الجمعة، 25 أبريل 2014

حدث في الثامن عشر من جمادى الأخرة


في الثامن عشر من جمادى الآخرة من سنة 1061 توفي في دمشق، عن 84 سنة، نجم الدين الغزي، محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن أحمد، محدث الشام في عصره، وسليل أسرة علمية استمرت على دروب العلم، وكان أفرادها، أباً عن جد، من كبار مشايخ دمشق إلى وقت ليس بالبعيد.
ولد نجم الدين الغزي سنة 977، من أسرة يعود أصلها البعيد إلى غزة، حيث جاء منها إلى دمشق جده الأكبر أحمد بن عبد الله المتوفى سنة 822، والذي صار مفتي دار العدل إلى جانب التدريس، ووالده بدر الدين، المولود سنة 904 والمتوفى سنة 984، كان شيخ الشافعية في دمشق، وله تآليف كثيرة منها ثلاثة تفاسير إلى جانب الحواشي والشروح، وكان كريماً محسناً جعل لتلاميذه رواتب وأكسية وعطايا.
ولما ولد نجم الدين، كتب والده ميلاده على أحد الكتب كما كانت العادة في ذلك الزمان وإلى وقت غير بعيد، وكتب له دعاء قدرت له الاستجابة، فقال: أنشأه الله تعالى وعمَّره، وجعله ولدا صالحا تقيا، وكفاه وحماه من بلاء الدنيا والآخرة، وجعله من عباده الصالحين، وحزبه المفلحين، وعلمائه العاملين، ببركة سيد المرسلين، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ويبدو أنه كان الولد الأصغر لوالديه، وكان له أخ أكبر منه بسنوات ليست بقليلة توفي سنة 983، ثم توفي والده وهو في السابعة فلم يُقدَّر له أن يتعلم على يده العلوم الشرعية، ولكنه أخذ عنه شيئاً من القرآن الكريم وكثيراً من الآداب والأخلاق، قرأ على والده سورة البقرة وهو في السابعة، فأعطاه أربع دراهم فضة ترغيباً له، وشجعه على صيام رمضان وهو في السادسة بأن أعطاه كل يوم درهم فضة، فصام معظم الشهر، وكان يحضر به دروسه ويدعو له  بالعلم والدين.
وهيأ الله لنجم الدين أماً صالحة لم تتزوج بعد وفاة والده، وحبست نفسها على أولادها، فأحسنت تربيتهم، وتابعت تعليمهم حتى حفظوا القرآن الكريم، وذلك بمساعدة أخيها، وكانت تنفق على أولادها من ريع وقف جدهم وملك أبيهم وميراثه، وأحسنت التصرف في أموال اليتامى ومؤونتهم وكسوتهم ولم تحملهم مِنَّة أحد قط، وتقول هو ببركة والدهم.
ودرس نجم الدين التجويد والقراءات والنحو والفقه على علماء الشام في عصره، وكانت له علاقة خاصة مع إمام الجامع الأموي شهاب الدين العيثاوي، أحمد بن يونس، المولود سنة 941 والمتوفى سنة 1025، حيث درس عليه الفقه الشافعي والعقيدة، وصحبه 13 سنة في الطلب وقال التلميذ عن الشيخ: وله على تربية وحنوة وعطف، وهو أعز شيوخي عندي وأحبهم إلي، جزاهم الله عني خيرا. وتزوج الغزي ابنته وكان له منها ابنه المسمى سعودي.
ودرس نجم الدين الغزي كذلك على الشيخ محب الدين العلواني الحموي الدمشقي، محمد بن أبي بكر، المولود سنة 949 والمتوفى سنة 1016، وهو جد المؤرخ المحبي صاحب خلاصة الأثر، فقرأ عليه ربع صحيح البخاري وأجازه بمروياته، وبقيت العلاقة بينهما علاقة ود، حيث يقول عنه الغزي فيما كتبه سنة 1004: وهو، متّع الله بحياته، إلى الآن يوصل إلينا إحسانه وإنعامه علما وثناء ومالا، وغير ذلك مما لا نستطيع مكافأته، إلا أن يجازيه الله عنا أحسن الجزاء، ويمتعنا بحياته وعلومه ما تعاقب الصباح والمساء.
