الخميس، 26 يونيو 2014

حدث في السابع والعشرين من شعبان

 
في السابع والعشرين من شعبان من عام 1383 الموافق 13 يناير 1964، قام اليساريون الزنوج المنتمون للحزب الأفرو شيرازي وحزب الأمة بتدبير ثورة على الحكم العربي في جزيرة زنجبار، وأدى نجاح الثورة إلى انتهاء حكم السلطان جمشيد بن عبد الله البوسعيدي، ومقتل الألوف من أهل زنجبار العرب والهنود، ثم اتحدت من بعدها زنجبار مع دولة تنجانيقا في شرقي أفريقية في دولة جديدة سميت تنزانيا.
وزنجبار اسم مشتق من الفارسية بمعنى ساحل الزنج، ويطلق على أرخبيل جزر في شرق أفريقية قوامه جزيرتان كبيرتان هما أونجوجا وبِمبا، ويقال للأولى زنجبار  وهي الجزيرة الأكبر، وعدد سكان زنجبار اليوم قرابة مليون وثلاثمئة شخص، وكان عددهم في سنة 1383 يبلغ 300.000 شخص تبلغ نسبة العرب فيهم 20% والهنود حوالي 10%.
استعمرت بريطانية زنجبار عام 1890، وفي الستينات من القرن الماضي بدأت بريطانية في تصفية مستعمراتها التي أضحت عبئاً عليها بعد انتقال زعامة المعسكر الرأسمالي منها إلى الولايات المتحدة، وتقلص مصالحها الاقتصادية في الهند وشرق إفريقية، وشمل ذلك زنجبار، وكانت سياسة بريطانية في كثير من مستعمراتها تسمح بتشكيل التجمعات السياسية أوالأحزاب، وكانت حكومة زنجبار ملكية دستورية يرأسها السلطان ويحكمها رئيس الوزراء، وكان في أحزاب زنجبار قائمة على أساس عرقي، فالعرب لهم حزب زنجبار الوطني، والأفارقة لهم الحزب الأفروشيرازي، وهي تسمية قد تبدو غريبة ولكنها قائمة على اعتقاد بعض الأفارقة أن أجدادهم المسلمين جاءوا من شيراز في فارس، وهو حزب قائم على خليط من الثورية الأفريقية مع المبادئ الماركسية اللينينية.
و في عام 1961 أجرت بريطانية انتخابات حرة في المستعمرة، نتج عنها أن فاز من التجمع العربي 13 نائباً، وفاز من التجمع الإفريقي 10 نواب، ولأن طريقة الانتخاب لا تقوم على انتخاب لائحة بأكملها بل تعتمد على الدائرة الانتخابية الواحدة، كما هو الحال في بريطانية، فقد جاءت النتيجة هكذا رغم أن عدد كل من صوتوا للتجمع الإفريقي كان أكثر من عدد كل الذين صوتوا للتجمع العربي، وهي ظاهرة معروفة وأحد عيوب هذا النظام الانتخابي في بعض الحالات.
وقامت على إثر هذه النتائج اضطرابات قام بها الأفارقة مدعين وجود تزوير في الانتخابات، وتسببت هذه الاضطرابات والقلاقل في مقتل حوالي 70 شخصاً، وعلى إثرها قامت حكومة التجمع العربي بحظر الجماعات الثورية المتشددة من المعارضة، وكان ذوي الميول الاشتراكية الماركسية قد انشقوا عن الحزب الأفروشيرازي وكونوا حزباً أسموه حزب الأمة، ويقصدون به حزب الشعب، فقامت الحكومة بحظره بعد نجاحها في الانتخابات، وذلك لأن زعيمه عبد الرحمن محمد، الملقب بابو، كان لا يخفي التزامه بشيوعية الزعيم الصيني ماو تسي تونج.
وفي سنة 1963 جرت انتخابات أخرى كانت نتيجتها قريبة من انتخابات 1961 في وجود خلل في تمثيل مجمل الأصوات، فقد صوت 54% من الناخبين لصالح الحزب الأفروشيرازي ولكنه نجح في 13 دائرة فقط، ونجح التجمع العربي في 18 دائرة، واستمرت الحكومة ذات القاعدة العربية في تقوية مراكزها داخل الحكومة، وسرحت كل رجال الشرطة ذوي الأصول الإفريقية، وإلى جانب كونه مبنياً على تخوين هؤلاء الأفراد، فقد كان هذا خطأ من ناحيتين حيث أضعف القوة الشُرْطية التي تحت تصرف الحكومة، وأوجد في نفس الوقت عدداً من الشرطة المسرحين الحاقدين على الحكومة، والمدربين تدريباً عسكرياً نظامياً، والخبيرين بالنظام الأمني في الجزيرة وما يضم من قوات ومخافر ومخازن للسلاح والذخيرة.
وأعلنت بريطانية استقلال الجزيرة في 10 كانون الثاني/ديسمبر 1963، وسلمت البلاد لحكومة التجمع العربي، وأرادت الحكومة توقيع اتفاقية دفاعية مع بريطانية يتم بموجبها وجود كتيبة من الجيش البريطاني على الجزيرة لحفظ الأمن فيها، ولكن بريطانية رفضت ذلك، لأن تقارير المخابرات البريطانية كانت تتوقع حدوث اضطرابات وتظاهرات مصحوبة بنشاط شيوعي متزايد، وكان السبب في الرفض أن وجود القوات البريطانية سيزيد من حدة الاضطرابات حيث سيبدو أن الاستقلال كان صورياً فقط.
واندلعت الثورة في الساعة الثالثة من صباح 27 شعبان 1383 الموافق 13 كانون الثاني/يناير 1964، أي بعد قرابة شهر من استقلال الجزيرة، وقام 600 إلى 800 ثائر إفريقي، يساعدهم عدد من رجال الشرطة المسرحين، بمهاجمة مخافر الجزيرة ومخزني السلاح فيها ومحطة الإذاعة، وحاولت قوات الشرطة المعينة حديثاً الدفاع عن هذه المواقع، وانتقلت من مكان إلى آخر، ولكنها هُزِمت في النهاية فقد كان ينقصها التدريب والخبرة لصد هجمات متعددة وشاملة على هذا النحو.
وتسلح الثوار بالبنادق والرشاشات المتوسطة والثقيلة التي استولوا عليها، وبلغت حماستهم عنان السماء بفضل النجاح غير المتوقع، وفي غضون 6 ساعات من بدء التمرد كانوا قد استولوا على مباني الحكومة الرئيسة ومكتب البرقيات، ثم استولوا بعدها على المطار، وما أمسى المساء حتى صارت البلد في يدهم، وخلفت المعارك وقتال الشوارع حوالي 80 قتيلاً معظمهم من العرب، وهرب السلطان جمشيد ورئيس الوزراء محمد حمادي وأعضاء الوزارة على اليخت السلطاني المسمى سيد خليفة، وكان السلطان جمشيد، المولود سنة 1929، قد تولى العرش قبل 6 أشهر بعد وفاة والده عبد الله بن خليفة، ولا يزال جمشيد يعيش في المنفى في بريطانية.
واستنجد رئيس الوزراء والسلطان بالحكومة البريطانية التي كان يترأسها السير أليك دوجلاس هيوم من حزب المحافظين، ورغم أن الثورة وقعت إبان الحرب الباردة وشدة الاستقطاب والمواجهة بين المعسكر الشيوعي وبين المعسكر الغربي، إلا أن وزير الكومُنولث دنكان ساندز رفض إرسال قوات بريطانية لقمع الثورة، وقال إن مصالح بريطانية الاقتصادية في الجزيرة ضئيلة، وكانت تقارير دبلوماسييه في زنجبار قد أفادته أن الحكومة لم تعد لها أية سيطرة على الجزيرة، وأرسلت الحكومة البريطانية سفينة إلى سواحل زنجبار لتلوح للثوار بالتهديد إن هم تعرضوا للبريطانيين، ثم قامت بإخلائهم بعد بضعة أيام من الثورة.
وأحرز النظام الثوري الجديد اعترافاً فورياً من عدد من الدول ذات التوجه اليساري، وعلى رأسها حكومة الرئيس جمال عبد الناصر في مصر، والتي كانت في أوج نزاعها مع الغرب والدول العربية المحافظة، وقد أرسلت قبل سنة قواتها لليمن دعماً لثورة أطاحت بالإمام البدر، واعترفت بريطانية بالحكومة الجديدة بعد حوالي أسبوعين من الثورة، وبقيت هي وأمريكة على توجس منها سنوات طويلة.
تزعم الثورة عبيد كرومي رئيس الحزب الأفروشيرازي، ولكنه في الواقع لم يكن في الجزيرة بل كان على البر الإفريقي، وكان القائد الفعلي للثوار غير زعيم الثورة الرسمي، فقد كان جون أوكِلّو  يقود الثوار الذين جاء معظهم من عصبة الشباب في الحزب الأفروشيرازي، وأوكلو شرطي سابق من أوغَندة جاء إلى الجزيرة قبل حوالي 4 سنوات، وادعى أنه كان في كينيا القائد الأعلى لقوات متمردي الماو ماو الذين حاربوا الاستعمار البريطاني، وكان يصر على مناداته بالمشير أركان حرب، ويقول إن هاتفاً جاءه وأمره أن يذهب كمسيحي ليحرر شعب زنجبار من العرب.
وأعلن الحزب الأفروشيرازي أن زنجبار أضحت: الجمهورية الشعبية لزنجبار وبمبا، وشكل مجلس ثورة يشرف على حكومة ترأسها عُبيد كرومي وتولى وزارة خارجيتها عبد الرحمن محمد بابو، وكان أول قرار للحكم الجديد خلع السلطان وحظر الحزب الوطني الزنجباري، وبدأ كرومي في توطيد الثورة، وكان أول ما عمله أن أزاح أوكلو من الواجهة السياسية، فقد كان فظاً عامياً متبجحاً، ولكنه بقي يناديه سيادة المشير.
واعتبر  أوكلو نفسه بمثابة رئيس للجيش الثوري فقاد أتباعه من الثوريين في هجمات انتقامية على العرب والهنود في زنجبار، وبأمر من أوكلو تجنب الثوار مهاجمة الأوربيين، وقاموا بضرب وتعذيب وقتل واغتصاب من وصلت إليه أيديهم، وبلغ عدد ضحاياهم الآلاف، وتتراوح التقديرات حول عددهم من 5.000 إلى 2.0000 قتيل، وتبجح أوكلو في مقابلة إذاعية أنه قتل وسجن عشرات آلاف من الأعداء والخونة، وصادف أن كان هناك مخرج سينمائي إيطالي يصور فيلماً عن الدول الإفريقية المقبلة على الاستقلال وعنوانه وداعاً إفريقية، فصور من طائرة عمودية جانباً من ضحايا المجازر التي وقعت، والقبور الجماعية التي دفنوا فيها، ولم تجر أية مجازر في الجزيرة الصغرى بمبا التي كان الحزب السياسي فيها حليف الحكومة العربية.
