثم بدأ في الغارة على حصون الفرنجة في الساحل الشامي وأسر ملك عكا، ثم نزل على قلعة الحصن يتهددها من غير قتال، ثم بلغه أن مراكب الفرنج دخلت ميناء الإسكندرية وأخذت مركبين للمسلمين، فرحل من فوره إلى مصر لمواجهة الفرنجة واتجه بنفسه إلى دمياط، ولم يتحقق هذا الهجوم فعاد إلى القاهرة.
وفي سنة 669 خرج من مصر إلى عسقلان وهدم من سورها ما كان أهمل هدمه في أيام الملك الصالح، ثم عاد إلى القاهرة، وما لبث بعد أشهر أن توجه إلى الساحل الشامي لمهاجمة قلعة الحصن وغيرها من القلاع الساحلية، التي تهاوت واحدة تلو الأخرى، وكانت خاتمة ذلك سقوط قلعة الحصن، وأطلق الملك الظاهر من كان فيها من الفرنج فتوجهوا إلى طرابلس، وهرع أمراء الحصون من الفرنجة يطلبون الهدنة من المالك الظاهر فصالح بعضهم على هدنة تستمر عشر سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام.
وكان للإسماعيليين في الساحل الشامي قلاع يسمونها قلاع الدعوة، مثل مصياف والقدموس والخوابي، وكانوا يتحالفون مع الفرنج تارة ومع المسلمين تارة، وفي تقديرهم أنهم يحافظون على وجودهم بهذا التأرجح، وهم في الوقت نفسه يهددون الجميع بإرسال فداويتهم لاغتياله مضحين بأرواحهم، ولكن الظاهر بيبرس ما كان ليقبل بوجودهم  على هذه الصورة، فشن الحملات عليهم، وانتزع منهم القلاع في سنوات 668-671، ودخلوا تحت طاعة ملوك مصر من حينئذ، وكانت ملوك الفرنج وصقلية واليمن تهاديهم على أنهم كيان مستقل، فأصدر الظاهر بيبرس أوامره بمعاملة الهدايا معاملة البضائع التجارية وفرضِ الرسوم عليها، كسراً لشوكتهم وردعاً لمن تعامل معهم مع الملوك.
ويطول الحديث عن معارك الملك الظاهر بيبرس، وفيما سردناه الكفاية، لبيان أنه كان مجاهداً مقداماً وفارساً مغواراً، وذا لياقة بدنية ممتازة، حافظ عليها حتى آخر حياته، ففي 26 من شهر رمضان من سنة 672، أمر الظاهر بيرس عساكره بالتأهب للركوب ورمي السهام على الهدف، ثم قام باستعراض عسكري شهده العامة، وشارك فيه لضيق المكان من كل عشرة اثنان من عامة العسكر وأمرائه ومقدميه، فركبوا في أحسن زيّ، وأجمل لباس، وأكمل شكل، وأبهى منظر، وركب السلطان ومعه من خواصه ومماليكه ألوف، ودخلوا في الطعان بالرماح، فكل من أصاب خلع عليه السلطان، ثم ساق في مماليكه الخواص خاصة، ورتبهم أجمل ترتيب، واندفق بهم اندفاق البحر، فشاهد الناس أبهة عظيمة، ثم أقيمت الأهداف لرمي النشاب، وجعل لمن أصاب الهدف جوائز بحسب رتبته في الجيش، ثم استعرض الجيش دخولاً وخروجاً، تارة بالرماح، وتارة بالنشاب، وتارة بالدبابيس، وتارة بالسيوف مسلولة، وثم ساق بيبرس بنفسه وسلّ سيفه، وسلّ مماليكه سيوفهم، وحمل هو ومماليكه حملة رجل واحد، فرأى الناس منظراً عجيباً، واستمر ذلك إلى يوم العيد فكانت هذه الأيام من الأيام المشهودة.
