الأحد، 27 يوليو 2014

حدث في التاسع والعشرين من رمضان

في التاسع والعشرين من رمضان عام 649 توفي في مالقا بشرقي الأندلس، عن 78 عاماً، محدث الأندلس علي بن محمد بن علي، أبو الحسن الغافقي الشارّي.
أصله من شارّة وهي بليدة قرب مُرسية Murcia جنوبي شرقي أسبانيا، انتقل أبوه منها سنة 562 إلى سَبْتة على ساحل البحر الأبيض المتوسط في المغرب، فولد عليٌ ونشأ فيها، وتعلم القراءات السبع، وروى الكتب الخمسة والموطأ ، وتفقه في علم الكلام وأصول الفقه، واللغة والنحو.
كان أبو الحسن الشاري محدثاً راوية مكثراً، عدلاً ثقة، ناقداً، ضابطاً عارفاً بالأسانيد والرجال والطرق، ذاكراً للتواريخ وأيام الناس، وأحوالهم وطبقاتهم، قديماً وحديثاً، ورحل إلى فاس فأجيز وأجاز وسمع عليه علماؤها صحيح البخاري.
وكان شديد العناية بالعلم، والرغبة فيه، جاعلاً الخوض فيه - مفيداً ومستفيداً - وظيفة عمره، قال أحد تلاميذه: كان يجلس لنا بمالقة نهاره كله إلا القليل، وكنت أتلو عليه في الليل لاستغراق نهاره، وكان شديد التيقظ مع شيخوخته وهرمه، ما امتنع قط عمن قصده ولا اعتذر إلا من ضرورة بينة. ولذلك كثر الوافدون عليه، المتعلمون على يديه، لقراءات القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، حتى صار محدث المغرب والأندلس.
كان رحمه الله جمّاعةً للكتب، منافساً فيها، مغالياً في أثمانها، وربما أعمل الرحلة في التماسها، حتى اقتنى منها بالابتياع والانتساخ من الأعلاق النفيسة وأمهات الدواوين ما لم يكن عند أحد من أبناء عصره، وكان إذا ورد المغرب كتاب من المشرق مع احد طلبة العلم سعى إلى نسخه وإدراجه في مدرسته، وبنى هذه المدرسة بسبتة بقرب باب القصير، أحد أبواب بحر سبتة، وعين لها من خيار أملاكه، وجيد رباعه، وقفاً صالحاً، وانتقى من كتبه جملة وافرة فحبسها - أي أوقفها - في مدرسته،  سالكاً في ذلك طريقة أهل المشرق، وقعد بها بعد إكمالها سنة 635 لرواية الحديث وإسماعه، وكَثُرَ الأخذُ بها عنه، واستمر على ذلك مدة، فعاق عن ذلك إخراجه عن سبتة وتغريبه، وبقي كثير منها وعليه خطه في المدرسة.
وكان يحيى بن عبد الواحد الحفصي مؤسس الدولة الحفصية في تونس قد توسع سلطانه واستولى على الجزائر وتلمسان وسجلماسة وطنجة ومكناسة، ومال أمير سبتة وكبراؤها إلى الخضوع لسلطانه، فقال لهم الشاري: يا قوم خيرُ إفريقية - وكان الحفصي يدعى بصاحب إفريقية - بعيدٌ عنا وشرها بعيد، والرأي مداراة ملك مراكش. وكان ملك مراكش أبو الحسن السعيد الملقب المقتدر بالله.
فما هان رأيه على أمير سبتة أبو الحسن ابن خلاص، فهيأ مركِباً وأنزل فيه أبا الحسن الشاري وغرّبه إلى الأندلس سنة 641، وبقي بسبتة أهلُه ومالُه، ونزل المرية فبقي إلى سنة 648، ثم غادرها إلى مالقة قبل شهور من وفاته رحمه الله تعالى،  وكان يروم من مالقة، الرجوع إلى بلده، ويحوم عليه، فلم يقض له ذلك ووافته منيته.
وكان رحمه الله ذا شرف وحشمة ومروءة ظاهرة، سري الهمة، نزيه النفس، كريم الطبع، سمحاً، مؤثراً، يحب العلم وطلابه، سمحاً لهم بأعلاق كتبه، حسن الظن بالمسلمين، منافراً لأهل البدع، ومما يؤثر من نزاهته أنه لم يباشر قط ديناراً ولا درهماً، إنما كان يباشر ذلك وكلاؤه اللائذون به، وأعانه الله على مآثره الجليلة وأعماله النبيلة بالثروة المتمكنة، واليسار الواسع.
وقال المؤرخ ابن رشيد الفِهري السَبْتي، محمد بن عمر المتوفى بفاس سنة 721، في كتابه إفادة النصيح بالتعريف بإسناد الجامع الصحيح: أحيا الشارّي بسَبتة العلم حياً وميتاً، وحصّل الكتب بأغلى الأثمان، وكان له عظمة في النفوس رحمه الله.

السبت، 26 يوليو 2014

حدث في الثامن والعشرين من رمضان

في الثامن والعشرين من رمضان من سنة 558 توفي في بغداد، عن 81 عاماً، الشاعر أبو القاسم هبة الله بن الفضل ‏ابن القطان البغدادي.
كان ابن القطان شاعراً مليح الشعر، ظريف الطبع، ولكنه كثير المزاح والمداعبات، مغرى بالولوع بالمتعجرفين والهجاء لهم، فغلب عليه الهجاء، وأصبح ثلاّباً يتقى لسانه، ولم يسلم منه أحد لا الخليفة ولا غيره، وله مع ذلك نوادر ووقائع وحكايات ظريفة نورد بعضها فيما يلي.
