الجمعة، 29 أغسطس 2014

حدث في الثالث من ذي القعدة

في الثالث من ذي القعدة من عام 748 توفي في دمشق، عن 75 سنة، الإمام شمس الدين الذهبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز بن عبد الله الذهبي، أحد أعظم المؤرخين في تاريخ البشرية، إلى جانب كونه علماً في علوم الشريعة .. وفيما يلي ترجمة لحياته مختصرة في أغلبها من مقدمة الدكتور بشار عواد معروف، أمد الله في عمره، على كتاب الذهبي العظيم: سِيَر أعلام النبلاء.
ولد الذهبي في دمشق في شهر ربيع الآخر من سنة 673، لأسرة تركمانية الأصل، تنتهي بالولاء إلى بني تميم، سكنت مدينة ميافارقين في ديار بكر، وهي اليوم سلفان في جنوبي شرق تركية، ويبدو أن جده عثمان، الذي كان نجاراً، هو الذي قدم إلى دمشق، واتخذها سكنا له، وتوفي بعد ذلك بها سنة 683 ه وهو في عشر السبعين.
وفي دمشق ولد والده شهاب الدين أحمد، في سنة 642، وعدل عن صنعة أبيه في النجارة إلى صنعة الذهب المدقوق، فبرع بها وتميز، وعرف بالذهبي، وطلب العلم، فسمع صحيح البخاري، وحج في أواخر عمره، وكان دينا يقوم من الليل، وقد يسرت له صنعته رخاء وغنى، فأعتق من ماله خمس رقاب، وتزوج من ابنة رجل موصلي الأصل ميسور الحال، كان يعمل في ديوان الجيش، هو علم الدين أبو بكر سنجر بن عبد الله، وتوفي الوالد سنة 697، وخرج في جنازته علماء دمشق، ودفن في جبل قاسيون.
ولم يكن والد الذهبي فرداً بين العائلة في سماع الحديث، فقد كانت عمة الذهبي ومرضعته، ست الأهل، قد روت الحديث، وأجازت الذهبي فروى عنها، وكان أهل الذهبي من طرف والدته مقبلين على طلب العلم كذلك، فخاله علي، المولود سنة 658 والمتوفى سنة 736، كان من أهل الحديث، وزوج خالته فاطمة، أحمد بن عبد الغني بن عبد الكافي الأنصاري الذهبي، المعرف بابن الحرستاني، قد سمع الحديث، ورواه، وكان حافظا للقرآن الكريم، كثير التلاوة له، وتوفي بمصر سنة 700، ويبدو أن أكثر العائلة اهتماماً بالتحديث والرواية كان أخاه من الرضاعة علاء الدين أبا الحسن علي بن إبراهيم بن داود بن العطار الشافعي، المولود سنة 654 والمتوفى سنة 724، لأنه بادر في سنة مولد الذهبي واستجاز له من جملة من مشايخ عصره، في دمشق وحلب والحرمين.
ودرس الذهبي في كُتَّاب المؤدب علاء الدين الحلبي نحوا من 4 سنوات، وكان جده عثمان في أثنائها يدربه على النطق بالراء حتى استقام لسانه، فقد كان الذهبي ألثغا، ثم حفظ الذهبي القرآن على إمام مسجد الشاغور مسعود بن عبد الله الصالحي، المتوفى سنة 720، وكان في هذه الأثناء يزاول مهنة والده في طرق الذهب، ويذكر ذلك في ترجمته للشيخ شمس الدين الذهبي، محمد بن علي، المتوفى سنة 689 فيقول: رجل مطبوع، خيِّر، مسن، من كبار الذهبيين، كان يدق الذهب في بيته بالجبل، وله بنات وابن. وكان يعمل مع والدي، فبعثني إليه مرةً بذهبٍ لدقه وأطعمني شيئاً. كتب عنه: البرزالي، والمزي، والجماعة وأثنوا عليه، وتوفي وقد قارب الثمانين، وكان مع كبره رأساً في صنعته رحمه الله تعالى.
ولما بلغ الذهبي الثامنة عشر فتوجه لطلب العلم  بكليته، وأخذ القراءات في سنة 691على شيخ القراء جمال الدين أبي إسحاق إبراهيم بن داود العسقلاني، ثم الدمشقي، المعروف بالفاضلي، الذي كان يقرئ في بيته بسبب فالج أصابه، وتوفي الشيخ سنة 692 وقد وصل معه الذهبي إلى أواخر سورة القصص، وكان الذهبي قد شرع في الوقت نفسه يقرأ على الشيخ جمال الدين أبي إسحاق إبراهيم بن غالي المقرئ الدمشقي المتوفى سنة 708، وقرأ كذلك على محمد بن نصير بن صالح بن جبريل بن خلف المصري، نزيل دمشق، وشيخ الإقراء بالأشرفية، والمتوفى سنة 718، وغيرهم من شيوخ القراء، وما لبث الذهبي أن أصبح على معرفة جيدة بالقراءات، وأصولها ومسائلها، وتميز فيها تميزاً جعل شيخه شمس الدين أبا عبد الله محمد بن عبد العزيز الدمياطي ثم الدمشقي الشافعي، وهو من المقرئين المجودين، يتنازل له عن حلقته بالجامع الأموي ، حينما أصابه المرض الذي توفي فيه، فكان هذا أول منصب علمي يتولاه الذهبي فيما نعلم، وهو لما يزل فتى في العشرين من عمره، وإن لم يدم فيه أكثر من سنة واحدة، فقد سافر الذهبي إلى بعلبك ليقرأ على الشيخ موفق الدين النصيبي، محمد بن علي، المتوفى سنة 695، ودامت رحلته قرابة 70 يوماً، ولكون الذهبي لم يستأذن الحاكم في أن يغيب، فقد أخذ حلقته محمد بن أحمد بن علي شمس الدين أبي عبد الله الرضي الحنفي، واستمر فيها إذ لم يعارضه الذهبي بعد عودته.
وكان الذهبي في مقتبل طلبه للعلم قد مال إلى سماع الحديث، واعتنى به عناية فائقة، وانطلق في هذا العلم حتى طغى على كل تفكيره، واستغرق كل حياته بعد ذلك، فسمع ما لا يحصى كثرة من الكتب والاجزاء، ولقي كثيرا من الشيوخ والشيخات، وأصيب بالشره في سماع الحديث وقراءته، ورافقه ذلك طيلة حياته، حتى كان يسمع من أناس قد لا يرضى عنهم، قال في ترجمة عمر بن يحيى بن أبي بكر بن طرخان البعلبكي: شيخ خضيب، عامي، ليس بعدل، وسماعه صحيح من الإربلي، وابن رواحة ... سمعت منه على سبيل التكاثر والشره! وقال في ترجمة علاء الدين أبي الحسن علي بن مظفر الاسكندراني، ثم الدمشقي، شيخ دار الحديث النفيسية، المتوفى سنة 716: ولم يكن عليه ضوء في دينه، حملني الشره على السماع من مثله، والله يسامحه كان يخل بالصلوات، ويرمى بعظائم الأمور. وقال في ترجمة شيخه محمد بن النصير المؤذن المتوفي سنة 715: شويخ عامي سمعنا منه، ولم يكن بذاك. بل ذهب حب الحديث بالذهبي إلى القراءة على الصم، فقد ذكر في ترجمة شيخه محمود بن محمد الخرائطي الصالحي الاصم المتوفي سنة 716:  قرأت عليه بأقوى صوتي في أذنه.
ولا بد للمحدث في ذلك الوقت من الرحلة في طلب الإسناد العالي والسماع مشافهة وبخاصة من الشيوخ المتقدمين في العمر ليروي عنهم قبل أن يدركهم الأجل المحتوم، وقد حال بين الإمام الذهبي وبين أن تنفتح أمامه آفاق الرحلة على النحو الذي يريد أنه كان على الأغلب وحيد والديه، وكان والده لا يحبذ فراق ابنه مدة طويلة قد تبلغ أعواماً كما نرى في سيرة كثير من المحدثين، ويذكر الذهبي في وفيات سنة 697 وفاة شيخ دار الحديث المستنصرية، كمال الدين الفويره البغدادي، عبد الرحمن بن عبد اللطيف، المولود سنة 600 أو قبلها، فيقول: وروى الكثير، وعمر دهرًا طويلاً، وكنت في سنة 694 وسنة 695 أتلهف على لقيه وأتحسر، وما يمكنني الرحلة إليه لمكان الوالد ثم الوالدة.
على أن والده كان يأذن له بالسفر للبلدان القريبة في الشام مثل بعلبك في سنة 693 حيث أقام فيها قرابة شهرين كما ذكرنا، ولما سافر الذهبي إلى حلب في نفس السنة مع أخيه من الرضاع داود بن إبراهيم ابن العطار، وهو أكبر من الذهبي بثمانية أعوام، رافقه والده في تلك الرحلة، وسمح له والده بالرحلة إلى مصر على أن لا يغيب أكثر من 4 أشهر، فرحل إليها سنة 695 وسمع من كبار مشايخ القاهرة والإسكندرية الحديث والقراءات وغيرها من العلوم والكتب، ونزل في رحلته هذه على محدث حافظ هو ابن الظاهري الحلبي، جمال الدين أبي العباس أحمد بن محمد، مولى الملك الظاهر صاحب حلب، المولود بحلب سنة والمتوفى بالقاهرة سنة 696، قال الذهبي في ترجمته في وفيات 696:  شيخنا الحافظ، القدوة، الزاهد... وبه افتتحت السماع في الديار المصرية، وبه اختتمت، وعنده نزلت، وعلى أجزائه اتكلت... وتفقه على مذهب أبي حنيفة، وسمع من نحو سبعمئة شيخ، وكان دينا، خيرا رضي الأخلاق، عديم التكلف بريا من التصنع، محببا إلى الناس، ذا سكينة ووقار وشكل تام، ووجه نوراني، وشيبة بيضاء منيرة كبيرة مستديرة، ونفس شريفة كريمة، وقبول تام وحرمة وافرة. والله يرحمه ويجزيه عنا الخير، فلقد أفاد الطلبة وأعانهم بكتبه وأجزائه. وقل من رأيت مثله. بل عدم.
وبعد وفاة والده سنة 697 أدى الذهبي فريضة الحج سنة 698، فسمع من مشايخ الحجاز وغيرهم من العلماء الذين كانوا في حملة الحج أو التقى بهم في الموسم.
ورغم اهتمام الذهبي الواضح بالحديث ورواياته، فإنه لم يقتصر في دراسته على سنوات الطلب الأولى، ولم يحصرها في الحديث والقراءات، فقد أمضى طيلة حياته في الدراسة والسماع لا يشغله عنهما شاغل، وشملت دراسته النحو واللغة والآداب، وسمع على شيوخه عددا كبير من كتب المغازي والسيرة والتاريخ والتراجم.
وممن ينبغي ذكره من مشايخ الذهبي الإمام العلامة، حجة العربية، بهاء الدين، أبو عبد الله 539 - محمد بن إبراهيم ابن النحاس الحلبي، النحوي، المولود بحلب سنة 627 والمتوفى بالقاهرة سنة 697، قال عنه الذهبي في تاريخه: كان من أذكياء بني آدم، وهو مشهور بالدين والصدق والعدالة، مع اطراح التكلف، وترك التجمل، وصغر العمامة. وقد رأيته يمشي بالليل في قصبة القاهرة بقميص وعلى رأسه طاقية فقط، وكان حسن الأخلاق، محببًا إلى تلامذته، فيه ظرف النحاة وانبساطهم، وكان يتحدث في تعليمه وخطابه بلغة عامة الحلبيين، لا يتقعر في عبارته، وكان معروفًا بحل المشكلات والمعضلات، واقتنى كتبًا نفيسة كثيرة، وأظنه لم يتزوج قط.