وتمتع الظاهر بيبرس بأفق واسع وتخطيط استراتيجي من الطراز الأول، وعزيمة لا تلين، وكان دارساً للتاريخ يقرِّب المؤرخين ويقول: سماع التاريخ أعظم من التجارب، ووضع نصب عينيه بعد أن طرد المغول من بلاد الشام أن يردعهم عن العودة إليها، وأن يحررها من المحتلين الفرنج، وأن يسترجع منهم ما أخذوه منها بعد وفاة السلطان صلاح الدين الأيوبي، ولذا كانت معالم خلافته  فتوحات متوالية ومعارك متتالية، لا يترك المبادرة بيد الخصم، بل يتحرك بسرعة خاطفة من مكان إلى آخر ويباشر الحرب بنفسه في شجاعة نادرة المثيل، وكل هذه المعارك وعدد الفرسان في جيشه40.000 فارس، كانوا دائماً على أتم الأهبة للحركة السريعة إلى ميدان المعركة،  ما خرج من القاهرة بهم وعاد  إلا بعد هجوم أو نصر، وأنشأ شبكة اتصالات تعتمد الحمام الزاجل والبريد المحمول عبر المراحل، فكانت الأخبار تصله في أسرع وقت على اتساع مملكته، وقال لكاتب الإنشاء في الشام مؤكداً عليه أن يواصله بالأخبار وما يتجدد من أخبار المغول والفرنج: إن قدرت أن لا تبيتني كل ليلة إلا على خبر، ولا تصبحني إلا على خبر، فافعل.
ويذكر المؤرخ الألماني هانز ماير في كتابه الحروب الصليبية أن بيبرس خلال فترة حكمه التي استمرت 17 سنة، نظم 38 حملة، وقاتل بنفسه في 15 معركة، وقطع في سبيل ذلك 40.000 كم، حتى درأ الخطر المزدوج الذي حاق بالإسلام في منطقة غربي آسيا من قبل الفرنجة والمغول، ونازل بيبرس المغول عدة مرات، وحلفاءهم من الأرمن خمس مرات، والحشاشين ثلاث مرات، وهزم الفرنج في إحدى وعشرين معركة، واسترجع منهم جميع الحصون والقلاع في داخل الشام، وبقي في أيديهم الشريط الساحلي فقط من قلعة الحجاج جنوبي حيفا في الجنوب وحتى اللاذقية في الشمال.
فتح البيرة في سنة 659، والكرك في سنة 661، وحمص في آخر سنة 662، وقيسارية وأرسوف في سنة 663، وحاصر صفد وفتحها عنوة في سنة 664، ويافا والشقيف وأنطاكية في سنة 666، وفي سنة 669 فتح حصن الأكراد وعكا وصافيتا، وأرسل قوة بحرية إلى قبرص، وفي سنة 671 كسر التتار على البيرة بعد أن عدى الفرات خوضاً بعساكره، وفي سنة 672 أخضع برقة وهي في ليبيا اليوم، وفي سنة 673 فتح قلاعاً من بلاد سيس في جنوبي تركية وجلس على كرسي بني سلجوق بقيسارية الروم، ورجع إلى دمشق في آخر سنة 675، وكانت آخر معاركه مع المغول في سنة وفاته عام 676.
ويكفي أن نذكر أن لويس التاسع الذي هزم في المنصورة سنة 648 وسجن سنوات في دار ابن لقمان، بقيت نفسه تحدثه بالعودة إلى مصر، ولكن وجود بطل مقدام مثل بيبرس جعله يتخلى عن هذا الحلم ويتجه إلى تونس حيث لاقى منيته سنة 661، ووصلت البشرى بذلك إلى الملك الظاهر بيبرس.
وفي سنة 666 جهز الظاهر بيبرس الحج بعد انقطاعه 12 سنة بسبب فتنة المغول وقتلِ الخليفة العباسي في بغداد، وكان أمير مكة الشريف  أبي نمي محمد بن الحسن، المولود سنة 630 والمتوفى سنة 701، يداهن المغول، فلما وصل الحج المصري إلى مكة منعوهم من دخول المحمل ومن كسوة الكعبة، فقال أمير المحمل لأمير مكة: أما تخاف من الملك الظاهر بيبرس؟ فقال: دعه يأتيني على الخيل البلق! فلما رجع أمير المحمل وأخبر السلطان بما قاله أمير مكة، فتوجه للحج في الموسم التالي، وهيأ في كل منزلة خيلاً يركبها ويترك المنهكة فيها، فقطع المراحل في سرعة البرق، ووصل مكة في الثامن من ذي الحجة آخر النهار، والناس في عرفة، فاستغرب الشريف هذه الكوكبة من الفرسان على خيل بلق، وقالوا لهم: فقالوا لهم: من أين أنتم؟ من العراق أو من الكوفة أو من العجم أو من الترك؟ فقال السلطان: أليس قد قلت دعه يأتيني على خيل بلق؟! أنا الملك الظاهر جئتك على الخيل البلق! فاستغفر وتقدم إلى السلطان وقال: العفو يا مولانا السلطان، ثم ركب وسعى مع السلطان، واشترط عليه الظاهر أن لا يمنع زائراً لا ليلاً ولا نهاراً، ولا يعترض تاجراً بظلم، وأن تكون الخطبة والدعاء له، ولأبي نمي، وجعل له عشرة آلاف درهم في كل سنة، فأبطل الجباية والمظالم، وكان ذلك في صحائف الملك الظاهر بيبرس، الذي غسل الكعبة وعلق كسوتها بيده.