وإلى جانب شعره الهجائي وطبعه المترصد، كانت لابن القطان رواية لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد اشتغل في أول حياته بقراءة الحديث، وكان له سماع صحيح، وأعرض الناس عن الرواية عنه لمسلكه في شعره، ثم احتيج إليه بعد موت الشيوخ فقرىء عليه، وكان ذكياً حاضر الجواب عنده نبذ من العلوم، وكان من المتطببين الكحالين ببغداد، وله تعاليق طبية على مسائل وأجوبتها في الطب.
كان ابن القطان صديقاً للشاعر حيص بيص، سعد بن محمد المتوفى سنة  574، وكانا لا يزالان يختصمان ثم يتصالحان، وله معه حكايات طريفة، فمن ذلك أن حيص بيص خرج ليلة من دار الوزير شرف الدين أبي الحسن علي بن طراد الزينبي، فنبح عليه جرو كلب وكان متقلداً سيفاً، فوكزه بعقِب السيف فمات، فبلغ ذلك ابن القطان، فنظم أبياتا وضمنها بيتين لبعض العرب قتل أخوه ابناً له، فقُدّم إليه ليقتاد منه فألقى السيف من يده وأنشدهما، وكتب ابن القطان الأبيات التالية في ورقة وعلقها في عنق كلبة لها جراء، ورتب معها من طردها وأولادَها إلى باب دار الوزير كالمستغيثة، فأُخذت الورقة من عنقها وعرضت على الوزير فإذا فيها:
يا أهل بغداد إن الحيص بيص أتى ... بفِعلة أكسبته الخزيَ في البلدِ
هو الجبان الذي أبدى تشاجعه ... على جُريٍّ ضعيفِ البطش والجَلَد
وليس في يده مالٌ يَدِيْهِ به ... ولم يكن ببَوَاء عنه في القَوَد
فأنشدت جَعدَةٌ من بعدما احتسبت ... دم الأبيلق عند الواحد الصمد
" أقول للنفس تأساء وتعزية ... إحدى يديَّ أصابتني ولم تُرد"
" كلاهما خَلَفٌ من فَقْدِ صاحبه ... هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي"
البَوَاء: ويقال: دمُ فلان بواء لدم فلان، إذا كان مكافئا له. وجعدة: اسم من أسماء الكلبة
وحضر ابن القطان ليلة مع الحيص بيص على السماط عند الوزير في شهر رمضان، فأخذ ابن القطان قَطاة مشوية، وقدمها إلى الحيص بيص، فقال الحيص بيص للوزير: يا مولانا هذا الرجل يؤذيني، فقال الوزير: كيف ذلك؟ قال: لأنه يشير إلى قول الشاعر:
تميمٌ بطُرُق اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت سُبُلَ المكارم ضَلّتِ
وكان الحيص بيص تميمياً، وهذا البيت للطِرِّماح بن حكيم الشاعر من جملة أبيات، وبعد هذا البيت:
أرى الليل يجلوه النهار، ولا أرى ... خِلالَ المخازي عن تميم تجلّت
ولو أن برغوثا على ظهر قملة ... يكر على صفيَّ تميمٍ لولّت
وكان ابن القطان يهجو بأفعاله كما يهجو بأقواله، لما ولي عليّ بن طراد بن محمد الزينبي العباسيّ الوزارة دخل عليه ابن القطان والمجلس محتفل بأعيان الرؤساء، وقد اجتمعوا للهناء، فوقف بين يديه ودعا له وأظهر الفرح والسرور ورقص، فقال الوزير لبعض من يفضي إليه بسره: قبح الله هذا الشيخ، فإنه يشير إلى ما تقول العامة في أمثالها: ارقص للقرد في زمانه. ثم نظم ابن القطان هذا المعنى وكتبه إلى بعض الرؤساء:
يا كمالَ الدين الذي ... هو شخصٌ مُشخَّصُ
والرئيس الذي به ... ذَنَبُ دَهري يُمَحَّص
خذ حديثي فإنه ... نبأ سوف يرخص
كلّما قلتُ قد تَبغَدَدَ قومي تَحمَصَصُوا
وغواشٍ على الرؤوس عليها المُقَرنص
والرواشين والمناظر والخيل ترقص
وأنا القِردُ كل يومٍ لِكَلبٍ أُبصبِص
كلُّ مَن صَفَقَ الزمان له قمتُ أَرقُص
مَحنٌ لا يفيد ذا النون منها التَبرصُص
فمتى أسمع النِداءَ وقد جاء مخلَّص
ودخل يوما على الوزير ابن هبيرة وعنده نقيب الأشراف، وكان ينسب إلى البخل، وكان في شهر رمضان والحر شديد، فقال له الوزير: أين كنت؟ فقال: في مطبخ سيدي النقيب، فقال له: ويحك! أيش عملت في شهر رمضان في المطبخ؟ فقال: وحياة مولانا كسرت الحر، فتبسم الوزير وضحك الحاضرون وخجل النقيب. وهذا الكلام على اصطلاح أهل بغداد، فإنهم يقولون: كسرت الحر في الموضع الفلاني، إذا اختار موضعا باردا يقيل فيه، فقصد أن مطبخ النقيب بارد لا يطبخ شيئا فيه لبخله.