التقى الذهبي بعلماء  عديدين وأخذ عنهم وتدارس وتباحث معهم، ولكنه تأثر تأثراً واضحا بثلاثة من أقرانه وشيوخ عصره الذين صاحبهم طيلة حياتهم، وكان هؤلاء متشابهين في اتجاههم نحو طلب الحديث منذ فترة مبكرة، ومتميزين في سعة علمهم واستقلالهم الفكري الذي جعلهم ينصفون الحنابلة في جو غلب عليه في كثير من الأحيان التعصب المذهبي، وهؤلاء العلماء هم جمال الدين المزي، أبو الحجاج يوسف بن عبد الرحمن المزي الشافعي، المولود سنة 654 والمتوفى سنة 742، وتقي الدين ابن تيمية، أبو العباس أحمد بن عبد الحليم الحراني، المولود سنة 661 والمتوفى سنة 728، وعلم الدين البرزالي، أبو محمد القاسم  بن محمد، المولود سنة 665 والمتوفى سنة 739، وهكذا نلاحظ أن أصغرهم كان الذهبي المولود سنة 673، رحمهم الله جميعاً.
ويشير الذهبي لعلم الدين البرزالي بشيخنا ويذكر أنه هو الذي حبب إليه العناية بالحديث النبوي الشريف، فقال عنه: الإمام الحافظ المتقن الصادق الحجة، مفيدنا ومعلمنا ورفيقنا، محدث الشام مؤرخ العصر ... وبفصاحته وحسن أدائه للحديث يُضرب المثل، مع الفضيلة والاتقان والتواضع وحسن البِشر وكثرة الأصول ... وهو الذي حبب إليَّ طلب الحديث، فإنه رأى خطي، فقال: خطك يشبه خط المحدثين! فأثَّر قوله فيّ، وسمعت منه، وتخرجت به في أشياء، وكان على غاية من الاعجاب بعلمه، ولا سيما معجم شيوخه الذي خرجه لنفسه، وفيه ثلاثة آلاف شيخ، منهم ألفان بالسماع وألف بالاجازة.
وكتب الذهبي عن شيخه ورفيقه المزي بأنه: العلامة الحافظ البارع أستاذ الجماعة... محدث الإسلام ... خاتمة الحفاظ وناقد الأسانيد والألفاظ، وهو صاحب معضلاتنا وموضح مشكلاتنا.
وكان لابن تيمية الأثر الأكبر عند الذهبي الذي مدحه مدحاً عظيماً ثم قال: وهو أكبر من أن ينبه مثلي على نُعوته، فلو حلفت بين الركن والمقام لحلفت، أني ما رأيت بعيني مثله، ولا والله ما رأى هو مثل نفسه في العلم. ولكن إعجاب الذهبي الشديد بشيخه ابن تيمية لم تمنعه من مخالفته في بعض المسائل الأصلية والفرعية، ولكن ميله إليه واتفاقه معه في كثير القضايا يبدو واضحاً في ثنايا كتبه ومواقفه من بعض المتصوفة ومن استهجانه لعلمي المنطق والفلسفة، ولم يكن الذهبي فريداً أو وحيداً في ذلك، فقد كان كثير من علماء العصر يقفون مع ابن تيمية في جو الاستقطاب الشديد الذي ساد بين العلماء آنذاك، ولكن مكانة الذهبي العلمية السامية جعلت لموقفه أهمية عند مؤيدي ومناوئي ابن تيمية، وقد حرم الذهبي  بسبب ذلك من تولي مشيخة دار الحديث الأشرفية بدمشق بعد وفاة المزي سنة 742.
ولكن الذهبي تولى من قبل ذلك مناصب هامة في كبريات دور الحديث بدمشق، فقد تولى سنة 729 دار الحديث الظاهرية، وفي سنة 739 تولى تدريس الحديث بالمدرسة النفيسية بعد وفاة علم الدين البرزالي، وصار في نفس السنة شيخ الحديث في مدرسة الأمير تنكز التي انتهى بناؤها مؤخرا.
وقد أتاحت له هذه المناصب أن يدرس عليه عدد كبير من الطلبة يفوق الحصر، وكانت شهرته العلمية تجذب كل طالب علم جاد إلى زيارته في دمشق للأخذ عنه والسماع منه، ومن طريف ما يذكر في هذا أن العلامة أبا عبد الله محمد بن محمد بن عبد الكريم الموصلي الأصل الطرابلسي، المولود ببعلبك سنة 669 والمتوفى بطرابلس سنة 774، جاء إلى دمشق سنة 734 ودرس على الذهبي وقال فيه:
ما زلت بالسمع أهواكم وما ذُكِرت ... أخبارُكم قط إلا ملت من طرب
وليس من عجب أن ملت نحوكم ... فالناس بالطبع قد مالوا إلى الذهب
بدأ الذهبي نشاطه في التأليف باختصار عدد كبير من أمهات الكتب في شتى العلوم التي مارسها، ومن أهمها التاريخ والحديث، وأول ما يلاحظ الدارس هذا العدد الضخم من الكتب التي اختصرها والتي تربي على خمسين كتابا، معظمها من الكتب الكبيرة التي اكتسبت أهمية عظيمة عند الدارسين، والتي تعد من بين أحسن الكتب التي وضعت في عصرها وأكثرها أصالة، مما يدل على استيعاب الذهبي لمؤلفات السابقين، ومعرفته بالجيد الاصيل منها، وتمتعه بقدرة ممتازة على الانتقاء.
ومما يثير الانتباه أن مختصرات الذهبي لم تكن اختصارات عادية يغلب عليها الجمود والنقل، بل إن المطلع عليها الدارس لها بروية وإمعان يجد فيها إضافات كثيرة، وتعليقات نفيسة، واستدراكات بارعة، وتصحيحات وتصويبات لمؤلف الأصل إذا شعر بوهمه أو غلطه، ومقارنات تدل على معرفته وتبحره في فن الكتاب المختصر، فهو اختصار مع سد نقص وتحقيق ونقد وتعليق وتدقيق، وهو أمر لا يتأتى إلا للباحثين البارعين الذين أوتوا بسطة في العلم ومعرفة بفنونه.
ومع أن الذهبي قد عاش في عصر غلب عليه الجمود والنقل والتخليص، فإن مختصراته تتميز بما يسبله عليها من روحه النقادة ومعرفته الموسوعية وفطنته اللماحة، فترى الكتاب المختصر وقد ازداد أهمية ونفعاً، لا بتراً وقطعاً، وحين يرى الذهبي ضرورة فإنه لا يتردد في أن يضيف إلى الكتاب الذي يختصره تعليقاً أو تاريخ وفاة أو حكماً على رأي، أو استدراكاً على المؤلف، ولا يكاد يورد حديثاً دون أن يخرجه أو يتعقب المؤلف إن كان ثمة حاجة لذلك، والذهبي في ذلك ليس بالمتصيد المتعنت المستعرض بل يفعل ذلك لسد نقص يعتري ذلك الكتاب، ويهدف إلى إفادة القارئ والباحث، ويورد الدكتور بشار عواد معروف مثالاً على ذلك مختصر الذهبي لكتاب المستدرك على الصحيحين لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري المتوفى سنة 405، الذي قصد فيه مؤلفه أن يورد أحاديث على شرط البخاري ومسلم مما لم يذكراه في صحيحيهما، حيث تضمن المختصر تعليقات الذهبي وتخريجاته ونقده وكانت فائدتها أنه لم يصحح من أحاديث الكتاب سوى النصف، وبيَّن لنا أن نصف النصف الآخر يصح سنده وإن كان فيه علة، أما الربع الأخير فهو أحاديث مناكير وواهيات لا تصح، بل إن في بعضها أحاديث موضوعة، وهذا يعني أن الذهبي قد أعاد دراسة جميع أحاديث المستدرك مجددا ونقدها، فخرج بهذه النتيجة.
والذهبي من العلماء الذي بارك الله في أوقاتهم وهممهم فكانت له مؤلفات تزيد على 200 مؤلف، وهي تدل بمنهجها وفوائدها على شخصية هذا الإمام العظيم، فهو من أفراد العلماء في تاريخ الإسلام من حيث غزارة المصنفات ومتانة المنهج وبراعة التأليف وحسن التناول والتبويب والتقديم، وعلى رأس مؤلفاته يأتي كتاباه العظيمان تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام الذي انتهى من إخراجه لأول مرة سنة 714، وسير أعلام النبلاء، وكل منهما موسوعة في شمولهما الزمني والجغرافي والفئوي، قال الدكتور معروف: يجد الباحث فيها دقة متناهية في التعبير، وحبكا للترجمة تشد القارئ إليها مع تعدد الموارد وانتقاء لأفضلها، وإبداء لآرائه الشخصية فيها. وهذه الأراء الشخصية مبنية على منهج منصف متوازن متجرد، لا يتابع ويكرر بل يتأمل ويمحص، وهذا يجعل أقوال الذهبي ذات أهمية كبيرة في تقييم الأشخاص والأحداث، ويعرف ذلك ويقدره كل من جلس على مأدبة الذهبي في هذين الكتابين وغيرهما.
وقد أورد الدكتور معروف مثالين على منهج الذهبي في معالجة أمرين أولهما في غاية الدقة والأهمية ويتعلق بالرجال، والثاني يتعلق بقوته في البحث والاستدلال بروح العلم المبني على الدليل والإقناع:
والمثال الأول ما ذكره الذهبي في ترجمة أبان بن تغلب الكوفي، قال: شيعي جَلِدٌ ولكنه صدوق، فلنا صدقه، وعليه بدعته. وقد وثَّقه أحمد بن حنبل، وابن معين، وأبو حاتم، وأورده ابن عدي، وقال: كان غاليا في التشيع. وقال السعدي: زائغ مجاهر!
فلقائل أن يقول: كيف ساغ توثيق مبتدع، وحد الثقة: العدالة والاتقان؟ فكيف يكون عدلا من هو صاحب بدعة؟ وجوابه أن البدعة على ضربين: فبدعة صغرى كغلو التشيع، أو كالتشيع بلا غلو ولا تحرف، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق، فلو رد حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية، وهذه مفسدة بينة. ثم يدعة كبرى كالرفض الكامل والغلو فيه، والحط على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، والدعاء إلى ذلك، فهذا النوع لا يحتج بهم ولا كرامة... ولم يكن أبان بن تغلب يعرض للشيخين أصلا، بل قد يعتقد عليا أفضل منهما.
والمثال الثاني هو مناقشته لمسألة معرفة النبي صلى الله عليه وسلم الكتابة، فقال في ترجمة الحافظ العلامة أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي المتوفى سنة 474: ولما تكلم أبو الوليد في حديث الكتابة يوم الحديبية الذي في البخاري قال بظاهر لفظه، فأنكر عليه الفقيه أبو بكر ابن الصائغ وكفره بإجازة الكتب على رسول الله صلى الله عليه وسلم النبي الأمي، وأنه تكذيب بالقرآن، فتكلم في ذلك من لم يفهم الكلام، حتى أطلقوا عليه الفتنة، وقبحوا عند العامة ما أتى به خطباؤهم في الجُمَع، وقال شاعرهم:
