الجمعة، 26 سبتمبر 2014

حدث في الثاني من ذي الحجة

في الثاني من ذي الحجة من عام 1271 الموافق 16 آب/أغسطس 1855 بدأت في القِرِم معركة تشِرنايا، النهر الأسود؛ وهو نهر على ضواحي سيباستوبول عاصمة القرم، بين الجيش الروسي وبين قوات التحالف العثماني الفرنسي الإيطالي، وانجلت المعركة عن اندحار ذريع للقوات الروسية، وكانت بداية النهاية لحرب القرم التي دامت قرابة سنين ونصف، من 1270=1853 إلى سنة 1272=1856، وخلفت وراءها مئات الألوف من القتلى والجرحى والمصابين.
كان السبب الظاهري المباشر لهذه الحرب التنافس بين روسيا وبين فرنسا على امتيازات الكنائس المسيحية في فلسطين التي كانت تحت الحكم العثماني، أما السبب العريق فيعود إلى عهد بطرس الأكبر التي جلس على عرش روسيا من سنة 1107=1696 إلى وفاته سنة 1137=1725، حيث أرسى استراتيجية اتبعتها الحكومات الروسية المتعاقبة، وهي توسيع رقعة روسيا حتى تصل إلى البحرين: البحر الأسود في الجنوب وبحر البلطيق في الشمال الغربي، وتتطلع للاستيلاء على القسطنطينية - إن أمكن - لكون روسيا وريثة الإمبراطورية البيزنطية في كونها دولة الكنيسة الأرثوذكسية، وينبغي أن تكون لها زعامة النصارى الأرثوذكس في العالم.
وقد ساعد روسيا أن الدولة العثمانية لم تعمل على أسلمة رعايا البلقان؛ بل تركت لهم حريتهم الدينية وحكومتهم الذاتية ولغتهم القومية، فاستغلت روسيا الروابط الدينية والقومية التي تربطها بسكان البلقان، وعملت دائماً على خلق المتاعب في وجه السلطان، وسارعت إلى نصرة الثائرين بقواتها.
ونظراً للضعف الذي طرأ على الدولة العثمانية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين، سعى القيصر لتحقيق توسع روسي في الرقعة الجغرافية والنفوذ السياسي على حساب الرجل المريض، كما كانت تسمى الدولة العثمانية، ولكن ذلك أخاف بريطانيا وفرنسا فوقفتا له بالمرصاد.
وكانت الدولة العثمانية في تلك الفترة رجلاً مريضاً يتعاقب على علاجه أطباء لا يحملون له الود ولا يريدون له العافية التامة، ذلك إن السلطان عبد المجيد، المولود سنة 1234=1822، تسنم العرش سنة 1255=1839 بعد وفاة والده محمود الثاني وقد تزلزت أركان الدولة العثمانية، فجيوش محمد علي باشا المنتصرة في موقعة نصيبين تتجه شمالاً نحو القسطنطينة، ولولا تدخل الدول  الغربية ومعها روسيا خشية من دولة فتية طموحة تقوم على أنقاض الدولة العثمانية المترهلة، لصار محمد علي باشا سلطان المسلمين، وتلا ذلك فتنة جبل لبنان التي تدخلت فيها الدول الأوربية حماية للأقلية المسيحية من عدوان الدروز.
أما الامتيازات للكنائس المسيحية في فلسطين، فقد كانت فرنسا تسعى دائماً في علاقتها بالدولة العثمانية وفي المعاهدات التي تنجزها معها، أن تحصل للكنيسة الكاثوليكية على امتيازات تمثيل النصارى في فلسطين وإدارة ما فيها من الكنائس الكبيرة والمشاهد المسيحية المقدسة، ولعل ذلك استمرار لتيار الحروب الصليبية في العقلية الفرنسية، وحصلت فرنسا في سنة 1740 على امتياز يمنح الرهبان الكاثوليك امتياز امتلاك وإدارة الكنائس والمشاهد في فلسطين.
وكان للرهبان الأرثوذكس نفوذ هائل على الحكام والرعايا الروس، وكان القيصر يعتبر نفسه حامي الكنيسة الأرثوذكسية تديناً وسياسة، مَثَلُه في هذا مَثل السلطان العثماني إزاء المسلمين في العالم، وكان من شأن نجاح هذه السياسة أن  تمنح القيصر نفوذاً كبيراً بين الأرثوذكس من رعايا السلطنة العثمانية، والذين بلغ عددهم أكثر من عشرة ملايين شخص، فأصبحوا الدين الثاني بعد الإسلام، ولذا سعت روسيا لتجريد الكاثوليك من هذا الامتياز وإعطائه للأرثوذكس.
وتعدى القساوسة الأرثوذكس على الامتيازات الكاثوليكية في غفلة من فرنسا حين انشغلت قرابة 60 سنة بالثورة الفرنسية سنة 1789 ثم بحروب نابوليون والحكومات الملكية الضعيفة، حتى جاءت ثورة 1848 وتلاها تعيين نابوليون الثالث رئيسا للجمهورية الفرنسية الثانية، وكان رجلاً طموحاً يتوق للحكم الفردي، بعيداً عن الأحزاب والشخصيات الكبيرة، وكان من سياسته في مواجهتهم أن يستعين بالشارع الفرنسي، وأراد استمالة الرأي العام في فرنسا فسعى لدى الدولة العثمانية لاستعادة ما خسرته الكنيسة الكاثوليكية من كنائس وأديرة، فعينت لجنة من أعضاء مختلفي المذهب للفصل في الأمر بمقتضى المعاهدات القديمة، فقررت في سنة 1268=1852 أحقية الكاثوليك في امتلاك عدة كنائس وأديرة.
وعارضت روسيا هذا القرار وهددت بالحرب لو نفذ، وبدأ القيصر نقولا الأول اتصالاته مع بريطانيا وفرنسا ليستميلهما في الحرب التي عزم على تأجيجها، فعرض على حكومة الملكة فكتوريا العمل سوية لإضعاف نفوذ فرنسا في الشرق، وتقاسم تركة الرجل المريض فتأخذ بريطانيا مصر وجزيرة كريت مقابل أن تأخذ روسيا المناطق الأرثوذكسية في السلطنة العثمانية، ولكن بريطانيا أجابت القيصر أن من الأولى معالجة هذا المريض لا القضاء عليه، ولم يكن ذلك إلا لمنع روسيا من الوصول للبحر المتوسط ومنافسة بريطانيا في السيطرة على البحار والمحيطات.
ولما أوصدت بريطانيا الباب في وجه القيصر اتصل بفرنسا وعرض عليها مقابل أن تتنازل عن طلباتها في فلسطين أن تتفق روسيا معها على احتلال تونس والحد من النفوذ البريطاني في البحر المتوسط، ولكن فرنسا رفضت أي تعاون لأن نابليون الثالث كان يسعى لإرجاع مجد فرنسا الغابر وجعلها صاحبة الكلمة الأولى في أوروبة كما كانت في عهد عمه نابليون الأول، ووجود روسيا قوية متنفذة سيحول دون ذلك.
وأجرى نابليون الثالث مباحثات مع بريطانيا للتعاون ضد روسيا ولتنفيذ المعاهدات الخاصة بالنصارى في فلسطين، والتي من شأنها أن تحد من النفوذ الروسي في الشرق العربي وبين الرعايا العثمانيين من الأرثوذكس، وحيث كانت الحكومة البريطانية قد اطلعت على المطامع الروسية الخطيرة فلم تكن بحاجة لمزيد إقناع لكبح المخطط الروسي، فوقفت مع فرنسا إلى جانب تركيا، وأخذت تعمل على المحافظة عليها، ولكنها لم تر بأساً من اقتطاع كثير من أملاكها في الوقت المناسب.
وأصدرت روسيا إنذاراً أرفقته بشروط منها أن يكون لروسيا حق حماية جميع المسيحيين الموجودين ببلاد الدولة العثمانية، ورفضه الباب العالي مع إعلانه احترامه حقوق الكنيسة الأرثوذكسية، فغادر السفير الروسي في منتصف سنة 1269= 1853، وبدأت سحب الحرب تتلبد في سماء الآستانة.
وكانت فرنسا قد أرسلت أسطولها إلى بحر إيجة استعدادا للحوادث، وأرسلت بريطانيا عدداً من السفن الحربية لتتربص في مالطة، ثم اجتمعت هذه السفن واتجهت لمضيق الدردنيل لمساعدة العثمانيين في حالة هجوم روسي صار وشيكاً.
واحتلت روسيا بعدها بأيام مولدافيا وشرق أوكرانيا وتوفقت على ضفة نهر الدون الشرقية، وأعلنت أنها ستنسحب منها حين تقبل الدولة العثمانية بتنفيذ مطالبها، وكانت تلك مناورة ومجازفة خطيرة أراد القيصر منها فرض الأمر الواقع على الدول الأوربية الأخرى، وكان يتوقع منهم أن يسايروه، وكان يتوقع تأييداً كاملاً من النمسا والمجر، وكان ابنه الأمير الكساندر متزوجاً من أميرة نمساوية، ولأنه سبق وأن ساعد صديقه الإمبراطور فرانسو جوزيف في قمع الثورة المجرية سنة 1848.
ورغم أن النمسا كانت لا تخفي عداءها للعثمانيين الذين اقتطعوا جانباً كبيراً من أملاكها في البلقان وفي الدانوب، وكانت تسعى دائماً لاسترداد ممتلكاتها، إلا أن مصالح النمسا كانت لا تختلف عن مصالح الدول الأوربية الأخرى في عدم تقوية النفوذ الروسي، واستناداً إلى علاقته الجيدة مع روسيا، دعا الإمبراطور إلى مؤتمر في فيينا للوصول إلى حل للأزمة الناشبة وتجنب الحرب، وطلب من الطرفين بقاء جيشيهما في مكانيهما والامتناع عن القتال حتى انعقاد المؤتمر وتوصله للقررات المناسبة.
وانعقد مؤتمر فيينا في آخر سنة 1269=1853 وسَعَت الدول لتجنب الحرب التي ستنشب في ظروف أوروبية متقلبة بسبب الروح الثورية التي عصفت ببلدانها، وتمخض المؤتمر عن صيغة اتفاق غامض العبارة سهل التأويل، قبلته روسيا ورفضته الدولة العثمانية، وعاضدتها في ذلك فرنسا وبريطانيا، فأصدر الباب العالي إلى الأمير جورشاكوف قائد الجيوش الروسية المحتلة إنذاراً بإخلاء الأراضي المحتلة خلال 15 يوماً، وإلا فستعتبر بقاء الجيوش فيها إعلانا للحرب.
ولم تستجب روسيا لهذا الإنذار فاجتازت الجيوش العثمانية بقيادة عمر باشا النهر في أول صفر من عام 1270، وجرت موقعة عظيمة هائلة انتصرت فيها الجيوش العثمانية على الجيوش الروسية وأخرجتها من معاقلها، وكان ذلك فوزا غير متوقع أدهش العالم، ثم حل الشتاء وتوقف القتال.
وفي هذه الأثناء رست السفن الفرنسية والبريطانية في البوسفور بموافقة الدولة العثمانية، لتكون أقرب إلى البحر الأسود وإلى حماية الاستانة لو حاول الروس الهجوم عليها بحرا، وفي 28 صفر سنة 1270= 30 نوفمبر سنة 1853، قام الأسطول الروسي في البحر الأسود بهجوم مباغت على الأسطول التركي الراسي في ميناء سينوب ودمره عن آخره، رغم أن روسيا تعهدت لفرنسا وبريطانيا ألا تقوم بأي عمل عدواني في البحر الأسود إذا لم تدخله سفن الدولتين، وعقب الهجوم أمرت الدولتان سفنها بالدخول إلى البحر الأسود، وأعلمت روسيا أنها ستصد أي اعتداء روسي على الموانيء أو السفن التركية.