واستمر التنكيل والقتل والترويع والنهب قرابة 3 أسابيع، بدأت بعدها حكومة كرومي في نشر قوات شرطة استدعتهم من تنجانيقة، وجمعت السلاح غير المرخص، وبدأت الحياة تعود تدريجاً إلى الجزيرة، وأعلنت الحكومة عن تشكيل محاكم ثورية لمحاكمة 500 من أعداء الثورة المعتقلين، وهرب من زنجبار من استطاع من العرب والهنود، وأممت الحكومة الماركسية البنكين الموجودين في البلاد، والأراضي والمؤسسات الاقتصادية التي يملكها العرب والهنود.
ولكن أوكلو شكل فرقة أسماها قوات الحرية العسكرية، وانطلق بها يستمر في ترويع العرب ونهبهم  وقتلهم على نحو أثار استياء زملائه من الثوار الزنجباريين، وبخاصة لكونه مسيحياً أوغندياً ينادي بالنضال حتى سفك دم آخر عربي، وكذلك لكونه عنصراً غير منضبط بأوامر الحكومة الجديدة التي لولاه ما كانت على كرسي الحكم، فبدأت حكومة كرومي في نزع سلاح عناصر قواته، وبعد قرابة شهر نزعت منه رتبة مشير أركان حرب، ثم ما لبثت أن انتهزت فرصة سفر له إلى البر الإفريقي فمنعته عند عودته من دخول زنجبار ورحّلته إلى تنجانيقة ثم إلى كينية وعاد منها إلى أوغندة خاسئاً حسيرا.
وفي 26 أبريل 1964 أعلن كرومي عن اتفاق اتحاد مع حكومة جوليوس نيريري في تنجانيقة لتشكيل البلد الجديد المدعو: تنزانية، وبقي كرومي رئيساً لزنجبار، ونائباً للرئيس نيريري، الذي تبالغ بعض المصادر العربية فتزعم أنه كان قسيساً، وأن سياساته كان ذات طابع نصراني صليبي، وهو أمر لا يؤيده الواقع، فقد مارس هو، وكرومي في زنجبار، سياسات قمع وبطش وتصفية وقيود على الاقتصاد والتعليم والسفر تتسم بها الحكومات الماركسية، وطال أذاها كل الشعب بالعدل والسوية، فعاشت البلاد في خوف شديد وفقر مدقع، لا تزال تعاني منه حتى اليوم.
و في سنة 1392= 1972 حاول مقربون من عبيد كرومي الإطاحة بنظامه في زنجبار فلم يفلحوا، ولكنهم نجحوا في اغتياله، فخلفه  الحاج عبود جمُبي حتى سنة 1404=1984، فخفف كثيراً من القيود على المسلمين والتعليم الشرعي، وتابع ذلك من جاء بعده في مد وجزر حتى أصبحت تنزانية وزنجبار اليوم مثل بقية الدول الإفريقية تقوم على خليط متوازن من الديمقراطية والزعيم المتسلط، وتنزانية اليوم مقسمة إلى 25 محافظة، خمس منها في زنجبار وجزرها، وعشرون في تنزانية البر.
وصل الإسلام إلى زنجبار في نهاية القرن الأول الهجري عن طريق الهجرات العربية من عمان، فقد هرب إليها من بطش الحجاج سليمان بن عباد بن الجلندي الأزدي، ومن حينها صارت منتزحاً لأهل عمان، ولا توجد قبيلة عمانية إلا وقسم منها في زنجبار، وزار المسعودي، المتوفى سنة 346، جزيرة زنجبار ومعظم سواحل إفريقية الشرقية، وقال: إن حكامها كانوا مسلمين. وتحول الوجود الإسلامي إلى حكم عربي على يد أهل عُمان، فقد امتدت سلطنة عمان إلى سواحل شرق إفريقية ومنها زنجبار حوالي ألف عام، ولم تنقطع سيطرة عمان عن تلك المناطق إلا لفترات قصيرة بسبب الاستعمار البرتغالي الذي ابتدأ برسو فاسكو دي جاما فيها سنة 1499 ثم باستيلاء البرتغال عليها سنة 911=1505، وبقيت في أيدي البرتغاليين قرابة 200 سنة  إلى أن قام الإمام سلطان بن سيف بحملة لطرد البرتغاليين من ساحل شرق إفريقية وتابعها ابنه سيف من بعده واستولى على ممباسة سنة 1110=1698وقضى على الوجود البرتغالي فيها.
وبقي حكام وولاة الساحل الشرقي خاضعين للحكم العماني اسماً أو فعلاً، وانتقل الحكم في عمان من اليعاربة إلى البوسعيد سنة 1163=1750، حين تولى السلطنة سلطان بن أحمد بن سعيد والذي وضع نصب عينه توحيد المناطق التي تدين بالولاء لعمان، ولما انتقل الحكم ظن والي ممباسة الشيخ محمد بن عثمان المزروعي أن الفرصة قد واتته للاستقلال، وامتنع عن دفع الضريبة، فهاجمه السلطان الجديد وقضى عليه وخضع ساحل شرقي إفريقية ، ومعه زنجبار وبمبا، لحكم البوسعيد في عمان.
وخلفه في سنة 1219=1804 ابنه سعيد الذي بدأ حكمه بكثبر من المناوشات والقتال مع جيرانه في الجزيرة العربية، ثم اتجه للتنمية والتطوير وإشاعة الاستقرار، فأبرز أنه كان رجل دولة من الطراز الأول في عظم الهمة، وحنكة الإدارة، فبنى السفن، وقدم التسهيلات، وعقد المعاهدات التجارية، مع فرنسة سنة 1222 وسنة 1260، ومع أمريكة سنة 1249=1833، ومع بريطانية سنة 1255، وفي عهده أصبحت عمان أقوى دولة في المنطقة، وصار أسطولها من أكبر الأساطيل في العالم، وصلت سفنها التجارية حتى أمريكة، حين أرسل السفينة سلطانة سنة 1840 إلى نيويورك للتجارة وشراء الأسلحة التي كان يحتاجها في صراعه مع البرتغاليين في موزامبيق.
وزار سعيد زنجبار في سنة 1243= 1828، وقرر في سنة 1248=1832جعلها عاصمة الجناح الإفريقي من دولته، إلى جانب مسقط عاصمة الجناح الواقع في بحر عمان وخليح فارس، وهو قرار يدل على تفتح ذهني ومبادرة دائبة، ويدل كذلك على أهمية زنجبار والساحل الشرقي الذي نجح السلطان سعيد في تنميته وازدهاره، فالمسافة بين عمان وزنجبار تبلغ قرابة 4.000 كيل، وكان الوصول إليها يعتمد على الرياح الموسمية، وعظمت مكانة زنجبار في عهده وأصبحت عاصمة التجارة في شرق إفريقية، تنطلق منها وإليها البضائع، وهو الذي فكر في زراعة القرنفل ولم يكن معروفاً في شرق إفريقية، فأتى به من موريشوس وزرعه في زنجبار حتى صارت عاصمة القرنفل في العالم، وشجع تجار الهنود على استيطانها، وقصدها التجار الغربيون وأقامت بها مكاتب قنصلية الولايات المتحدة وبريطانية وفرنسة.
وإلى جانب تجارة التوابل كانت زنجبار مركز تجارة الرقيق الأول في إفريقية، وتقدر بعض المراجع أن الرقيق الذي كان يمر بها سنوياً يصل عدده إلى 50.000 شخص، وكانت حملة مكافحة الرق في بريطانية على أوجها في ذلك الوقت، وأدى هذا لتوتر مع السلاطين وضغوط عليهم نتج عنها عدة اتفاقيات كان أولها في سنة 1822 بالامتناع عن بيع الرقيق للرعايا الأوربيين، وانتهت في سنة 1876حين أصدر السلطان حمود بن محمد أمره بمنع تجارة الرقيق، وكافأته على ذلك الملكة فكتوريا بأن منحته لقب فارس.
وتوفي السيد سعيد سنة 1273= 1856، عن 65 عاماً، على متن سفينة كان قاصداً بها زنجبار، ودفن فيها، وكان منذ سنة 1249=1833 قد جعل ولده ثويني ينوب عنه في عمان ومسقط، وجعل ماجد، سادس أبنائه والمولود سنة 1250، ينوب عنه في زنجبار منذ سنة 1271=1854، واختلف الأخوان بعد وفاة والدهما وكادا يقتتلان، فتدخلت الحكومة البريطانية التي كان يهمهما بقاء طريق الهند دون نزاعات أو حروب، وقام المقيم السياسي في عدن بدراسة النزاع، وانتهى إلى أن سلاطين البوسعيد يتولون الحكم بانتخاب الأصلح لا وراثة الأكبر، وحيث أن أهل زنجبار انتخبوا السيد ماجد حاكما عليهم عقب وفاة والده، فإنه لا مبرر لمطالب السيد ثويني في السيطرة على ممتلكات أخيه، وينبغي أن يبقى كل منهما سلطانا في مكانه، وأصدر اللورد كانِنج الحاكمُ العام للهند قرار التحكيم في سنة 1278=1861القاضي أن يبقى ماجد حاكماً على زنجبار وشرق إفريقية، لكنه يدفع إلى إمام مسقط 40.000 ريال فضة، لأن دولته أغنى من عمان، وبذلك تتحقق المساواة بين الأخوين في ميراث والدهما.
وبعد هذا الاتفاق صارت سياسة ماجد أن يضعف صلاته مع عُمان، حتى لا يشوب استقلالَه شائبة، ولا يهدده أدنى خطر من أخيه، فمنع سفن مسقط من الملاحة في مياه زنجبار إلا إذا أبرزت أوراقا تثبت أنها تتجر في سلع شرعية، كما كتب إلى مشايخ الخليج بأن لا يرسلوا سفنهم بعد ذلك إلى زنجبار، كما حرم السيد ماجد على سكان زنجبار تأجير المساكن للتجار العرب الآتين من شبه الجزيرة العربية، وأخيراً أوقف السيد ماجد الهدايا التقليدية التي كان يقدمها السلاطين لقبائل عُمان، مما يدل على انصرافه نهائيا عن فكرة توحيد السلطنة التي أقامها والده السيد سعيد بن سلطان، ونتيجة هذه الإجراءات أخذ الطابع الأفريقي يغلب على سلطنة زنجبار، وإن بقيت عربية اللسان والهوى.
ومما ينبغي ذكره أن السلطان ماجد هو الذي اختط دار السلام، عاصمة تنزانية اليوم، واختار لها هذا الاسم الإسلامي الجميل، وصارت هي حاضرة الساحل الشرقي لإفريقية.