برئت ممن شرى دنيا بآخرة ... وقال: إن رسول الله قد كتبا
وصنف أبو الوليد رسالة بيَّن فيها أن ذلك غير قادح في المعجزة، فرجع بها جماعة.
قلت: ما كل من عرف أن يكتب اسمه فقط بخارج عن كونه أميا لانه لا يسمى كاتبا، وجماعة من الملوك قد أدمنوا في كتابة العلامة وهم أميون، والحكم للغلبة لا للصورة النادرة، فقد قال عليه السلام: إنا أمة أمية. أي أكثرهم كذلك، لنُدُور الكتابة في الصحابة، وقال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ.
وأضيف إلى ما أورده الدكتور حفظه الله بعض الأمثلة الآخرى التي تنير زوايا أخرى من معالجة الذهبي للتراجم، قال في وفيات سنة 697 في ترجمة تاجر كبير هو أبو البقاء الربعي، التكريتي، توبة بن علي بن مهاجر: ولد يوم عرفةبعرفة سنة 620، وتعانى التجارة والسفر، وكان يعرف السلطان في حال إمرته ويعامله ويخدمه. وولي البياعة وتنقلت به الأحوال، ثم لما تسلطن مخدومه الملك المنصور ولاه وزارة الشام مدة، ثم عزله، ثم ولي وصودر غير مرة، ثم يسلمه الله. وكان مع ظلمه فيه مروءة، وحسن إسلام، وتقرب إلى أهل الخير، وعدم خبث. وله همة عالية، ونفس أبية، وفيه سماحة وكرم وبسط، وحسن أخلاق، ومزاح، وعدم جبروت.
وأورد الذهبي في ترجمة هولاكو ملك المغول قول المؤرخ ظهير الدين الكازروني عن هولاكو: كان عارفاً بغوامض الأمور وتدبير الملك، فاق على من تقدمه، وكان يحب العلماء ويعظمهم، ويشفق على رعيته، ويأمر بالإحسان إليهم. ثم عقب الذهبي رحمه الله فقال: وهل يسع مؤرخاً في وسط بلاد سلطانٍ عادلٍ أو ظالٍم أو كافرٍ إلا أن يثني عليه ويكذب، فالله المستعان ؛ فلو أُثني على هولاكو بكل لسانٍ لاعترف المثني بأنه مات على ملة آبائه، وبأنه سفك دم ألف ألفٍ أو يزيدون، فإن كان الله تعالى مع هذا وفقه للإسلام فيا سعادته، لكن حتى يصح ذلك. والله أعلم. والكازروني، هو علي بن محمد المولود سنة 611 والمتوفى سنة 697، وكان من رجال الدولة المغولية في العراق، وله كتاب روضة الأريب 17 جزءاً في التاريخ.
وأورد الذهبي في وفيات في ترجمة الشيخ أبي الفداء الدمشقي، إسماعيل بن علي بن محمد بن عبد الواحد ما يلي: الشيخ الزاهد، العابد، العالم ... كان كاتباً، أديباً، شاعراً، خدم في الجهات، وتزهَّد بعد ذلك. ولد سنة 630، ودخل في جملة الشعراء على الملك الناصر بدمشق، فلمّا انجفل الناس ندبه هولاكو إلى مصر، دخلها وترك الخدمة وتزهّد،وأقبل على شأنه، ولزم العبادة، فاجتمع بالشيخ محيي الدين ابن سُراقة فقال له: إن أردت هذا المعنى فعليك بتصانيف محيي الدين ابن العربي. فلما رجح إلى دمشق انقطع ولزم العبادة، وأقبل على كتب ابن العربي فنسخها وتلذذ بها، وكان يلازم زيارة قبره ويبالغ في تعظيمه، والظنّ به أنه لم يقف على حقيقة مذهبه، بل كان ينتفع بظاهر كلامه، ويقف عن متشابهه، لأنه لم يُحفظ عنه ما يُشينه في دينه من قولٍ ولا فعلٍ، بل كان عبداً قانتاً لله، صاحب أوراد وتهجُّد، وخوف، واتباع الأثر، وصدق في الطلب، وتعظيم لحرمات الله تعالى. لم يدخل في تخبيطات ابن العربي، ولا دعا إليها، وكان عليه نور الإسلام وضوء السنة... ويُشعر تقواه بانه ما دقّق في مذهب الطائفة ولا خاص معانيهم، ولعل الله تعالى حماه للزومه العبادة والإخلاص.
والظاهر أنه كان يُنزل كلام محيي الدين على محامل حسنة وتمحّل العارفين. فما كل من عظَّم كبيراً عرف جميع إشاراته، بل تراه يتغالى فيه مجملاً، ويخالفه مفصّلاً، من غير أن يشعر بالمخالفة، وهذا شأن فِرق الأمة في نبيّها صلى الله عليه وسلم، تراهم منقادين له أتم انقياد، وكل فرقة تخالفه في أشياء جمة ولا شعور لها بمخالفته،  وكذا حال خلائق من المقلدين لأئمتهم يحضّون على اتباعهم في كل مسألةٍ ويخالفونهم في مسائل كثيرة من الأصول والفروع، ولا يشعرون بارتكاب مخالفتهم ولا يصغون، نعوذ بالله من الهوى وأن نقول على الله ما لا نعلم، فما أحسن الكف والسكوت، وما أنفع الورع والخشية! وكذلك الشيعة تبالغ في حبّ الإمام علي، ويخالفونه كثيراً، ويأولون كلامه، أو يكذِّبون بما صح عنه. ولعل الله تعالى أن يعفو عن كثيرٍ من الطوائف بحسن قصدهم وتعظيمهم للكتاب والسُّنّة.
ويذكر الصفدي في وفيات سنة 710 في ترجمة أحد كبار الأمراء المدعو سيف الدين سلار: قال شمس الدين الجزري: قيل إنه أخذ له ثلاثمئة ألف ألف دينار وشيء كثير من الجواهر والحلي والخيل والسلاح والغلال مما لا يكاد ينحصر. ثم قال الصفدي: قال شيخنا الذهبي رحمه الله: وهذا شيء كالمستحيل، لأن ذلك يجيء وقر عشرة آلاف بغل؛ الوقر ثلاثون ألف دينار، وما علمت أن أحداً من كبار السلاطين ملك هذا ولا ربعه، ثم تدبر رحمك الله إذا فرضنا صحة قولهم إن دخله كان في كل يوم أربعة آلاف دينار، أما كان عليه فيها خرج؟ فلو أمكنه أن يكنز كل يوم ثلاثة آلاف دينار، أكان يكون في السنة غير ألف ألف دينار ومئتي ألف دينار؟ فتصير الجملة في عشرة أعوام اثني عشر ألف ألف دينار، وهذا لعله غاية أمواله، فلاح لك فرط ما حكاه صاحبنا الجزري واستحالته.
وقد عانى الذهبي كتابة السيرة وهو فن خاص له مميزاته التي تجعله يختلف عن كتابة الترجمة، فكتب في في سير الخلفاء الراشدين، وأئمة الفقه والحديث، وغيرهم.
ويلي هذين الكتابين في الأهمية كتابه ميزان الاعتدال في نقد الرجال، وحسبك بعنوانه دالاً على منهجه، والذي اعتبره معاصروه ومن جاء بعدهم من أحسن كتبه وأجلِّها، وقد تناوله عدد كبير من الحفاظ والعلماء والمعنيين بالنقد استدراكا وتعقيبا وتلخيصا. وقد حقق والدي رحمه الله تعالى كتابين من كتب الإمام الذهبي هما كتاب الموقظة، في علم مصطلح الحديث، وكتاب ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل.
ولم يشتهر الذهبي بوصفه فقيها أو عالما بالفقه مع أنه درسه على أعلام العصر، وقد ألف في أصوله، وألف عددا من الكتب والأجزاء التي تناولت موضوعات فقهية، وكانت له خواطر وآراء ونقدات جاءت في ثنايا كتبه، من ذلك مثلا كلامه في مسألة الطلاق ومناقشته لابن تيمية، لكنه كان عزوفا عنه لانشغاله بالحديث وروايته.
ولم يكن في الذهبي جمود بعض العلماء وصلفهم، بل كان قريباً من النفس ذات طرفة ومباسطة، قال الذهبي رحمه الله
إذا قرأ الحديث علي شخص ... وأخلى موضعا لوفاة مثلي
فما جازى بإحسان لأني ... أريد حياته ويريد قتلي
فلما سمع  تلميذه الصفدي هذين البيتين أنشده بيتين نظمهما
خليلك ما له في ذا مراد ... فدم كالشمس في أعلى محل
وحظي أن تعيش مدى الليالي ... وإنك لا تَملُّ وأنت تُملي
ومن شعر الذهبي اللطيف يبث شجون العلماء في العوائق التي تهمهم:
لو أن سفيان على حفظه ... في بعض همي نسى الماضي
نفسي وعرسي ثم ضرسي سعوا ... في غربتي والشيخ والقاضي
عُرف الذهبي بزهده وورعه وديانته المتينة، وكان يأنس إلى الاجتماع بمشاهير الفقراء والصوفية من ذوي الديانة والتمسك بالآثار، قال تلميذه تقي الدين ابن رافع السلامي المتوفى سنة 774: كان خيرا صالحا متواضعا حسن الخلق حلو المحاضرة، غالب أوقاته في الجمع والاختصار والاشتغال بالعبادة، له ورد بالليل، وعنده مروءة وعصبية وكرم. وقال الزركشي المتوفى سنة 794: مع ما كان عليه من الزهد التام والايثار العام والسبق إلى الخيرات والرغبة بما هو آت.
أصيب الذهبي في سنة 741، قبل موته بسبع سنين، بماء نزل في عينيه، فحرم من نعمة البصر، وكان يتأذى ويغضب إذا قيل له: لو قدحت هذا لرجع إليك بصرك، ويقول: ليس هذا بماء، وأنا أعرف بنفسي، لأنني ما زال بصري ينقص قليلا قليلا إلى أن تكامل عدمه.
للذهبي ثلاثة من أولاده عرفوا بالعلم، أولهم ابنته أَمة العزيز، وقد كان والدها يطلب لها الإجازات من العلماء والمحدثين،  ويظهر أنها تزوجت في حياة والدها وخلفت ولدا اسمه عبد القادر سمع مع جده من أحمد بن محمد المقدسي المتوفى سنة 737، وأجاز له جده رواية كتابه تاريخ الإسلام، وثانيهم ابنه أبو الدرداء عبد الله، ولد سنة 708 وأسمعه أبوه من خلق كثير، وحدث ومات سنة 754، وثالثهما ابنه شهاب الدين أبو هريرة عبد الرحمن، ولد سنة 715 وسمع مع والده أجزاء حديثية كثيرة، وسمع من عيسى المطعم الدلال المتوفى سنة 719، وخرَّج له أبوه أربعين حديثا عن نحو المئة نفس، وحدث منذ سنة 740، وتأخرت وفاته إلى سنة 799.
توفي الذهبي عن 75 سنة ودفن بمقابر باب الصغير في دمشق، وحضر الصلاة عليه جملة من العلماء، ورثاه تلميذه المؤرخ الصفدي فقال:
أشمس الدين غبتَ، وكل شمس ... تغيب، وزال عنا ظِلُّ فضلك
وكم ورختَ أنت وفاة شخص ... وما ورختُ قط وفاةَ مثلك