وفي محاولة أخيرة لتجنب الحرب أرسل نابليون الثالث رسالة خطية إلى القيصر نقولا يعرض عليه عقد مؤتمر للصلح بشرط انسحاب الروس من الأراضي التي احتلوها، وتعهد له مقابل ذلك بسحب السفن من البحر الأسود، فأجابه القيصر يرفض التراجع عن موقفه أو سحب القوات ما دام عنده جندي واحد، وأنه لا يظن أن نابوليون الثالث كان يفعل غير ذلك لو كان في مكانه! وأصبح السؤال متى تنشب الحرب فلم يعد هناك شك في وقوعها، وسحبت فرنسا وبريطانيا سفيريها لدى روسيا، وهو في العرف الدبلوماسي آخر عمل سلمي قبل إعلان الحرب.
وخشي القيصر أن تنضم النمسا وألمانيا إلى الحلف الفرنسي البريطاني، فحاول استمالتها لتبقى على الحياد، ولكن محاولته لم تحقق النجاح المؤكد الذي كان يلتمسه، فقد كانت النمسا لا ترغب في أن تتوسع روسيا غربي نهر الدون في المناطق التي تعتبرها امتداداً لنفوذها السياسي.
وفي منتصف سنة 1270=1854 أعلنت فرنسا وبريطانيا اتفاقهما على الوقوف بجانب الدولة العثمانية في مواجهة العدوان الروسي، وأن ترسل فرنسا 50.000 جندي وبريطانيا 25.000 بشرط أن تنجلي جميعها عن بلاد الدولة بعد خمسة أسابيع من عقد الصلح مع روسيا، والتزام الدولتين بالحفاظ على سلامة الأراضي العثمانية ومنع ضم أي جزء منها إلى روسيا، وأن لا تباحث إحداهما روسيا بشأن الصلح أو توقيف القتال إلا بالاتفاق مع حليفتها، وخلال شهر حشدت الدولتان الجيوش وجمعت المؤن والذخائر وأنزلتها في خليجي غاليبولي والاستانة.
وابتدأ القتال في البحر الأسود قبل وصول الجيوش البرية، فقد أطلقت قلعة أوديسا نيران مدافعها على سفينة بريطانية جاءت ترفع العلم الأبيض لإجلاء  قنصل بريطانيا ورعاياها، فطلب الأدميرال البريطاني اعتذاراً عن هذا العمل العدائي، ولما لم يأته الجواب، قامت السفن البريطانية والفرنسية بقصف المدينة حتى تركتها قاعاً صفصافا، ثم بدأت في قصف ميناء سيباستوبول والموانئ الروسية في البحر الأسود.
وفي تلك الفترة أعلن القيصر نقولا الحرب على الدول المعادية، واجتازت جيوشه نهر الدون وحاصرت مدينة سلستريا 35 يوماً دون أن تتمكن من احتلالها، وكان هذا أول إخفاق للجيش الروسي الذي بلغ عدده 60000 جندي حيث صمدت له القوات العثمانية عددها 15000 جندي بقيادة القائد عمر باشا ذي الأصل الصربي، والذي ما أن رفع الروس الحصار عن المدينة حتى طاردهم بل وعبر نهر الدون وكاد يسترجع الأراضي من يد الروس المنسحبين لولا أن جاءت الجيوش النمساوية واحتلتها ومنعت عمر باشا من اتباع الروس حتى دخلوا أراضيهم، وكان هذا التصرف النمساوي بموجب اتفاق عقدته النمسا مع فرنسا وبريطانيا والدولة العثمانية، كحل وسط ريثما تتم المفاوضات النهائية، حيث لا يشكل ذلك أي تهديد للروس لعدم ميل النمسا للحرب.
وقررت الدول المتحالفة الهجوم على القرم وتدمير الأسطول الروسي الراسي في سيباستوبول، وبخاصة عندما علمت أن الكوليرا بدأت تنتشر في صفوفه، فأنزلت في آخر سنة 1270=1854 شمالي سيباستوبول 60000 جندي من الفرنسيين والأتراك والبريطانيين والمصريين، ودحروا هجوماً روسياً في ألما وردوه على أعقابه، ولكنهم لسوء تقديرهم أخطأوا فلم يتعقبوه، فمنحوه فرصة في التقهقر إلى  مدينة سيباستوبول التي كانت لم تستكمل استحكاماتها، وصارت لدى الروس فرصة لاتمام تحصينها برا وبحرا على نحو جعل الاستيلاء عليها من أصعب المهام، وتابع المتحالفون سيرهم جنوباً لحصار سيباستوبول ولم تستطع الهجمات الروسية المتكررة أن تحقق أية نتائج تغير سير الحرب، وبدأت الجيوش المتحدة في حصار سيباستوبول تمهيداً لاقتحامها والاستيلاء عليها، ولكن المقاومة الروسية المستميتة جعلتهم يعدلون إلى قرار استنزافها عبر حصار طويل.
واستمر الحصار سنة كاملة جرت فيها تطورات مهمة على الصعيد السياسي، فقد توفي في أثنائها القيصر نيقولا وتولى بعده ابنه الكساندر الثاني، وحاولت فرنسا وبريطانيا استمالة الدول الأوربية الأخرى للدخول في حلفها، فرفضت ألمانيا ووافقت النمسا وإيطاليا، وكانت إيطاليا في بدايات اتحادها وعلى خصومة مع النمسا التي كانت تحتل مقاطعتي لومبارديا وفينيتو، ولذلك قرر الملك فكتور إيمانويل الثاني الانضمام للتحالف الفرنسي البريطاني، حتى تعضد الدولتان موقف إيطاليا في سعيها للوحدة والاستقلال التام، ولذا أرسل جيشاً من 18000 جندي من مقاطعة ساردينيا يقوده الجنرال ألفونسو لا مارمورا.
وحقق المتحالفون انتصارات متتالية على الصعيد العسكري، واحتلوا عدداً من المدن والثغور واستطاعوا منع الإمدادات من الوصول إلى سيباستوبول، كانت ذروتها معركة تشرنايا التي نتحدث عنها.
وكان القيصر الكساندر الثاني قد أصدر أوامره للقائد الروسي الأمير ميخائيل جورشاكوف بالهجوم في أسرع وقت على القوات المتحالفة بغرض إجبارها على الانسحاب من حصارها لسيباستوبول، وكانت القوات المتحالفة التي ضربت الحصار تتكون من 10000 جندي عثماني يقودهم عثمان باشا، و18000 جندي فرنسي يقودهم الجنرال أيمابل بليسّيير، و9000 جندي إيطالي، وفي مواجهتهم من الروس 47000 جندي مشاة، و10000 من الخيالة و270 مدفعاً، موزعين على فرقتين.
وكان القيصر قد أدرك أن تحقيق انتصار نهائي في هذه الحرب قد صار بعيد المنال، ولكنه كان يأمل من وراء الهجوم أن يحقق نصراً يقوي موقفه في التفاوض لإنهاء الحرب بشروط أفضل، وإزاء أمر القيصر قيَّم جورشاكوف الموقف العسكري وانتهى إلى أن تحقيق الانتصار المأمول أمر مستبعد، ولكن فرص انتصاره ستكون أكثر بكثير لو فاجأ القوات الفرنسية والساردينية بهجومه في 16 آب/أغسطس حيث سيكون الفرنسيون يحتفلون بعيد الإمبراطور والإيطاليون بعيد الصعود، وقرر أن تتحرك قواته تحت غطاء الضباب في الصباح المبكر، وترابط على ضفاف نهر تشرنايا، ثم تنطلق من مواقعها لتشن هجوماً ذا شعبتين يطوق القوات المتحالفة، وأمر جورشاكوف قواته ألا تعبر النهر وتبدأ في الهجوم إلا عندما يأمرها بذلك.
وفي صباح ذلك اليوم تحركت القوات الروسية إلى ضفاف النهر، ولكن تحركها كان بطيئاً فخشي جورشاكوف أن ينكشف أمرها ويفقد عنصر المفاجأة، فأرسل رسالة يستحث قائديه على سرعة الحركة يقول فيها: تحركوا! تحركوا! ولكن الجنرالين فهما الرسالة على أنها إشارة ببدأ الهجوم، فعبرا بقواتهما النهر وقوات الاحتياط لما تزل في طريقها إلى ساحة المعركة، ودون دعم من الخيالة أو المدفعية.
وعلى الفور واجهت القوات الروسية المهاجمة مقاومة صلبة من القوات الفرنسية والإيطالية، واستطاع الفرنسيون عند إحدى الهضبات التصدي لهجوم الميمنة، فزج القائد الروسي بقوات الاحتياطي لزحزحة الفرنسيين ولكنه بدلاً من أن يدفعها كلها في هجمة واحدة أرسلها كتيبة تلو أخرى فلم تستطع اجتياح المواقع الفرنسية، ولما رأى جورشاكوف ذلك أمره بأن يزج كل قواته في الهجوم، ففعل وأجبر الفرنسيين على التقهقر للخلف، ولكنه لم يتمكن من احتلال الهضبة وترسيخ مواقعه، واضطر في النهاية للانسحاب.
وقُتل القائد الروسي أثناء الانسحاب فتولى جورشاكوف قيادة الميمنة، وأمر الميسرة أن ترسل بعض كتائبها لتقوى الميمنة، ولكن الساردينيين أصلوها بنيرانهم ولم يمكنوها من الالتحاق بالميمنة، وبحلول الضحى قرر جورشاكوف أن لا فائدة من الاستمرار فأمر بالانسحاب العام، وخسر الروس في المعركة 4000 قتيل ومفقود و4000 جريح، أما القوات المتحالفة فكان إجمالي إصاباتها 1700 من قتيل ومفقود وجريح.
وأبدت القوات الروسية بسالة في هذه المعركة واستماتت في هجومها رغم القصف المدفعي وانكشافها لنيران العدو، ولكن سوء التنظيم وكون أغلب الجنود من الأغرار قليلي الخبرة بالمعارك، جعل الدائرة تدور عليهم، وقد شهد هذه المعركة الكاتب الروسي الشهير الأديب الزاهد الحكيم ليو تولستوي، وكان عمره 27 سنة، وعاد منها مفعماً بالمرارة بعد أن رأى الجنرالات يزجون بالجنود الشجعان ليحصدهم القصف المدفعي مجموعة تلو الأخرى، ثم رآهم ينسحبون ويخلفون وراءهم آلاف القتلى، وقد نظم تولستوي أبياتاً بهذه المناسبة شاعت بين الجنود الروس تقول: ما أحكم خطتكم عندما رسمتوها على الورق، ولكنكم نسيتموها تماماً عند احتدام المعركة في الخنادق! وتحت قصف المدافع كتب تولستوي كتابه الذي أذاع شهرته: قصص سيباستوبول، وفيه تبدو شخصية تولستوي وإجلاله للحقيقة والشمائل الإنسانية والحب الأخوي ومقته لكل مظاهر الطغيان والعنف.
وبعد أسبوع من معركة تشرنايا بدأت القوات المتحالفة في قصف سيباستوبول للمرة السادسة والأقسى، فصبت مدفعيتها حمم 150000 قذيفة كانت توقع بالروس قرابة 3000 إصابة كل يوم، وبعد ثلاثة أيام شنت هذه القوات هجوماً على الروس الذين استبسلوا في الدفاع عن مواقعهم وأفشلوا الهجوم البريطاني، ولكنهم ما لبثوا أن انسحبوا من سيباستوبول بعد أن أحرقوا منها ما لم تدمره المدافع، وانتهت بذلك حرب القرم، مخلفة وراءها مئات الآلاف من القتلى والجرحى ومن توفي بالكوليرا وغيرها من الأمراض.
وبعد سقوط سيباستوبول أدركت روسيا أن من المستحيل عليها الانتصار على هذه القوى المتألبة ضدها، وتقدمت النمسا بوساطة قبلتها روسيا على الفور وانجلت عن الدعوة إلى مؤتمر انعقد في باريس وأقر في رجب 1272=1856 معاهدة باريس التي تضمنت إعلان السلام بين الدول المتحاربة والعودة إلى حدود ماقبل الحرب، أي إعادة شبه جزيرة القرم لروسيا، وإبقاء البحر الأسود خالياً من السفن العسكرية.