وتوفي ماجد سنة 1282=1870، وخلفه أخوه برغش بن سعيد الذي درس في الهند، والذي أدخل كثيراً من عناصر المدنية إلى الجزيرة، مثل خطوط المياه والكهرباء، كما عبَّد الطرق وبنى مستشفى ومقرات حكومية حديثة، وأصدر عملة محلية سميت الريال الزنجباري، وسعى لدى شركة الهند البريطانية للسفن البخارية لتقوم برحلات شهرية منتظمة بين زنجبار وبين عدن، وبعد افتتاح قناة السويس في سنة 1869 رتب مع شركة التلغراف الشرقية تمديد كابل تحت البحر يصل زنجبار بعدن، وصار الاتصال البرقي متاحاً من زنجبار إلى كافة أرجاء العالم.
وكان عهد برغش نهاية الاستقلال وبداية النفوذ الغربي في سلطنة زنجبار، فقد بدأت الدول الغربية الاستعمارية في تثبيت أقدامها في شرق إفريقية، وكانت ألمانية قد بدأت في استعمار تنجانيقة سنة 1884 عندما قام رحالة مغامر ألماني بإقناع رؤساء القبائل الإفريقي أن يوقعوا اتفاقيات تضع مناطقهم تحت الحماية الإلمانية، وفي سنة 1885 قامت الحكومة الألمانية بمنح موافقتها الرسمية وحمايتها العسكرية للاتفاقيات، وحاول برغش إرسال قوات لإعادة هؤلاء إلى سلطانه، ولكن سفن البحرية الألمانية جعلته يعدل عن ذلك ويقبل بالأمر الواقع.
وفي سنة 1304= 1886 قامت بريطانية وألمانية بالاتفاق على تقاسم الأراضي التابعة لزنجبار في البر الإفريقي، وتركتا لها شريطاً ساحلياً عرضه 10 أميال يمتد من موازمبيق إلى الصومال، ثم ما لبثت كلتاهما أن استأجرت من السلطان جزءاً كبيراً من هذه المناطق الساحلية، فقام سكان هذه المناطق بالثورة على الألمان الذين قمعوهم بالقوة بعد قليل من وفاة برغش في سنة 1305=1888.
كانت علاقات برغش مع الحكومة البريطانية جيدة إلى حد كبير، ومنحته لقب سير مكافأة على توقيعه اتفاقاً معها بمنع تجارة الرقيق في سلطنته وإغلاق سوق العبيد في زنجبار، ومما ينبغي ذكره أن عمان أصبحت في تلك الفترة تحت حكم الإمام تركي بن سعيد أخي برغش، وأن العلاقات بين الأخوين كانت ودية جداً إلى حد أن تركي أراد في في سنة 1297=1880، أن يتنازل عن حكم عُمان لأخيه  برغش، ولكن حكومة الهند البريطانية أزعجها أن يتحد البلدان وأصدرت تعليماتها إلى المقيم البريطاني في الخليج بأن يبلغ من يهمه الأمر أن بريطانية ستتدخل في حالة وقوع محاولة لإعادة الوحدة بين عُمان وزنجبار.
وتولى الحكم بعد برغش أخوه خليفة بن سعيد، المولود سنة 1269=1852، ووقع في سنة 1888معاهدة مع شركة شرق إفريقية الألمانية منحها لمدة 50 عاماً، مقابل 200.000 جنيه،  الحق في تحصيل الرسوم الجمركية والضرائب على طول ساحل تنجانيقة، كذلك تنازل لشركة شرق إفريقية البريطانية عن ممباسة والمناطق الساحلية شمالها مقابل 11.000 جنيه، وسلبت هذه الصفقات الخاسرة زنجبار مكانتها السياسية والتجارية والبحرية، ومنحت هاتين الدولتين الذريعة القانونية للتحكم بطرق التجارة في هذه المنطقة، وأفلت شمس زنجبار واضمحل بهاؤها وزال عنها سلطانها.
وتوفي خليفة في سنة 1307=1890 وتولى بعده أخوه السلطان علي بن سعيد الذي دام حكمه 3 سنوات، وفي أثنائه اتفقت بريطانية وألمانية على أن تتنازل الأولى للثانية عن جزيرة هليجولاند في بحر الشمال في أوروبة مقابل أن يتخلى الألمان عن نفوذهم في زنجبار وشرق إفريقية، وأصبحت بذلك زنجبار محمية بريطانية على غرار دول الخليج، وصارت بريطانية هي عملياً التي تعين السلطان وتدير زنجبار من خلال تعيين وزراء عرب يتلقون أوامرهم منها، ثم قررت في سنة 1913، مع الحرب العالمية الأولى، إدارتها مباشرة بواسطة المقيم البريطاني واستمر ذلك حتى استقلال زنجبار سنة 1963.
وكان خليفة بن حارب، المولود سنة 1296=1879، أطول سلاطين زنجبار حكماً، فقد تولى الحكم قرابة 50سنة؛ من سنة 1329=1911 حتى وفاته سنة 1380=1960، ليخلفه ابنه جمشيد الذي لم يمتع طويلاً بالحكم وجرت عليه الثورة.
كان سلاطين زنجبار يتبعون المذهب الإباضي، وكانوا محافظين على شعائر الدين ومتعلقين بأهدابه، أهدت الملكة فكتوريا السلطان سعيد بن سلطان آنية شاي من الفضة مطلية بالذهب، فقبلها شاكراً ولكنه لم يستعملها مراعاة للحكم الشرعي، وكان ابنه السلطان برغش يقسم يومه بين تلاوة القرآن ودراسة العلوم الدينية وبين النظر في أمور المملكة، ولذا كانت الحياة الأدبية العربية والعلمية الشرعية مزدهرة في زنجبار والساحل الشرقي، وقد أخرجت هذه البلاد عدداً من العلماء والقضاة والشعراء، فيهم الإباضي والسني، وكانت العربية لغة الدولة في زنجبار، وكان فيها مطبعتان عربيتان، وكان فيها صحيفة عربية اسمها الفلق ومجلة اسمها النجاح، وحيث كان أغلب الرعايا من السنة الذين يتبعون المذهب الشافعي، فقد كان السلاطين يراعون ذلك فيعينون لهم قضاة من فقهاء الشافعية، وإلى جانب هؤلاء كانت هناك قلة من الشيعة والإسماعيليين ذوي الأصل الهندي الذين يسيطرون على التجارة، عاشوا في ظلهم يمارسون أعمالهم آمنين على أموالهم وأنفسهم.
ولله الأمر من قبل ومن بعد
 

الجمعة، 20 يونيو 2014

حدث في العشرين من شعبان

 
في العشرين من شعبان من عام 987 قتل غيلة، عن 75 سنة، الصدر الأعظم محمد باشا صُقُلَلي، الذي خدم ثلاثة سلاطين: سليمان القانوني وسليم الثاني ومراد الثالث، وبقي في منصب الصدر الأعظم مدة 14 سنة، وكان من كبار رجال الدولة العثمانية في زمانه، وسيرته تظهر الدولة العثمانية في قمة مجدها، وكيف كانت تستوعب الكفاءات وتقدمها أياً كان أصلها وجنسها.
ولد محمد باشا صقللي، في سنة 912 تقديراً، في قصبة تدعى صُقُلو Sokol على مسافة قريية في الشرق من سرايفو، وكان سليل عائلة صربيةمسيحية، وكان يدعى باجو نيناديك، ودخل في خدمة الدولة العثمانية وفق نظام اسمه دوشيرمة، وتعني بالتركية الجمع أو القطف، وهو نظام أدخله السلطان مراد، ويقضي بإحضار الأولاد اليافعين من أبناء البلقان مرة كل 4 أو 5 سنوات، وتعليمهم وتدريبهم ليخدموا فيما بعد في سلك الدولة أو الجيش.
وترك محمد صقللي أهله وبلده وهو في حوالي العاشرة والتحق بمدرسة في أدرنة تلقى فيها التعليم التركي والإسلامي، على أساس أنه سيلتحق بالجيش، ولكن مواهبه جعلت القائمين على التعليم يلحقونه بمدرسة قصر طوب قبو في استانبول ليكون في سلك العاملين في القصر السلطاني، وقد تعلم عدداً من اللغات إضافة إلى اللغة الصربية الكرواتية، وتذكر الروايات أنه كان يتكلم التركية والعربية والفارسية والإيطالية واللاتينية.
شارك محمد صقللي في معركة موهاكس في أواخر سنة 932=1526، والتي دحرت فيها الجيوش العثمانية بقيادة السلطان سليمان القانوني قوات لويس الثاني ملك المجر، الذي فقد في المعركة، واستولت على هنغارية، وعين السلطان الأمير جان زابولي ملكاً على المجر، ولكن فرديناند الأول ملك النمسا ادعى أحقيته في ملك المجر لقرابته من الملك لويس، وحشد القوات لنيل ذلك بالقوة، واحتل عاصمتها بود، جزء من بودابست اليوم، فعاد السلطان سليمان في سنة 936=1529إلى هنغارية فهرب فريناند إلى فيينة، فأجلس السلطان الملك زابولي على عرش المجر ثم أغار على مدينة فيينة ومعه الملك زابولي وحاصرها في أوائل 938 ثم عاد عنها دون أن يفتحها، وهي أول مرة لم ينتصر فيها سليمان القانوني.
وكان صقللي من القادة في حملة السلطان سليمان القانوني سنة 941=1535 لاسترجاع بغداد من الشاه إسماعيل الصفوي، وفي سنة 947 أصبح حاجب السلطان ثم صار كبير الحرس، وهما منصبان كبيران تعلم فيهما الكثير عن إدارة الدولة وشؤون السلطنة.
ولما توفى رئيس الأسطول العثماني خير الدين باشا المعروف بباربروس في سنة 953=1546، عينه السلطان مكانه، وذلك لأن الدولة العثمانية كانت في طور توسع بحري كبير، فقام بهذه المهمة خير قيام، وبنى كثيراً من السفن، وكانت أسبانية تطمع في احتلال الجزائر وطرابلس الغرب لتتم لها السيطرة على البحر المتوسط، حيث كانت صقلية ونابولي تابعتين لها، فأمر صقللي القائد طرغود بالتوجه إلى طرابلس الغرب سنة 958=1551 وأعلنها جزءاً من الدولة العثمانية، وفي ذات السنة عينه السلطان والياً برتبة نائب السلطنة على الولاية الغربية التي كانت تسمى رومِلي، وعاصمتها صوفية، وهناك زار لأول مرة منذ 30 سنة مسقط رأسه وقابل والدته ووالده الذي أسلم وحسن إسلامه.
ونعود إلى النمسة و المجر، ففي سنة 944 اتفق فرديناند وزابولي سراً على أن يكون الملك بعد زابولي لفرديناند، ولكن زابوليمات في سنة 947 بعد 15 يوماً من ولادة ولد له نودي به ملكاً بعد موت والده، فهاجم فرديناند المجر، واستنجدت إيزابيلا والدة الملك الرضيع بالسلطان سليمان القانوني، فسار بنفسه إلى المجر فانسحب النمساويون من حصارهم لمدينة بود، وأعاد السلطان الملك الرضيع إلى العرش، وقرر أن يحتل المجر حتى يبلغ ملكها سن الرشد، واستمرت حروب الدولة العثمانية مع النمسة حتى سنة 954 حين عقدت النمسة مع العثمانيين هدنة مدتها خمس سنوات، تقاسمت بموجبها الدولتان النفوذ في هنغارية، مع إقرار الدولة العثمانية للملك الرضيع بوصاية أمه ورعاية الدولة ذاتها.