الثلاثاء، 26 أغسطس 2014

حدث في الثلاثين من شوال

في الثلاثين من شوال من سنة 491 توفي في بغداد، عن 93 عاماً، الشريف طِراد بن محمد بن علي الهاشمي العباسي الزينبي، الملقب بأبي الفوارس، نقيب النقباء، ومسند العراق في عصره.
والزينبي نسبة  إلى المعمرة زينب بنت سليمان بنت علي بن عبد الله بن عباس‏، ابنة عم المنصور العباسية، ورأت عدة خلفاء، أولهم ابن عمها السفاح، ثم المنصور، ثم المهدي، ثم الهادي، ثم الرشيد، ثم الأمين، ثم المأمون، وكان يكرمها ويجلها، وبقيت إلى سنة بضع عشرة ومئتين.
ونسبه هو: طراد بن محمد بن علي بن الحسن بن محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن محمد بن سليمان بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم الإمام بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي.
ولد في بغداد سنة 398 لأسرة عريقة في بني هاشم تولت نقابة الأشراف كابراً عن كابر.
فوالده محمد بن علي ولي نقابة بني هاشم سنة 384 وبقي فيها حتى وفاته سنة 427 عن 61 عاماً، ورثاه الشريف الرضي، وله رواية لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلف والده ستة من الأولاد كلهم من كبار محدثي بغداد واتسموا جميعاً بالصلاح والتقوى، وتسنموا مكانة عالية بين فقهاء المذهب الحنفي في تلك الفترة، وكان أخوه الحسين الملقب بنور الهدى رئيس الحنفية في زمانه، وولي نقابة الطالبيين والعباسيين شهورا، ثم تنازل عنها إلى الشريف طراد.
سمع الشريف طراد الزينبي الحديث من كبار محدثي بغداد، وتولى نقابة العباسيين بالبصرة فترة ثم انتقل إلى بغداد، وطال عمره وانفرد بالرواية عن أكثر شيوخه وحدث بالكثير، وأملى الحديث سنين في جامع المنصور ببغداد، وكان يحضر مجلس إملائه جميع أهل العلم من أصحاب الحديث والفقهاء، ولم ير ببغداد منذ زمن مثل مجالسه، وأملى كذلك بمكة والمدينة مجالس حديثية سنة 489، ويقول المحدثون عن أمثاله من المعمرين: ألحق الصغار بالكبار في رواية الحديث، وحدث عنه خلق كثير من مشارق الأرض ومغاربها.
ساد الشريفُ طراد الزينبي أهلَ زمانه رتبة، وعلواً، وفضلا، ورأياً، وشهامة، وكان أعلى أهل بغداد منزلة عند الخليفة، ولي نقابة النقباء في بغداد سنة 453 ولُقِبَ بالكامل ذي الشرفين، وكان محل ثقة الخليفة الذي أرسله في مراسلات عديدة إلى السلاطين والملوك، ففي سنة 453 خطب السلطان السلجوقي طُغرلبك ابنة الخليفة القائم بأمر الله بعد موت زوجته، وكانت امرأة سديدة عاقلة، وأوصته بذلك قبل موتها، وامتنع الخليفة في البداية لأنه لم تجر العادة بمثل هذا الزواج لمكان الخلافة والنسب الشريف، وأرسل الخليفة النقيب طراد إلى السلطان لعله يستطيع التخلص من ذلك.
وفي سنة 554 بذل فخر الدولة أبو نصر بن جهير، وزير نصر الدولة بن مروان الكردي في ميافارقين، مالاً كثيراً ليتولى وزارة الخليفة ببغداد فأجيب إلى ذلك، وأرسل الخليفة طراد الزينبي إلى ميافارقين كأنه رسول، فلما عاد سار معه ابن جهير كالمودع له ثم انسل معه إلى بغداد.
وفي سنة 463 خطب محمود بن صالح بن مرداس بحلب لأمير المؤمنين القائم بأمر الله، وللسلطان ألب أرسلان، وتحولت الدولة من شيعية إلى سنية، فأرسل الخليفة إليه خلعاً مع نقيب النقباء طراد بن محمد الزينبي.
وفي سنة 465 أرسله الخليفة القائم رسولاً إلى السلطان السلجوقي ملكشاه إثر وفاة والده طغرل بك يستجلب رضاه لحاكم الموصل، وتوافق ذلك مع معركة خاضها السلطان ضد عمه في همذان، فشهدها النقيب وتعرضت فيها خيمه للنهب في طور من أطوار المعركة، ولكن ذلك لم يمنعه من أن يعقد مجلساً لرواية الحديث في أصفهان، ولما احتُضِر القائم سنة 467 كتب ولاية العهد للمقتدي، فلما توفي جلس المقتدي للبيعة، وكان من أول من بايعه النقيب طراد الزينبي، وفي سنة 482 حج وزير الخليفة، فاستناب ابنه ونقيب النقباء طراد بن محمد الزينبي.
ولد للشريف طراد ولدٌ وهو في الرابعة والستين أسماه علياً، تدرج في المناصب فولي نقابة النقباء ثم استوزره الخليفة المسترشد بالله سنة 523، وكان من العقلاء العارفين بسياسة الملك وتدبيره، ولم يوزر للخلفاء من بني العباس هاشمي غيره، ولما صارت الخلافة إلى المقتفي لأمر الله حدثت بينهما وحشة كان سببها اعتراضه على الخليفة في شؤون أمر بها، فاستقال سنة 534 ولزم بيته يتعبد الله ببغداد إلى أن توفي بعد أربع سنوات عن 76 عاماً.
وله ابن آخر هو محمد بن طراد كان كذلك من أهل الرواية وتولى نقابة الهاشميين وتوفي سنة 546.
كان طراد شيخاً وسيماً، حسن اليقظة، سريع الفطنة، جميل الطريقة في الرواية، فَقِهاً في جميع ما حدث به،  وكان أحضر الناس جواباً وأحسنهم نادرة وأكثرهم مروءة، مع سداد وكفاية وشهامة، وكانت له الحرمة التامة والمنزلة الرفيعة، ومُتِّع بسمعه وبصره وقوَّته إلى آخر أيامه.
وقال المحدث الرحالة أبو علي الصدفي الأندلسي، الحسين بن محمد: كان الشريف الزينبي أعلى أهل بغداد منزلة عند الخليفة، وكنا نبكر إليه، فيتعذر علينا السماع منه والوصول إليه، وعند بابه الحجاب، ولعل زيَّ بعضهم فوق زيه، وكنا نقرأ عليه وهو يسمع، إذ ليس مثله ما يُرَدُّ، وربما اتبعناه ونحن نقرأ عليه إلى أن يركب.