وبلغت هيبة الظاهر بيبرس مبلغاً لم يصله من قبله ملك في أراضيه وخارجها، دَفَنَ يهوديٌ بقلعة جعبر عند قصد التتار لها مصاغاً وذهباً، وهرب بأهله إلى الشام واستوطن حماة، فلما أمِن كتب إلى صاحب حماة يعرّفه ويسأله أن يسير معه من يحفظه ليأخذ خبيئته، فطالع صاحب حماة الملك الظاهر بذلك، فرد عليه بأن يوجهه مع رجلين ليقضي حاجته، فلما توجهوا مع اليهودي ووصلوا إلى الفرات امتنع من كان معه من العبور فعبر اليهودي وحده، فلما وصل وأخذ في الحفر هو وابنه وإذا بطائفة من العرب على رأسه، فسألوه عن حاله فأخبرهم، فأرادوا قتله وأخذ المال، فأخرج لهم كتاب الملك الظاهر مطلقا إلى من عساه يقف عليه، فلما رأواه كفوا عنه وساعدوه حتى استخلص ماله، ثم توجهوا به إلى حماة وسلموه إلى صاحب حماة، وأخذوا خطه بذلك.
وكان الملك الظاهر حريصاً على المال لا ينفقه إلا في مواضعه، لم يعرف عنه أنه أنعم بألف دينار جملة واحدة، وكان واعياً لأهمية الاقتصاد، وكانت دار سك العملة القاهرية دقيقة في عيار الفضة المضروبة، وكان يشجع التجارة الداخلية والتجارية لأهميتها في تنمية البلاد، حريصاً على استمرارها وحمايتها، وعقد اتفاقيات مع ملوك المغول بإعفاء تجار بلاده من الضرائب على البضائع الواردة والصادرة، وخرجت جماعة من تجار بلاد العجم إلى مصر، فلما مروا بسيس منعهم صاحبها من العبور، وكتب إلى أبغا ملك التتار، فأمره بتوقيفهم وإرسالهم إليه، وبلغ الملك الظاهر خبرهم، فكتب إلى أمير حلب بأن يكتب إلى نائب سيس: إن هو تعرض لهم بشيء يساوي درهما واحداً أخذتُ عِوَضه مراراً. فكتب إليه نائب حلب بذلك فأطلقهم، وصانع أبغا على ذلك بأموال جليلة حتى لا يخالف أمر الظاهر، وهو لا يتبع له.
وكان الظاهر بيبرس متنبهاً لما كان يدور بين كبار المماليك من مؤامرات على السلطان، باعثها طموح الوصول إلى السلطنة، فوضع العيون على أمرائه وأعيان دولته، حتى لم يخف عليه من أحوالهم شيء، وكان الأمير سيف الدين بلبان الرومي هو المسؤول عن ذلك والمطلع على أسراره، وتدبير أمور القصاد والجواسيس والمكاتبات، لا يشاركه في ذلك وزير ولا نائب سلطنة، وكشف على امتداد سنوات حكمه عدداً من المؤامرات، منها ما هو داخلي، ومنها ما كان بالتآمر مع المغول، وفي الحالتين كانت العقوبة أن يختفي المجرمون ويكون ذلك آخر العهد بهم، كما كان الظاهر بيبرس حريصاً على أن تخلو دولته من الأمراء الكبار ممن يعادلونه في المكانة، ومن قد يشكلون تحدياً لسلطته، فسجن عديداً منهم، وأبعد آخرين ممن كانت لهم عليه أياد بيضاء، ولذا رأيناه مع اعترافه للأمير آقطاي بالفضل في المبادرة لمبايعته، بقي على وجل منه حتى أحاله للتقاعد بعد بضع سنوات، ومات آقطاي مقهوراً محجوراً في سنة 672.