وفي سنة 958=1551 حدث خلل في العلاقات مع النمسة والمجر، فقد قام الراهب مارتنيوزي المقرب من الملكة إيزابيلا بالوساطة بينها وبين الإمبراطور النمساوي فرديناند، وعقد الطرفان اتفاقاً تنازلت فيه الملكة للنمسة عن إقليم ترانسلفانيا ومدينة تمشورا، فأمر السلطان صقللي باشا بالتوجه إلى هنغارية على رأس جيش يتكون من 90.000 جندي و 54 مدفعاً،  فاتجه واستولى على كل المدن التي في طريقه حتى وصل تيمشوار التي استعصت عليه، فعاد إلى بلغراد لحلول الشتاء، وبدأ محادثات سلام مع الراهب مارتينوزي الذي أبدى ميلاً لذلك إن عينه السلطان والياً على ترانسلفانيا، وعلم فرديناند بالأمر فأرسل من اغتال مارتينوزي بعد وقت قصير من بدء المحادثات، فتوقفت المساعي السلمية واستأنف صقللي حملته العسكرية واستولى على تمشوار وغيرها من المدن في سنة 959= 1552 وعاد ظافراً  إلى بلاده.
وانتهز الشاه طهماسب الصفوي في إيران انشغال الدولة العثمانية بهذه المعارك الأوربية وبدأ هجوماً على قواتها في الشرق، فأعلن السلطان سليمان في سنة 960 الحرب على الصفويين، وأرسل صقللي باشا مع قواته من ولاية الروم ليترأس الحملة على الصفويين، وقضت هذه القوات الشتاء في توقاد في شمالي وسط الأناضول، ثم شنت في صيف 961 الحرب التي كانت نتائجها في صالح العثمانيين وكارثة على طهماسب.
ومكافأة على ما أبداه من مهارة ونجاح عين السلطان سليم في سنة 962= 1555صقللي باشا في مرتبة الوزير الثالث وصار أحد أفراد الديوان السلطاني، وعين السلطان بتروف باشا والياً على الروم، وهو كذلك من الهرسك وصديق قديم لصقللي باشا.
وما أن استقر صقللي باشا في منصبه حتى اندلع تمرد في سالونيك، وهي اليوم في اليونان، قاده شخص اسمه مصطفى بك، ادعى أنه ابن السلطان سليمان، وكان السلطان سليمان قد قتل ابنه هذا لشكه في أنه يتآمر عليه، وتلك حادثة لا مجال لتفصيلها هنا، فأرسل السلطان صقللي باشا على رأس قوة من 4000 فارس و3000 جندي قضت على التمرد وأعدمت المدعي.
أشرنا من قبل إلى أن صقللي باشا ولد لأسرة صربية، وكان أحد إخوته، المدعو ماكاريج، قد دخل في سلك الرهبنة مع الرهبان الأرثوذكس في دير في جبل آثوس المقدس في اليونان، وجاء الأخ إلى استانبول سنة 964= 1557 والتمس من أخيه أن تمنح الكنيسة الصربية الأرثوذكسية استقلالها من جديد، بعد أن أصبحت جزءاً من الكنيسة اليونانية، وبعد أشهر صدر فرمان عن يد صقللي باشا أعلن إعادة الكنيسة الصربية الأرثوذكسية كنيسة مستقلة مقرها بش وبطركها ماكاريج صُقُلوفيتش وتقام الصلوات فيها باللغة الصربية، وشمل الفرمان كذلك التأكيد على ضمان الحقوق والحريات الدينية لكل سكان الدولة العثمانية.
وفي سنة 962 عزل السلطان سليم القانوني الصدر الأعظم أحمد باشا وشنقه، وعين محله صهره رستم باشا البوسني الأصل، وكان هذا له أعداء كثيرون في صفوف الحاشية فسعى كبيرهم لاله قره مصطفى باشا في تحريض بايزيد ابن السلطان، نائب السلطنة بكرمان، على التمرد على أخيه سليم ولي العهد المتوقع، ومرة ثانية عهد السلطان لصقللي باشا بقمع هذا التمرد، فسار على رأس جيش إلى قونية وهزم قوات بايزيد في سنة 968، وهرب بايزيد إلى الشاه طهماسب في إيران، ولم يعد صقللي باشا إلى استانبول بل أمضى الشتاء في الأناضول يفاوض الشاه على تسليم بايزيد، وتكللت مفاوضاته بالنجاح بعد فترة ليست بالقصيرة، وفي أول سنة 969 سلم طهماسب بايزيد وأولاده الأربعة ليلقوا مصيرهم المحتوم: الإعدام!
وتوفي الصدر الأعظم رستم باشا في سنة 968 وحل محله سِميز علي باشا البوسني الأصل، وصار صقللي باشا الوزير الثاني، وأصبح صديقه بتروف باشا الوزير الثالث، وفي سنة 969 تزوج صقللي باشا بحفيدة السلطان من ابنه سليم، واسمها أسمهان، وفي سنة 971=1564 أصبح ابن أخيه مصطفى بك صقللي نائب السلطنة في ولاية البوسنة.
وفي آواخر سنة 979 توفي الصدر الأعظم سِميز علي باشا، فعين السلطان سليمان القانوني صقللي باشا في ذلك المنصب، وهو في الستين من عمره، بعد الأعمال الجليلة والحنكة والإخلاص الذي أبداه في خدمة الدولة العثمانية.
ولئن كانت الدولة العثمانية هي أكبر دولة مسلمة في ذلك العصر، فقد كان يقابلها في الطرف المسيحي الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وهي امبراطورية ضمت بلاد ألمانية والنمسة والتشيك وشمال ووسط إيطالية وسويسرة وشرق فرنسة، ويرأسها عادة الإمبراطور الألماني وتحت يده ملوك هذه البلاد، وكان التناحر والحروب لا يكاد ينتهي بين هاتين الإمبراطوريتين المتنافستين، وبخاصة على بلاد البلقان، وفي سنة 1565 أعلن الإمبراطور ماكسميليان الثاني رغبته في ضم بعض مدن البوسنة التي استعادها أحد قواد الدولة العثمانية من البوسنيين، ولما رفض العثمانيون ذلك، أعلن الحرب في سنة 973= 1566.
وأصدر صقللي باشا أوامره لابن أخيه في البوسنة ليسير لمواجهة ماكسيميليان الثاني، فسار واستولى على بعض المدن، وكان ذلك بانتظار أن يحشد صقللي باشا الجيش الرئيس ويتجه لمواجهة الإمبراطور، وسار صقللي بالجيش ثم لحق به السلطان في بلغراد على أن يتوجها إلى فيينة لحصارها والاستيلاء عليها.
واعترضت طريق الجيش قلعة سيجتوار أو سكتوار، في جنوب هنغارية اليوم، والتي كان يقوم عليها أمير كرواتي من أسرة زرِنسكي متحالف مع الألمان هو الأمير نيقولا سوبيك زرنسكي، فقام السلطان بحصارها  قرابة شهر حتى استولى عليها في صفر سنة 974 = أيلول/سبتمبر 1566، ولكن بعد تضحيات جسيمة بلغت 20.000 قتيل إلى جانب توقف المسير إلى فيينة، ولم يهاجم الأتراك بعدها فيينة حتى سنة 1683.
وانجلت المعركة عن مقتل الأمير زرنسكي الذي وارى الأتراك جثمانه في التراب في تكريم تقديراً لشجاعته ونبله، وانجلت المعركة كذلك وقد توفي السلطان سليمان القانوني عن 74 عاماً وفاة طبيعية أثناء الحصار وقبل أن ينتصر العثمانيون، وقام صقللي باشا بإخفاء وفاة السلطان ومنح الجوائز للذين شاركوا في المعركة وزاد رواتب الجنود، وأرسل يخبر الأمير سليم، والد زوجته، بوفاة والده ويستدعيه للحضور، واستمر يدير الأمور ويسير الجيوش، وكأن شيئاً لم يحدث للسلطان.
وأدار  صقللي باشا أمور السلطان سليم الثاني كما أدار أمور والده؛ بكل إخلاص وصدق، فلما لحق به السلطان في فوكوفار أشار عليه أن يذهب إلى بلغراد، حيث معظم الجيش، ليتم إعلان سلطنته وتتم له البيعة، وأشار على السلطان الجديد أن يتبع عادة أسلافه في أن السلطان الجديد يجري الإنعامات على الوزراء والباشوات وكبار القادة، ولكن حاشية السلطان الغيرى من صقللي باشا أقنعت السلطان ألا يفعل ذلك، وكان نتيجة ذلك تمرد القوات الموجودة في استانبول، وأضعف ذلك موقف السلطان الجديد والذي كان بعض حاشيته يستخفون به ويسخرون منه على أعين الناس، فقد كان السلطان سليم الثاني منهكماً في ملذاته، وفي عهده بدأت نساء القصر وبخاصة محظيات السلطان في التدخل في السياسة، ولكن وجود صقللي باشا قمع هذه النزعة إلى حد كبير.
وعاد صقللي باشا والسلطان إلى استانبول لمعالجة الموقف، ولكنهم واجهوا عقبات من القوات الإنكشارية اليت اعترضت الطريق، وهنا برزت مهارة وكفاءة صقللي باشا الذي أقنع السلطان بأن ينزع فتيل الأزمة ويمنحهم المكافآت وفقاً للتقاليد، وما أن استقر السلطان في استانبول حتى قامت القوات الأخرى مطالبة بالمال، ولكن صقللي باشا استعمل الحزم هذه المرة فسجن آغوات هذه القوات واستبدل بهم آخرين على الفور، فخمدت الفتنة وهدأت الأمور.
وبعد قرابة سنة ونصف من معركة سيجتوار توصل صقللي باشا في شعبان 975 إلى اتفاقية سلام في أدرنة مع الإمبراطور ماكسميليان الثاني تضمنت في شروطها أن يدفع للسلطان مبلغ 30.000 دوقة ذهبية، ولم تكن هذه نهاية المشاكل، فقد واجه صقللي باشا مشكلة أخرى مع روسية القيصرية، كانت  نذيراً بالعداء الذي سيطول بين الدولة العثمانية وبين روسية.