شاركت في حرب القرم قوات مصرية وأبلى جنودها بلاء حسناً في ميدان القتال، وقدموا شهداء من ضباطهم وجنودهم، وقد قال في ذلك الأديب عبد الله فكري المتوفى سنة 1306= 1889:
لقد جاء نصر الله وانشرح القلب ... لأنَّ بفتح القرم هان لنا الصعبُ
وقد ذلت الأعداء في كل جانب ... وضاق عليهم من فسيح الفضا رحب
بحرب تشيب الطفل من فرط هولها ... يكاد يذوب الصخر والصارم العضب
إذا رعدت فيها المدافع أمطرت ... كؤوس منون قصَّرت دونها السحب
ورغم انتهاء حرب القرم بهزيمة الروس إلا أنها مكنتهم من التفرغ لقتال الإمام شامل في القوقاز، الذي طال الأمد على ثورته، فجهزوا جيشاً من 60.000 جندي بدأ في تضييق الخناق عليه، ونشط جواسيسهم وعملاؤهم لاستمالة بعض القبائل والأعيان إلى بما كانوا ينثرونه من الأموال الطائلة، فلما كان أواخر سنة 1274=1858 كان كثير من أهل الجهات النائية قد خرج على الإمام شامل، وأخذ يقوم ببعض الخدمات للقوات الروسية، كشق الطرق وحراستها وما إلى ذلك، وفي سنة 1275=1859 ضيقوا عليه الحصار في مكمن تلو الآخر حتى استسلم  في صفر من سنة 1276.
سبق الحديث أن السبب المباشر للحرب هو الامتيازات الأجنبية التي منحتها الدولة العثمانية للرعايا والدول الأجنبية، وهو أمر في أصله مبني على سماحة الإسلام في ترك غير المسلمين يمارسون شعائرهم وتقاليدهم الخاصة، ولكن ذلك خرج عن ذلك ليصير الرعايا غير المسلمين محور تنافس بين الدول الغربية، ثم صار وسيلة للتدخل في شؤون الدولة العثمانية وغيرها من الدول التابعة لها،  ولم ينته هذا الأمر مع حرب القرم، بل من المضحك المبكي أن تركية عقدت في سنتي 1861-1863 معاهدات تجارية جديدة مع فرنسا وبريطانية وإيطاليا وروسيا والنمسا والولايات المتحدة وألمانيا، وكلها تؤيد حق هذه الدول في حماية رعايها في دولة السلطنة.
تبلغ مساحة شبه جزيرة القرم 27.000 كيلومتراً مربعاً، وهي مساحة لا تذكر إزاء مساحة روسيا التي تبلغ  17 مليون كيلومتر مربع، ولكن موقع القرم الاستراتيجي وموانئها الطبيعية جعلوها في غاية الأهمية، وفتح العثمانيون القرم سنة 880= 1475 في أيام السلطان محمد الفاتح، المولود سنة 833 والمتوفى سنة 886، حين طردوا من سواحلها قوات مدينة جنوة الإيطالية التي كانت ناشطة في التجارة عبر البحار، وبذلك أصبحت القرم دويلة تابعة للدولة العثمانية، يعين السلطان حاكمها الملقب بالخان، وكان الإسلام قد وصل القرم قبل ذلك بقرون، وانتشر في أهلها من التتار المشهورين بالفروسية والشجاعة، حتى إن روسيا كانت تدفع مبلغاً سنوياً بصورة جزية لأمراء القرم حتى لا يهاجموا قوافلها التجارية، وبعد الفتح أصبح التتار من الفرق المهمة الشديدة البأس في جيوش محمد الفاتح والسلاطين من بعده.
وهذه الحرب التي تحدثنا عنها حلقة في سلسلة من الحروب التي خاضتها روسيا لإبقاء القرم تحت سيطرتها بعد أن اشتد عودها وتمكنت دولتها المركزية، ولعل أول محاولة روسيا ناجحة هي التي كانت في سنة 1107=1695 حين احتلت جيوش بطرس الأكبر مدينة آزوف، في أيام السلطان مصطفى الثاني، المولود سنة 1074والمتوفى سنة 1115، ولكن السلطان الذي اتصف بالشجاعة وكان ينفسه يقود الجيوش، هزم الروس وأجبرهم على الانسحاب.
ثم احتلت روسيا القرم في حرب سنة 1184= 1770 في أيام الإمبراطورة كاترين الثانية، وأقامت عليها خاناً من عملائها يدعى شاهين خان، وأخفقت الدولة العثمانية في استردادها ودمر الروس أسطولها في معركة ميناء چشمه في بحر إيجه، واضطر السلطان عبد الحميد الأول لعقد اتفاقية سلام مع روسيا، عرفت بمعاهدة قينارجه، وتضمنت تخلي العثمانيين عن القرم لتقوم فيه دولة مستقلة من أهله التتار، ومما جاء في الاتفاقية أن: الدولة العلية ودولة روسيا لا تتدخلان في أمر انتخاب الخانات المومأ إليهم، ولا في أمور حكومتهم بوجه ما، بل يكون حكمهم في حكومتهم وفي الأمور الخارجية كدولة مستقلة مثل سائر الدول المستقلة، وطائفة التتار تكون مقبولة ومعترفا بكونها غير تابعة لأحد سوى الحق سبحانه وتعالى.
وحيث إن الطائفة المذكورة هي من أهل الإسلام، وكون السلطان هو إمام المسلمين فإنها يجب ان تنظم أمورها المذهبية من طرف السلطان بمقتضى الشريعة الإسلامية.
وتضمنت المعاهدة كذلك السماح للسفن الحربية الروسية بالمرور من مضائق البوسفور والدردنيل في أي وقت، بعد أن كانت ممنوعة من ذلك.
وما لبثت روسيا بتأثير الجنرال القدير بوتمكين أن ضربت بالمعاهدة عرض الحائط، وذلك بعد أن تحالفت سراً مع النمسا، واتفقتا على تقاسم مغانم هذه الحرب، بل وإحياء الإمبراطورية البيزنطية في استانبول، فأعلنت الإمبراطورة كاترين ضم القرم في سنة 1783، فاندلعت الحرب ثانية في سنة 1787 وأعلنت النمسا الحرب على العثمانيين مساعدة لروسيا، وحققت الجيوش الروسية انتصارات متتالية في البلقان، ولكن الجيش النمساوي لقي عدة هزائم أمام الجيش العثماني، وتوفي الإمبراطور النمساوي جوزيف الثاني في سنة 1790وخلفه ليوبولد الثاني، وكانت الثورة الفرنسية في  سنة 1789 قد بدأت روحها الثورية في تهديد العروش عبر أوروبا كلها، فسعت النمسا للصلح مع العثمانيين وأبرمت معهم معاهدة سيستوفا سنة 1205=1791، ولكن روسيا استمرت في الحرب، ولما اقتحم جيشها بقيادة الكونت سواروف مدينة إسماعيل، وهي اليوم Izmail في جنوبي أوكرانيا، قاموا بإبادة السكان عن بكرة أبيهم، ثم سارت بريطانيا والنمسا وهولندا في الصلح وتم توقيع معاهدة جاسي في سنة 1206= 1792 والتي كان أهم ما أنجزته للروس هو توطيد نفوذهم في البحر الأسود، والقبول بسيادتهم على القرم، وفي المقابل أعادت للعثمانيين أغلب ما خسروه من أراضي.
وكما رأينا، كانت دول أوروبا الغربية تتوجس الخيفة من روسيا وطموح القيصر لبناء دولة قوية حديثة تنافسها، وقامت هذه الدول مجتمعة بمساع لتجريد روسيا من حق سفنها العسكرية في عبور المضائق، وتكللت هذه المساعي في سنة 1257=1841 في معاهدة دعيت بمعاهدة البوغازات، أي المضائق، والتي تنص الفقرة الأولى منها على أن: جلالة السلطان يعلن عزمه وتصميمه في المستقبل على حفظ واتباع القاعدة القديمة التي بموجبها منعت جميع مراكب الدول الأجنبية الحربية من المرور من بوغازي البوسفور والدردنيل، وأنه ما دامت حالة السلم فلن يسمح لأي مركب حربي أجنبي بالمرور من هذين البوغازين، ويعلن كل من جلالة إمبراطور النمسا، وملك المجر وبوهيميا، وملك فرنسا، وملكة بريطانيا العظمى وإرلندا، وملك بروسيا، وإمبراطور روسيا العظمى، احترام هذا العزم الصادر من جلالة السلطان واتباع القاعدة المقررة سابقا.
ولكن روسيا انتهزت قيام الحرب بين فرنسا وألمانيا في سنة 1870 فألغت المعاهدة، وفي سنة 1877 قامت الحرب بينها وبين تركيا، وتدخلت بريطانيا وأنذرت روسيا بأنها إذا هاجمت القسطنطينية فستضطر إلى التدخل، وأذعنت روسيا للتهديد البريطاني ووقعت مع تركيا معاهدة سان استفانو التي عدلت في مؤتمر برلين سنة 1878، وعقدت معاهدات حافظت على مبدأ إغلاق المضائق في وجه السفن الأجنبية.
أما مسلمي القرم فقد عمدت روسيا لإغلاق المدارس والمساجد، ومطاردة المسلمين وإجبارهم على مغادرة موطنهم القرم، فاضطر كثير من التتار إلى الهجرة إلى تركيا، ونفت روسيا كثيراً ممن بقي إلى مدن روسيا المختلفة لتذويبهم في المجتمع الروسي، وبعد قيام الثورة الشيوعية أعلن الاتحاد السوفياتي عن قيام جمهورية القرم الاشتراكية السوفياتية في سنة 1921، ولكن الاضطهاد لم يتغير وبلغ ذروته تقتيلاً وتهجيراً في أيام ستالين الذي استبدل في سنة 1929 الأحرف اللاتينية بالأحرف التترية، ولما قامت الحرب العالمية الثانية احتل الألمان أوكرانيا والقرم ، وأرسلوا 85000 تتري إلى ألمانيا كأيدي عاملة، وقد تعاون عدد ضئيل من التتار مع الألمان ولكن غالبيتهم قاومت الألمان وحاربت مع الجيش الروس.
وما أن انسحب الألمان أمام الهجوم الروسي المعاكس في سنة 1944، حتى حول الشيوعيون الجمهورية إلى منطقة وشرعوا في إعدام كل من اشتبه بتعاونه مع الألمان، وقاموا بتهجير مئات الآلاف من المسلمين إلى مناطق الأورال وسيبريا وكازاخستان وبقية جمهوريات أواسط آسيا التي تبعد آلاف الأميال عن مواطن سكناهم، وشحنوهم في قطارات في ظروف لا تليق بالحيوان فتوفي منهم ألوف، وقام الشيوعيون بجلب الروس إلى القرم حتى أصبحوا الأغلبية فيها، وبقيت حال المسلمين في القرم وفي مهاجرهم في كرب وضنك، وفي سنة 1954 قام الرئيس خروشوف بضم القرم إلى جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفياتية، وتحدث في سنة 1956 أمام المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي عن جرائم تهجير الشعوب التي أعدها ونفذها سلفه ستالين، وذكر أن تهمة تواطؤ التتار مع الألمان لم تكن صحيحة، وفي سنة 1967 صدر قرار يبرئهم من خيانة الوطن، ولكنهم بقوا محرومين من العودة إلى جزيرتهم حتى سقوط الاتحاد السوفييتي.
وعندما تفكك الاتحاد السوفييتي وأعلنت أوكرانيا استقلالها في سنة 1991، عقد التتار مؤتمراً في مدينة سيباستبول تمخض عن تكوين المجلس التتري، ولكن نسبة المسلمين في القرم، 12% من قرابة مليونين ونصف، لا تزال بعيدة عن أيام كانوا أغلبية في موطنهم وموطن آبائهم وأجدادهم، ومن قريب دار الزمن دورته وانتزعت روسيا القرم من أوكرانيا عنوة وأعادته إليها، ولعل فيما ذكرنا بيان لكثير من الأسباب التي حدت بالروس لذلك وقلة اكتراثهم بالمعارضة الأوروبية الشديدة.