واهتم الغزي برواية الحديث واستجازة المحدثين ممن دخلوا دمشق أو التقى بهم في أسفاره، فصارت له حصيلة وفيرة من مرويات الحديث الشريف، وأمد الله في عمره، فتميز بما لديه، حتى قيل له فيما بعد: مُلحِقُ الأحفاد بالأجداد، المتفرد بعلو الإسناد.
وسلك نجم الدين الغزي طريق التصوف على عادة علماء العصر، وسلك على يد اليتيم الدمشقي، محمد بن أبي بكر، المتوفى سنة 1005، وتأثر به الغزي تأثراً واضحاً إذ كان رجلاً صالحاً يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، قال الغزي عنه في ترجمته: صحبتُه نحو خمس سنين، وكنت أقول ما على من صحب هذا الشيخ إذا فاتته الصحبة مع المتقدمين.
ودرَّس نجم الدين في مدارس دمشق بطريقة فيها إكرام له وتقدير لعلمه، فقد أحال عليه شيخه شهاب الدين العيثاوي بعضاً من دروسه وإمامته بالمسجد الأموي، وأذن له العيثاوي بالكتابة على الفتوى قبل وفاته بنحو عشرين سنة، فكتب في هذه المدة على فتوى واحدة في الفقه، وغير واحدة في التفسير، تأدبا مع شيخه العيثاوي، فلما كان قبل وفاة العيثاوي بنحو خمسة أيام دخل نجم الدين عليه فحضرت فتوى فقال له: اكتب عليها. فكتب، وقال: اكتب اسمكم؟ قال: بل اكتب اسمك. فكتبه، ثم تتابعت عليه الفتاوى، فاستمر يفتي 36 سنة من سنة 1025 إلى حين وفاته سنة 1061.
وتولى نجم الدين الغزي التدريس في الجامع الأموي لإقراء صحيح البخاري على رسم العادة في رجب وشعبان ورمضان، فبقي يدرسه مدة 27 سنة، إلى وفاته،  وكان معيده في الدرس الشيخ رمضان العكاري فلما توفى سنة 1056، حل محله الشيخ مصطفى بن زين الدين المشهور بابن سوار، وكان حسن السمت والخُلق، وكان نجم الدين يقول: من أراد أن ينظر إلى حواريِّ هذه الأمة فلينظر إليه. وكانت لنجم الدين دروس في غير الجامع الأموي منها درسه في المدرسة الشامية في شرح جمع الجوامع في الأصول، وحضر درسه الشيخ عبد الغني النابلسي، المولود سنة 1050 والمتوفى سنة 1143، ودخل في عموم إجازته لمن حضر مجلسه، وبسبب ذلك كان يروي عنه مباشرة.
قرض الغزي الشعر وهو في يفوعته، وأغلب شعره مقطعات في الحكم والأدب، وأكرمه الله بملكة شعرية مكنته من نظم المتون الفقهية وغيرها في أرجوزات طويلة ، ولعل أفضل شعره هو هذين البيتين العاطفيين من أول ما نظم:
لو بحت بالحب الذي ... أضنى الفؤاد وكلما
لبكى لي الصخر الأصم وكاد أن يتكلما
ومن أغراض الشعر في ذلك العصر: الألغاز، وهو أن ينظم الشاعر بضعة أبيات يلمح فيها إلى كلمة ويطلب من أقرانها حل اللغز وتعريف هذه الكلمة، وكان شاعر الشام آنذاك الأديب أبو بكر بن منصور العمري الدمشقي، المتوفى سنة 1048، فكتب إلى النجم الغزي ملغزا:
يا نجمُ يا ابن البدر يا شمس الهدى ... يا من ضياء وجهه يجلو الغلس
ما اسم حروفِ لفظة إن عُدِّدت ... فخمسة وإن تُصحِّف فهو بس
فأجابه الغزي مبيناً له أن الكلمة هي ياسين:
يا مُلغِزا في اسمٍٍ عليه ربنا ... صلى وأدناه إليه في الغلس
وجاء في التنزيل تنزيلُ اسمه ... تحت سبا وفاطرٍ فوق عبس
ابتدأ الغزي التأليف في سنة 991 وهو في الرابعة عشرة من عمره، واستمر في ذلك طيلة حياته، فألف عشرات الكتب والرسائل في الفقه والتفسير والتصوف والآداب والنحو، وقد ذكر الأستاذ زهير ظاظا أن الغزي قال في كتابه الذي صنفه في سيرة والده وأسماه بغية الواجد في ترجمة الوالد، أنه قد ألفه وهو في السابعة والعشرين، وترجم لنفسه في بعض فصوله، فذكر أن له 32 تأليفاً آنذاك.