وفي سنة 1569 أرادت الدولة العثمانية شق قناة طولها 60 كيلومتراً تخترق أراضي غير مبسوطة التضاريس لتصل نهر الفولجا مع نهر الدون، والهدف منها تسهيل حركة الجيش للدفاع عن حدود الدولة الشمالية في وجه هجوم روسي محتمل، وكذلك لنقل قواتها إلى جنوب القوقاز ومهاجمة الصفويين من الشمال إن لزم الأمر، وأرسلت قوة من الإنكشارية والفرسان ومعهم المهندسون والعمال للمباشرة في أعمال القناة، وفي نفس الوقت حاصرت بحر آزوف ضمن البحر الأسود، ولكن القيصر إيفان، الملقب بالمخيف، اعتبر ذلك اعتداء على مناطق نفوذه واستطاعت قواته هزيمة قوات التتار العثمانية، وهبت عاصفة حطمت الأسطول العثماني، فانتهت المحاولة بالفشل، وبعدها بشهور وقعت الدولة العثمانية مع روسية معاهدة صداقة وحسن جوار.
ولما كان السلطان سليم الثاني منساقاً وراء شهواته لا يكاد يفيق من غيه، أصبح الحكم في الحقيقة بيد صهره صقللي باشا لضعف السلطان من جهة، وللإصلاحات الإدارية التي أجراها السلطان سليمان القانوني والتي وسعت من صلاحيات الصدر الأعظم.
وقام صقللي باشا في سنة 977 بإرسال حملة عسكرية ضمت الحجاز واليمن للسلطنة العثمانية، وكان هذا أمراً في غاية الأهمية لمواجهة الأساطيل البرتغالية التي كانت تبحر من مستعمراتها في الهند، وتجوب البحر الأحمر وبحر العرب بغرض الاستيلاء على بعض الموانئ لتأمين تجارتها مع الهند ومالقة، وهاجمت جدة لأهداف دينية وهددت في فترة سابقة باحتلال الحجاز، وكان من مشاريع صقللي باشا التي ماتت بعد خطوة من مسيرها شق قناة تصل البحر المتوسط بالبحر الأحمر بهدف قمع البرتغاليين ومهاجمة الصفويين من خليج فارس.
وفي سنة 978 انتزعت القوات العثمانية قبرص من البندقية وأسند صقللي باشا ولايتها إلى صديقه أحمد باشا العربي الأصل، وأد ى الاستيلاء على قبرص إلى تشكيل العصبة المقدسة ومعركة ليبانتو البحرية التي لقي فيها الأسطول العثماني خسارة فادحة في السفن والأفراد، وبرزت بعد المعركة مرة أخرى كفاءة صقللي باشا الذي صرف إمكانيات الدولة لبناء الأسطول من جديد فلم تمض 8 شهور حتى صار في الأسطول 250 سفينة بينها 8 سفن أكبر من أية سفينة تشق عباب البحرالمتوسط، فصار لا منافس له في البحر، ولجأت سفن العصبة المقدسة إلى موانئها خشية العطب، وجرت مفاوضات بعدها مع البندقية انتهت باتفاق سلام تنازلت فيه رسمياً عن قبرص في 980، ويقال إن صقللي باشا قال لمفاوضه البندقي: لقد قطعنا ذراعكم عندما أخذنا قبرص، أما أنتم حين هزمتمونا في ليبانتو فقد حلقتم لحيتنا، والذراع المقطوعة لا تعود، أما اللحية المحلوقة فتعود أكثر غزارة من جديد.
وأدى الاتفاق مع البندقية إلى أن ينفرط عقد العصبة المقدسة ويزول تهديدها للدولة العثمانية، واستكمالاً لأجواء السلام مع الإمبراطورية الرومانية المقدسة مدد صقللي باشا اتفاقية أدرنة 8 سنوات إضافية، وكان يحافظ على السلام في ربوع البلقان من خلال سيطرته على الكنيسة الصربية الأرثوذكسية، فبعد وفاة أخيه البطرك ماكاريج في سنة 982 عين صقللي باشا ابن أخيه أنطونيجه صُقُلوفيتش بطركاً للكنيسة ولما توفي بعدها بقليل عين صقللي باشا قريباً آخر له في ذلك المنصب.
وفي سنة 974 توفي السلطان سليم، عن 52 سنة، وكان ابنه مراد الوالي على مغنيسة، فأخفى صقللي خبر موته ريثما يصل مراد الذي تسلطن باسم مراد الثالث وعمره 21 سنة، ومع وجود سلطان صغير السن بدأت متاعب صقللي باشا، فقد كان السلطان الشاب واقعاً تحت تأثير والدته نور بانو وزوجته البندقية الأصل صفية، وبرز أكثر في عهده تدخل سيدات القصر في السياسة، ورغم أن مراد أبقى صقللي باشا في منصب الصدر الأعظم إلا أن علاقاتهما بدأت تزداد صعوبة وبدأ نفوذ صقللي باشا في الأفول، ومعه قوة منصب الصدر الأعظم، وخلا الجو لمكائد الحاشية والطامعين في النفوذ والمال.
وفي سنة 985 أعلن السلطان مراد الحرب على الصفويين في إيران، فقد كان الشاه طهماسب قد توفى سنة 984 وقتل على الإثر ابنه حيدر، وتولى بعدهما إسماعيل بن طهماسب الذي مات مسموماً سنة 985، واختلفت البلاد على خليفته محمد خدا بند، فأشار لاله مصطفى باشا على السلطان بأن يشن الحرب على إبران ويستولي عليها، وكان صقللي باشا لا يحبذ هذا القرار، فقد كانت موارد الدولة المادية وعلاقاتها المتوترة مع أوربا لا تسمح لها بخوض الحرب، وصدق حدسه فقد استمرت هذه الحرب 12 عاماً دون أن تحقق أية نتائج تذكر لصالح الدولة العثمانية.
ورغم أن السلطان مراد كان يكن احتراماً فائقاً لرجل الدولة الخبير، الذي خدم والده وجده من قبل، إلا أنه وبتأثير من حاشيته اتخذ عدة خطوات كان من الواضح أنها تستهدف الوزير المحنك المخضرم وأفراد أسرته المبثوثين في الدولة وأعوانه وصنائعه من غيرهم، والذين ما كان بدونهم ليستطيع إحكام سيطرته وإدارته على الدولة المترامية الأطراف المتعددة المشارب والمصالح.
فقد أبعد السلطان فريدون بك أحد أقرب الناس لصقللي باشا بأن عيّنه والياً على بلغراد بعد أن كان مسؤولاً عن ما يشبه وزارة المالية اليوم، وقام جنود متمردون في قبرص بقتل صديقه واليها أحمد باشا، وكان من أثرياء ذلك الزمن تاجر يوناني الأصل يدعى ميخائيل كانتاكوزينوس وكان صُقللي يتعهده ويدير من خلاله أمور الملة الأرثوذكسية اليونانية، وكان قد تبرع ببناء 60 سفينة للأسطول العثماني بعد هزيمة ليبانتو، فقام أفراد حاشية مراد في سنة 984 بحبسه ومصادرة أمواله، فتدخل صقللي باشا بما بقي له من نفوذ فأطلقت الدولة سراحه وأعادت له أملاكه، ولكن الحاسدين الحاقدين ما لبثوا في سنة 985 أن لفقوا له تهمة ثم عجلوا بشنقه على باب قصره، وفي سنة 986 اغتيل ابن أخي صقللي باشا المدعو مصطفى بك وهو على رأس ولايته في بودين في كرواتيا.
وبعدها بسنة، في العشرين من شعبان من سنة 987، جاء درويش معتوه إلى باب قصر صقللي باشا وطلب مقابلة الصدر الأعظم، فأمر بإدخاله عليه وبينما هو في حضرته إذ أخرج سكيناً وطعن به الوزير فتوفي بعد ثلاث ساعات، عن عمر يناهز 75 سنة، ودفن في مدفن خلف مسجد أبي أيوب الأنصاري بناه له معمار سنان باشا، ودفنت إلى جانبه زوجته أسماء فيما بعد، وتحوي التربة عدداً من عائلته وسلالته.
وعين السلطان بعده عدوه اللدود شمسي أحمد باشا ولكنه لم يدم في هذا المنصب سوى 6 أشهر واستبدله السلطان بلاله مصطفى باشا الذي لم يدم كذلك غير 4 أشهر،  مما يدل على أن مقتله كان خسارة كبيرة للحكومة العثمانية، فقد صار التنافس على المناصب والتعاقب عليها سمة واضحة في بلاط السلطان مراد الثالث الذي امتد حكمه 16 سنة أخرى بعد مقتل صقللي باشا.
وعند مقتل رجل في مثل منصبه وتاريخه تدور الشائعات في دوائر لا نهاية لها، وتتجه أصابع الاتهام إلى القريب والبعيد، وبخاصة إذا كان أمراً غير معهود من قبل، هكذا كانت هناك روايات متعددة عمن كان وراء مقتله، ومن المؤرخين من يجعل زوجة السلطان مراد وراء ذلك، وهو مستبعد لأن صقللي باشا كان قد غاب عنه سلطانه القديم وسطوته المعهودة، وهو في ذات الوقت تقدمت به السن  وأضحى على شفا القبر، ولعل أقرب تبرير أن الحاشية أرادت التعجيل بذهابه ليعين السلطان مراد واحداً منها في هذا المنصب فتزول من أمامها كل الحواجز والقيود، وقد فعل كما رأينا.
وعلى عادة الأمراء الأتراك بنى صقللي باشا مسجداً في سنة 979 بناه له المعمار التركي الشهير سنان باشا، وهو يعد أجمل مسجد في استانبول بعد المساجد السلطانية الكبيرة، ولصقللي باشا آثار معمارية كثيرة من أبرزها جسر يحمل اسمه بطول 180 متراً على نهر الدرين في الجمهورية الصربية من البوسنة والهرسك، ويعد الجسر من روائع أعمال المعمار سنان باشا، وقد جعلته اليونسكو من معالم التراث العالمي.

 

الجمعة، 13 يونيو 2014

حدث في الثالث عشر من شعبان

في الثالث عشر من شعبان من سنة 1245 الموافق 7 شباط/فبراير 1830 عقد مجلس الوزراء الفرنسي اجتماعاً ترأسه الملك شارل العاشر وحضره رئيس الوزراء جول دو بوليناك قرر فيه احتلال الجزائر، وجرى تنفيذ القرار بعد 6 شهور، ليبدأ الاحتلال الفرنسي الذي دام قرابة 130 عاماً.