الجمعة، 19 سبتمبر 2014

حدث في الرابع والعشرين من ذي القعدة

في الرابع والعشرين من ذي القعدة من السنة الثامنة للهجرة، عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد غياب 76 يوماً فتح الله فيها على يديه مكة، وحارب قبيلة هوازن وهزمها في معركة حُنين، وحاصر قبيلة ثقيف في الطائف.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عقد قبل سنتين مع قريش صلح الحديبية، ونص المعاهدة: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو؛ اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه، وإن بيننا عَيْبَةً مكفوفة، وأنه لا إسْلال ولا إغْلال، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه. قال في لسان العرب: العيبة: صدرٌ معقودٌ على الوفاءِ بما في الكتاب نقيّاً من الغِلِّ والغدر والخداع.
وتضمن الاتفاق أن يرجع الرسول عن مكة المكرمة، وأنه إذا كان عام قابل خرج المشركون عنها فدخلها بأصحابه، فأقام بها ثلاثا، معهم سلاح الراكب؛ السيوف في القُرَب، لا يدخلها بغيرها.
وكانت بين قبيلة خزاعة وبين بني عبد المطلب حلف قديم من أيام الجاهلية، وبقيت آثاره بعد نبوءة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد ورد في الحديث: كانت خزاعة عيبة النبي صلى الله عليه وسلم؛ مؤمنهم وكافرهم.  ولذا بادرت خزاعة فقالت: نحن في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم.
وكان بين القبيلتين دماء وثأر من أيام الجاهلية، وتوقف هذا النزاع مؤقتاً بسبب ظهور الإسلام وتشاغل الناس به، فلما كانت الهدنة اغتنمها بنو الديل من بني بكر، وأرادوا أن يثأروا من خزاعة، فخرج نوفل بن معاوية الديلي فأغار على خزاعة ليلاً وهم على ماء لهم يدعى الوتير، فأصابوا منهم رجلا، وتحاوزوا واقتتلوا، ورفدت قريشٌ بني بكر بالسلاح وقاتل معهم بعض القريشيين بالليل مستخفيا، وتراجعت خزاعة إلى الحرم، وعادة العرب ألا تقاتل فيه، فقال قومُ نوفل بْن معاوية لنوفل: يا نوفل، اتق إلهك ولا تستحل الحرم، ودع خزاعة، فقال: لا إله لي اليوم، أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه؟!
ودخلت خزاعة دور مكة في دار بديل بن ورقاء الخزاعي، وكان ذلك نقضا للصلح الواقع يوم الحديبية، فخرج عمرو بن سالم الخزاعي، وبديل بن ورقاء الخزاعي، وقوم من خزاعة، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة مستغيثين به مما أصابهم به بنو بكر بن عبد مناة وقريش، وأنشده عمرو بن سالم والرسول جالس في المسجد بين ظهراني الناس:
يا رب إني ناشدٌ محمدا... حِلفَ أبينا وأبيه الأتلدا
قد كنتم وُلدا وكنا والدا... ثُمتَّ أسلمنا فلم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصرا أعتدا... وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا... إن سيم خسفا وجهُه تربّدا
في فيلق كالبحر يجري مزبدا... إن قريشا أخلفوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك الموكدا... وجعلوا لي في كَدَاء رصدا
وزعموا أن لست أدعو أحدا... وهم أذل وأقل عددا
هم بيتونا بالوتير هُجَّدا... وقتلونا رُكَّعا وسُجَّدا
فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم: نُصِرت يا عمرو بن سالم.
وندمت قريش على ما فعلت، فهدى أبا سفيان بن حرب دهاؤه أن يبادر بالذهاب إلى المدينة ليشد العهد بل ويزيد في مدته، ولكنه لقي في المدينة استقبالاً فاتراً من ابنته أم حبيبة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ، ثم أتى النبيَّ عليه السلام في المسجد فكلمه، فلم يجبه بكلمة، وباءت بالفشل محاولاته مع أبي بكر وعمر وفاطمة الزهراء وعلي ليعود بالأمان إلى أهل مكة.
وأعلن الرسول صلى الله عليه وسلم في الناس أنه سائر إلى مكة، وأمرهم بالجد والتهيؤ وقال: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها. وكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش كتابا أرسله مع امرأة يخبرهم بنية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء الرسولَ الوحيُ بذلك فأرسل علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، والمقداد بن عمرو، رضوان الله عليهم، فلحقوا بها وأتوا بالكتاب، واعترف حاطب بخطئه، وعفا عنه الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفي العاشر من رمضان خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيش من عشرة آلاف، لم يقتصر على الأنصار والمهاجرين الذين لم يتخلف منهم أحد، بل تميز بكونه ضم بضع مئات من كل قبيلة من قبائل العرب، واستخلف على المدينة أبا رُهم كلثوم بن حُصين بن عُتبة الغِفاري، وأفطر صلى الله عليه وسلم وشرب على راحلته علانية ليراه الناس، وقال: تَقَوَّوْا لعدوكم. وأمر الناس بالفطر، فأفطر بعضهم وصام بعضهم، فلم يعب على الصائم ولا على المفطر.
وصدف في تلك الأيام أن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم العباس بن عبد المطلب هاجر مسلماً، فلقي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة، فبعث ثِقله إلى المدينة وانصرف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غازيا، وذُكر أيضا أن ابن عم الرسول أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة أخا أم سلمة خرجا أيضا مهاجرين، ولقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الطريق قرب مكة، فأعرض عنهما، فلما نزل استأذنا عليه فلم يأذن لهما، فكلمته أم سلمة فيهما، وقالت: لا يكون ابن عمك وأخي أشقى الناس بك، فقد جاءا مسلمين. فأذن لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلما وحسن إسلامهما.
واستجاب الله دعاء رسوله فأخفى خبره عن قريش التي بقيت على وَجَلٍ وارتقاب، وفي إحدى الليالي خرج أبو سفيان بن حرب، وبديل بن ورقاء، وحكيم بن حزام يتجسسون الأخبار، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزل بالجيوش في وادي مَرِّ الظَّهران على قرابة 20 كيلاً من مكة المكرمة، ورَقَّتْ نفس العباس لقريش، وأَسِفَ على ذهابها، وخاف أن تغشاهم الجيوش قبل أن يستأمنوا، فركب بغلة النبي صلى الله عليه وسلم ونهض، فلما أتى وادي الأراك وهو يطمع أن يلقى حطابا أو صاحب لبن يأتي مكة فينذرهم، فبينما هو يمشي إذ سمع صوت أبي سفيان صخر بْن حرب، وبديل بْن ورقاء وهما يتساءلان وقد رأيا نيران عسكر النبي عليه السلام، فلما سمع العباس كلامه ناداه: يا أبا حنظلة، فميز أبو سفيان كلامه فناداه: يا أبا الفضل، فقال: نعم، فقال له: فداك أبي وأمي، فقال له العباس: ويحك يا أبا سفيان، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس! واصباح قريش! فقال أبو سفيان: فما الحيلة؟ فقال له العباس: هذه والله لئن ظفر بك ليقتلنك، فَارْتَدِفْ خلفي وانهض معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأردفه العباس ولقي به العسكر، ومر على نار عمر، ونظر عمر إلى أبي سفيان فميزه، فقال: أبو سفيان عدو الله، الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هذا عدو الله أبو سفيان، قد أمكن الله منه بلا عقد ولا عهد، فأذن لي أضرب عنقه، فقال له العباس: مهلا يا عمر، فوالله لو كان من بني عدي بْن كعب ما قلت هذا، ولكنه من بني عَبْد مناف، فقال عمر: مهلا، فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب لو أسلم.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم العباس أن يحمله إلى رحله ويأتيه به صباحا، ففعل العباس ذلك، فلما أصبح أتى به النبي عليه السلام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم يأن لك بأن تعلم أن لا إله إلا الله؟ فقال أبو سفيان: بأبي أنت وأمي ما أحلمك، وما أكرمك وأوصلك، والله لقد ظننت أنه لو كان مع الله إله غيره لقد أغناني، قال: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟، قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، أما هذه فإن في النفس منها شيئا حتى الآن، فقال له العباس: أسلم قبل أن تُضْرب عنقك! فأسلم، فقال العباس: يا رسول الله، إن أبا سفيان يحب الفخر، فاجعل له شيئا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. فكان هذا منه أمانا لكل من لم يقاتل من أهل مكة.
ثم قال العباس: يا أبا سفيان، النجاء إلى قومك! فأسرع أبو سفيان، فلما أتى مكة عرفهم بما أحاط بهم، وأخبرهم بتأمين رسول الله صلى الله عليه وسلم كل من دخل داره، أو المسجد، أو دار أبي سفيان.
وفي العشرين من رمضان دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة، وبلغه أن قوماً من المشركين تجمعوا ليقاتلوا، فسرب الجيوش من ذي طوى، وأمر الزبير بالدخول من كَداء في أعلى مكة، وأمر خالد بن الوليد ليدخل من الليط أسفل مكة، وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال من قاتلهم، وكان عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمر قد جمعوا جمعا بالخَندمة ليقاتلوا، فناوشهم أصحاب خالد القتال، وقتل من المسلمين ثلاثة منهم رجلان خرجا عن جيش خالد فقتلا، وقتل من المشركين ثلاثة عشر رجلا، ثم انهزموا.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمن الناس قد استثنى من أمانه: عبد العُزّى بن خَطَل، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعكرمة بن أبي جهل، والحويرث بن نُقَيذ بن وهب، ومِقيس بْن صبابة، وقَيْنَتَيِ ابن خطل: فَرْتَنى وصاحبتها، كانتا تغنيان ابن خطل بهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسارة مولاة هاشم بن عمرو بن عبد المطلب وكانت ممن يؤذيه بمكة.
أما ابن خطل فإنه كان أسلم، وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم مُصدِّقا، وبعث معه رجلا من المسلمين فعدا عليه فقتله، وارتد، ولحق بالمشركين بمكة، فوجد يوم الفتح متعلقا بأستار الكعبة، فقتل.
وأما عبد اللهِ بن سعد بن أبي سرح فكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لحق بمكة مرتدا، فلما كان يوم الفتح اختفى، ثم أتى به عثمان بْن عفان النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وكان أخاه من الرضاعة، فاستأمن له رسولَ صلى الله عليه وسلم، فسكت عنه صلى الله عليه وسلم ساعة ثم أمنه وبايعه، فلما خرج قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم لأصحابه: هلا قام بعضكم فضرب عنقه؟ فقال رجل من الأنصار: هلا أَوْمَأْتَ إِلَيَّ؟ فقال عليه السلام: ما كان لنبي أن يكون له خائنة الأعين. ثم عاش عَبْد اللهِ بن سعد حتى استعمله عمر، ثم ولاه عثمان مصر، وهو الذي غزا إفريقية وافتتحها أول مرة، وحسن إسلامه، ولم يظهر منه بعد في دينه شيء يكره.
وأما عكرمة بن أبي جهل ففر إلى اليمن، فاتبعته امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام فردته، فأسلم وحسن إسلامه، وكان من فضلاء الصحابة.
وأما الحويرث بن نقيذ فكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فقتله علي بن أبي طالب يوم الفتح، وأما مقيس بن صبابة فكان قد أتى النبي عليه السلام قبل ذلك مسلما، ثم عدا على رجل من الأنصار فقتله بعد أن أخذ الدية منه في قتيل له، ثم لحق بمكة مرتدا، فقتل يوم الفتح.
وأما قينتا ابن خطل فقتلت إحداهما، واستؤمن رسول الله صلى الله عليه وسلم للأخرى فأمنها، وأما سارة فاستؤمن لها أيضا وأمنها عليه السلام.