الاثنين، 25 أغسطس 2014

حدث في التاسع والعشرين من شوال

في التاسع والعشرين من شوال من سنة 1126 توفي في دمشق، عن 82 عاماً،  أبو المواهب الحنبلي محمد بن عبد الباقي الحنبلي البعلي الدمشقي، مفتي الحنابلة بدمشق.
أصل أسرته من بعلبك، وولد بدمشق سنة 1044 وكان والده من كبار علمائها في القراءات والفقه والحديث والتفسير، له دروسٌ يومية في المسجد الأموي، فنشأ في كنف والده وقرأ القرآن العظيم وحفظه وجوَّدَه بالقراءات العشر، وأخذه والده معه إلى الحج سنة 1055، وجمعه والده بعلماء مكة، وطلب له منهم الإجازة. قال عن والده رحمهما الله تعالى: وعلى كل حال فقد رباني حق التربية، وأدبني حق التأديب، وخرَّجني أحسن التخريج، وأحسن إليَّ غاية الإحسان، لم يُبْقِ شيئا من أنواع الإكرام إلا وقام به حق القيام. فجزاه الله تعالى ووالدتي خير ما جازى أبوين عن ولدهما. وأجزل الله له ولها الثواب.
ودرس أبو المواهب على كبار علماء دمشق، فدرس صحيح البخاري على نجم الدين محمد بن محمد الغزي، وقرأ عليه ألفية مصطلح الحديث، ودرس على الشيخ محمد بن أحمد الأسطواني الحنفي الفقيه، ووصفه بأنه كان آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، ناسكا عابدا، ودرس العربية والحديث على الشيخ محمد بن تاج الدين بن أحمد المحاسني الحنفي الخطيب بجامع دمشق، ووصفه بأنه كان فاضلا عالما ورعا زاهدا متقنا متضلعا فيه لين وتواضع وحلاوة منطق.
وجرياً على عادة المحدثين والعلماء كتب أبو المواهب ثَبْتاً عـدَّد فيه شيوخه وذكر تراجمهم ومشايخهم وما درسه على ىد كل منهم، وما تحلى به كل شيخ من محاسن الأخلاق وكريم الصفات، وذكر هذا الثبت باسم الكواكب الزاهرة في آثار الآخرة الإمامُ المحدث عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني في كتابه فهرس الفهارس والأثبات ومعجم المعاجم والمشيخات والمسلسلات.
ورحل أبو المواهب في طلب العلم إلى مصر سنة 1071 وأخذ فيها القراءات والفقه والحديث عن جماعة من كبار علمائها، وتوفي والده وهو بمصر، ثم عاد إلى دمشق وجلس للتدريس مكان والده في محراب الشافعية بين العشائين وبكرة النهار، فقرأ بين العشائين صحيح البخاري وصحيح مسلم، والجامعين الكبير والصغير للسيوطي، والشفا للقاضي عياض، ورياض الصالحين للنووي، وتهذيب الأخلاق لابن مسكويه واتحاف البررة بمناقب العشرة للمحب الطبري وغيرهما من كتب الحديث والوعظ.
وأخذ عنه الحديث والقراءات والفرائض والفقه ومصطلح الحديث والنحو والمعاني والبيان كثير من طلبة العلم، وانتفع الناس به طبقة بعد طبقة، وممن درس عليه الشيخ إسماعيل العجلوني صاحب كشف الخفا ومزيل الالتباس عما اشتهر من الأحاديث على السنة الناس، وحامد بن علي العمادي مفتي الحنفية بدمشق، وعبد الكريم بن أحمد بن علوان المعروف بالشراباتي الشافعي الحلبي.
ثم حج سنة 1079 والتقى في الحرمين بكثير من علمائها ومن أتوها من الأقطار وأخذ عنهم وأخذوا عنه رحم الله الجميع.
وكان رحمه الله جَلِداً على الطاعة مثابراً عليها، وله كرامات كثيرة وصدقات سرية على طلبة العلم والصالحين، وكسْبُه من الحلال الصرف في التجارة.
وكان يستسقى به الغيث، قحط الناس من المطر في سنة 1108، فصاموا ثلاثة أيام وخرجوا في اليوم الرابع إلى المصلى صياما فتقدم أبو المواهب وصلى بالناس إماماً بعد طلوع الشمس ثم نُصِبَ له كرسيٌ في وسط المصلى فرقى عليه وخطب خطبة الاستسقاء، وشرع في الدعاء وارتفع الضجيج والابتهال إلى الله تعالى وكثر بكاء الخلق، وكان الفلاحون قد أحضروا جانباً كثيراً من البقر والمعز والغنم، وأمسك رحمه الله بلحيته وبكى وقال: إلهي، لا تفضح هذه الشيبة بين عبادك. فخرج في الحال من جهة الغرب سحاب أسود بعد أن كانت الشمس نقية من أول الشتاء، لم ير في السماء غيم، ولم ينزل إلى الأرض قطرة ماء، ثم تفرق الناس ورجعوا، فلما أذن المغرب تلك الليلة انفتحت أبواب السماء بماء منهمر، ودام المطر ثلاثة أيام بلياليها غزيراً كثيراً، وفرج الله الكربة بفضله عن عباده.
وكان رحمه الله تعالى لا يخاف في الله لومة لائم ولا يهاب الوزراء ولا غيرهم، وكان والي دمشق في سنة 1115 محمد باشا ابن كرد بيرم، قد فرض على تجار دمشق أن يشتروا بسعر باهظ حريراً محتكراً من منتجات بعلبك، فلجأ التجار إلى أبي المواهب ورجوا وساطته في رفع هذه المظلمة عنهم، فأرسل ورقة مع خادمه إلى الباشا، فلما وصل إليه هدده فهرب من وجهه، فلما ذهب كان حاضراً في مجلس الباشا أحد أعيان جند دمشق وهو محمد آغا الترجمان وباش جاويش وغيرهما، فأخبروه بمقام الشيخ، وعرفوه بحاله من النسك والعلم والعبادة والولاية، وكان مراد الباشا أن يأخذ من الشيخ مالاً على رفع ذلك الأمر.
ثم عاد الشيخ فأرسل ورقة أخرى إليه قال له فيها: إن الرعية لا تحتمل الظلم، إما أن ترفع هذه المظلمة وإما نهاجر من هذه البلدة، والجمعة لا تنعقد عندكم! والحرير للسلطان فبعه بثمنه على حساب السلطان. فلما وصلت إليه الورقة خشي من عاقبة الأمور وأن يصل الخبر إلى السلطان فترك ذلك.
وأصيب أبو المواهب قبل وفاته بسبع سنوات بوفاة ولده الشيخ عبد الجليل وهو في الأربعين من عمره، وقد أصبح عالماً يشار إليه بالبنان وشاعراً يأتي بسحر البيان، فصبر واحتسب، ثم أصيب بولده الشيخ مصطفى وكان شاباً فصبر واحتسب، ولم يزل على حالته الحسنة وطريقته المثلى إلى أن اختار الله له الدار الباقية، ودفن في مقبرة الدحداح رحمه الله تعالى.