وكان عمر بن الحسين الخطَّاط البغدادي، المتوفى سنة552، كاتباً جليلاً، مليح الخطّ، يكتب الناس عليه، وكان يكتب على طريقة ابن البوَّاب، ويجيد ذلك، وبيعت آلة الكتابة التي خلَّفها من الدُّوِيّ والسكاكين وغير ذلك بتسع مئة دينار أميرية، ومع إتقانه في صنعته، وتقدمه على غيره، لم ينج من هجو ابن القطان الذي قال فيه:
عُمَيْرَةُ الخطَّاط أُعجوبةٌ ... لكلِّ من يدري ولا يدري
لا يُحْسِنُ الخطَّ ولا يحفظ ال ... قرآنَ وهو الكاتب المُقْرِي
كان السديد يحيى ابن سعيد المعروف بابن المرخِّم فاصداً وطبيباً في المارستان ببغداد، ثم صار في أيام المقتفي قاضياً في أعلى سلك القضاء وهو الملقب أقضى القضاة ببغداد، فقال فيه ابن القطان:
يا ابن المرخّم صرت فينا قاضياً ... خرِفَ الزمان تُراه أم جُنَّ الفلك
إن كنت تحكم بالنّجوم فربّما ... أمّا بشرع محمّدٍ من أين لك
وبدر من ابن المرخم لما ولي القضاء ظلم وجور، فقال فيه ابن القطان باللغة الدارجة:
يا حزينة الْطُمي الطُمي... قد ولي ابن المرخِّمِ
بدواته المفضضة... ووكيله المكعسم
وَيْ على الشرع والقضا... وَيْ على كل مسلم
أتُرى صاحب الشريعة قد جُنَّ أو عمي؟!
وقصد دار بعض الأكابر في بعض الأيام فلم يؤذن له في الدخول، فعزّ عليه، وأخرجوا من الدار طعاماً وأطعموه كلاب الصيد وهو يبصره، فقال: مولانا يعمل بقول الناس: لعن الله شجرة لا تظل أهلها.
وقعد يوما مع زوجته يأكل طعاما، فقال لها: اكشفي رأسك، ففعلت، وقرأ سورة الإخلاص ﴿ قل هو الله أحد ﴾ الإخلاص، فقالت له: ما الخبر؟ فقال: إن المرأة إذا كشفت رأسها لم تحضر الملائكة عليهم السلام، وإذا قرئ ﴿ قل هو الله أحد ﴾ هربت الشياطين، وأنا أكره الزحمة على المائدة.
وأصاب الضعف الدول العباسية في أيامه وتضاءلت سلطة الخليفة عما حوله من البلاد، حتى عصت عليه تكريت القريبة، ولكن أمانيه كانت طويلة عريضة، فقال يسخر من هذه الأحوال:
في العسكر المنصور، نحن عصابة ... مرذولة، أخسس بنا من معشر
خذ عقلنا من عقدنا فيما ... ترى من خسة ورقاعة وتهور
تكريت تعجزنا ونحن بجهلنا ... نمضي لنأخذ ترمذاً من سنجر
والحيص بيص مبارز بقناته ... وأنا بشعوذتي طبيب العسكر
هذاك لا يُخشى لقتل بعوضة ... وأنا فلا أرجى لبرء مدبر
أجري بمبضعي الدماء، وسيفه ... في الغمد لم يعرض لظفر الخنصر
لقرينه في الحرب طول سلامة ... وصريع تدبيري بوجه مدبر
وكانت لأبن القطان أشعار جميلة في الغزل والنسيب، منها قطعة كان يُغنى بها في بغداد، وهذا بعضها:
يا من هجرتِ فما تُبالي ... هل ترجع دولة الوِصالِ
ما أطمعُ يا عَذابَ قلبي ... أن ينعَم في هواك بالي
الطرفُ من الصدود باكٍ ... والجسمُ كما ترين بالي
والقلب، كما عهدت، صاب ... باللوعة والغرام صالي
والشوق بخاطري مقيم ... ما يؤذن عنه بارتحال
ما ضرِّك أن تعلِّليني ... في الوَصلِ بموعد مُحال
أهَواكِ وأنتِ حَظُّ غيري ... يا قاتلتي فما احتيالي
أيام عنائيَ فيكِ سود... ما أشبههن بالليالي
العذُّل فيك يزجروني... عن حبك، مالهم ومالي؟!
يا ملزمي السُّلوَّ عنها... الصبُّ أنا وأنت سالي
والقول بتركها صواب، ... ما أحسنه لو استوى لي
دعني وتغزلي بخود، ... ترنو وتُغن عن غزال
حوراء، لطرفها سهام ... أمضى وأمضّ من نبال
في القلب لوقعها جراح ... لا برء لها من اغتيال
ما يجمُل أن تلوم صبَّاً ... إن هام بربة الجمال
إياك، وخلِّني وويلي في ... الوجد، مسلماً لحالي
إن كنت تعده صلاحاً، ... دعني فهداي في ضلالي

الجمعة، 25 يوليو 2014

حدث في السابع والعشرين من رمضان

في السابع والعشرين من رمضان من سنة 1037 ختم صحيحَ البخاري في الجامع الأموي بدمشق الإمامُ الأديب المحدث أبو العباس أحمد بن محمد المقَّري التلمساني، وحضر يوم الختم ألوف من الناس، وأُتى للمقري بكرسي الوعظ فصعد عليه وتكلم بكلام في العقائد والحديث لم يسمع نظيره أبدا، وتكلم على ترجمة البخاري وأنشد له بيتين، وأفاد أن ليس للبخاري غيرهما وهما
اغتنم في الفراغ فضل ركوع ... فعسى أن يكون موتك بغته
كم صحيح قد مات قبل سقيم ... ذهبت نفسه النفيسة فلته
ثم ختم الدرس بأبيات قالها حين ودع المصطفى صلى الله عليه وسلم وهي قوله
يا شفيع العصاة أنت رجائي ... كيف يخشى الرجاءُ عندك خيبه؟
وإذا كنت حاضراً بفؤادي ... غيبةُ الجسم عنك ليست بغيبه
ليس بالعيش في البلاد انقطاع ... أطيب العيش ما يكون بطِيبه
وكانت الجلسة من طلوع الشمس إلى قريب الظهر، ونزل عن الكرسي فانثالت الناس عليه تقبل يده وتعترف بفضله.