وأراد عليٌّ قتل رجلين من بني مخزوم، قيل: إنهما الحارث بن هشام، وزهير بن أبي أمية أخو أم سلمة، فاستترا عند أخته أم هانئ بنت أبي طالب فأجارتهما وأمنتهما، فأمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمانها، وقال: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ، وأمنا من أمنت. وأسلما وكانا من خيار المسلمين.
وطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكعبة، وصلى داخلها ركعتين، ورد مفتاحها إلى عثمان بن طلحة، وأبقى له حجابة البيت، وقال: خذوها خالدة تالدة إلى يوم القيامة. فهي إلى الآن في ولد شيبة بن عثمان بن طلحة، وأمر عليه السلام بكسر الصور والأصنام التي التي داخل الكعبة وحولها، وأذن له بلال على ظهر الكعبة، ثم وقف على باب الكعبة وقد استُكِفَّ له الناسُ في المسجد، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يُدَّعى فهو تحت قدميَّ هاتين إلا سَدانة البيت وسِقاية الحاج ... يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء؛ الناس من آدم، وآدم من تراب ثم تلا هذه الآية ﴿يَا أَيّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ، ثم قال: يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل فيكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء
وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا يدعو الله، وقد أحدقت به الأنصار، فقالوا: فيما بينهم أترون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها؟ فلما فرغ من دعائه قال: ماذا قلتم؟ قالوا: لا شيء يا رسول الله. فلم يزل بهم حتى أخبروه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: معاذ الله، المحيا محياكم، والممات مماتكم!
وكانت قبيلة هوازن العدو الآخر الذي يترقب الدوائر برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي ضخمة العدد شديدة البأس، وكانت قد تجسست على الرسول صلى الله عليه وسلم قبل دخوله مكة، فقد قبضت طليعة المسلمين على رجل وأتوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنكر ثم أمنوه فاعترف أن هوازن أرسلته وقالوا: ائت المدينة حتى تلقى محمدا فتستخبر لنا ما يريد في أمر حلفائه، أيغزونا أولاً أم يغزو قريش؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأين هوازن ؟ قال: تركتهم وقد جمعوا الجموع وأجلبوا في العرب، وبعثوا إلى ثقيف فأجابتهم، وبعثوا إلى الجُرَش في عمل الدبابات والمنجنيق. فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد أن يحبسه مخافة أن يتقدم ويحذر الناس، ثم هرب فأدركه خالد بن الوليد وقال: لو لا عهدك لضربت عنقك! فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وفتحها أتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه إلى الإسلام فأسلم ثم خرج مع المسلمين إلى هوازن فقتل شهيدا.
ولما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة مشت أشراف هوازن بعضها إلى بعض وثقيف بعضها إلى بعض وحشدوا وقالوا: والله ما لاقى محمد قوما يحسنون القتال فأجمِعوا أمركم فسيروا إليه قبل أن يسير إليكم. فأجمعت هوازن وثقيف وأمروا عليهم مالك بن عوف وهو يومئذ ابن ثلاثين سنة، وكان سيدا يفعل في ماله ويُحمد، فأمر الناس فجاءوا معهم بأموالهم ونسائهم وأبنائهم حتى نزلوا بأوطاس، واجتمع الناس به فعسكروا وأقاموا به وجعلت الأمداد تأتيهم من كل ناحية.
وكان معهم دريد بن الصمة وهو شيخ فانٍ، يزعمون أنه بلغ 160 عاماً، أخرجوه للرأي والخبرة إذ كان مذكوراً بالفروسية والشجاعة من فتوته، فلما نزلوا بأوطاس لمس الأرض بيده. فقال: بأي واد أنتم ؟ قالوا: بأوطاس. قال نِعمَ مجالُ الخيل لا حَزَنٌ ضرس ولا سهل دهس، ثم قال لهم: ما لي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء؟ قالوا: ساق مالكٌ مع الناس أموالهم وعيالهم، قال: أين مالك؟ قيل: هذا مالك، فسأله: لم فعلت ذلك؟ فقال مالك: ليقاتلوا عن أهليهم وأموالهم، فقال دريد: راعي ضأن والله، وهل يرد المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسلاحه، وإن كانت عليك فُضِحت في أهلك ومالك، ثم قال: ما فعلت كعب وكلاب؟ قالوا: لم يشهدها منهم أحد، قال دريد: غاب الحد والجد، لو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب وكلاب، ولوددت أنكم فعلتم ما فعلت كلاب وكعب، فمن شهدها من بني عامر؟ قالوا: عمرو بن عامر، وعوف بن عامر، قال: ذانك الجذعان من عامر لا ينفعان ولا يضران، يا مالك، إنك لم تصنع بتقديم بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئا، ارفعهم إلى ممتنع بلادهم، وعليا قومهم، ثم الْقَ الصُّبَاةَ على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك كنت قد أحرزت أهلك ومالك. فأبى ذلك مالك، وخالفت هوازن دريدا واتبعوه، فقال دريد: هذا يوم لم أشهده ولم يغب عني
يا ليتني فيها جَذَعْ ... أَخُبُّ فيها وَأَضَعْ
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد اللهِ بن أبي حَدْرد الأسلمي ليلاً ليستطلع أخبارهم، فذهب وعاد  وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما شاهد من استعدادهم وحشدهم، فعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قصدهم، واستعار من صفوان بن أمية بن خلف الجمحي دروعا، ولم يشهد غزوة حنين ولا الطائف عروة بن مسعود، ولا غيلان بن سلمة الثقفيان، كانا قد خرجا يتعلمان صناعة المنجنيق والدبابات.
وخرج النبي عليه السلام في السادس من شوال في 12.000 من المسلمين، منهم 10.000 صحبوه من المدينة، و2.000 من مسلمة الفتح، وانضم إليه عدد من الأعراب، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى وادي حُنين، وهو واد من أودية تهامة على بعد 28 كيلاً شرقي مكة، وهو الذي يسمى اليوم وادي الشرائع، كما أفاد ذلك المرحوم المقدم غيث بن عاتق البلادي في كتابه المعالم الجغرافية الواردة في السيرة النبوية.
وكانت هوازن قد كمنت في جنبي الوادي، وذلك في غبش الصبح، ففاجأت المسلمين في حملة رجل واحد، فانهزم جمهور المسلمين ولم يلو أحد على أحد، وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر، ومن أهل بيته علي والعباس والفضل بن العباس،، وأبو سفيان بن الحارث بن عَبْد المطلب وابنه جعفر، وأسامة بن زيد، وأيمن بن عبيد، وهو أيمن ابن أم أيمن حاضنة الرسول، ولم ينهزم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من هؤلاء، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته الشهباء واسمها دُلْدُل، والعباس آخذ بحكمتها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: أيها الناس، إلى أين أيها الناس؟ أنا رسول الله، وأنا محمد بن عبد اللهِ! وأمر العباس وكان جهير الصوت أن ينادي: يا معشر الأنصار، يا أصحاب الشجرة، فلما سمعوا الصوت أجابوا: لبيك، لبيك، وكانت الدعوة أولا: يا للأنصار، ثم خصصت بِأَخَرَةٍ: يا للخزرج. وكانوا أصبر عند الحروب، فلما ذهبوا ليرجعوا، كان الرجل منهم لا يستطيع أن ينفذ ببعيره لكثرة الأعراب المنهزمين، فكان يأخذ درعه فيلبسها، ويأخذ سيفه ومِـجَنَّه ويقتحم عن بعيره، ويخلي سبيله ويكر راجعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حتى إذا اجتمع حواليه صلى الله عليه وسلم مئة رجل أو نحوهم استقبلوا هوازن بالضرب، واشتدت الحرب، وكثر الطعن والجلاد، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركائبه، فنظر إلى مجتلد القوم، فقال: الآن حمي الوطيس! وقتل عليُّ بن أبي طالب ورجلٌ من الأنصار صاحب راية هوازن، وأخذ علي الراية، وقذف الله عز وجل في قلوب هوازن الرعب حين وصلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه إذ واجههم وواجهوه صاح بهم صيحة، ورمى في وجوههم بالحصا، فلم يملكوا أنفسهم، وفي ذلك يقول الله عز وجل : ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى، وما استوفى رجوع المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وأسرى هوازن بين يديه، وثبتت أم سُليم في جملة من ثبت أول الأمر محتزمة ممسكة بعيرا لأبي طلحة، وفي يدها خنجر.
وانهزم مقاتلو هوازن، وتركوا  وراءهم العيال والأموال، وقتل من بني مالك من ثقيف 70 رجلا، وفرَّ حلفاؤهم حين اشتد القتال إلى الطائف مع ثقيف فلم يقتل منهم إلا رجلان، وقتل دريد بن الصمة كذلك، وقتل من المسلمين 3  في المعركة منهم أيمن بن عبيد ابن أم أيمن.
واجتمعت هوازن بمنطقة قريبة تدعى أوطاس فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وراءهم أبا عامر الأشعري، واسمه عبيد، وهو عم أبي موسى الأشعري، في طائفة من المسلمين منهم أبو موسى إلى من اجتمع من هوازن بأوطاس، فقتل وأخذ أبو موسى الراية وقاتلهم حتى انسحبوا ولم يعد هنالك خطر من أن يكرّوا على المسلمين بعد كسرتهم.
وتابع رسول الله صلى الله عليه وسلم مسيره إلى الطائف ليستثمر ما حققه من نصر الله في حنين، ويكسر شوكة ثقيف التي كانت قد تحصنت في حصنها  المنيع الذي لم يكن له مثيل في حصون العرب، فحاصرها قرابة 20 يوماً، وأهلها يرمون المسلمين بالنبال وزعيمهم في هذا أبو محجن الثقفي عمرو بن حبيب، الفارس الكريم، الذي سيسلم سنة 9 والمشهور خبره في معركة القادسية، والمتوفى سنة 30 بأذربيجان.
ونصب عليهم رسول الله المنجنيق وهو أول ما رُمي به في الإسلام، ودخل نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت دبابة ثم دخلوا بها إلى جدار الطائف ليحرقوه فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار فخرجوا من تحتها ، فرمتهم ثقيف بالنبل فقتلوا منهم رجالا، ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر. فخرج منهم بضعة عشر رجلا ، منهم أبو بكرة ، فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفع كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين يمونه فشق ذلك على أهل الطائف مشقة شديدة.
ولم يؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في فتح الطائف ، واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم نوفل بن معاوية الديلي، فقال: ثعلب في جحر؛ إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرك. فأذَّن في الناس بالرحيل فضجوا وقالوا : نرحل ولم يفتح علينا الطائف؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فاغدوا على القتال. فغدوا فأصابت المسلمين جراحات، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا قافلون غدا إن شاء الله. فسروا بذلك وأذعنوا ، وجعلوا يرحلون ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك فلما ارتحلوا واستقلوا ، قال قولوا : آيبون تائبون ، عابدون لربنا حامدون. وقيل: يا رسول الله ادع الله على ثقيف. فقال: اللهم اهد ثقيفا وائت بهم. واستشهد في حصار الطائف 11 مسلماً أبرزهم عبد الله بن أمية بن المغيرة المخزومي أخو أم سلمة أم المؤمنين الذي أسلم قبيل فتح مكة كما أسلفنا.