وكانت الذريعة الرسمية لاحتلال الجزائر هي أنه قبل 3 سنوات، في شوال  1242 الموافق نيسان/أبريل 1827، أهان الوالي الجزائري الداي حسين باشا، المولود سنة 1765، قنصل فرنسا الجنرال بيير دوفال Pierre Deval وضربه بمِنشَّة ذباب كانت في يده، ولهذا قصة؛ فقد كانت فرنسة تحت الحصار البحري البريطاني في أيام الثورة الفرنسية وحروب نابليون  مع بريطانية وأوربة التي امتدت من سنة 1789 إلى سنة 1815، واشترت فرنسة أثناءها من الجزائر محاصيل القمح من سهول الداخل الجزائري، وتم الشراء بالدَين بوساطة تاجرين يهوديين احتكرا تجارة القمح بالشراكة مع الداي، ورفض نابليون سداد الدين متعللاً أن الأسعار كانت باهظة، وماطلت الحكومات الفرنسية من بعده أكثر من 30 سنة دون أن تسدده، فلما قدم القنصل الفرنسي يهنئ الوالي بعيد الفطر، أثار معه موضوع الدين والتعجيل بسداده، فدخل القنصل في مماحكة طالت فأراد الوالي حسمها فطلب أن يجيبه ملك فرنسة على رسالة أرسلها من سنوات حول سداد هذا الدين، فأجابه القنصل أنه ليس من عادة ملك فرنسا أن يكاتب من هو دونه مباشرة بغير واسطة، فأثار بسوء أدبه غضب الوالي الذي ضربه في ردة فعل عفوية.
ويذهب بعض المؤرخين أن القنصل تعمد إهانة الوالي لإيجاد ذريعة تستطيع فرنسة من خلالها مهاجمة الجزائر، وليس هذا مستبعداً ففرنسة كانت دولة استعمارية كبرى في القرن الثامن عشر، سيطرت في أمريكة الشمالية على كندا والساحل الشرقي الجنوبي من أمريكة، وعدة مناطق في غرب الهند، ولكنها فقدت جزءاً كبيراً منها في حروب القرن الثامن عشر والثورة الفرنسية، فكان أحد أهدافها أن تسترجع مكانتها كدولة استعمارية وتحتل أراضي جديدة بدلاً عن التي خسرتها، فقاد نابليون في سنة 1213/1798 حملة لغزو مصر ليجعلها قاعدة للتوسع الاستعماري الفرنسي بالمشرق، ولكن بريطانية كانت له بالمرصاد لأنها أدركت أن هذه خطوة ستعقبها خطوات على طريق تهديد مستعمرتها في الهند،  فأجبرته على الجلاء.
وكانت الحملة الفرنسية على مصر، على فشلها، تجربة أظهرت أن الأساليب الحربية الحديثة المناسبة للمستجد في عالم الأسلحة قد جعلت التغلب على جيوش المسلمين قليل التكلفة، وخُيِّل للحكومات الفرنسية المتعاقبة أن مهربها من الاضطرابات الداخلية هو في استعمار البلدان العربية والإفريقية، وبخاصة أن استعمار المشرق العربي يدغدغ المشاعر الدينية لدى الجماهير التي تقدس لويس التاسع الذي هزمه الأيوبيون في المنصورة، ثم لقي نحبه أثناء حملة فاشلة على شواطئ تونس، أما النخبة الفرنسية فسترضيها ثروات طائلة التي ستجنيها من المعادن الكامنة والأراضي الخصبة واليد العاملة الرخيصة في المغرب العربي وفي أفريقية.
ومن ناحية أخرى كانت بريطانية تتحكم في الملاحة في البحر المتوسط من خلال مستعمرتي جبل طارق ومالطة، ولذا فإن سيطرة فرنسة على الشمال الأفريقي سيمنحها بعض التكافؤ المنشود مع عدوتها اللدود التي هزمتها هزيمة منكرة في واترلو سنة 1815.
وكانت الذريعة الأخرى الأكبر هي أن سواحل البربر، وهي كلمة أطلقها الغرب على سواحل المغرب العربي، كانت مقراً لكثير من القراصنة المسلمين الذي كانوا يهاجمون السفن التجارية الأوربية ويستولون عليها ويعودون بغنائمهم إلى المرافئ المسلمة، وهذه قضية ينبغي الوقوف عندها لأهميتها التاريخية وفيما يتعلق باحتلال الجزائر.
ويرجع أصل هذه القضية إلى المسلمين الذين خرجوا من الأندلس ولجأوا إلى سواحل البلاد المسلمة في شمال أفريقية، وكانوا يهاجمون السفن الأسبانية انتقاماً مما جرى عليهم من تشريد ومصادرة، وبمرور السنين أصبح الأمر إحدى مهن هذه المناطق وكان البحارة المسلمون، ومعهم مارقون وقراصنة أوربيون، ينطلقون من سواحل الجزائر وتونس والمغرب ويهاجمون سفن الأعداء من الكفار ويستولون على بضائعها الثمينة ويسترقِّون من على ظهرها، ويقومون كذلك بغزو القرى الأوروبية الساحلية الضعيفة، وكان ذلك عند المسلمين منهم غزواً مشروعاً وجهاداً حقاً، وكانوا يتمتعون ضمنياً بحماية ولاة هذه البلدان ومن ورائها الحماية العثمانية، ولم يكونوا يشكلون تهديداً حقيقياً للملاحة وإن كانوا مصدر إزعاج وخطر لكثير من السفن الصغيرة.
ولم تكن هذه حالة شاذة، فقد كانت بحار العالم تعج بالقراصنة الذين تمتع كثير منهم بحماية وتشجبع الدول الكبرى ما داموا يهاجمون أعداءها، ونشير على سبيل المثال إلى فرسان مالطة أقوى قراصنة البحر المتوسط، وإلى أن البحر الكاريبي كان يزدحم بالقراصنة الذي تمتعوا بالحماية البريطانية ما داموا يهاجمون سفن أعدائها، وعلى رأسهم السير فرانسيس دريك الذي قاد فيما بعد الأسطول البريطاني وهزم به الأسطول الأسباني، وكان مؤتمر فيينا في سنتي 1814-1815 والذي أعقب حروب نابليون أول محاولة أوربية جماعية للقضاء على القرصنة، وكان إعلان باريس سنة 1856 أول ميثاق دولي حرَّم القرصنة واعتبرها عملاً غير مشروع.
وكانت الدولة العثمانية في أول الأمر تدعم وتتعاون مع هؤلاء الغزاة وأصبح كثير منهم قادة لأسطولها البحري، ولكن بحلول القرن السابع عشر اتسعت صلاتها الخارجية لتشمل تحالفات مع فرنسة حيناً ومع بربطانية حيناً آخر، وهما أكبر دولتين بحريتين في ذلك العصر، وأصبح الغزاة البحريون مصدر إزعاج للعلاقات الخارجية العثمانية، وصار من سياسة الدولة إيقاف هذه الظاهرة لما في استباب الأمن التجاري في حالة السلم من مصالح متبادلة تعود على الدول كلها بالخير والفائدة، وتضمنت كثير من الاتفاقيات الدولية التي وقعتها الدولة العثمانية فقرات تتعلق بمكافحة القرصنة، ونورد على سبيل المثال فقرة وردت في اتفاقية 1826 التي عقدتها الدولة العثمانية مع روسية: يعتني الباب العالي اعتناء تاما بمنع قراصنة المغرب من تعطيل التجارة والملاحة الروسية بأي حجة... وأن يحرر بهذا الصدد فرمانا صارما إلى بلاد المغاربة بحيث لا تدعو الضرورة تكراره مرة ثانية. وقد حققت الدولة العثمانية في هذه الصدد نجاحاً غير مكتمل، إذ لم تكن سلطتها على ولايات الجزائر وتونس وطرابلس الغرب وثيقة في كثير من الأوقات، ولأن الغزاة كانوا يستغلون فترات الاضطراب الأوربية وضعف الدول عن تعقبهم أو الانتقام منهم.
وكانت الحكومة الفرنسية في موقف داخلي لا تحسد عليه عندما قررت غزو الجزائر في قرصنة دولية تحت شعار القضاء على القرصنة البحرية، فقد كان الملك شارل العاشر الذي تولى العرش سنة 1824 رجعي التفكير، عنصري النزعة، شديد التعصب، وجاء بوزارات ووزراء على هذا النهج، يريدون أن ينتزعوا من الشعب ما حصل عليه من حريات في الثورة الفرنسية عام 1789، ولذا فقد كان غزو الجزائر أحد وسائل هذه الدولة لتحسين وضعها الداخلي والحصول على التأييد الشعبي وكبح جماح المعارضة المشتدة الأوار، ذلك إن ضمير الشعب الفرنسي أكثر شعوب أوربة تأثراً بأحداث الحروب الصليبية وتقاليدها، رغم أنها حروب اشترك فيها غيره من الشعوب، ورغم أن المسارات الدموية لهذه الحروب ثم إخفاقها في النهاية على يد المسلمين، وهو فصل من التاريخ شاءت بعض الشعوب الأوربية أن تتناساه، إلا أن الرواية الفرنسية لهذه الحروب على مدار القرون تقلب الحقائق وتنفخ في ضمير الفرنسيين ما يدفع كثيراً منهم لازدراء الإسلام والحقد على المسلمين.
ولم تكن الدولة العثمانية أفضل حالاً من فرنسة، وهي الحكومة العليا والحامية الرسمية لولايتي تونس والجزائر اللتي كانتا تتمتعان بحكم ذاتي أقرب إلى الاستقلال العملي، فقد اتسم عهد السلطان محمود الذي تولى الحكم سنة 1223= 1808بالضعف وتمرد الأقاليم غير المسلمة بتأييد من الدول الأوربية، وخاضت الدولة العثمانية حروباً متلاحقة في أوكرانية، واليونان وجزيرتي قبرص وكريت، والحجاز ونجد، وخسرت أغلب هذه الحروب، وبسبب هذا الضعف استعانت الدولة العثمانية بمحمد علي باشا الكبير في مصر للقضاء على تمرد كريت مقابل أن تبقى تحت حكمه، فلمس ضعفها وتهلهل بنيانها، وأخذ يُعِدُّ نفسه لوراثتها، واحتلت فرنسا الجزائر والدولة العثمانية مستنزفة القوى تعد ما تبقى لديها لمواجهة محمد علي باشا الكبير الذي حشد الجيوش المصرية وأرسل على رأسها ابنه إبراهيم باشا في سنة 1247=1831 فاستولت على مدن الشام ثم دخلت الأناضول فهزمت الجيش العثماني في قونية سنة 1248=1832 وأصبح الطريق مفتوحاً أمامها إلى استانبول، ثم ما لبثت الدول الغربية أن تنادت وأنذرت محمد علي للعودة إلى حدود مصر، فما كان أمامه إلا الانصياع، وانتهت حملته بالفشل، وخلا الجو لفرنسا لترسيخ وجودها على أرض الموحدين والمرابطين التي طالما كانت موئلا للعروبة والإسلام.
وكانت الحكومة الفرنسية على علاقة وثيقة بمحمد علي باشا الكبير في مصر، فقد اعتمد على الخبراء الفرنسيين في بناء جيشه وتطوير الزراعة والصناعة في مصر، وأرسل البعثات العلمية والعسكرية إليها، فأرادت الحكومة الفرنسية أن تستغل نزاعه مع الدولة العثمانية، وأن تستثير طموحه الذي لا يعرف الحدود، فحاولت أن تدفعه لغزو الجزائر ووعدته بالمدد والتأييد، وأبدى محمد علي استعداده لذلك ولكن بشرط أن تكون الجزائر تحت حكمه، فأعرضت الحكومة الفرنسية عنه، وبدأت في استعداداتها للمعركة بأن فرضت حصاراً بحرياً على الجزائر ولكنه لم يحقق النتائج المرجوة منه.