ويشير عدد من المؤرخين إلى تأثر الملك الظاهر بيبرس بالمغول في إدارته الدولة والجيوش والمعارك، وهذا مبني على أنه كان يتبع سياسة الأرض المحروقة، ولا يتردد في الفتك بسكان البلدان التي يفتحها، وكأنه اقتبس ذلك من المغول، الذين كانوا يبثون الرعب والذعر بهذا الأسلوب، ولما فتح صفد سنة 664، وكذلك أنطاكية سنة 666، بعد أن بقيت بيد الفرنج قرابة 170 عاماً، وضع السيف في سكانهما فلم يسلم منهم إلا قليل، وكان كذلك يوقع العقاب الشديد الرادع بمن يخرج عن الجادة، سرق جماعة من العاملين في ديوان المطابخ بدمشق كمية كبيرة من السكر، فبلغ ذلك الظاهر بيبرس فأمر بهم فسمِّروا وطيف بهم على الجمال، وممن حلت بهم نقمته الأمير إيغان الظاهري الملقب بسُّم الموت، وكان شجاعاً مقداماً كسر الفرنج بغزة، وصارت له كلمة نافذة، ثم غضب عليه الظاهر بيبرس لأمر ما، فسجنه في الجب بالقلعة إلى أن مات في سنة 675.
وهنا نورد قصة فيها شيء من الطرافة، وهو أنه في سنة 663 كثر الحريق بالقاهرة، ثم احترقت حارة الباطليّة عن آخرها، ثم تبين أن وراء ذلك بعض النصارى حنقاً من أخذ الظاهر بيبرس من الفرنج أرسوف وقيسارية وطرابلس ويافا وأنطاكية، وكانت العقوبة المقررة أن يجمع النصارى ويحرقوا، ولكن جُمِعَ معهم اليهود كذلك، وجاء الظاهر بيبرس بنفسه ليشهد ذلك، فبرز الصيرفي ابنُ الكازروني اليهوديّ وقال للسلطان: سألتك بالله لا تحرقنا مع هؤلاء الكلاب الملاعين أعدائنا وأعدائكم، أحرِقْنا ناحيةً وحدَنا! فضحك السلطان والأمراء، وتشفع لهم بعض الأمراء فأطلق سراحهم مقابل أن يحملوا 50.000 دينار إلى بيت المال على عدة سنوات، ثم أعفوا من أغلبه. 
وكان الظاهر بيبرس يصطنع الرجال لا سيما ممن له مواقف تبين عن شجاعة بالغة أو رأي راجح، ومن هؤلاء الأمير آق سنقر النجمي الفارقاني، فقد كان جندياً أرسل مع تسعة جنود آخرين في مهمة استطلاع وتجسس على المغول في الجزيرة الفراتية، فلما وصلوا نهر الفرات وجدوه في فيضان وجريان لا يمكن عبوره، فرجع التسعة إلا هو، وقال: السلطان ندبني لأمر مهم فإما قمت به وإما مت دونه! ثم جعل ثيابه وعدته مشدودة وحملها على رأسه وسبح، وسبح فرسه أمامه، حتى قطع الفرات، وخرج إلى البر ولبس ثيابه كما كان، وركب فرسه ومضى حيث أمره الظاهر بيبرس، وتجسس الأخبار، واجتمع بقوم هناك، فاستفهم منهم الأخبار، وعاد إلى الفرات، وفعل كما فعل أولاً.
وعاد الأمير آق سنقر إلى الملك الظاهر بيبرس، وأخبره بما فعل، فعند ذلك عظُمَ أمرُه عنده، وصار يرقيه إلى أن جعله أستاذ دار كبيراً، وصار يستنيبه على مصر حين يسافر إلى الشام، ويوجهه في المهمات العسكرية الصعبة مثل إخضاع بلاد النوبة ودنقلة، حين هاجم صاحبها في سنة 671 مرفأ عيذاب على البحر الأحمر وقتل أهلها وواليها، فسار إليها وأخضعها، وما أن توفي الظاهر بيبرس حتى وثب الأمراء من حاشية الملك الجديد على هذا الأمير وسجنوه، فمات هذا الأمير الشجاع ويا للأسف مسجوناً سنة 677.