وتحول الرسول إلى الجعرانة قرب حنين، وكان قد اسْتَأْنَى بقسمة الغنائم رجاء أن تسلم هوازن وترجع إليه، فلما تأخروا بدأ بالأموال فقسمها، وأعطى المؤلفة قلوبهم من قريش ومن قبائل العرب عطاءً سخياً ثم أعطى بقية الجيش، ولم يعط الأنصار شيئاً فوجدوا في أنفسهم وكثرت فيهم القالة حتى قال قائلهم: لقي والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه! فدخل عليه سعد بن عبادة ، فقال يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في قسمة الفيء، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء. قال: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي. قال: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة؟ فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: يا معشر الأنصار ما قالةٌ بلغتني عنكم؛ وَِجِدةٌ وجدتموها في أنفسكم، ألم آتكم ضلالا فهداكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ قالوا: الله ورسوله أمَنُّ وأفضل. ثم قال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟ قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله، لله ولرسوله المن والفضل. قال: أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصُدِّقتم: أتيتنا مُكذَبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك، أوجدتم علي يا معشر الأنصار في أنفسكم في لُعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟! ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير وترجعون برسول الله إلى رحالكم؟! فوالذي نفس محمد بيده لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به، ولولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار، ولو سلك الناس شِعبا وواديا، وسلكت الأنصار شعبا وواديا لسلكت شعب الأنصار وواديها، الأنصار شعار والناس دثار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار. فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا : رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسما وحظا. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا
وقدمت الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، فقالت: يا رسول الله، إني أختك من الرضاعة، قال: وما علامة ذلك؟ قالت: عضة عضضتنيها في ظهري، وأنا متوركتك. فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم العلامة، فبسط لها رداءه وأجلسها عليه وخيَّرها، فقال: إن أحببت الإقامة فعندي محببة مكرمة، وإن أحببت أن أمتعك فترجعي إلى قومك؟ قالت: بل تمتعني وتردني إلى قومي، ففعل.
ثم قدم وفد هوازن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أربعة عشر رجلا ، ورأسهم زهير بن صرد، وفيهم أبو برقان عم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، فسألوه أن يمُنَّ عليهم بالسبي والأموال فقال: إن معي من ترون، وإن أحبَّ الحديث إليَّ أصدقه؛ فأبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟ قالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئا، فقال: إذا صليت الفجر فقوموا فقولوا: إنا نستشفع برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المؤمنين، ونستشفع بالمؤمنين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردوا علينا سبينا.
فلما صلى الفجر قاموا فقالوا ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وسأسأل لكم الناس. فقال المهاجرون والأنصار: ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم ، فلا ، وقال عيينة بن حصن: أما أنا وبنو فزارة فلا، وقال العباس بن مرداس: أما أنا وبنو سُليم ، فلا، فقالت بنو سليم : ما كان لنا ، فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال العباس بن مرداس: وهنتموني! فعندئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هؤلاء القوم قد جاءوا مسلمين، وقد كنت استأنيت سبيهم، وقد خيرتهم فلم يعدلوا بالأبناء والنساء شيئا، فمن كان عنده منهن شيء فطابت نفسه بأن يرده فسبيل ذلك، ومن أحب أن يستمسك بحقه فليرد عليهم، وله بكل فريضة ست فرائض من أول ما يفيء الله علينا، فقال الناس: قد طيَّبنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: إنا لا نعرف من رضي منكم ممن لم يرض، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم. فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم نساءهم وأبناءهم، وكسا كل واحد من السبي ثوباً أبيض من كتان مصر.
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمرا من الجعرانة إلى مكة، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمرته انصرف إلى المدينة، واستعمل على مكة عَتَّاب بن أُسيد، وهو شاب في العشرين أو دونها، ومعاذ بن جبل يعلمهم السنن والفقه، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة لست بقين من ذي القعدة، وقد دانت له العرب واستببت له الأمور في الحجاز.
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ.

الجمعة، 12 سبتمبر 2014

حدث في السابع عشر من ذي القعدة

في السابع عشر من ذي القعدة من عام 949 الموافق 21 شباط/فبراير 1543 استشهد الإمام الغازي أحمد بن إبراهيم العَدالي المعروف بجورَيّ، أي الأعسر بالصومالية، ويقال له كذلك أحمد قَران، أثناء معركة مع الأحباش وحلفائهم البرتغاليين شرقي بحيرة تانا في شمالي غربي الحبشة، ونتج عن المعركة انسحاب القوات العَدالية الصومالية من الهضبة الأثيوبية وانتقال المعارك إلى السفوح الأثيوبية.
ولد أحمد جوريّ سنة 912 على التقريب في زيلع على البحر الأحمر وكانت عاصمة سلطنة عدال، في عهد الأمير محمد المحفوظ، والذي استشهد في سنة 923 في إحدى معاركه مع الإمبراطور الحبشي لبنه دنقل الملقب داويت الثاني، وهي ذات السنة التي هاجم فيها الأسطول البرتغالي زيلع وأحرقها، وتولى الحكم بعد محفوظ سلطان اسمه أبو بكر بن محمد، شاع في عهده الظلم وقطع الطريق والفجور وتداول الخمور، فرحل أحمد إلى هرر مع مجموعة من أصحابه الشباب يبلغ عددهم حوالي مئة، وأمّروا عليهم أحدهم وكان يدعى عمر دين، وسمعوا مرة بقدوم حملة حبشية نهبت البلاد وأسرت النساء والعيال وساقت المواشي، فساقوا وراءهم واشتبكوا معهم وهزموهم، وأطلقوا الأسرى وأعادوا الأموال والمواشي إلى أصحابها.
وقوي شأن هؤلاء الفتية شيئاً فشيئاً حتى خشي السلطان أبو بكر على ملكه منهم وقرر القضاء عليهم، وخرج بنفسه لقتالهم، فكانت الدائرة عليه، وهزموه، فعاد وحشد قواته وطردهم حتى حصرهم في جبل بضعة عشر يوماً، وقتل أميرهم في ذلك الحصار، وتوسط بعض العقلاء في الصلح، فأصدر السلطان عفوه عنهم وسمح لهم بالعودة إلى زيلع وأن تبقى معهم خيولهم وآلة حربهم.
وما لبث السلطان أن نقض العهد وأخذ الخيول والسلاح، وقتل أحد كبارهم، وتوعد أحمد جورَيّ بالقتل، فهرب من البلد باتجاه هرر، فخرج السلطان وراءه وهو يهرب من وجهه في كر وفر، وانضم إليه عدد من الناقمين الكارهين فصار معه قرابة 200 راجل وسبعة فرسان، واستطاعوا مرة هزيمة قوة كبيرة أرسلها السلطان أبو بكر وراءهم فازدادوا بها قوة، وخرج السلطان وراءهم وأخلى البلد من الحامية، فقاموا بحركة التفاف لمهاجمة البلد فعلم بذلك السلطان وأدركهم على حدود البلد، فانسحبوا في جنح الليل لعدم تكافئ القوى، فسار السلطان وراءهم من اليوم التالي، فعادوا عليه وهزموه هزيمة منكرة، وسار أحمد بجنوده إلى هرر فاستولى عليها وأمّن أهلها ونادى فيها بالعدل والانصاف.
وأعاد السلطان تجميع قواه وسار على رأس جيش جديد لمهاجمة أحمد جوري، الذي علم بمسير السلطان إليه فاستعد لمواجهته واستطاع حصر الجيش القادم، وتوسط لدى الطرفين الفقهاء والمشايخ لحقن الدماء، فاتفقا على أن يبقى السلطان في سلطنته على أن يعترف بأحمد جوري أميراً على البلاد التي وقعت تحت سيطرته، وعادتهم في ذلك الوقت أن الأمير هو حاكم البلاد الفعلي على أن يؤدي للسلطان ضريبة معلومة مفروضة في كل سنة، وهكذا استتبت الأمور لأحمد جوري الذي تلقب بالإمام، فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وجلس للمظالم، وأمن الطرق، فأحبه الناس وانتعشت أحوال البلاد، وجرى ذلك حوالي سنة 931 وكان عمر أحمد جورَيّ في حدود عشرين سنة، وبعدها بقليل توفى السلطان أبو بكر فجعل أحمد جوري مكانه قريباً له لا يخرج عن طاعته.
وكان الأحباش قد انتهزوا فرصة التقلبات والاضطرابات فغزوا بلاد المسلمين وأخربوها مراراً، وفرضوا على بعضها خراجاً سنوياً يؤدوه إليهم، فمنعهم الإمام أحمد من ذلك، وبسط حمايته عليهم، وكانت أول معركة كبيرة للإمام أحمد مع الأحباش هي معركة شمبرة كورِه في سنة 935، فقد كان القائد الحبشي دقالهان قد هاجم سلطنة عدال في السنة الماضية، فمضى أحمد إلى الحبشة على رأس جيش صغير تكون من 300 فارس وبضعة مشاة، مقابل جيش حبشي بلغ 3000 فارس وأعداد بالغة من المشاة، ويقال إنه في هذه المعركة استخدم الإمام أحمد مدافع جلبها من العثمانيين في اليمن، فكانت هذه أول مرة تدوي فيها المدافع في القرن الأفريقي، وكان للمدافع دور حاسم في هزيمة الحبشة لوقع المفاجأة ولتأثيرها المعنوي والمادي الكبير.
وبعد ذلك باشر الإمام أحمد في تكوين جيش منظم، واستجابت له كبريات القبائل الصومالية، وبخاصة قبيلة هبر مقادل من إسحاق، وقبيلة هارتي، وتعني القوي بالصومالية، وقبيلة مريحان، واتسم هذا الجيش بالانضباط والثبات، وهما عنصران أساسيان للقتال، ورغم أن جنوده كانوا أبناء عدة قبائل صومالية، إلا أنهم تخلوا عن ولائهم القبلي وانضموا إليه وقاتلوا معه تحت راية الإسلام  إمام المسلمين في تلك البلاد.
ولم يستطع الإمام أحمد استثمار هذا النصر الذي فتح أمامه أبواب الحبشة، فقد كانت القبائل التي انضوت تحت لوائه معتادة على أن تقوم بغارات خاطفة على الأراضي الحبشية تعود بعدها بالغنائم إلى أوطانها، فلما عزم الإمام على متابعة القتال تململ جنوده من المقام في الهضبة الحبشية بعيداً عن أوطانهم، فما أمكنه البقاء وعاد بجيشه إلى الصومال، ومضت سنتان قبل أن يهاجم الأحباش من جديد، وجرت في سنة 938 معركة أمبا سل التي هزم فيها الحبشة هزيمة منكرة، وكاد الإمبراطور فيها أن يقع أسيرا، فتابع أحمد طريقه هذه المرة لغزو الهضبة الأثيوبية، فسار من بلد لأخرى وخرب الكنائس واستولى على نفائسها، حتى وصل تيجري وهزم جيش الحيشة الذي تجمع لصده عنها، وبلغ ذروة انتصاره عندما وصل أكسوم في أقصى الشمال ودمر كنيسة مريم الكبرى التي كان ملوك الحبشة يتوَّجون فيها منذ قرون عديدة.
كانت السفن البرتغالية تنطلق من الهند من مستعمرتها في ميناء جوا على سواحل مليبار، وتجوب بحر العرب والبحر الأحمر للتصدي للسفن التجارية العربية، وكان ضمن مخططاتها مهاجمة الحجاز لأهداف دينية بحتة، وكان الإمبراطور الحبشي داويت الثاني قد قلص علاقته بالبرتغاليين لخشيته منهم، بعد أن قتل محفوظ أمير زيلع واعتقد أنه انتهى من التهديد الصومالي.
وفي سنة 947 قاد استيفاو دا جاما، ابن الرحالة المشهور فاسكو دا جاما، حملة بحرية جعلت من ميناء مصوع في  جنوبي البحر الأحمر قاعدة لها، وتركت فيه بعض السفن والرجال، واتجهت شمالاً لتفاجئ الأسطول العثماني في السويس وتدمره، ولكن العثمانيين كانوا على علم بقدوم الحملة فاستعدت لها سفنهم وأجبرتها على الانسحاب والعودة  إلى ميناء مصوع الذي كان ضمن مملكة الحبشة آنذاك.