ولد أبو العباس المقري بشهاب الدين سنة 986 بمدينة تلمسان، وأصل أسرته من قرية مَقَّرة، وارتحل جده الخامس إلى تلمسان واستوطنها، وولد بها أبو العباس وأبوه وجده وجد جده، وعرفت أسرته بالعلم والفضل والتقوى.
حفظ أبو العباس القرآن الكريم بتلمسان وهو يافع، وتعلم بها على عمه الشيخ سعيد المقري، وكان مفتى تلمسان ستين سنة، ومن جملة ما قرأ عليه صحيح البخارى سبع مرات، وروى عنه الكتب الستة بسندها إلى القاضي عياض.
ثم رحل إلى مدينة فاس سنة 1009 ليطلب العلم على شيوخها، ودرس فيها على الفقيه إبراهيم بن محمد الآيسي أحد قواد السلطان أحمد المنصور الذهبي، فأعجب بالمقري الشاب واصطحبه معه إلى مراكش وقدمه إلى السلطان، وهناك التقى بابن القاضي وبأحمد باب التنبكي صاحب نيل الابتهاج وبغيرهما من علماء مراكش وأدبائها.
رجع المقري إلى تلمسان آخر سنة 1010، وفي نيته أن يكتب عن رحلته، فباشر في كتابة كتابه روضة الآس ليقدمه إلى السلطان المنصور، ولكن السلطان توفي سنة 1012 والمقري ما يزال في تلمسان.
وضاقت تلمسان بطموح العالم الشاب وألمعيته، فترك تلمسان وعاد إلى فاس سنة 1013 وأقام فيها حوالي خمسة عشر عاماً تولى فيها أمور الإمامة والفتوى والخطابة وغيرها، وأصبح في هذه الفترة من وجوه علمائها.
يقول الدكتور إحسان عباس رحمه الله في مقدمته لكتاب أبي المقري نفح الطيب: ولكن اضطراب الأحوال بعد وفاة المنصور الذهبي وصراع أبنائه على الحكم، وتعرض مدينة فاس نفسها لأعمال المد والجزر في تلك الظروف المتقلبة، كل ذلك لم يكن يكفل للقاطنين فيها شيئاً من الهدوء؛ ولم تكن بلاد المغرب حينئذ فريسة للأطماع الداخلية وحسب، بل تعرضت لغزوات الأسبان والبرتغاليين، وفي سنة 1016 كان المقري يشهد - عن كثب - انقطاع آخر صلة للعرب ببلاد الأندلس حين تفرقت الجالية الأندلسية تطلب لها مأوى في سلا وتونس وغيرهما من البلاد المغربية؛ وبعد ذلك بثلاث سنوات كان الأسبان يستولون على مدينة العرائش في المغرب بمواطأة الشيخ المأمون أحد أبناء المنصور.
وترقت الأمور بالمقري في فاس وأصبح مفتيها بعد وفاة شيخه محمد الهواري في سنة 1022، ثم رغب في الرحلة إلى المشرق وأداء فريضة الحج، فبدأ في أواخر رمضان سنة 1027 رحلة لن يعود بعدها إلى المغرب، ولما وقف بين يدي السلطان يستأذنه في الرحيل للحج، أنشده المقري قول علي بن عبد العزيز الحضرمي:
محبتي تقتضى مُقامي ... وحالتي تقتضى الرحيلا
فأجابه السلطان بقوله
لا أوحش الله منك قوما ... تعودوا سَمْتَك الجميلا
ولما عرف العلماء نية المقري في الرحيل كتب إليه الفقيه الكاتب أبو الحسن علي الخزركي الفاسي الشهير بالشاحي بما كتبه أبو جعفر أحمد بن خاتمة المري المغربي إلى بعض أشياخه:
أشمسَ الغرب حقاً ما سمعنا ... بأنك قد سئمت من الإقامه؟
وإنك قد عزمت على طلوع ... إلى شرق سموت به علامه
لقد زلزلت منا كل قلب ... بحق الله لا تُقِمِ القيامه
وقادته رحلته إلى ميناء تطوان فركب البحر إلى تونس وسوسة ثم الإسكندرية، ومنها إلى القاهرة فالحجاز بحراً، فوصل مكة في ذي القعدة من عام  1028، وبعد أدائه لفريضة الحج توجه إلى المدينة لزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ثم عاد إلى القاهرة بعد أداء الحج، وتزوج بها سيدة تنتسب إلى السادة الوفائية، ومن القاهرة توجه المقري لزيارة بيت المقدس في سنة 1029 ثم عاد إلى القاهرة، وألقى عصا الترحال وقرر الاستقرار بها، ويبدو أن المقري واجه في مصر إملاقاً وفقراً، ولم يعرف له علماؤها قدره، فلم تكن إقامته فيها بالمريحة، وسئل مرة عن حظه بها فقال: قد دخلها قبلنا ابن الحاجب وأنشد فيها قوله
يا أهل مصر وجدت أيديكم ... في بذلها بالسخاء منقبضه
لمّا عدمتُ القِرى بأرضكم ... أكلتُ كتبي كأنني أَرَضَه!
ثم أنشد هو لنفسه
تركتُ رسوم عزِّي في بلادى ... وصرت بمصر منسيَ الرسومِ
ونفسى عِفتُها بالذل فيها ... وقلت لها عن العلياء صومى
ولى عزم كحد السيف ماض ... ولكن الليالي من خصومى
وأخذ المقري يتردد من مصر إلى مكة والمدينة حتى كان في عام 1037 قد زار مكة خمس مرات والمدينة سبع مرات، قال رحمه الله في نفح الطيب: وحصلت لي بالمجاورة في مكة المسرات، وأمليت فيها على قصد التبرك دروساً عديدة، والله يحيل أيام العمر بالعود إليها مديدة، ووفدت على طيبة المعظمة ميمماً مناهجها السديدة سبع مرار، وأطفأت بالعود إليها ما بالأكباد الحرار، واستضاءت تلك الأنوار، وألَّفت بحضرته صلى الله عليه وسلم بعض ما مَنَّ الله به عليَّ في ذلك الجوار، وأمليت الحديث النبوي بمرأى منه عليه الصلاة والسلام ومسمع... ثم أبت إلى مصر مفوضاً لله جميع الأمور، ملازماً خدمة العلم الشريف بالأزهر المعمور، وكان عودي من الحجة الخامسة بصفر سنة 1037 للهجرة.