وكان الظاهر بيبرس يحشد لمواجهة عدوه كل القوى المتاحة له، ولذا نجده في سنة 662 يختار من عرب بادية الشام، قائداً شهماً شجاعاً هو الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا أمير آل فضل، المتوفى سنة 684، ليجعله أميراً على البادية، ويشارك مشاركة هامة في الحملات ضد المغول، وكانت له بسبب ذلك منزلة عظيمة عند الملك الظاهر بيبرس.
واهتم الملك الظاهر بالتعبئة المعنوية لجنوده وعامة الشعب، وكان عماده في هذا المشايخ والعلماء، وعلى رأسهم الإمام العز بن عبد السلام، عبد العزيز بن عبد السلام المولود سنة 578 والمتوفى سنة 660، لكونه ذا سابقة في رفض تقديم تنازلات للمحتلين الفرنج، ومشاركته في معركة المنصورة سنة 648، وكان الظاهر بيبرس يعظمه، ويقف عند أقواله وفتاويه، رغم ما يقال إنه لما حضر بيعة الملك الظاهر بيبرس قال له: يا ركن الدين أنا أعرفك مملوك البندقداري؟! فما بايعه، حتى أحضر من يشهد له أنه خرج من ملكه إلى رق الملك الصالح وأعتقه، ولما توفي ابن عبد السلام شهد الملك الظاهر بيبرس جنازته.
وكان الظاهر بيبرس يقدر للعلماء وقوفهم مع الحق، ولو كان ذلك مخالفاً لما يراه ويريده، ففي سنة 666 بدا له وهو في دمشق  أن ينتزع  كثيراً من القرى والبساتين التي بأيدي ملاكها، بزعم أن التتار قد استحوذوا عليها، ثم استنفذها منهم، وقد أفتاه بعض فقهاء الحنفية بذلك بأن الكفار إذا أخذوا شيئا من أموال الناس المسلمين ملكوها، فإذا استرجعت لم ترد إلى أصحابها الذين أخذت منهم، وهذه المسألة مشهورة وفيها خلاف، فعقد لمناقشة ذلك مجلسا اجتمع فيه فقهاء  المذاهب الأربعة، وصمم السلطان على ذلك اعتمادا على ما بيده من الفتاوى، فتصدى له قاضي القضاة شمس الدين عبد الله بن محمد الأذرعي الحنفي، المولود سنة 595 والمتوفى سنة 673، وكان فاضلاً ديناً، فقال: ما يحل لمسلمٍ أن يتعرض لهذه الأملاك ولا إلى هذه البساتين، فإنها بيد أصحابها ويدهم عليها ثابتة، ومن استحل ما قد حرم الله فقد كفر! فغضب السلطان غضباً شديداً وتغير لونه ثم قال: أنا كافر! انظروا لكم سلطاناً غيري!
وكان الذي حمل القاضي على هذا الكلام مخافةُ الله وخشيته، وألقى الله تعالى على خاطره هذه الآية الكريمة من سورة آل عمران: ﴿وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾، وانفض المجلس على وحشة من السلطان، فلما كان الليل أرسل السلطان يطلب القاضي، فخاف وأوصي وودع أهله، وراح إلى السلطان وفي ذهنه أنه لا يعود، فلما دخل قام السلطان وعظمه وقال: يا قاضي تكفرنا اليوم؟! فقال: يا مولانا أنا ما خصصت مولانا السلطان بهذا الكلام، ولكن كل من استحل ما حرم الله فقد كفر، فقال السلطان لحاشيته: القاضي كما هو؛ يكفرنا! وخلع عليه ورجع إلى بيته مجبوراً معظماً،  وقال الظاهر بيبرس أثبِتوا كتبنا عند القاضي. لما رأى من صلابته في الحق.