واعتمدت الحكومة الفرنسية في تخطيطها لغزو الجزائر على خطط كان نابليون قد وضعها من قبل، وهو دليل - إن احتيج إلى دليل - على الأطماع المبيتة لغزو الجزائر وغيرها من الدول القابلة للاستعمار، فقد كان نابليون قد أرسل ضابطاً فرنسياً إلى الجزائر عام 1808، وكلفه أن يدرس بالتفصيل مشروع الحملة الفرنسية ووضع الخطط العسكرية الشاملة، وقد قام هذا الضابط بمهمته، وصحح المواقع على الخرائط ورفع تقريراً وافياً عن الشاطئ الإفريقي والأماكن التي تصلح لإنزال الجنود، وأشار إلى الطرق والآبار والوسائل التي تؤدي إلى حشد القوات وربطها والسير في حلقات الحملة، ولذا كانت الحملة الفرنسية التي غزت الجزائر على علم تام بطبيعة الأرض الجزائرية من ناحيتها الجغرافية والطبوغرافية ولديهم الخرائط المفصلة عنها.
وأبحر من ميناء طولون أسطول فرنسي من 103 سفن تحمل 27.000 جندي بحري و28.000 جندي بري، ونزلت هذه القوات في سيدي فرج غربي مدينة الجزائر، وكان في مواجهتها 7.000 جندي نظامي جزائري، و 19.000 جندي من قسنطينة ووهران و 17.000 مقاتل من قبائل البربر، ولقيت القوات الغازية مقاومة عنيفة تغلبت عليها بفضل مدفعيتها المتفوقة في سرعة الحركة ودقة التسديد، وأصابت برجاً كان مليئاً بالذخائر والمتفجرات وكان لانفجاره ضرر مادي كبير، ومعنوي أكبر، على المدافعين عن الجزائر، وجنح الداي للاستسلام، ودخلت القوات الفرنسية الجزائر بعد 3 أسابيع في 14 محرم 1246 الموافق 5 تموز/يولية 1830، وأعطت فرنسة الأمان للداي وأهله وأمواله، وغادر الجزائر إلى إيطالية ثم الإسكندرية حيث توفي سنة 1838، وهكذا انتهى الحكم العثماني الذي دام قرابة 300 سنة.
وكانت عملية قرصنة دولية رابحة، فقد كانت الجزائر دولة غنية، ووجدت فرنسة في خزائنها من الأموال ما قيمته 49 مليون فرنك ذهبي، ومن الحنطة والشعير 3 ملايين فرنك، ومن المدافع والبنادق والبارود والقنابل وغيرها مع ثمن الأملاك الأميرية 50 مليوناً، إضافة إلى الديون التي ما عاد على فرنسة سدادها.
والانتصار في معركة لا يعني ربح الحرب، بل لم ينقذ حكومة شارل العاشر من السقوط، فقد خلعته الثورة المسماة بثورة الأيام الثلاثة المجيدة في آخر تموز/يوليو 1830، وجاءت بابن عمه لويس فيليب ملكاً على حكومة كان أغلبها من المتنورين الذي عارضوا حملة الجزائر، ولكنهم تابعوا احتلالها عندما وصلوا إلى الحكم.
وبعد قرابة 6 أشهر بدأت فرنسة في التحول من احتلال الجزائر إلى استعمارها، وعين الملك دوق روفيجو رئيساً للقوات الفرنسية في الجزائر، فأساء معاملة وجهاء الجزائر، وأباد قبيلة بأكلمها، وسارع في مصادرة الأراضي من الجزائريين وبخاصة أولئك ذوي الأصول العثمانية، واستملكها لصالح فرنسة في تعسف بالغ وظلم شديد، فخشيت الدولة الفرنسية عاقبة ذلك واستدعته في سنة 1833، وما لبثت فرنسة أن أعلنت رسمياً في سنة 1834 عن تأسيس مستعمرة في المناطق المحتلة من الجزائر، وأطلقت على حكومتها اسم حكومة السيف، وجعلت عليها حاكماً عاماً من كبار الضباط يرتبط بوزارة الحرب، وكان المارشال بوجو أول حاكم عام للجزائر واتبع سياسة الأرض المحروقة المعتمدة على القتل والترويع والتعذيب.
وشكَّل الجنرال برتران كلوزيل بعد الاحتلال شركة لشراء الأراضي الزراعية وتشجيع المزارعين الأوربيين على استيطان الجزائر والعمل في الزراعة، ولما صار الحاكم العام استغل منصبه واشترى أراضي أكثر وشجع ضباطه وموظفيه على أن يحذوا حذوه، فصارت السياسة الفرنسية مبنية على الفساد والمصالح الشخصية البحتة في استعمار الجزائر وإبادة الجزائريين.
كان جهاد الجزائر سلسلة طويلة من النضال السياسي والمسلح انتصر في نهايتها شعب الجزائر، وانتزع استقلاله من فرنسا، وما كان للاحتلال الفرنسي أن يستقيم أمره في بلد كالجزائر تمرس كثير من سكان سواحله بالرباط والجهاد، وامتاز بربره في الداخل بالتقشف والصلابة والاحتساب، ويضيق المجال عن تناول كل مراحل هذا الجهاد الذي أطلقه من عقاله الغزو الفرنسي، فنكتفي بالحديث باختصار عن أولى مراحله التي كان ابن بجدتها المجاهد الأكبر: الأمير عبد القادر الجزائري.
لما وصل الجيش الفرنسي بعد 6 أشهر من الغزو إلى وهران في غرب الجزائر، نادى بالجهاد شيخُ الطريقة القادرية محي الدين بن مصطفى الحسني الجزائري ، وما لبث بعد عام لكِبَر سنِّه أن أعطى الراية لابنه الأمير عبد القادر الجزائري، وعمره 24 سنة، والذي برهن أنه يملك عزيمة المجاهد ومرونة السياسي وصبر أولى العزم، فوحد القبائل تحت لوائه الإسلامي، ونظم المقاومة في كتائب اتبعت أولا أسلوب حرب العصابات، ثم حول ولاية وهران كلها إلى إمارة إسلامية وقوة تهدد الجيش الفرنسي أكبر تهديد، فاضطر الفرنسيون لتوقيع معاهدة سلام معه في سنة 1834، جعلت منه ممثل الجزائر روحاً وحقيقة.
وواجه الأمير عبد القادر أكبر تحدٍ له في جمع قبائل متناحرة وذات تاريخ طويل في التنافس والشحناء، وفي إبقائها حوله متعاضدة متكافلة محتسبة رغم ما تتكبده من الخسائر والتكاليف والمكاره، ونجح في ذلك لأنه كان يتعامل مع أنصاره ومناوئيه بروح الإسلام السمحة وتواضع لا مثيل له وراءه صلابة لا تلين في الحق، وفور توقيع معاهدة 1834 بدأ الأمير عبد القادر في فرض حكمه على بعض قبائل البربر العاصية، وأدركت فرنسة خطورة ذلك فنقضت الاتفاق خلال فترة وجيزة وهاجمته، ولكنه هزمها في أغلب المعارك التي خاضها، ورغم أن فرنسة اشتدت في ضراوتها ووحشيتها في مواجهة عبد القادر إلا أنها في النهاية اضطرت لتوقيع معاهدة تفنا في سنة 1837 والتي منحت عبد القادر السيطرة على أراض أكثر من ذي قبل مقابل اعترافه بفرنسة كدولة مستعمرة.
واستغل الأمير عبد القادر الاتفاق فأسس في مناطقه دولة بالمعنى الحديث والشامل والعادل، فقد رفض أن يدعى بالسلطان، وتلقب بناصر الدين، وبقي يعيش حياة تقشف وشظف، وأسس بنيان دولته على الشورى والعدل، وكان فقيهاً عالماً ورعاً، واستعمل في ديوانه اليهود والنصارى بناء على كفاءتهم وإخلاصهم، وأصدر عملته وسمى نقودها المحمدية، ونظم جيشه إلى مشاة وفرسان ومدفعية، وأنشأ معامل للأسلحة وووزع مخازنها في أراضيه لتكون قريباً من مجاهديه.
ولكن الأمير عبد القادر لم يتمكن من توحيد البلاد، فبقيت أجزاؤها الحرة منفصلة ما بين غرب وشرق، وكانت قسنطينة عاصمة الشرق قد استعصت على الغزاة وقاومتهم بنجاح، وأعلن واليها أحمد بن محمد رفع المظالم والمكوس، والاقتصار على جباية الزكوات، وأعاد تنظيم قواته على أساس عصري، وجعل ضباطها من الجزائريين بدلاً من الأتراك، وصارت العربية لغتها، واستطاع تحقيق انتصار كبير في سنة 1836 حين دحر هجمتين للقوات الفرنسية واضطرها للانسحاب، ولكنه كان يفتقد القوة الكافية لاستثمار انتصاره، ولما اتفق الفرنسيون مع الأمير عبد القادر تمكنوا من حشد قواتهم وتركيز جهودهم على قسنطينة فما لبثت أن سقطت بيد الفرنسيين في منتصف عام 1253=1837 بعد حوالي 7 سنوات من الغزو.
ولم تقتصر المقاومة على المناطق الحرة بل كان من أول إرهاصات المقاومة بعد أن وقع الداي اتفاق الاستسلام، وباتت المواجهة العسكرية في المدن غير ممكنة، أن قام الأديب حمدان بن عثمان الخوجة الحنفي، المولود سنة 1187=1773، بتنظيم ما عُرِف باسم لجنة المغاربة أو حزب المقاومة، لمقارعة الاستعمار الفرنسي بالقلم واللسان، فنفاه الفرنسيون من الجزائر، فأقام مدة بفرنسة يناضل عن أهله وبلده بما يستطيع وبالتنسيق مع الأمير عبد القادر،  ثم سافر إلى اسطنبول حيث توفي فيها تقديراً في سنة 1257=1841.
وواجه الأمير عبد القادر حرباً معنوية أرادت بها فرنسة أن تحطم سمعته وتثير من حوله الشبهات، وكانت فرنسة قد غيرت سياستها بعد هذه الهزائم المتتالية وجعلتها تدور حول محورين: أولهما إنشاء ما أطلق عليه المكاتب العربية أو الوطنية، والتي يقوم عليها مختصون بالشأن الجزائري من مختلف الاختصاصات، والهدف منها رسم السياسات التي ينبغي على المستعمر أن يتبعها، والمحور الثاني هو تجنيد الجزائريين في القوات الفرنسية ليقوموا بالمهام غير القتالية في البداية على الأقل.