ولم تطل إقامته بالقاهرة، فبعد قرابة خمسة أشهر توجه في رجب سنة 1037 إلى بيت المقدس، وأقام فيه نحو خمسة وعشرين يوماً، وألقى عدة دروس بمسجدي الأقصى والصخرة، وزار مقام الخليل إبراهيم ومزارات أخرى؛ ثم توجه إلى دمشق ونزل على من بها من المغاربة على عادة طلبة العلم، فأنزلوه في مكان غير مناسب لم يرتح إليه، وكان يرغب أن تكون إقامته قرب الجامع الأموي، وسمع بقدومه الأديب أحمد بن شاهين فأرسل إليه مفتاح المدرسة الجمقمقية لينزل بها، وكتب مع المفتاح هذه الأبيات
كنفُ المقَّريِّ شيخي مَقَري ... وإليه من الزمان مَفري
كنفٌ مثل صدره في اتساع ... وعلوم كالدر في ضمن بحر
أي بدر قد أطلع الدهر منه ... ملأ الشرق نوره أي بدر
أحمد سيدي وشيخي وذخري ... وسميي وذاك أشرف فخري
لو بغير الأقدام يسعى مشوق ... جئته زائرا على وجه شكري
فأجابه المقري
أي نظمٍ في حسنه حار فكري ... وتحلى بدُرِّه صدرُ ذكري
طائرُ الصيت لابن شاهين ينمى ... من بروض الندى له خير ذكر
أحمد الممتطين ذروة مجد ... لعَوان من المعالي وبِكر
حلَّ مفتاح فضله بابَ وصل ... من معاني تعريفه دون نُكر
يا بديع الزمان دم في ازدياد ... بالعلى وازدياد تجنيس شكر
ولما دخل إليها أعجبته فنقل أسبابه إليها واستوطنها مدة أقامته، ولقي المقري من علماء دمشق وأهلها خير استقبال وأكرم ضيافة فأحبهم وأحبوه، ولم يتفق لغيره من العلماء الواردين إلى دمشق ما اتفق له من الحظوة وإقبال الناس، فقد أكرموه بما هو أهله حين صدَّروه لإلقاء الدرس بعد ختم صحيح البخاري في رمضان من سنة 1037.
وتقليد قراءة البخاري في مجالس العلماء هو أمر قديم لأهمية هذا الكتاب من كتب الحديث، ولم يكن من المستغرب أن يحتفل الناس بختم قراءته والتبرك بذلك، فمجالس العلم تحفها الملائكة، ولكن هذا التقليد تحول إلى اعتقاد بأن قراءة صحيح البخاري تدفع كيد الأعداء وترد المعتدين، ولعل أول ذكر لقيام المسلمين بذلك هو في سنة 680 عندما اجتمع أهل حلب وختموا صحيح البخاري في مسجدها بنية صرف اعتداء المغول عليهم، ونجد بعد هذه السنة تكراراً لهذا الأمر في مناسبات مشابهة، حتى كان في الجيش العثماني مبالغ مخصصة للفقهاء لقراءة صحيح البخاري بنية النصر!
لم تطل إقامة المقري بدمشق، بل كانت دون الأربعين يوماً، فقد خلف في مصر زوجته، وعندما اعتزم العودة إلى مصر، خرج جمهور كبير من علماء دمشق وأعيانها لوداعه، وقال أحمد بن شاهين قصيدة في ذلك:
حنانيك إنّ الدمع بالودّ معرب ... وإنّي في شرقٍ وأنت مُغرِّبُ
ووعدُك لي بالعود إنّي معلِّلٌ ... به مهجةً قد أوشكت تتصوّب
وهبتك قلبي ما حييت ولم أقل ... "ولكن من الأشياء ما ليس يوهب"
وقلنا دمشقٌ أنت فيها محكّمٌ ... وأشرافها ودّوا وجَدّوا ورحّبوا
وأنت لها روحٌ ومولى ومفخرٌ ... وقد زنت شرقاً مثل ما ازدان مغرب
هو الشيخ شيخ الدهر أحمد من غدت ... دمشق ومن فيها بعلياه تخطب
هو المقّريّ العالم العَلَم الذي ... إليه تناهى الفضل والمجد ينسب
وما هو إلا الشمس أزمع رحلةً ... وإنّا لفي ليلٍ إذا هي تغرب
وفي طريقه إلى مصر مر المقري بمدينة غزة، فاستضافه فيها الرئيس الكبير محمد بن أحمد بن يحيى المعروف بابن الغصين الغزي، والمتوفى بغزة سنة 1062، وكان رئيساً جليل القدر واسع الكرم لم يصل إلى غزة أحد من الواردين عليها إلا وبادر إلى استضافته، وحمل إليه ما يليق بحاله، وتقرب إلى قلبه بكل طريق، وبالخصوص أهل العلم والأدب، فقال فيه أبو العباس أحمد المقري:
يا سائلي عن غزةٍ ... ومن بها من الأنام
أجبتُهم مرتجلا ... ابن الغصين، والسلام
عاد المقري إلى مصر رغم إعجابه بدمشق وأهلها، ولكنه لم يمكث طويلاً فقد عاد إليها في سنة 1040، وحصل له من الإكرام ما حصل في قدمته الأولى وحين فارقها أنشد قوله
إنْ شامَ قلبي عنكِ بارقُ سلوة ... يا شام كنت كمن يخون ويغدر
كم راحلٍ عنها لفرط ضرورة ... وعلى القرار بغيرها لا يقدر
متصاعد الزفرات مكلوم الحشا ... والدمع من أجفانه يتحدر
وعاد المقري إلى مصر بنية ترتيب أموره والعودة إلى دمشق للاستقرار بها، وكان أثناء إقامته بمصر قد تزوج امرأة من عائلة السادة الوفائية، رزق منها بنتاً، توفيت عام 1038، ويبدو أن العلاقة بينه وبين زوجته لم تكن تتسم بالوفاق، مما زاد من تنغيص حياته بمصر، فطلقها في سنة 1041 وهو  يزمع الهجرة من مصر، فوافته منيته في جمادى الآخرة من سنة 1041.