ولكن علاقة الظاهر بيبرس بالإمام النووي، محيي الدين يحيى بن شرف، المولود سنة 631، لم تكن على ما يرام، فقد كتب الإمام النووي رسالتين للظاهر بيبرس في تخفيف الضرائب على الناس، ورفع مصادرة الأراضي، هما مثال للتلطف في أمر الملوك بالمعروف ونهيهم عن المنكر، يضيق المجال عن إيرادهما، ولكن الظاهر بيبرس استاء من هذه الرسائل ولم يقبلها، وكانت خاتمة الأمر عندما أراد الظاهر بيبرس أخذ مال الرعية ليستعين به على قتال المغول، فأفتاه بذلك العلماء إلا الشيخ محيى الدين النووي، وقال له: إذا أنفقت مالك كله، وبقيت مماليكك بالبنود الصوف، وبقيت جواريك بثيابهن دون الحلي، أفتيتك بأخذ المال من الرعية. فغضب الظاهر من كلامه، وقال: اخرج من بلدي - يعني دمشق - فقال: السمع والطاعة! وخرج إلى نوى، فقال الفقهاء: هذا من كبار علمائنا وصلحائنا، وممن يقتدى به، فأعِدْه إلى دمشق، فرسم برجوعه. فامتنع الشيخ، وقال: لا أدخلها والظاهر بها. فمات الظاهر بعد شهر، وتوفي النووي بعده بستة أشهر.
ومن الغريب أن يكون لمثل الظاهر بيبرس في سعة مداركه وشدته وحزمه، شيخ صوفي يعظمه ويعتقد به هو الخضر بن أبي بكر بن موسى العدوي، بنى له زاوية وجامعاً، وكان يزوره بنفسه مرة أو مرتين كل أسبوع، ويغدق عليه الأموال، ثم تغير الملك الظاهر عليه لأمور بلغته عنه وأحضر من حاققه، وذكروا عنه من القبائح ما لا يصدر عن مسلم، فحبسه في سجن منعزل قرابة 6 سنوات حتى توفي سنة 676.
وقد صدرت عن هذا الشيخ اعتداءات على أهل الكتاب لا يقرها الإسلام ولا يقبلها الشرع، منها أنه دخل مرة كنيسة القمامة بالمقدس فذبح قسيسها بيده، ووهب ما فيها لأصحابه، وكذلك فعل بالكنيسة الكبرى بالإسكندرية، نهبها وحولها مسجدا ومدرسة أنفق عليها أموالا كثيرة من بيت المال، وسماها المدرسة الخضراء، وكذلك فعل بكنيسة اليهود بدمشق، دخلها ونهب ما فيها من الآلات والامتعة، ومد فيها سماطا، واتخذها مسجدا مدة. ويعحب المرء أين كان علماء المسلمين عن هذا وأمثاله.
وكان للظاهر بيبرس علاقة مع السيد البدوي، أحمد بن علي بن إبراهيم الحسيني، المولود بفاس سنة 596 والمتوفى بطنطا سنة 675، واستقبله عندما دخل مصر وأنزله في دار الضيافة، وانتسب إلى طريقته.
ومن كبار علماء تلك الأيام قاضي القضاة الأذرعي، سليمان بن أبي العز وهيب بن عطاء، المولود سنة 594، والمتوفى بدمشق سنة 677، شيخ الحنفية في زمانه وعالمهم، أقام في دمشق يدرس ويفتي، وانتقل إلى القاهرة، فولي قضاء القضاة في أيام الملك الظاهر بيبرس، وكان يحبه ويعظمه ولا يفارقه في غزواته، وحج معه، وأذِنَ له أن يحكم حيث حلّ.
وكان طبيبه إبراهيم بن أبي الوحش بن أبي حليقة، المولود في جعبر على الفرات قرب الرقة، والمتوفى سنة 708، ووهو من أسرة عريقة في الطب، وكان نصرانياً بلغ في دينه أن رشحوه ليكون بطريك النصاري بمصر، فلم يوافق ودخل في الإسلام، وصار رئيس الأطباء بمصر والشام، وهو أول من عمل شراب الورد الطري، ومرض الظاهر بيبرس بالخوانيق فعالجه فعوفي، ويقال أن تركته بلغت ثلثمئة ألف دينار.