وعلى عادة علماء ذلك الزمان نجد أغلب مؤلفاته شروحاً أو مختصرات، أو نظماً لبعض الكتب في أرجوزات ليسهل حفظها واسترجاعها على طالب العلم، وهو أمر يحتاج إلى موهبة من الخالق ومران من الحاذق، ولنجم الدين الغزي منظومات كثيرة في النحو والفقه وغيرها من المواضيع، ويكفى أن نشير أنه شرح منظومة والده في النحو بمنظومة أخرى بلغ عدد أبياتها 4000 بيت، ومن مؤلفاته الطريفة كتب عقد النظام لعقد الكلام، وهو كتاب ينقل فيه مقولات السلف في النصيحة والزهد وأشباههما ثم ينظم تلك المقولات، ونورد مثالا على ذلك قوله فيه:
ذكر النووي في تهذيب الأسماء واللغات عن الإمام الشافعي أنه قال: ما أفلح في العلم إلا من طلبه في القلة، ولقد كنت أطلب القرطاس فيعسر علي، وقال: لا يطلب أحد هذا العلم بالمال وعز النفس فيفلح، ولكن من طلبه بذلة النفس، وضيق العيش، وخدمة المعلم، والتواضع في النفس أفلح، وقلت في معناه هذا:
من يطلب العلم بعز الغنى ... يبطر ولا يفلح بما يصنع
للعلم طغيان كما للغنى ... والعلم بالطغيان لا ينفع
لا يبلغ العالم شأو العلا ... إلا التقي الأروع الأورع
ويحدثنا الغزي عن أعظم مؤلفاته في رأيه فيقول: وأعظم مؤلفاتي الآن شرحي على ألفية التصوف لشيخ الإسلام الجد المسمى بمنبر التوحيد ومظهر التفريد في شرح جمع الجوهر الفريد، في أدب الصوفي والمريد، وهو كتاب حافل جمعت فيه جميع أحكام الطريق، ووفيت فيه شروط الشرع في عين التحقيق. وجده الذي أشار له هو شيخ الإسلام رضي الدين الغزي، محمد بن محمد، المولود سنة 862 والمتوفى سنة 935.
ولكن أعظم كتب نجم الدين الغزي التي خلدت ذكراه هو كتابه الكواكب السائرة في تراجم أعيان المئة العاشرة، ترجم فيه لكثير من أعلام القرن العاشر ممن عاشوا في بلاد الشام ومصر مع قليل من خارجها، وهو المرجع الرئيس لتراجم القرن العاشر الهجري في المشرق العربي، وأوردُ بعض ما ذكره في المقدمة عن سبب تصنيفه هذا التاريخ ومصادره التي استقى منها، وأغلبها كتب مؤلفة، ولكن منها تعليقات تكون مفيدة ونادرة، قال رحمه الله:
وإني طالما كنت أتشوق إلى تأليف كتاب يجمع التراجم المتأخرين من أهل المئة العاشرة من العلماء الأنجاب، فلم أجد من تعرض لهذا المعنى، أو دخل في هذا الباب، غير أن الشيخ المحدث النحوي شمس الدين محمد بن طولون الحنفي ألف كتابا جمع فيه تراجم أواخر المئة التاسعة وأوائل المئة العاشرة سماها بالتمتع بالأقران، ولم أقف على مجموع هذا الكتاب، وإنما وقفت على نحو كراسة منه فاستدللت بالصبابة على العباب ...  وكنت قد وقفت قبل ذلك على قطعة من تاريخ كتاب الحافظ العلامة بدر الدين العلائي الحنفي في حوادث القاهرة من سنة سبع عشرة وتسعمئة إلى أواخر سنة أربع وثلاثين، ثم وقفت على تعليقه بخط والد شيخنا الشيخ الإمام الفقيه أبو الندى شرف الدين يونس العيثاوي الشافعي رحمه الله تعالى، علق فيها وفيات شيوخه وبعض أقرانه، وترجم أكثرهم فذكر من مآثرهم؛ كل مترجم ما يليق بمقامه ومكانه.