وكان البرتغاليون الذي مكثوا في مصوع قد علموا بأنباء القتال الدائر بين المسلمين وبين الأحباش المسيحيين، فاقترحوا على استيفاو مساعدة الحبشة، فأرسل أخاه كريستوفر دا جاما، البالغ من العمر 24 سنة، على رأس 400 من رماة البنادق مع عدد من الحرفيين والمساعدين، ساروا جنوباً نحو الهضبة الإثيوبية صحبة نائب الإمبراطور في المقاطعات الشمالية، وحجزهم موسم الأمطار عن متابعة السير، فعسكروا في مكانهم وقاموا بالإغارة على القرى الحبشية القريبة التي دانت بالطاعة للإمام أحمد، والتقوا في تلك الفترة بالملكة سابلة وَنْقَل زوجة الإمبراطور داويت الثاني ووالدة الأمير قلاوديوس، أو كلاوديوس، الذي لم يستتب له عرش الحبشة بعد مقتل والده في إحدى المعارك سنة 947، وكان يعيش منبوذاً في جنوبي الحبشة، مع ثلة ضئيلة من الفرسان.
وكان أول لقاء بينهم وبين الإمام أحمد في ذي الحجة من سنة 948 عقب عيد الأضحى، بالقرب من نهر في منطقة بحيرة أشنجه، وكتب مؤرخ برتغالي يصف كيف استكشف الإمام أحمد المواقع البرتغالية، فقال: ترك ملك زيلع أعوانه ينصبون معسكره، وصعد تلة هو وثلاثمئة فارس ليتفحص معسكرنا، وكانت تظلله ثلاث رايات كبيرة، اثنتان منها بيض مع هلال أحمر، وواحدة حمراء فيها هلال أبيض، وكانت هذه الرايات دائماً تظلله وبها يُعرف مكانه.
ووفقاً للتقاليد الإسلامية قام الإمام بدعوة الخصوم إلى الإسلام أو مغادرة بلاده أو الحرب، وأمهلهم 3 أيام، فلما لم يقبلوا هاجمهم في اليوم الرابع، ولكنه لم يستطع التغلب على البرتغاليين، فقد صفَّ دا جاما عسكره في تشكيل كردوس مشاة مربع وهاجم عسكر الإمام واستطاع دحر هجمات خيالة المسلمين بفضل تماسك الكردوس ووطأة نار مدافعه وبنادقه، وأصابت الإمام طلقة طائشة جرحت فخذه، فأمر بالانسحاب، وما أن رأى البرتغاليون والأحباش الراية التي تشير بالانسحاب حتى انقضوا على جيش الإمام يتتبعونه، فأوقعوا فيه خسائر، ولكنهم لم يدحروه، فقد أعاد تجميع قواته على الطرف الثاني من النهر، وأرسل في طلب الإمدادات ليخوض المعركة من جديد.
ولما بدأ المدد يصل تباعاً بعد حوالي أسبوع من المعركة الأولى تحرك دا جاما على الفور للقضاء على خصمه قبل أن يصبح في أوج قوته، فهاجمه في اليوم العاشر، وصفَّ جيشه على النحو الذي أثبت نجاحه من قبل؛ كردوس المشاة المربع، وقاتل المسلمون بعزيمة أشد وكادوا أن يدحروا الكردوس لولا أن انفجر بعض البارود في الطرف البرتغالي جفلت معه خيل المسلمين وارتدت على عقبها، فهاجمهم الخصم واضطرهم إلى الانسحاب كيفما اتفق، وأصيب الإمام أحمد بجراح وحمله رجاله على أكتافهم بعيداً عن المعركة، ولم تكن خسائر البرتغاليين قليلة، بل كانت بالغة لدرجة أن أحد من حضروا المعركة تحسر أن لم يبق لديهم فرسان تمكنهم من تعقب المنهزمين والقضاء عليهم.
وبعد هذه الهزيمة بدأ أهل المناطق الحبشية في التنكر للإمام أحمد وامتنعوا عن تقديم الزاد له، وفي هذه الأثناء وصلت إمدادات حبشية إلى معسكر دا جاما، فسار بهم جنوباً يتعقب الإمام أحمد حتى لحق به بعد عشرة أيام، وتهرب الإمام أحمد من معركة لم يكن مستعداً لها، ثم جاء موسم الأمطار وأصبح القتال متعذراً إلى أن تدخل السنة الجديدة، وخيم الطرفان على مرأى من بعضهما البعض؛ الأحباش والبرتغاليون بالقرب من البحيرة والإمام على جبل زوبِل.
ولم يتوانى الإمام عن التخطيط لمواجهة خصمه بمثل سلاحه، فأرسل إلى الوالي العثماني في زبيد في اليمن يستنجده، وكانت الدولة العثمانية كما أسلفنا على وعي بنوايا البرتغاليين في السيطرة على التجارة في بحر العرب لدوافع تجارية، وفي الهجوم على الحرمين والحجاز لدوافع دينية، فأمده الوالي بألفين من متطوعة العرب و900 من رماة البنادق الأتراك، وما أن انتهى الشتاء والأمطار حتى هاجم الإمام أحمد المعسكر البرتغالي في معركة وفلا، وذلك في منتصف سنة 949، وانجلت المعركة عن مقتل حوالي نصف البرتغاليين، وغنم أحمد معظم أسلحتهم النارية، وأصيب دا جاما بجروح بالغة وأُسِر مع عشرة من قواده، وعرض عليه الإمام أن يطلق سراحه إذا هو أسلم، فلما رفض أمر بقتله.
وبعد هذه المعركة ترك عدد من الجنود الأتراك جيش الإمام أحمد، وتختلف الروايات في سبب ذلك، من رواية تقول إنهم تركوه لأنه قتل دا جاما وكانوا يريدون تقديمه للسلطان في استانبول، وتقول رواية أخرى لعلها أصح، إنهم طلبوا منه 10000 دينار ذهبي مكافأة على الانتصار، على عادة الأتراك، فثقلوا عليه وشعر أنه بعد انتصاره لم يعد بحاجة إليهم، فأرضاهم وسرح من أراد منهم الذهاب سراحاً جميلا.
أما من بقي من الجنود البرتغاليين فانضموا إلى الإمبراطور قلاوديوس، واستفادوا من سلاح كانوا قد خزنوه في الأراضي الحبشية، وشكل الأحباش جيشاً قوامه قرابة 9000 جندي، وساروا لقتال الإمام أحمد، وكان أول اشتباك لهم في 9 ذي القعدة مع قوة من الفرسان والمشاة الصوماليين بقيادة أحد أمراء الإمام المدعو سيد محمد، واستطاع الأحباش هزيمة هذه القوة وقتلوا قائدها وعرفوا من الأسرى أن الإمام على مسيرة 5 أيام منهم، فاتجهوا ناحيته ومعنوياتهم في أوجها بسبب النصر الذي حققوه، وفي أثناء المسير تخلف عنهم لخطأ ما 50 من الجنود البرتغاليين.
ولما وجد الجيش الحبشي البرتغالي الإمام أحمد عسكروا قريباً منه، وتريث السلطان قلاوديوس في الهجوم عليه على أمل أن يأتي الجنود الخمسون، والذي كانوا في رأيه أفضل من 1000 من جنوده، وأمضى الطرفان بضعة أيام وهما يتناوشان غارات الخيالة، ورجحت الكفة في هذه الغارات إلى جانب الطرف الحبشي البرتغالي، ثم استطاع الصوماليون قتل قائد حبشي كبير هو أزماش كِفلو، فتشاءم بذلك الأحباش وتضعضت نفوسهم، وهم كثيرون منهم بترك القتال، فخشي الإمبراطور قلاوديوس أن ينفض أغلب جيشه إن ترك الأمور على غاربها، فقرر أن يقوم بهجومه في اليوم التالي.
وجرت المعركة في في 17 ذي القعدة 949 في واينا داقا شرقي بحيرة تانا، وقسم الإمام جيشه إلى قسمين، ونجح المسلمون في البداية في دحر العدو ولكن هجمة من خيالة البرتغال والحبشة زحزحتهم عن مواقعهم، فقام الإمام أحمد بدخول القتال وقيادة هجوم مضاد، وكان أحد الرماة البرتغاليين يترصده بنية أن يثأر لمقتل دا جاما، فلما سنحت له فرصة أطلق عليه النار فأرداه قتيلاً، وحزَّ أحد الأحباش رأس الإمام وقدمه للإمبراطور الذي كان قد وعد من يأتيه به أن يزوجه أخته، ولكن الإمبراطور لم يف بوعده بحجة أنه لم يقتله وإنما أجهز عليه، وأنه لا يعرف من قتله.
وما أن شاع مقتل الإمام في الجيش حتى اضطربت صفوفه ودبت فيها الفوضى، وانسحب من سلم من أفراده، إلا أحد الجنود الأتراك الذي وقف بسيفه في وجه خمسة من فرسان الحبشة فلم يكونوا له أكفاء، وبقي يقاتل حتى طعنه فارس برتغالي برمح طويل أنفذه فيه، فأمسك التركي بالرمح بشدة وأهوى بسيفه على الفارس فقطع ركبته قبل أن يموت.
وكان الإمام أحمد قد تزوج في سنة 935 السيدة باتي دلونبره ابنة محفوظ أمير زيلع السابق، وفي سنة 937 جاءه منها مولود أسماه محمد، وكان الشاب الصغير إلى جانب والده عندما استشهد في المعركة، ووقع في الأسر، وكان من عادة الإمام أحمد أن يصطحب زوجته إلى القتال، فلما دارت عليه الدوائر واستشهد، عادت إلى هرر هي ومن بقي من الجيش ومعها كثير من الأموال.
وترك المنهزمون وراءهم أسراهم من الأحباش الذين وجد كثير منهم أهليهم في جيش الإمبراطور قلاوديوس، وكان عدد لا يستهان به من الأحباش يقاتل مع الإمام أحمد، وذلك بسبب شقاق نجم داخل المعسكر الحبشي حول الإمبراطور قلاوديوس وأحقيته في تولي العرش، فطلبوا الصفح من الإمبراطور فقتل بعضهم وعفا عن أكثرهم، فمالت إليه قلوب الحبشة وأصبح بمقدوره بعد هذا الانتصار أن يعمل على توطيد أركان حكمه.
ولم تكن دلونبرة زوجة الإمام أحمد زوجة تقليدية، بل كانت سيدة حكيمة مدبرة رحيمة، أثنى على سلوكها ورحمتها أعداؤها من الحبشة، ومن ذلك أن زوجها أسر في إحدى المعارك الأمير ميناس ابن الإمبراطور داويت الثاني مع بعض أبناء عمه، وكان مصير أبناء العم الخصاء وتقديمهم هدية لوالي زبيد، ولكن هذه السيدة أقنعت زوجها أن ينزل الناس منازلهم، وأن ابن الإمبراطور له معاملة خاصة، فربته في بيتها وزوجته ابنتها، ولما قتل زوجها وقع في الأسر ابناها، فاتفقت هي مع أم الأمير ميناس على إطلاق سراح ابنيها مقابل إعادة الأمير ميناس إلى الحبشة، ليصبح إمبراطورها في المستقبل بعد مقتل أخيه قلاوديوس.
ولما قتل زوجها جعلت دلونبرة نصب عينها أن تثأر للإسلام ولزوجها القتيل، وتزوجت بابن أخته النور بن مجاهد واشترطت عليه أن يقاتل الأحباش ويأخذ بثأر زوجها، فأخذ بالأسباب وحصن هرر وبدأ في توطيد سلطانه، والتحالف مع القبائل، ومضت قرابة 10 سنوات دون كبير قتال، إلى سنة 962، حين بدأ نور جهاده فهاجم سهول بالِه في شرق الحبشة ثم هاديه، وفي سنة 966 هاجم منطقة فاتَقار واشتبك مع الإمبراطور قلاوديوس وأرداه قتيلاً، واستمر نور في غزو الأراضي الحبشية مدة 12 سنة أخرى، قبل أن يتوقف ويعود إلى هرر، حيث وافته منيته سنة 975، ولجهاده الطويل كان يلقب صاحب الفتح الثاني.