ونجح كلا المحورين، ووضعت المكاتب العربية سياسة الأرض المحروقة القائمة على التخريب والتشريد، وإحراق المناطق المزروعة، ومصادرة قطعان الماشية التي تملكها القبائل العاصية، وأخذ الرهائن من الأطفال والنساء، والفتك بهم إذا استمرت المعارك، ويكفي أن نشير أن الكولونيل دو مونتاناك كتب في رسالة إلى صديق له عام 1843: ينبغي إفقار كل جزائري لا يقبل ما نريد، فلنصادر أمواله وندمره دون أن تأخذنا شفقة لكبير أو امرأة، وينبغي ألا ينبت العشب ثانية على أية أرض يُحارَبُ فيها الجيش الفرنسي، وقد حذرت أنا شخصياً كل الجنود الذي كان لي شرف قيادتهم أنني سأعاقب كل من أتى لي بعربي على قيد الحياة، لأننا يجب أن نسير في حربنا مع العرب على أن نقتل كل من هو فوق الخامسة عشرة ونأخذ نساءهم وأطفالهم على متن السفن ونضعهم في أبعد جزر المحيط الهادي الفرنسية.
ومن ناحية أخرى بدأت فرنسة في بذر الشقاق بين عناصر وطوائف الأمة الجزائرية، والمباعدة بين العرب وبين البربر، وكان الأمير عبد القادر أهم هدف لهذه السياسات، ولما عقدت فرنسة اتفاقها معه، واعترفت بإمارته، أمرت أعوانها وعملاءها المتظاهرين بالإخلاص للجهاد والمغالاة في حب الوطن ليطعنوا فيه، فقالوا: إنه حالف الكفار وأعداء الدين، فأصبحت بيعته باطلة، وحكومته غير شرعية! واستطاعت فرنسة أن تستميل بشكل خاص بعض كبار الطريقة التيجانية الصوفية، فثبطوا همم المجاهدين، ومالوا بهم إلى القبول بالمقدور، وجعلوا مقاومة المستعمر وكأنها مغالَبة للأقدار، ومكن هذا فرنسة من تحقيق أهدافها في تجنيد الجزائرين وتخفيف عدد الفرنسيين في قواتها في الجزائر، وقديما قال صالح بن عبد القدوس:
لا يبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه
ووفي مثل هذه الظروف يعلو ضجيج الفوضى الفكرية والشعارات العبثية فوق كل أصوات العقل والحكمة، وكان الأمير عبد القادر في عناء مع هؤلاء مثلما قال ابن عبد القدوس:
وإِنّ عَناءً أن تُفهِّمَ جاهلا ... ويحسب جهلا أنه منك أفهمُ
متى يبلُغ البنيان يوماً تَمامَه ... إذا كنتَ تبنيه وغيرُك يَهدِمُ
ونقضت فرنسة الاتفاق بعد سنتين ونصف، فعاد عبد القادر للجهاد ودحر الفرنسيين حتى ردهم إلى مدينة الجزائر، وصمد بعدها سنتين حقق فيها انتصارات متتالية، وبرز كرجل دولة في الحرب والإدارة، وطارت سمعته وسط أعدائه الفرنسيين على أنه مثال النبل والأخلاق، فقد تصرف متأسياً برسول الله في الرحمة والإنصاف مع من وقع في أسره منهم، حيث أطعمهم وآواهم وداواهم كما لو كانوا جنوده، وسمح لهم بأداء شعائرهم الدينية، بل إنه مرة أطلق سراح عدد من الأسرى إذ لم يبق عنده ما يطعمه بهم، حتى إن المارشال سولت وزير الحرب الفرنسي عدَّه ثالث ثلاثة من المقاتلين العظام في ذلك العصر، والآخران هما الإمام شامل ومحمد علي باشا الكبير، بل أطلق بعض الأمريكان اسمه Elkader على قرية أسسوها سنة 1846 في ولاية أيوا إعجاباً بشهامته.
وفي المقابل كانت فرنسة تمعن في التنكيل والقتل الذي استنكره أحد كبار مفكريها ونواب برلمانها أليكسيس دو توكفيل، والذي كتب سنة 1841 فقال: لقد عدت من أفريقية وفي خلدي الحزين أن طريقتنا في شن الحرب هي أكثر بربرية بكثير من العرب أنفسهم. إنهم اليوم هم مثال التمدن، أما نحن فلسنا هناك! وفي الحقيقة ما الفائدة أن نحل محل الأتراك لنقوم بتكرار ما كان العالم يكرههم من أجله! ولكن دو توكفيل لم يستطع أن يخفي تأييده لما تفعله القوات الفرنسية في الجزائر رغم استيائه العميق منها، فقد تابع يقول: لقد سمعت كثيراً من الرجال المحترمين في فرنسة يستنكرون أن يقوم الجيش بحرق المحاصيل ومصادرة الغلال، واعتقال غير المسلحين من الرجال والنساء والأطفال. وإنني أرى أن هذه الظروف العاثرة هي أمر ينبغي أن يقبله أي أناس يؤيدون حرب العرب... أنا شخصياً أؤمن أن قوانين الحرب تمكننا من تدمير البلاد وأننا يجب أن نفعل ذلك بحرق المحاصيل حين يدنو الحصاد، وفي غير ذلك الوقت بشن غارات خاطفة لأسر الرجال والاستيلاء على المواشي. ثم يقول دو توكفيل: ومهما تكن الأحوال، فإن لنا أن نقول على وجه العموم أنه يجب تعليق كل أنواع الحريات السياسية في الجزائر.
ومع هذه السياسة الخالية من كل معاني الرحمة والإنسانية، بدأ الجياع ينفضون من حول عبد القادر، وبدأت كفة فرنسة ترجح في سنة 1842، فقد أعادت تنظيم قواتها في وحدات قليلة العدد سريعة الحركة، تستطيع الرد بسرعة على غارات الجزائريين الخاطفة، واستطاعت بذلك صد هجماته وإحباطها في أحيان كثيرة، وحيث بقيت المقاومة في شرق الجزائر ضعيفة، تمكن الفرنسيون من حشد قوات أكثر في الغرب لمواجهته، ولم تفلح جهود عبد القادر في أن تنضم إليه القبائل الشرقية، وبقي وحده في الميدان يواجه قوة أكبر منه وأكثر تفوقاً من الناحية التقنية، وحشدت فرنسة ثلث جيشها في الجزائر لمهاجمة عبد القادر فسقطت حصونه المنيعة في وهران ثم تلتها تلمسان.
وكان المغرب الأقصى رديف الأمير عبد القادر في جهاده ضد فرنسة، بل اتجه المجاهدون أول الأمر لتوسيد أمرهم إلى مليكه مولاي عبد الرحمن بن هشام الحسني السلجلماسي، المولود سنة 1204=1790، والمتوفي سنة 1276=1859، والذي تولى الحكم بعد عمه سنة 1238=1822، وذلك لأنه كان رجلاً صالحاً عادلاً محبوباً من الرعية، فأرسل أحد أولاد عمومته ليتزعمهم، ولكن فرنسة حذرته فأحجم وسحب ابن عمه، ولكن المغرب بقي للمجاهدين مصدر السلاح الأول ومقر الفر بعد الكر، ولا غنى عنهما لحركة تحرر لتحقق انتصارها.
ولما بدأت كفة فرنسة تزداد رجحاناً كان لا بد لها لهزيمة عبد القادر من أن تقطع عنه إمدادات السلاح والعتاد، وأن تحرمه من الملجأ الآمن، وفي الطرف الآخر كانت النكسات التي مني بها عبد القادر قد جعلته في حاجة أشد لكليهما، فاحتلت فرنسة وجدة في شرق المغرب الأقصى لتقايض المغرب عليها مقابل توقفه عن مساعدته ودعمه لعبد القادر، فأعد المولى عبد الرحمن جيشاً عرمرماً لاستردادها، ولكن فرنسة هزمته في سنة 1260= 1844، فعقد اتفاق طنجة مع الفرنسيين بألا يسمح لعبد القادر بالبقاء في المغرب أو اللجوء إليه وأن لا يسمح بتوريد السلاح والذخيرة له.
وكانت هذه قاصمة الظهر، ومع بوادر الفشل يكثر المنتقدون وحكماء الماضي المنفضون المنقضّون، فقاوم عبد القادر 3 سنوات أخر في عزيمة وإصرار وحقق بعض الانتصارات هنا وهناك ولكنه أدرك في النهاية أن الوقت قد حان لنهاية هذه الجولة، ليحمل الراية جيل آخر من بعده يقتفي آثاره ويكمل ما بدأه، فاشترط على فرنسة لاستسلامه أن تسمح له ولأهله بالسفر ليقيم في الإسكندرية أو عكا، فوافقت على ذلك، واستسلم في محرم سنة 1263= كانون الأول/ديسمبر 1847، بعد أن جاهد فرنسة 16 سنة، ولسان حاله يكرر بيتين من قصيدة له:
ونحن لنا دين ودنيا تجمّعا ... ولا فخر إلا ما لنا يرفع اللوا
وإنا سقينا البيض في كل معرك ... دماءَ العدى، والسمرُ أسعرت الجوى
ولم تف فرنسة بوعدها له بل أبقته في طولون بفرنسة قرابة سنة ثم نقلته بعدها إلى حصن أمبواز chateau de Amboise حيث أقام فيها حتى عام 1852 في ظروف صحية سيئة، وتوفي من جرائها عدد من رفاقه وإحدى زوجاته وولدين وأخ له، ولا يزال في القلعة نصب تذكاري لهذه الوفيات، وسرت حركة وسط عدد من مفكري فرنسة تطالب أن تفي الدولة بعهودها وتترك الأمير ليسافر إلى الشرق، ولكن دون أن تلقى آذاناً صاغية. قيل إنه وقف مرة في باريس عند لوحتين كبيرتين تمثلان إحدى معاركه وبدت فيها جنود فرنسا تقتحم الصفوف، فقال: أراكم تمثلون جنودنا منهزمة؟! فهلا نظرتم ورسمتم المعارك الكبيرة التي ولى فيها جنودكم الأدبار؟
واندلعت ثورة في فرنسة سنة 1848 جاءت بلويس نابليون بونابارت كرئيس للجمهورية، الإمبراطور نابليون الثالث لاحقاً، وأراد الحاكم الجديد أن يظهر بمظهر المجدد المتميز عن سابقيه، فأطلق سراح عبد القادر في أول سنة 1269= أواخر سنة 1852، وخصصت له الحكومة الفرنسية راتباً سنوياً، فسافر إلى تركية ولقي أجمل ترحيب من السلطان العثماني عبد المجيد، وأقام في بورصة بعض الوقت قبل أن يرحل إلى دمشق سنة 1271=1855 ويستقر فيها، وكان له دور في حماية نصاراها في اضطرابات عام 1860 التي بدأها الدروز وتابعهم فيها رعاع السنة، ثم توفي فيها سنة 1300=1883، عن 78 عاماً، رحمه الله تعالى، ودفن في دمشق ثم نقل جثمانه في سنة 1386=1966إلى الجزائر التي استقلت سنة 1381=1962.
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ

 
log analyzer