وتحريت فيه بقدر الطاقة والإمكان وجه الحق والصواب، وسلكت بين طريقتي الإيجاز والإطناب، لأنه أقرب لتناول المقتصدين، وأنفع لمن يريد الكشف عن أحوال المترجمين، معتمدا فيما أنقله على خطوط هؤلاء المشايخ، أو على خط من يوثق به، من كل ذي قدر في العلم شامخ، وقدم في الفضل راسخ، أو على ما تلقيته من أفواه المعتبرين، وأخذته عن الفضلاء البارعين، مما يدخل في تراجم الأعيان أو تاريخ مواليدهم أو وفياتهم، بحسب الإمكان، من أهل القرن المذكور من العلماء الأعلام بدمشق المحروسة وحلب وغيرها وبلاد الشام وعلماء القاهرة والحرمين الشريفين، حسبما تيسر لنا مع التحري والاجتهاد في كل مقام، وضممت إلى ذلك نبذة من تراجم أعيان التخت العثماني ووفيات أعيان الملك السلطاني، ممن اتفقت وفياتهم فيما حدث من الزمان منتخبا لذلك من الشقائق النعمانية، ومن رحلة والدي المسماة بالمطالع البدرية، ومن غيرهما مما بلغني وتحققته، وتلقيته عن الثقات وتلقنته ...
ثم إني وقفت بعد ذلك على تاريخ العلامة رضي الدين ابن الحنبلي الحلبي الحنفي المسمى دُرَّ الحَبب في تاريخ أعيان حلب، وهو كتاب مجلد ضخم ثخين، مشتمل على الغث والسمين، والتافه والثمين، وربما فيه بعض التراجم بما لا يتعلق بالمرام، وليس له بفن التاريخ التئام، وربما أكمل الأسماء لئلا يخلو الحرف من التراجم، بنقاش أو تاجر، أو مغن أو مطنبر، وعاشق أو معمار، أو غيرهم من العوام، فانتخبت منه تراجم بعض أعيان كتابه، وضممتها إلى كتابي، وأعرضت عما لم يقع اختياري عليه مما أتى به وليس في بابه، حسبما قضى به تمييزي وانتخابي، لأني وضعت هذا الكتاب على أسلوب أهل الحديث والإتقان، ولم أرسمه كيف اتفق ولا على أي وضع كان...
فكان كتابا جامعا لزبد هذه الأمهات، ملخصا لمقاصد جامعيها من العلماء الأثبات، وكل ذلك مع توفير القرائن وتهيئة الأسباب، وتيسر الجمع والتأليف من قبل الكريم الوهاب، وسمته بالكواكب السائرة بمناقب أعيان المئة العاشرة...
وقد وقع رحمه الله بمثل ما ذكره عن تاريخ ابن الحنبلي، فقد أورد في كتابه تراجم عدد من العوام المجاذيب وأورد قصصاً عجيبة عنهم، وهو وإن كان ينقلها عن مصادره، إلا أنها مما لا يقره ميزان الشرع، وليس فيها كبير كرامة أو ولاية، ومثال ذلك ما أورده في ترجمة الشيخ الصالح المجذوب علي الدميري: كان لا يدخل بيت الحاجة إلا في كل ثلاثة أشهر مرة واحدة! وما أورده في ترجمة إبراهيم أبي لحاف، قال: وكان يُكشف له عما نزل بالإنسان من البلاء في المستقبل، فيأتي إليه فيخبره أنه نازل به في وقت كذا وكذا وكذا، ويطلب منه مالاً، فإذا دفعه إليه تحول البلاء عنه والأذى كما أخبر، وكان يمكث الشهر وأكثر لا ينام الليل، بل يجلس يهمهم بالذكر إلى الفجر صيفاً وشتاء.
وأمثال هؤلاء المجاذيب المعتوهين تنساق إليهم العامة في العادة، لأن العامي بطبعه ينقاد للاعتقاد والغيبيات التي لا تطلب منه عملاً ولا تكلفه مشقة، أما العلماء فهم يعلمون أن العمل أساس التوكل، وأن السعي أساس الاعتقاد، أما الغزي ومصادره من علماء أتقنوا العلوم الشرعية، فكان الظن بهم ألا يذكروا هؤلاء في الأعلام، إذ هم أدنى من أن يكون لهم ذكر في هذا الصدد، ولكن الغزي ومن نقل عنهم هذه الأخبار نتاج عصر شاع فيه التخلف والتقليد وتقديس الأشخاص، لا احترامهم وإجلالهم، فهو على علمه الوافر يسوق هذه الأخبار معتقداً صحتها دون أن يعرضها على معايير الشرع الدقيقة والصحيحة، فهو في هذا الجانب صورة للتناقضات التي سادت المجتمع وشملت طبقة العلماء في ذلك العصر على تقواهم وديانتهم.