ترك المقري رحمه الله تعالى عدداً من المؤلفات في العقيدة والفقه والأدب والتاريخ، وأشهرها كتب ثلاثة هي في التاريخ والتراجم:
روضة الآس العاطرة الأنفاس في ذكر من لقيته من أعلام الحضرتين مراكش وفاس، ألفه حوالي 1011 - 1012 ليقدمه إلى المنصور أحمد الذهبي.
أزهار الرياض في أخبار عياض، ألفه أثناء إقامته بفاس 1013 1027
نفحُ الطِيبْ من غصن الأندلس الرطيب، وقد ألف المقري هذا الكتاب بطلب من أحبابه في دمشق، فقد حدثهم أثناء زيارته عن الوزير لسان الدين ابن الخطيب ومكانته السياسية والأدبية، فطالبه علماء دمشق بالكتابة عنه فاستجاب لذلك تحفزه محبته لهم وعرفانه بما غمروه من كرمهم، وتوسع رحمه الله في الكتاب واستفاض فصار تاريخاً للأندلس من خلال التأريخ للوزير لسان الدين، وقد استغرق تأليف الكتاب وجمعه سنتين وانتهى منه رحمه الله في آخر سنة 1039، وقد أكرمني الله بقراء هذا الكتاب أكثر من مرة أرتع في رياضه وأتمتع بنفحاته وأتملى أخباره وأتأمل عبره وعبراته، في حل وترحال، أعيش مع أهل الأندلس في سرائهم وضرائهم ووحدتهم وفُرقتهم، يغالبون السُنن وهي تغلبهم، ويرومون النجاة واللُجج تغمرهم، مع أنهم لم يعدموا خبيراً ولم يعوزوا نذيراً، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
وقد بدأ المقري الكتاب بخطبة ومقدمة تحفلان بحنين المقري إلى وطنه في المغرب الأقصى، وبين فيه تفاصيل رحلته منه وما أعقبها من أسفار ومقام، ثم أفرد جزءاً خاصاً لدمشق الفيحاء وعلمائها وأهلها الذين لقي منهم كل تقدير وإجلال وإكرام، وقد ذكر في ثنايا كتابه أكثر من مرة الصلة والشبه بين دمشق الشام وغرناطة الأندلس، وأورد في المقدمة أشعار له ولغيره في التغني بدمشق، ومن محاسن شعره في حقها قوله
محاسن الشام جلَّت ... عن أن تقاس بحدِّ
لولا حمى الشرع قلنا ... ولم نقف عند حد
كأنها معجزات ... مقرونة بالتحدى
وقوله
قال لي ما تقول في الشام حَبرٌ ... شَامَ من بارق العُلى ما شامه
قلت ماذا أقول في وصف أرض ... هي في وجنة المحاسن شامه!
وقوله
قل لمن رام النوى عن وطن ... قولةً ليس بها من حرجِ
فرِّج الهمَّ بسُكنى جُلق ... إن في جلق باب الفرج
ثم ذكر أنه في مطارحاته ومذاكراته مع علماء وأدباء دمشق، كان يذكر لهم بعض أخبار الأندلس وأحوالها من خلال حديثه عن الوزير الخطيب، قال رحمه الله: فصرت أورد من بدائع بلغائها ما يجري على لساني، من الفيض الرحماني، وأسرد من كلام وزيرها لسان الدين بن الخطيب السلماني، صب الله عليه شآبيب رحماه وبلغه من رضوانه الأماني، ما تثيره المناسبة وتقتضيه، وتميل إليه الطباع السليمة وترتضيه، من النظم الجزل، في الجد والهزل، والإنشاء، الذي يدهش به ذاكرة الألباب إن شاء، وتصرفه في فنون البلاغة حالي الولاية والعزل، إذ هو - أعني لسان الدين - فارس النظم والنثر في ذلك العصر، والمنفرد بالسبق في تلك الميادين بأداة الحصر، وكيف لا ونظمه لم تستول على مثله أيدي الهصر، ونثره تزري صورته بالخريدة ودمية القصر.
فطلب مني المولى أحمد الشاهيني إذ ذاك، وهو الماجد المذكور، ذو السعي المشكور، أن أتصدى للتعريف بلسان الدين في مصنف يعرب عن بعض أحواله وأنبائه، وبدائعه وصنائعه ووقائعه مع ملوك عصره وعلمائه وأدبائه، ومفاخره التي قلد بها جيد الزمان ولبته، ومآثره التي أرَّج بها مسرى الشمال وهبته، وبعض ما له من النثار والنظام، والمؤلفات الكبار العظام، الرائقة للأبصار، الفائقة على كلام كثير من أهل الأمصار.