الأحد، 24 أغسطس 2014

حدث في الثامن والعشرين من شوال

في الثامن والعشرين من شوال من سنة 411 قُتِلَ في القاهرة عن 36 عاماً، الحاكم بأمر الله منصور بن نزار العبيدي الفاطمي، ثالث خلفاء الدولة الفاطمية وأغرب خلفائها أطواراً وأكثرهم سفكاً للدماء.
ولد الحاكم بأمر الله سنة 375 في القاهرة، وسُلِّمَ عليه بالخلافة في مدينة بلبيس، بعد وفاة وفاة أبيه سنة 386 وعمره 11 سنة فدخل القاهرة في اليوم الثاني ودفن أباه وباشر أعمال الدولة، و في أول أمره كان يدبر أموره خادم والده بَرجُوان الصقلي وأمين الدولة الحسن بن عمار الكتامي.
وخُطِبَ له على منابر مصر والشام وإفريقية والحجاز، ودانت له أمراء صقلية، وبنو مرداس في حلب، ثم أرسل إليها مولاه فاتك فملكها سنة 407.
وواجه الحاكم بأمر الله في أول أمره تمرداً قاده الوليد أبو ركوة وهو ثائر أموي أندلسي من نسل هشام بن عبد الملك بن مروان، هرب من سطوة المنصور بن أبي عامر، وتصوف ونزل ببني قرة من قبائل برقة يعلم صغارهم ويؤم كبارهم، وقتل الحاكم بأمر الله قتل جماعة من بني قرة وسجن بعض أعيانهم، فدعاهم أبوركوة إلى خلع طاعته، فأجابوا، وأطاعته قبائل زناتة، وهزم جيشاً أرسله إليه الحاكم بقيادة ينال الطويل، وعظم أمره، وخوطب بأمير المؤمنين، وزحف على مصر، ودخل الجيزة، واضطرب الحاكم وهمَّ بالخروج إلى الشام، ثم إن أحد كبار رجال أبي ركوة خانه، فهزِّمَ وقُتِلَ واستتب الأمر للحاكم بأمر الله.
أرسل الحاكم بأمر الله عديداً من الدعاة إلى البلاد ينشرون مذهبه ويدعون إلى طاعته، منهم إلى إيران سنة 408 حميد الدين أحمد بن عبد الله الكرماني الملقب بحجة العراقين والمولود في القاهرة، وإلى الشام أبا الفوارس  أحمد بن يعقوب المولود في طرابلس الشام.
كان الحاكم كثير التلون سريعاً إلى سفك الدماء، قلَّ من نجى منه من وزرائه وقواده:
قتل سنة 390 برجوان خادم والده ومدبر أمور مملكته.
وفي سنة 387 أمر بالقبض على عيسى بن نسطورس وزير ماليته ووزير مالية والده العزيز بالله، وقتله.
 استوزرَ أمينَ الدولة الحسن بن عمار بن علي الكلبي سنة 386 ثم عزله سنة 387 ثم قُتِلَ غيلة في القاهرة سنة 390، وكان من عقلاء الوزراء، وكبير كتامة - من قبائل البربر - وشيخها وسيدها.
وفي سنة 395، أمر الحاكم بقتل قاضي القضاة السابق، الحسين بن علي النعمان، فقُتِل ثم أحرقت جثته.
وولى الحاكم الحسين بن جوهر الصقلي- ابن باني القاهرة - قيادةَ القواد وتدبير المملكة سنة 390، قأقام نحو ثلاث سنوات، ورأى من حال الحاكم ما أخافه، فهرب هو وولده وزوج أخته القاضي عبد العزيز بن النعمان، فأرسل إليهم الحاكم من أعادهم، وطيب قلوبهم وآنسهم مدة، ثم حضروا للخدمة في قصره بالقاهرة فأمر بالقبض على حسين وعبد العزيز وقتلهما سنة 401.
وفي سنة 402 قتل الحاكم بأمر الله علي بن الحسين ابن المغربي وأخاه محمداً، وكان عليٌّ من أعيان دولة والده ثم دولته،  وهرب ابن المقتول الحسين بن علي المعروف بالوزير المغربي وألب عليه شريفَ مكة وبدوَ الشام، ثم وزر لبني بويه في العراق ولابن مروان في ميافارقين.
واستوزر الحاكم بأمر الله سنة 403 الحسين بن طاهر الوزان، الملقب بأمين الامناء، وكان متولي بيت المال في أوائل خلافته، ثم تغير عليه سنة 405 فبينما كان معه خارج القاهرة بحارة كتامة ضرب عنقه ودفنه في مكانه!
واستوزر سنة 405 الفضل بن جعفر المعروف بابن الفرات، وهو من بيت فضل ورياسة ووزارة، فجلس خمسة أيام، ثم قتله.
وفي سنة 405 قتل الحاكمُ قاضيَ القضاة مالكَ بن سعيد وهو معه في الموكب، وألقي مطروحا بالأرض، فمر به الحاكم وأمر بمواراته، فدفن حيث قتل بثيابه وخِفَّيه، وكانت مدة نظره في الأحكام عشرين سنة.
واستوزر الحاكم عليَّ بن جعفر بن فلاح الكتامي، وجعله الناظر في جميع شئون الدولة، وجعل له في السجل ولاية الأسكندرية وتنيس ودمياط، ولقب بوزير الوزراء ذي الرياستين الآمر المظفر قطب الدولة، ومرض سنة 406، فركب الحاكم إلى داره لعيادته، ثم قتله فارسان متنكران بالقاهرة سنة 409.
وأقام الحاكم ابن عمه أبا القاسم عبد الرحيم  بن الياس ولياً لعهده سنة 404، ثم أرسله واليا على دمشق سنة 410 فرخص للناس فيما كان الحاكم ينهاهم عنه، والتف حوله أحداث البلد، وكرهه الجند فكتبوا إلى الحاكم فأرسل إليه جماعة من المغاربة خطفوه ووضعوه في صندوق وحملوه إليه في مصر، ثم أعاده بعد أربعة أشهر فأخذ في المصادرة وبالغ في الإساءة، وجاء موت الحاكم في السنة نفسها وقيام ابنه الظاهر، وورد على الامراء في دمشق كتاب من الظاهر بالقبض على عبد الرحيم، فقيدوه، وسجن فمات، وقيل: قتل نفسه بسكين في الحبس.
وكان الحاكم بأمر الله يضرب به المثل في تقلبه في أوامره على رعيته، قال ابن خلكان في الوفيات: كانت سيرته من أعجب السير، يخترع كل وقت أحكاماً يحمل الناس على العمل بها.
منها أنه أمر الناس في سنة 395 بكتب سب الصحابة رضوان الله عليهم في حيطان المساجد والأسواق والشوارع، وكتب إلى سائر عمال الديار المصرية يأمرهم بالسب، ثم أمر بقطع ذلك ونهى عنه وعن فعله في سنة 397، ثم تقدم بعد ذلك بمدة يسيرة بضرب من يسب الصحابة وتأديبه ثم يشهره.
ومنها أنه أمر بقتل الكلاب في سنة 395 فلم ير كلب في الأسواق والأزقة والشوارع إلا قتل.
ومنها أنه نهى عن بيع الفقاع والملوخيا والجرجير والسمك الذي لا قشر له، وأمر بالتشديد في ذلك والمبالغة في تأديب من يعترض لشيء منه، فظهر على جماعة أنهم باعوا أشياء منه، فضربوا بالسياط وطيف بهم، ثم ضربت أعناقهم.
ومنها أنه في سنة 402 نهى عن بيع الزبيب قليله وكثيره على اختلاف أنواعه، ونهى التجار عن حمله إلى مصر، ثم جمع بعد ذلك منه جملة كثيرة وأحرق جميعها، وفي هذه السنة منع من بيع العنب وأنفذ الشهود إلى الجيزة حتى قطعوا كثيراً من كرومها ورموها في الأرض وداسوها بالبقر، وجُمِعَ ما كان في مخازنها من جرار العسل فكانت خمس آلاف جرة، وحملت إلى شاطىء النيل وكسرت وقلبت في بحر النيل.
وفي سنة 402 أمر النصاري واليهود إلا أهل خيبر بلبس العمائم السود، وأن يعمل النصارى في أعناقهم الصلبان ما يكون طوله ذراعاً ووزنه خمسة أرطال، وأن يحمل اليهود في أعناقهم قرمية خشب على وزن صلبان النصارى، إشارة إلى رأس العجل الذي عبدوه، ولا يركبوا شيئاً من الدواب بمراكب محلاة، وأن تكون ركبهم من الخشب، ولا يستخدمون أحداً من المسلمين، ولا يركبون حماراً لمُكارٍ مسلم ولا سفينةً نٌوتيها مسلم، وأن يكون في أعناق النصاري إذا دخلوا الحمام الصلبان، وفي أعناق اليهود الجلاجل ليتميزوا عن المسلمين، ثم أفرد في سنة 408 حمامات اليهود والنصارى والمسلمين وحط على حمامات النصارى الصلبان، وعلى حمامات اليهود القرامي.
وفي سنة 404 أمر أن لا ينجم أحد ولا يتكلم عن صناعة النجوم، وأن ينفى المنجمون من البلاد، فحضر جميعهم إلى القاضي مالك بن سعيد الحاكم بمصر، وعقد عليهم توبة، وأُعفوا من النفي، وكذلك أصحاب الغناء.
وفي شعبان من سنة 405 منع النساء من الخروج إلى الطرقات ليلاً ونهاراً، ومنع الأساكفة من عمل الخفاف للنساء، ولم تزل النساء ممنوعات عن الخروج إلى أيام ولده الظاهر، وكانت مدة منعهن سبع سنين وسبعة أشهر
وفي سنة 408 نهى عن تقبيل الأرض له وعن الدعاء له والصلاة عليه في الخطب والمكاتبات، وأن يجعل عوض ذلك السلام على أمير المؤمنين.
وفي سنة 408 أمر بهدم كنيسة القيامة في بيت المقدس وجميع الكنائس بالديار المصرية، ووهب جميع ما فيها من الآلات وجميع ما لها من الأوقاف لجماعة من المسلمين، وخيَّر النصارى بين أن يسلموا أو يلحقوا بالروم، فتتابع إسلام جماعة من النصارى، ثم أمر في شعبان سنة 411 بتنصر من كان أسلم من النصارى، وأمر ببناء ما كان قد هدم من كنائسهم ورد ما كان في أوقافها.