ومن رجال دولة الظاهر بيبرس أبو الفضل ابن عبد الظاهر، عبد الله بن عبد الظاهر، المولود سنة 620 والمتوفى سنة 692، والذي كان كاتب الإنشاء في الديار المصرية، إلى جانب كونه مؤرخاً وأديباً، وقد ألف في سيرة الظاهر بيبرس كتاباً شعرياً منظوماً، أسماه الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر. وقد ألف كذلك المؤرخ ابن شداد، محمد بن علي، المولود بحلب سنة 613 والمتوفى بالقاهرة سنة 684، كتابا عن سيرة الملك الظاهر بيبرس، وينبغي أن نشير إلى أن ابن شداد الذي استوطن القاهرة بعد أن أخذ المغول حلب، وكانت له مكانة عند الملك الظاهر بيبرس.
ومن سفراء الملك الظاهر الفقيه الشافعي جمال الدين ابن واصل، محمد بن سالم، المولود بحماة سنة 604 والمتوفى بها سنة 697، وكان مؤرخاً عالماً بالمنطق والهندسة، اتصل بالملك الظاهر بيبرس فأرسله في سنة 659 في سفارة عنه إلى ملك صقلية مانفيرد Manferd، وكان والده الإمبراطور فردريك الثاني المتوفى سنة 648 صديقاً للملك الكامل الأيوبي، وهناك صنف ابن واصل رسالته الإنبرورية في المنطق، وتسمى نخبة الفِكَر، ولما عاد خلع عليه بيبرس لقب قاضي القضاة وشيخ الشيوخ بحماة. وليس من الواضح غرض السفارة ولكن من المفيد أن نورد بعضاً مما قاله ابن واصل عن هذه السفارة:
وكان الإمبراطور من بين ملوك الفرنج مصافياً للمسلمين، ويحب العلوم، أكرمني وأقمت عنده في مدينة من مدائن أنبولية Puglia، واجتمعت به مراراً، ووجدته متميزاً ومحباً للعلوم العقلية، وبالقرب من البلد الذي كنت فيه، مدينة تسمى لوجاره Lucera، أهلها كلهم مسلمون من أهل جزيرة صقلية، تقام فيها الجمعة، ويعلن بشعار الإسلام، ووجدت أكبر أصحاب الإمبراطور منفريد مسلمين، ويعلن في معسكره بالأذان والصلاة، وبين البلد الذي كنت فيه وبين رومية مسيرة خمسة أيام.
وفي سنة 672 جاء ملك الكرج، وهي جورجيا اليوم، ليزور بيت المقدس وكنيسة القمامة متنكرا في زي الرهبان ومعه طائفة؛ فبلغ خبره والي يافا الأمير بيليك الخازندار، فبعث إليه، وقبض عليه، وسيره للسلطان بدمشق، فسأله حتى اعترف، فأنزله ببرج من أبراج القلعة، وأرسل شخصين  إلى بلاده ليعرفهم بأمره، حتى إذا تأكد السلطان من حقيقته أعاده معززاً مكرماً.
وفي سنة 663 أدخل الملك الظاهر تغييراً على نظام القضاء في مصر حين جعل فيها أربع قضاة يتبعون المذاهب الأربعة، وكل منهم في مرتبة قاضي القضاة، بعد أن كان قاضي القضاة يعين من مشايخ المذهب الشافعي، وله نواب ثلاثة يتبعون المذاهب الثلاثة، ثم فعل ذلك ببلاد الشام في سنة 664.
ترك الظاهر بيبرس مجموعة ضخمة من الآثار العمرانية في مصر والشام والحجاز، تضم القلاع العسكرية، والجسور، والمساجد والمدارس، والمرافق العامة مثل الحمامات والمستشفيات والخانات وصهاريج المياه وخلجان الري والسدود، وكان يضع على المنشآت الوقفية لوحة رخامية فيها نص الوقف، ومن آثاره مدرسته الظاهرية وسبيل الماء ومدرسة للأيتام بين القصرين في القاهرة، وعمل على النيل جسراً سمي بقناطر السباع لوجود تماثيل للأسود عليه، وعمل مسجداً في أعلى منارة الإسكندرية، وعمل وقفاً للقطط في القاهرة اسمه غيط القطط، وفي سنة 666 أرسل إلى الحرم المدني منبراً بديع الصنع بدل المنبر الذي تلف في حريق المسجد، وأنشأ سنة 670 المدرسة الظاهرية الجوانية بدمشق، وهي اليوم مقر دار الكتب الظاهرية الواقعة قبالة المجمع العلمي العربي بدمشق، ولما توفي دفن فيها  ثم دفن فيها ولده الملك السعيد.