وأفرد الباب الخامس من كتابه لذكر محاسن دمشق واهلها، وذكر كذلك ما جرى بينه وبين أدبائها وعلمائها من مطارحات ومراسلات، فمن ذلك أن المقري كان في دعوة لبعض الأعيان وكان المفتى عبد الرحمن العمادي وأحمد بن شاهين في صحبته في تلك الدعوة فمسَّ ثلجاً وقال: الماسٌ هذا؟ فأنشد الشاهينى مرتجلا
شيخنا المقرى وهو الناسُ ... والذي بالأنام ليس يقاسُ
مس ثلجا وقال الماس هذا؟ ... قلت ألماسُّ عندنا ألـمْاسُ
وإضافة إلى أحمد بن شاهين الذي كان له قصب السبق وبدأ الفضل في استضافة المقري في دمشق، توطدت العلاقة بين المقري وبين عدد من أعلام علماء دمشق وعلى رأسهم مفتيها وابن مفتيها الإمام عبد الرحمن بن محمد العمادي الحنفي الدمشقي، أحد أفراد الدهر وأعيان العلم وأعلام الفضل، والمتوفى سنة 1051 عن 73 عاماً، وكان بينه وبين المقري مسامرات ومساجلات في الحل ومراسلات في الترحال.
وممن لازم الشيخ المقري في مُقامه بدمشق الأديب الفاضل يحيى بن أبي الصفا بن أحمد المعروف بابن محاسن، وكان أحسن آل بيته فضلاً وكمالاً وأبرعهم استيلاء على المعارف واشتمالا، لزم الشيخ المقري لزوم الظل للشبح وأخذ عنه غرائب الظرف والملح، وكتب بخطه مجموعاً ذكر فيه كثيراً من أقوال شيخه، وتوفي رحمه الله في سنة 1053.
واستفاد عدد من علماء دمشق من وجود الشيخ أبي العباس المقري فاستجازوه بمروياته في الحديث الشريف فأجازهم، وهم ومن كبراء علمائها مما يدل على مكانته ومنزلته، ونستعرض أسماء بعض هؤلاء السادة العلماء الذين لا تزال عائلاتهم معروفة في دمشق، فمنهم محمد بن أحمد الأسطواني الدمشقي الحنفي الفقيه الواعظ الأخباري، المتوفى سنة 1072 عن 56 عاماً، ودفن بمقبرة الفراديس، ومحمد بن تاج الدين بن أحمد المحاسني الدمشقي الحنفي الخطيب بجامع دمشق، والمتوفى سنة 1072 عن 60 عاما، وابن المفتي إبراهيم بن عبد الرحمن بن محمد العمادي الدمشقي الحنفي، المتوفى سنة 1078 عن 71 عاماً، والمدفون بمقبرة باب الصغير، الأمير منجك بن محمد بن منجك بن أبي بكر بن عبد القادر بن إبراهيم بن محمد ابن إبراهيم بن منجك الكبير اليوسفي الدمشقي، المتوفى في سنة 1080 عن 73 سنة، والسيد حسين بن كمال ابن حمزة نقيب الشام وعلامة العلماء الأعلام الحسيني وأخيه محمد، وتوفي السيد حسين سنة 1085 عن 61 عاماً، ومحمد بن علي بن سعد الدين بن رجب بن علوان المعروف بالمكتبي الدمشقي الخطيب المكتبي الشافعي، المتوفى سنة 1096 عن 76 عاماً.
وكان في دمشق شيخ يدعى جمال الدين بن مجد الدين ويعرف بالجنيد، وتوفي سنة 1078، وكان مشهوراً بشراهته وأكله الكثير، وحضر ليلة في دعوة كان فيها أبو العباس المقرى وأحمد بن شاهين، فلما قُدِّم الطعام قام الجنيد وتوضأ وصلى بعض ركعات فقال المقرى ممازحاً ومستجيزا
قام الجنيد يصلى ... ونحن نأكل عنه
فبادر ابن شاهين فأجابه
تقبل الله منا ... ولا تقبل منه!
رحمهم الله جميعاً

الخميس، 24 يوليو 2014

حدث في السادس والعشرين من رمضان

في السادس والعشرين من رمضان من سنة 542 توفي في بغداد، عن 92 عاماً، الإمام النحوي الشريف أبو السعادات هبة الله بن علي، المعروف بابن الشجري، أحد أئمة اللغة والادب وأحوال العرب، كان أوحد زمانه وفرد أوانه في علم العربية ومعرفة اللغة وأشعار العرب وأيامها وأحوالها، متضلعا من الأدب كامل الفضل.
ولد ببغداد لأسرة تنتمي إلى جعفر بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وكان نقيب الطالبيين بالكرخ، والشجري نسبة إلى شجرة وهي قرية من أعمال المدينة المنورة منها أهل أمه.
أخذ اللغة عن الشريف يحيى بن محمد ابن طباطبا العلوي الحسني المتوفى سنة 478 وغيره، وقرأ الحديث متأخراً بنفسه على جماعةٍ مثل المحدث أبي الحسين ابن الطيوري، المبارك بن عبد الجبار الصَيرفي المتوفى سنة 500، وأبي علي محمد بن سعيد بن سهلٍ الكاتب.  
وكان فصيحاً، حلو الكلام، حسن البيان والإفهام، درّس الأدبَ طول عمره، وكثر تلامذته، وطال عمره ومُتِّع بجوارحه إلى أن مات، وكان حسن الخلق، رفيقا.
قال تلميذه كمال الدين عبد الرحمن بن محمد الأنباري، المتوفى سنة 577، في كتابه نزهة الألِبَّاء في طبقات الأدباء: كان أبو السعادات شيخنا فريدَ عصره، ووحيد دهره في علم النحو، أنحى من رأينا، وآخر من شاهدنا من حذاقهم وأكابرهم، وعنه أخذت النحو، وكان تام المعرفة باللغة، وصنف وأملى كتاب الأمالي، وهو كتاب نفيس يشتمل على فنون، وكان فصيحاً، حلو الكلام، وقوراً ذا سمت، لا يكاد يتكلم في مجلسه بكلمة إلا وتتضمن أدب نفس أو أدب درس، ولقد اختصم إليه علويان، فقال أحدهما: قال لي كذا وكذا، فقال له: يا بني احتمِل، فإن الاحتمال قبر المعايب. قال ابن الأنباري: وهذه كلمة حسنة نافعة، فإن كثيراً من الناس تكون لهم عيوب، فيغضون عن عيوب الناس، ويسكتون عنها، فتذهب عيوب لهم كانت فيهم، وكثير من الناس يتعرضون لعيوب الناس، فتصير لهم عيوب لم تكن فيهم.