وذكر غيره أن الحاكم أحرق القاهرة وأباحها لجيشه وعبيده سنة 410 وسبب ذلك أنه ركب فوجد في طريقه تمثال امرأة من الورق، وفي يديها ورقة فيها سب للحاكم وأسلافه وذكره بقبيح الأفعال، فلما وقف عليها أمر بنهب القاهرة وحرق بعض دورها، وفرق السلاح على السودان والعبيد، فتبادورا إليها وفعلوا ما أمرهم به، فقام أهلها وقاتلوا قتالاً شديداً ثلاثة أيام، ثم أرسلوا إلى الحاكم يستقيلون فلم يقلهم، فعادوا القتال، وأحرق من القاهرة جانب كبير، فلما رأى الحاكم أن الأمر يؤول إلى خراب القاهرة وتلاف ملكه كف عنهم بعد أن تلف من العقار ما لا تحصى قيمته، وسير عيّاداً الصقلبي إليها في جماعة من الجند لتسكين الفتنة، فشاهد أمراً عظيماً، فعاد إلى الحاكم وذكر له قُبح النازلة وعظيم الفادحة وقال: لو أن باسيل ملك الروم الملك البيزنطي الذي كان يغير على أطراف الدولة - دخل القاهرة لما استحسن أن يفعل فيها هذا الفعل! فغضب الحاكم من كلامه وأمر بقتله، فقتل.
وبقيت أحواله على هذا المنوال وأصاب الناس منه شر شديد، إلى أن فُقِدَ في إحدى الليالى، فيقال: إن رجلا اغتاله غيرة لله وللاسلام، ويقال: إن أخته ست الملك دست له رجلين اغتالاه وأخفيا أثره.
وكان فَقْده بأن خرج يطوف بالليل على عادة له، فذهب إلى حُلوان ومعه مرافقان ثم أعادهما وبقي بمفرده، ولما لم يعد خرج جماعة من أصحابه لكشف خبره، فوجدوا عند حلوان حماره، وقد ضربت يده بسيف، وعليه سرجه ولجامه، واتبعوا الأثر، فوجدوا ثيابه فعادوا ولم يشكوا في قتله، وإن كان كبير أتباعه ودعاته حمزة بن على بن أحمد الفارسي قد أعلن أنه احتجب وسيعود لنشر الإيمان بعد الغيبة!
وبويع بعده لابنه علي وهو في السادسة عشر من عمره، وتلقب بالظاهر لإعزاز دين الله، وقامت عمته ست الملك بإدارة الدولة مدة أربع سنوات، أظهرت فيها من المقدرة والعدل ما حببها إلى رعيتها، إلى أن توفيت سنة 415، وكانت أكبر من الحاكم بستة عشر عاماً، وكانت حازمة مدبرة، وكان الحاكم يستشيرها في معضلاته، ثم تغير عليها. ودام حكم الظاهر 16 عاماً اتسمت بالهدوء فقد كان محبا للعدل، فيه لين وسكون مع ميل إلى اللهو.
وعلى ما ذكرنا من مصائب وكوارث ونكبات، اهتم الحاكم بأمر الله بالقاهرة وأبنيتها وزاد عليها زيادات كثيرة عدَّدَها المقريزي في المواعظ والاعتبار، منها حفر خليج الإسكندرية سنة 404 وكلف ذلك 15.000 دينار، وجدد الحاكم بأمر الله الجامع الأزهر، وبنى جامع الـمَقْس على شاطئ النيل والجامع الحاكمي، وأوقف عليها الأوقاف، واعتنى كذلك في سنة 403 بجامع عمرو بن العاص ورممه وجعل فيه ثريا من الفضة تزن 400 كيلو غرام، وأنزل من قصره إلى الجامع 1.298 مصحفاً ما بين ختمات وربعات فيها ما هو مكتوب كله بالذهب، ومكَّن الناس من القراءة فيها.
ولعل أهم إنجازاته في هذا المجال إنشاء مكتبة عامة أسماها دار العلم وذلك في عام 395، وينقل المقريزي عن الأمير المختار عز الملك محمد بن عبد الله المسبحي في تاريخه:
وفي يوم السبت العاشر من جمادى الآخرة سنة 395 فُتحت الدار الملقبة بدار الحكمة بالقاهرة، وجلس فيها الفقهاء، وحُمِلت الكتب إليها من خزائن القصور المعمورة ودخل الناس إليها، ونسخ كلُّ من التمس نسخ شيء مما فيها مما التمسه، وكذلك من رأى قراءة شيء مما فيها، وجلس فيها القراء والمنجمون، وأصحاب النحو واللغة والأطباء، بعد أن فرشت هذه الدار وزخرفت، وعلقت على جميع أبوابها وممراتها الستور، وأقيم قوام وخدام وفراشون، وغيرهم وسِموا بخدمتها، وحصل في هذه الدار من خزائن أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله من الكتب التي أمر بحملها إليها من سائر العلوم، والآداب والخطوط المنسوبة ما لم ير مثله مجتمعاً لأحد قط من الملوك.
وأباح ذلك كله لسائر الناس على طبقاتهم، ممن يؤثر قراءة الكتب والنظر فيها، فكان ذلك من المحاسن المأثورة أيضاً، التي لم يسمع بمثلها ..وحضرها الناس على طبقاتهم، فمنهم من يحضر لقراءة الكتب، ومنهم من يحضر للنسخ، ومنهم من يحضر للتعلم.
وجعل فيها ما يحتاج الناس إليه من الحبر، والأقلام، والورق والمحابر، وأوقف عليها الأوقاف لحصيرها ونساخها وخازنيها وسجادها وستائرها وأقلامها وحبرها وغير ذلك.
ولا بد والحديث عن الدولة الفاطمية أن نتناول العقيدة التي قامت عليها ودعت إليها، وقد كثرت أقوال المؤرخين في ذلك وذهبت كل مذهب، ولعل أكثرها موضوعية ما ذكره المقريزي، أحمد بن علي المتوفى في القاهرة سنة 845، في كتابه اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء الذي أرخ لهذه الدولة بعد اندثارها بمئات السنين.
قال المقريزي تحت عنوان ذكر ما عُيب عليهم:
لا شك في أن القوم كانوا شيعةً يرون تفضيل علي بن أبي طالب على من عداه من الصحابة، وكانوا ينتحلون من مذاهب الشيعة مذهب الإسماعيلية وهم القائلون بإمامة إسماعيل بن جعفر الصادق وتنقلها في أولاده الأئمة المستورين إلى عبيد الله المهدي، أول من قام منهم بالمغرب. وبقية الشيعة لا يقولون بإمامة إسماعيل، وينكرون عليهم ذلك أشد الإنكار.
وكانوا مع انتحالهم مذهب التشيع غلاةً في الرفض، إلا أن أولهم كانوا أكابر صانوا أنفسهم عما تحرف به آخرهم، ثم إن الحاكم بأمر الله أكثر من النظر في العقائد، وكان قليل الثبات سريع الاستمالة، إذا مال إلى اعتقاد شيء أظهره وحمل الناس عليه، ثم لا يلبث أن يرجع عنه إلى غيره فيريد من الناس ترك ما كان قد أهم به والمصير إلى ما استحدثه ومال إليه. واقترن به رجل يعرف باللَّباد والزَّوزني فأظهر مذاهب الباطنية، وقد كان عند أولهم منها طرف، فأنكر الناس هذا المذهب لما يشتمل عليه مما لم يعرف عند سلف الأمة وتابعيهم ولما فيه من مخالفة الشرائع.
فلما كانت أيام المستنصر وفد إليه الحسن بن الصباح، فأشاع هذا المذهب في الأقطار ودعا الكافة إليه، واستباح الدماء بمخالفته؛ فاشتد النكير، وكثر الصائح عليهم من كل ناحية حتى أخرجوهم عن الإسلام ونفوهم عن الملة.
ووجد بنو العباس السبيل إلى الغض منهم لما مكنوا من البغض فيهم وقاسوه من الألم بأخذهم ما كان بأيديهم من ممالك القيروان وديار مصر والشام والحجاز واليمن وبغداد أيضا، فنفوهم عن الانتساب إلى علي بن أبي طالب، بل وقالوا إنما هم من أولاد اليهود؛ وتناولت الألسنة ذلك، فملأوا به كتب الأخبار.
ثم لما اتصل بهم الغزو وُزِّرَ لهم أسدُ الدين شيركوه وابن أخيه صلاح الدين، وهم من صنائع دولة بني العباس الذين ربوا في أبوابها وغذوا بنعمها ونشأوا على اعتقاد موالاتها ومعاداة أعدائها، لم يزدهم قربهم من الدولة الفاطمية إلا نفوراً، ولا ملأهم إحسانها إليهم إلا حقداً وعداوة لها، حتى قووا بنعمتها على زوالها، واقتدروا بها على محوها.
وكانت أساسات دولتهم راسخة في التخوم، وسيادة شرفهم قد أنافت على النجوم، وأتباعهم وأولياؤهم لا يحصى لهم عدد، وأنصارهم وأعوانهم قد ملئوا كل قطر وبلد؛ فأحبوا طمس أنوارهم، وتغيير منارهم، وإلصاق الفساد والقبيح بهم، شأن العدو وعادته في عدوه.
فتفطن، رحمك الله، إلى أسرار الوجود، وميز الأخبار كتمييزك الجيد من النقود، تعثر إن سلمت من الهوى بالصواب. ومما يدلك على كثرة الحمل عليهم أن الأخبار الشنيعة، لا سيما التي فيها إخراجهم من ملة الإسلام، لا تكاد تجدها إلا في كتب المشارقة من البغداديين والشاميين، كالمنتظم لابن الجوزي، والكامل لابن الأثير، وتاريخ حلب لابن أبي طي، وتاريخ ابن كثير، وكتاب ابن واصل الحموي، وكتاب ابن شداد، وكتاب العماد الأصفهاني، ونحو هؤلاء. أما كتب المصريين الذين اعتنوا بتدوين أخبارها فلا تكاد تجد في شيء منها ذلك ألبتة. فحكِّم العقل، واهزم جيوش الهوى، وأعط كل ذي حق حقه، ترشد إن شاء الله تعالى.