أطّرت هذه المعارك العلاقات العدائية التاريخية بين الصومال وبين الحبشة، أكبر دول أفريقيا سكاناً، وتركت هذه المعارك آثارها على طرفين أحدهما عريق في النصرانية ويحكمه إمبراطور يعتبر نفسه من سلالة النبي سليمان، والثاني قبائل لها وشائج قديمة مع الجزيرة العربية، دخلت في الإسلام وتمثلته قلباً وقالباً في مجتمعاتها وقيمها، فأصبح محور وجودها وذاتها، وكان الأثر المعنوي لهذه المعارك أكثر بكثير من عواقبها المادية، فقد حطمت الاستقرار العريق الذي نعمت به الحبشة قروناً لم تتعرض فيها لتهديد خارجي، ولم يلتزم المقاتلون الصومال دائماً بتعاليم الإسلام في الجهاد والغزو، والتي تقضي باحترام أماكن العبادة وعدم التعرض لها أسوة بما فعله الصحابة في بلاد الشام ومصر، ولا يزال الإمام أحمد جورَي وغزوه للحيشة ماثلاً حياً في ذاكرتها الجماعية، تتناقل أخباره الأجيال؛ جيلاً عن جيل، محفوفة بما يشبه الأساطير للتخويف من الإسلام والمسلمين، وفي المقابل فإن الصوماليين يعدونه بطلاً مقداماً ضحى بحياته لردع العدوان الإثيوبي على أرض الأجداد، ومنها منطقة أوجادين ذات الأغلبية الصومالية، والتي احترب البلدان عليها في سنوات 1977-1982، وتحمل اسم الإمام أحمد جوري الغازي أهم مدرسة ثانوية في مقديشو، وأطلقت حكومة المحاكم الإسلامية اسمه في سنة 2008 على مطار مدينة كسمايو في غربي الصومال.
ونعود إلى العلاقات البرتغالية الحبشية، والتي كان يفترض أن تكون على أحسن حال بعد هذا التعاون والدعم الكبير، ولكنها كانت علاقات متوترة ما لبثت أن اضمحلت فاندثرت، وسبب ذلك أن أحد قواد الحملة البرتغالية كان معه ابنه القسيس الشاب، ويدعى خواو بِرميودس، فأرسله مبعوثاً عن الحملة إلى البرتغال يطلب العون والمدد، وقام برميودس بتقديم نفسه في أوربة على أنه بطرك الحبشة، ولما عاد إلى الحبشة ادعى أن البابا بولص الثالث قد عينه بطركاً على الإسكندرية، وكانت تصرفاته في الحبشة تنسجم مع أخلاق شخص منتحل يقوم بمثل هذه الادعاءات الزائفة، ولم يخف زيف دعاويه العريضة على الإمبراطور قلاوديوس، فأرسل يسأل ملك البرتغال خوان الثالث عن حقيقة الأمر، فأجابه الملك إنه لا يعدو كونه قسيساً عادياً وأن تصرفاته لا ينبغي أن تمر دون عقاب يردعه ويكبح جماحه. وعلى إثر ذلك قام الإمبراطور بنفي القسيس المدعي حتى سافر من الحبشة.
وكان الملك البرتغالي خوان الثالث قد وعد في رسالته إلى الإمبراطور أن يرسل له قساوسة ثقات وأرسل له في سنتي 962 و964 عدداً من رهبان السلك اليسوعي المعروفين بالجزويت، وكان الهدف من إرسالهم دراسة إمكانية تحويل النصارى الأحباش لبتخلوا عن كنيستهم  الأرثوذكسية الشرقية ويتبعوا الكنيسة الكاثوليكية، ولكن الإمبراطور قلاوديوس لم يتقبل هذه الفكرة على الإطلاق، وإن كان قد تلقاهم بالإكرام، وأصدر إعلاناً حول معتقده أكّد فيه إيمانه بطبيعة واحدة للمسيح واحترام عطلة السبت والمحافظة على الختان وتحريم لحم الخنزير وغيره من الأطعمة غير الطاهرة، ويذهب بعض المؤرخين أن هذا الموقف الصلب كان له أبلغ الأثر في أن حافظ الأحباش على كنيستهم وتقاليدها المتميزة.
واستولى العثمانيون في سنة 964 على ميناء مصوع، فكانت ضارة نافعة؛ إذ انقطع الطريق الذي يصل الحبشة بالعالم الخارجي، فأصبحت في عزلة مكنتها إلى حد كبير من أن تعود إلى سابق عهدها في العيش بعيداً عن المؤثرات الخارجية، مع تصارع الأسر الحاكمة فيها على الملك، أما الصومال فبقيت في حكم الأسر المحلية يظلها سلطان الدولة العثمانية .
وبقيت الأمور في الحبشة على ذلك النحو إلى سنة 1862، وكان الإمبراطور تادروس يواجه مشاكل داخلية من أمراء الأقاليم التي لم يتوقفوا عن التآمر عليه، فهداه التفكير إلى أن يقوم بخطوة جريئة على صعيد السياسة الخارجية تعيد له التأييد الشعبي، فكتب تادروس للملكة البريطانية فكتورية يعرض عليها إقامة تحالف أثيوبي بريطاني للقضاء على الإسلام، ولما تجاهل البريطانيون عرضه، قام تادروس بسجن المبعوث البريطاني وبعض الأوروبين، وأدى هذا إلى أن أعدت بريطانيا حملة عسكرية، قوامها هنود، قادها السير روبرت نابيير، دفعت المال والسلاح لأمير تجري حتى يسَّهل مرورها إلى الهضبة الحبشية، وهزمت بالقرب من مكدالا قوة صغيرة أعدها الإمبراطور لمواجهتها، فما كان من الإمبراطور إلا أن انتحر خوفاً من الأسر، وخلفه أمير تجري الذي تسمى بالإمبراطور يوحنا الرابع.
وفي سنة 1290=1873 أصدر السلطان العثماني عبد العزيز فرماناً ألحق بموجبه ميناء مصوع بمصر التي كان يحكمها الخديوي إسماعيل، ملك مصر والسودان، والذي قام بحملات عسكرية فاشلة باهظة في الحبشة سنة 1876، وكانت إيطاليا قد بدأت في سنة 1299=1882 محاولة استعمار المنطقة تعويضاً عن خسارتها استعمار تونس التي احتلتها فرنسا، فوضعت يدها على ميناء عصب، ثم احتلت ثغر مصوع سنة 1885 وهو اليوم في أريترية، واحتلت سنة 1888 جنوبي الصومال الذي أضحى يعرف بالصومال الإيطالي، وبدأت بعد تفاهمها مع بريطانيا بسط سلطانها في الحبشة.
وواجهت الحملات الإيطالية مقاومة عنيفة من الأحباش بقيادة الإمبراطور يوحنا الرابع، وهزموها موقعة تلو الأخرى، ولما قتل يوحنا سنة 1889 أثناء حملة على المهدية في السودان، أعلن أمير إقليم سهلا ماريام أمير شوا نفسه إمبراطوراً تحت اسم الإمبراطور منليك، وكانت علاقات إيطاليا مع منليك وهو أمير علاقات طيبة، إذ كانت قد منحته آلاف البنادق، وأغرته بخلع يوحنا وتنصيب نفسه، ولكنه لم يفعل ذلك، فلما صار هو الإمبراطور تفاءلت الحكومة الإيطالية بوجوده، ووقعت معه خلال أيام معاهدة صداقة وتجارة في وِشاله بتجري، منحت إيطاليا حكم أريترية، ولكنه منليك ما لبث أن انقلب عليها وانحاز إلى رغبة شعبه في الاستقلال، فحشدت له جيشاً من 75.000 جندي استطاع في سنة 1313=1896 أن يهزمهم هزيمة منكرة في معركة عدوة في إقليم تجري، واحتل إقليم أوجادين الذي كان ضمن الأراضي الواقعة تحت النفوذ الإيطالي.
واستمر منليك الثاني يحكم الحبشة حتى وفاته سنة 1332=1913، وكان أهم إنجاز له على الصعيد الخارجي أن أرغم الدول الأوربية جميعا على احترام استقلال الحبشة، فوقعت بريطانيا وفرنسا وإيطاليا في سنة 1324= 1906 اتفاقاً ينص على وحدة الحبشة واستقلالها، وإن نص أيضا على تفوق المصالح الإيطالية في الحبشة.
وخلف منليك الأكبر حفيده ابن ابنته ليج يسوع بعهد منه، وقد كان أبوه الراس مخائيل مسلماً من امراء أورمو، فتنصر تحقيقاً لأطماعه وتزوج من ابنة منليك، ونشبت الحرب العالمية الأولى في أيامه، وكان ليج يسوع يرى أن مصلحة الحبشة أثناء الحرب تقضي أن تميل نحو التحالف الألماني التركي، فخشي الحلفاء ولاسيما بريطانيا عاقبة هذا الاتجاه، وأخذت تعمل على إثارة الشعب الحبشي ضده، ووجدت في بطريرك الحبشة خير أداة لحياكة هذه الدسائس حول ليج يسوع؛ واتُهِم بممالأة المسلمين الذين ينتمي إليهم ثم بالارتداد عن النصرانية، وقاد الحملة ضده الأمير تافري مكنون، وتم عزل ليج يسوع في سنة 1916 وأُعلنت زوديتو ابنةُ منليك الكبرى إمبراطورة للحبشة، وعُين الأمير تافري مكنون حاكم هرر وصياً للعرش وولياً؛ فاستأثر بالسلطة، ولم تمض أعوام قلائل حتى أعلن نفسه إمبراطورا إلى جانب زوديتو، ولما توفيت الإمبراطورة سنة 1930، انفرد بالملك وتلقب باسم هيلا سلاسي، وفي عهده التحقت الحبشة بعصبة الأمم سنة 1923، وزار الإمبراطور هيلا سيلاسي إيطاليا سنة 1925 فاستقبل في رومة بحفاوة كبيرة، وعقد البلدان على أثر ذلك معاهدة صداقة، واعتقدت الحبشة أنها في ظل عصبة الأمم، وظل الصداقة الإيطالية الجديدة، قد أمنت مطامع الاستعمار ومشاريعه الغادرة.
وفي سنة 1935 هاجمت إيطاليا موسوليني الفاشية الحبشة، واحتلت إقليم أوجادين، وأعلنت الحبشةَ والصومالَ جزءاً من إيطاليا الشرق إفريقية، فقاد هيلا سيلاسي المقاومة ضدها، فقصفت طائراتها الأحباش بالغازات السامة، وساعدت بريطانيا هيلا سيلاسي بسبب عدائها مع إيطاليا في الحرب العالمية الثانية، واستطاعت القوات البريطانية والحبشية استرجاع الحبشة في سنة 1941، ولكن إقليم أوجادين بقي تحت الإدارة البريطانية حتى عام 1948، وبقي هيلا سيلاسي يحكم البلاد حتى الانقلاب العسكري عليه سنة 1974.
أما الصومال فقد أقام البريطانيون في شماله محمية سنة 1884، وأقامت إيطاليا في سنة 1889 محميتين شمالي شرقي الصومال، ثم اعلنت حمايتها على منطقة أخرى على ساحله الجنوبي، وقاوم الصوماليون الاستعمارين البريطاني والإيطالي، ومن أبرز حركات المقاومة حركة السيد محمد بن عبد الله حسن، المولود سنة 1280=1864 والذي جمع القبائل المختلفة تحت راية الإسلام والخلاص من المحتل الكافر، وقاتل المستعمرين قرابة 20 سنة حتى وفاته في سنة 1339=1920، وفي سنة 1940 هاجمت إيطاليا الفاشية الصومال البريطاني بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، واسترجعته بريطانيا منها بعد سنة، وبقي الصومال بأكمله تحت الإدارة البريطانية، إلى أن نال استقلاله في أول محرم من سنة 1380=1960 تحت اسم جمهورية الصومال الإسلامية.أما أجزاء الصومال الأخرى، فهي إقليم عفار وعيسى، وتبلغ مساحته 3% من مساحة الصومال، ويعرف كذلك بالصومال الفرنسي، فاستقل عام 1977 تحت اسم جيبوتي، وبقي إقليم أوجادين في إثيوبية، وهناك منطقة في غرب كينية تغلب عليها القبائل الصومالية المسلمة.
 

 
log analyzer