وذكر الأنباري، مهدياً إيانا لمحة من أدب العلماء، أن العلامة أبا القاسم الزمخشري، محمود بن عمر المتوفى سنة 538، لما قدِم بغداد قاصدِ الحجّ في بعض أسفاره مضى إلى زيارة شيخنا أبي السعادات بن الشَّجَريّ ومضينا إليه معه، فلمّا اجتمع به أنشده قول المتنبّي:
وأستكبِرُ الأخبارَ قبل لقائه ... فلما التقينا صَغّرَ الخَبرَ الخُبرُ
ثم أنشده بعد ذلك:
كانت مُساءَلة الرّكبان تُخبِرني ... عن جعفر بن فلاح أحسن الخبرِ
ثم التقينا فلا والله ما سمعَت ... أُذني بأحسنَ ممّا قد رأى بَصَري
ثم أخذ يثني عليه، فلم ينطق الزمخشري حتى فرغ ابن الشجري من كلامه، فلما أتمَّ كلامه شكرَ الشريفَ وعظّمه، وتصاغر له، ثم قال: إن زيد الخيل دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بصُرَ بالنبي صلى الله عليه وسلم رفع صوته بالشهادتين، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا زيد الخيل، كل رجل وُصِفَ لي وجدتُه دون الصفة إلا أنت، فإنك فوق ما وصفت. وكذلك سيدنا الشريف، ثم دعا له وأثنى عليه. قال: فخرجنا من عنده ونحن نعجب كيف يستشهد الشريف بالشعر والزمخشري بالحديث وهو رجل أعجمي.
وكان يجلس يوم الجمعة بجامع المنصور مكان ثعلب ناحية الرباط يُقرأ عليه، وقال نقيب نقباء الأشراف طراد بن محمد الزينبي - نسبةً إلى زينب بنت سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس - وقد حضر عنده مع جماعة من الهاشميين والعلويين: يا شريفُ ما وُرِّخَ عن علويّ أنه كان له حلقة في جامع المنصور يدرّس فيها إلاّ لك.
ترك ابن الشجري مؤلفات قيّمة منها الأمالي، والحماسة ضاهى به حماسة أبي تمام، وديوان مختارات الشعراء، وكتاب ما اتفق لفظه واختلف معناه، وشرح اللمع لابن جني وشرح التصريف الملوكي.
ويعد كتاب الأمالي أكبر تآليفه وأكثرُها فائدةً، أملاه في 84 مجلساً، وهو يشتمل على فوائد جمة من فنون الأدب، وختَمه بمجلسٍ قَصَرَه على شعر أبي الطيّب، تكلم عليه وذكر ما قاله الشُرّاح، وزاد مِن عندِه ما سَنَحَ له، وهو من الكتب المُتممِة، ولما فرغ منه حضر إليه أبو محمد عبد الله بن الخشاب وأراد سماعَه فما أجابه، فعاداه، وردّ عليه في مواضع من الكتاب ونسبه فيها إلى الخطأ، فوقف عليه الشريف أبو السعادات، ورد عليه في رده وبيّن وجوه غلطِهِ، وألّف في ذلك كتاباً سماه الانتصار، وهو على صِغَر حجمه مفيدٌ جداً، وسمِعه عليه الناس؟
ولابن الشجري ديوان شعر، وإن كان شعره أقرب إلى شعر النحاة من حيث عذوبة الشعر وسلاسة المنطق، ومن شعره:
لاتمزحنَّ فإن مزحتَ فلا يكن ... مزحاً تضاف به إلى سوء الأدبْ
واحذر ممازحةً تعود عداوةً ... إن المزاح على مقدمة الغضب
وقال:
وتجنب الظلم الذي هلكت به ... أمم تودُّ لو أنها لم تظُلمِ
إياك والدنيا الدنية إنها ... دار إذا سالمتها لم تسلمِ
وله من مرثية:
كل حي إلى الفناء يؤول ... فتزود إن المقام قليلُ
نحن في دار غربة كل يوم ... يتقضي جيل ويحدث جيل
وكأنا في ذاك ركبان ركب ... مزمعٌ رحلة وركب قَفول
والليالي في صرفها تتلقانا ... بنصح لو أنه مقبول
كيف أنجو من المنية والشيب ... بفودي صارم مسلول
ولقد قطع القلوب وقد ... أذرى مصونَ الدموع رزءٌ جليل
باقياً فهو في العيون سهاد ... دائم وهو للقلوب عليل
من يكن صبره جميلاً فما صبر ... ي عليه يا صاحبيَّ جميل
ليته باقياً وحزني عليه ... إن حزني من بعده لطويل
وعجيب أني أعزي محبيه ... وحظي من المصاب جزيل
وكان من شعراء زمانه الشاعر الظريف اللطيف أبو محمد الحسن بن أحمد بن محمد بن جَكينا، المتوفى سنة 528، فقال له مداعباً، مشيراً إلى تعارض قوله للشعر مع كونه من سلالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه ما ينبغي له الشعر:
يا سيّدي والذي يُعِيذُك من ... نَظمِ قريضٍ يَصدى به الفِكرُ
ما فيك من جَدِّك النبيّ سِوَى ... أَنَّكَ لا يَنبغي لك الشِّعر

 
log analyzer