السبت، 23 أغسطس 2014

حدث في السابع والعشرين من شوال

في السابع والعشرين من شوال من سنة 245 توفي، عن 63 عاماً، سوار بن عبد الله بن سوار بن عبد الله بن قدامة بن عنزة التميمى العنبرى: أبو عبد الله البصرى القاضى ابن القاضى ابن القاضى، وأحد كبار أئمة المذهب الحنفي.
كان جده سوار الأكبر قاضيها في زمن أبي جعفر المنصور مدة 17 عاماً، وجمع له القضاء والإمارة فترة، وكانت له مواقف مع المنصور تبين عن استقامته وصرامته وعدله، وتوفي سنة 156.
وكذلك كان والده عبد الله قاضياً، ولاه الرشيد سنة 192، وكان ذا عقل وفهم، لم يكن ينفذ شيئاً إلا بمشورة، ثم عزله المأمون سنة 198عزلاً غليظاً لتأييده لأخيه الأمين، وخافه ابن سوار في أكثر ما صنع، واجتمعت إليه عشيرته، ففرقهم عن نفسه. وكان محترماً وقوراً، كتب إليه الفضل بن الربيع ليشتري له ضيعة، فكتب إليه: إن القضاء لا يدنس بالوكالة.
أما سوار بن عبد الله ويقال له سواراً الأصغر، فولد في البصرة سنة 182، ودرس فيها، وسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على سفيان بن عيينة، وأبى داود الطيالسى، وأبيه عبد الله بن سوار، وعبد الرحمن بن مهدى، ويحيى بن سعيد القطان. وروى عنه عبد الله بن احمد بن حنبل، وأبو داود، والترمذى، والنسائى، وأبو زرعة الدمشقى، وأبو جعفر محمد بن جرير الطبرى، وآخرون كثيرون.
 ووثق الإمامُ أحمدُ بن حنبل سوارَ بن عبد الله عندما سأله عنه أنيسه عبد الرحمن بن يحيى بن خاقان فقال: ما بلغني عنه إلا خيراً.
وولاه المتوكل قضاء الرصافة ببغداد سنة 237، وولى معه حيان بن بشر على قضاء الشرقية، وذلك بأمر القاضي يحيى بن أكثم، وكان كلاهما أعور فقال فيهما دعبل الشاعر:
رأيت من الكبائر قاضيين ... هما أُحدُوثَة في الخافِقَينِ
هما اقتسما العمى نصفين قِسماً ... كما اقتسما قضاء الجانبين
فلو جُمع العمى يوما بأفق ... لكانا للزَمانة خُلتين
وتحسب منهما من هزَّ رأساً ... لينظر في مواريث ودَين
كأنك قد وضعت عليه دَناً ... فتحت بُزِاله من فرد عين
هما فألُ الزمان بهُلك يحيى ... إذ افتَتَح القضاءَ بأعورين
كان سوار بن عبد الله ظريفاً مطبوعاً شاعراً محسناً فصيحاً مفوهاً فقيهاً، دخل مرة على الأمير محمد بن عبد الله بن طاهر الخزاعي، المتوفى سنة 253 عن 44 عاماً، فقال: أيها الأمير إني جئت في حاجة رفعتها إلى الله عز وجل قبل رفعها إليك، فإن قضيتها حمدنا الله وشكرناك، وإن لم تقضها حمدنا الله وعذرناك.
لنا حاجةٌ والعذر فيها مقدَّمٌ ... خفيفٌ مُعنَّاها مضاعفةُ الأجر
فإن تقضها فالحمد لله ربِّنا ... وإن تكن الأخرى ففي أوسع العذر
على أنَّه الرَّحمن معطٍ ومانعٌ ... وللرِّزق أسبابٌ بها قدرٌ يجري
فأجابه محمد بن عبد الله بن طاهر:
فسلها تجدني موجباً لقضائها ... سريعاً إليها، لا يخالجني فكر
شكورٌ بإفضالي عليك بمثلها ... وإن لم تكن فيما حوته يدي شكر
فهذا قليلٌ لَّلذي قد رأيته ... لحقِّك لا مَنٌّ عليك ولا فخر
فقال القاضي: أريد كتابا إلى موسى بن عبد الملك في تعجيل أرزاقي. قال: أو خير من ذلك؟ أعجّلها من مالي، وأكتب إلى موسى، فإذا وَصَلَت كنتَ مخيراً في ردها أو أخذها. قال: وأنت والله يا أمير كما قال القائل:
فبابك ألين أبوابهم ... ودارك مأهولة عامره
وكفاك أندى من المعصرات في الليلة الثجة الماطره
وكفك آلف بالمعتفين من الأم بابنتها الزائره
فمنك العطاء، ومنا الثناء بكل مُحبِّرة سائره
وكان سوار بن عبد الله صاحب عاطفة رقيقة ونَفَس شاعري، خامر قلبه شيء من الوجد لجارية له أبدت له شيئاً من الجفاء، فنظم أبياتاً وطلب من أحد المغنين غناءها، قال عبد الله بن العباس الربيعي وكان من أشهر مغني عصره: لقيني سوار بن عبد الله القاضي - وهو سوار الأصغر - فأصغى إلي وقال: إن لي إليك حاجة فاتني في خفية، فجئته، فقال: لي إليك حاجة قد أنست بك فيها، لأنك لي كالولد، فإن شرطت لي كتمانها أفضيت بها إليك، فقلت: ذلك للقاضي عليَّ شرطٌ واجب، فقال: إني قلت أبياتاً في جارية لي أميل إليها وقد قَلَتني وهَجَرَتني، وأحببت أن تصنع فيها لحنا وتسمعنيه، وإن أظهرته وغنيته بعد ألا يعلم أحد أنه شعري، فلست أبالي، أتفعل ذلك؟ قلت: نعم حبا وكرامة، فأنشدني:
سلبتِ عظامي لحمَها فتركتِها ... عَواريَ في أجلادها تتكسرُ
وأخليتِها من مخها فتركتِها ... قوارير في أجوافها الريح تصفرُ
إذا سمعتْ ذكرَ الفراق تراعدت ... مفاصلها خوفاً لما تتنظرُ
خذي بيدي ثم اكشفي الثوب فانظري ... بِلى جسدي لكنني أتستر
وليس الذي يجري من العين ماؤها ... ولكنها روح تذوب فتقطر
قال عبد الله: فصنعت فيه لحنا، ثم عرفته خبره في رقعة كتبتها إليه، وسألته وعدا يعدني به للمصير إليه، فكتب إلي: نظرت في القصة فوجدت هذا لا يصلح ولا ينكتم علي حضورك وسماعي إياك، وأسأل الله أن يسرك ويبقيك. فغنيت الصوت وظهر حتى تغنى به الناس، فلقيني سوار يوما فقال لي: يا بن أخي، قد شاع أمرك في ذلك الباب حتى سمعناه من بعد كأنا لم نعرف القصة فيه، وجعلنا جميعا نضحك.
قال صالح بن إسحاق الجرمي الفقيه النحوي: دخلتُ حماماً في درب الثلج، فإذا فيه سوار بن عبد الله القاضي في البيت الداخل قد استلقى وعليه المئزر، فجلست بقربه فساكتني ساعة ثم قال: قد أحشمتني يا رجل، فإما أن تخرج أو أخرج، فقلت: جئت أسألك عن مسألة، فقال: ليس هذا موضع المسائل، فقلت: إنها من مسائل الحمام، فضحك وقال: هاتها، فقلت: من الفتى الذي يقول:
سلبتِ عظامي لحمها فتركتِها ... عَواريَ مما نالها تتكسرُ
فقال سوار: أنا والله قلتها. قلت: فإنه يغني بها ويجود، فقال: لو شهد عندي الذي يغني بها لجزت شهادته.
ولم يكن سوار يحرص على صحبة السلاطين إذا كان فيها ما يتعارض مع هيبة القضاء، فقد قال: وصفني محمد بن عبد الله بن طاهر للمتوكل، فمضيت إليه فلم أجد عنده ما أحب؛ فتوجهت إلى بغداد فبدأت بمحمد بن عبد الله، فقال لي: ما صنعت يا أبا عبد الله؟ فقلت:
رجعنا سالمين كما بدأنا ... وقد عظمت غنيمة سالمينا
وما تدرين أي الأمر خير ... أَما تَهوَينَ أم ما تكرهينا
أما في مجلس القضاء فكان رحمه الله ممن يرقبون الله في قضائهم ويعلمون أن فوق حكمهم حاكم عدل يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، قال بكار بن محمد بن سيرين رأيت سوار بن عبد الله - وأراد أن يحكم -  فرفع رأسه إلى السماء وترقرقت عيناه ثم حكم.
قال إبراهيم بن إسحاق: رأيت رجلاً من جماعة السلطان يكلم سوار بن عبد الله في قضية قضى بها عليه ويتهدده، وسوار ساكت، فلما فرغ الرجل من كلامه قال سوار:
زعم الفرزدق أن سيقتل مِرْبَعاً ... أبشر بطول سلامة يا مربع
ثم لم يزده على ذلك.
 

 
log analyzer