مرض الظاهر بيبرس قرابة 10 أيام وهو في دمشق، ثم قضى نحبه في السابع والعشرين من المحرم، فكتم الأمراء موته، ومنعوا من هو داخلٌ من المماليك من الخروج، ومن هو خارجٌ منهم من الدخول، وأرسلوا بالخبر إلى ابنه الملك السعيد في مصر، ورثاه كمال الدين الشيباني الدمشقي،  أحمد بن محمود المعروف بابن العطار، المولود سنة 626 والمتوفى سنة 702، فقال:
ملكٌ بكته أرائك وترائك ... وملائك وممالك لا تحصر
ولكم بكته حُصُنه وحصونه ... ونزيله ونزاله والعسكر
وكان الملك الظاهر بيبرس قد أعلن ابنه محمد بركة ولياً لعهده في سنة 666، وعمره 8 أعوام!، وأخذ له البيعة من الأمراء ولقبه بالملك السعيد، فلما توفى الظاهر تولى السلطنة الملك السعيد، ثم اضطرب عليه أمر الشام سنة 678 فخرج إليها بجيش، ولما بلغ دمشق، علم بأن الخارجين عليه توجهوا إلى مصر للمناداة بخلعه، فركب وسبقهم إلى القاهرة، ودخل قلعتها، فحاصره الثائرون، فصالحهم على أن يخلع نفسه وتكون له الكَرَك في شرق الأردن، ورحل إليها فتسلمها بما فيها من أموال عظيمة، ثم لم يكد يستقر حتى تقنطر به فرسه، وهو يلعب الكرة، فحُمَّ ومات.
ولما خلعت الأمراء الملك السعيد سلطنوا مكانه أخاه سلامش ولقبوه بالملك العادل، وكان ابن سبع سنين، وقام بتدبير مملكته الأتابك قلاوون الألفي، وكان من المقربين للظاهر بيبرس، ولم يلبث قلاوون أن خلع العادل سلامش في السنة نفسها، وأرسله إلى قلعة الكرك، فنشأ بها، وأعلن قلاوون نفسه سلطاناً، وعمره 58 عاماً، فانتهى بذلك حكم أولاد الظاهر بيبرس.
توفي الظاهر بيبرس وقد تزوج أربع زوجات، أولاهن بنت مقدم الخوازمية بركة خان، الذي كان حليف المغول ومندوبهم في العراق، وثلاث هن بنات أمراء ذي أصل مغولي، وخلّف ثلاثة أولاد وسبع بنات.
وتزوج الأمير المملوكي لاچين بن عبد الله المنصوري، المولود سنة 635، إحدى بنات الظاهر بيبرس السبع، وكانت دينة عفيفة، وأصبح لاجين نائب السلطنة في أيام الملك العادل كتبغا ثم خلعه وتولى السلطنة سنة 695، وتلقب بالملك المنصور، وجعل مملوكه منكوتمر نائبا للسلطنة، فأساء السيرة، فكره الناس لاچين، فقام بعض مماليك الأشرف خليل فقتلوه في قصره سنة 698، وكان فارساً وسيماً، عاقلا يحب العدل ومجالسة الفقهاء، أبطل كثيرا من الضرائب، وكان مثل بيبرس شجاعاً، لما بلغه أن قازان ملك الدولة المغولية في إيران كان يدعو الله في صلاته أن يطيل عمره حتى يلتقي مع قازان وجيشه، وقال: أختار من عسكر مصر ألفى فارس ممن أعرف فيه النجابة والفروسية، وأصدم قازان حيث كان، ولو كان في عشرين ألف فارس، ويعطى الله النصر من يشاء.
وتزوج إحدى بنات الظاهر بيبرس الأمير عز الدين أًيْبَك الطويل المنصوري الخزندار، وكان من الصالحين الأتقياء الموصوفين بالصدقة والإحسان، وكان أمير الحج غير مرّة، وتوفي بدمشق عن عمر مديد في سنة 706 ودفن بقاسيون.

 
log analyzer