وأتبع الغزي كتاب الكواكب السائرة بذيل سماه لطف السمر وقطف الثمر في أعيان الثلث الأول من القرن الحادي عشر، وجمع فيه تراجم الأعلام حتى سنة 1033.
وكان الحج في تلك الأيام محفوفاً بالمخاطر في الطريق وفي مكة المكرمة، وكان محظوظاً من حج مرة واحدة، ولكن الله أكرم نجم الدين الغزي بالحج مرات عدة، أولها سنة 1001 وآخرها سنة 1059، وروى أحد مشايخ الشام كيف كان طلبة العلم يلاحقون الغزي ويطلبون منه الإجازة حتى في الطواف والسعي، حكى حمزة بن يوسف الدوماني، قال: بينما أنا ذات يوم بخلوة عند باب الزيادة وإذا بضجة عظيمة، فخرجت فنظرت وإذا بالشيخ نجم الدين بينهم وهم يقولون له أجزنا، ومنهم من يقول هذا حافظ العصر، ومنهم من يقول هذا حافظ الشام، ومنهم من يقول هذا محدث الدنيا، فوقف عند باب الزيادة وقال لهم: أجزتكم بما تجوز لي روايته، بشرطه عند أهله، بشرط أن لا يلحقنا أحد حتى نطوف. ثم مشي إلى المطاف، فما وصل إليه إلا وخلفه أناس أكثر من الأول، فوقف وأجازهم كما تقدم، وقال لهم: بشرط أن لا يشغلنا أحد عن الطواف. فوقف الناس وطاف الشيخ... فلما فرغ من الطواف طلبوا منه الإجازة أيضا فأجازهم، ولحقه الناس إلى باب الخلوة وطلبوا منه الإجازة فأجازهم.
ثم بعد هنيهة جاء الشريف زيد صاحب مكة، فلما استقر بهم المجلس تذاكروا أمر الساعة، فأخذ نجم الدين يورد أحاديث الساعة بأسانيدها وعزوها لمخرجيها، ويتكلم على معانيها حتى بهر العقول، وأطال في ذلك، ثم لما فرغ قال له المشايخ: تجيزونا يا مولانا بما لكم، وكذلك استجازه الشريف زيد ومن حضر، فأجاز الجميع، فلما انصرف قال بعض مشايخ الحاضرين: أنا كنت إذا رأيت كتبه وتصانيفه أعجب منها، وإذا اجتمعت به لا يتكلم إلا قليلا، فأعجب من ذلك، ولكن الآن تحقق عندي علمه وحفظه.
ومن الطبيعي أن يكون لنجم الدين الغزي مكانة كبيرة في دمشق وعند الدولة العثمانية، وكان يسعى في مصالح الناس ورفع ما يقع بهم من مظالم، وفي سنة 1025 كانت الدولة العثمانية في أتون حرب شديدة مع الشاه عباس الصفوي في إيران، فجندت لها الجنود من الأقاليم ومنها دمشق، وفي هذا ضرر كبير على مصالح الناس في دمشق، فأرسل أهلها وفداً إلى الوزير الأعظم ليتوسط لديه بإلغاء القرار أو تعديله، ترأسه شهاب الدين العيثاوي، وكان فيه نقيب الأشراف، وكذلك نجم الدين الغزي.
ومثله مثل صالحي العلماء في كل زمان كان نجم الدين الغزي يشعر بالظلم الذي يقع على العامة من الحكام الجائرين، وقد كانت الرشوة من الأمراض المنتشرة كثيراً بين ولاة وقضاة الدولة العثمانية، رغم محاولة استانبول محاربتها بين وقت وآخر، ومعاقبتها الفاسدين أشد العقوبة،  ولذا نراه في كتابه الكواكب السائرة  يذكر في ترجمة سنان القراماني ما يلي:
ولي نظارة البيمارستان النوري، ثم ولي نظارة الجامع الأموي، وانتقد عليه أنه باع بسط الجامع وحُصُره، وأنه خرب مدرسة المالكية التي بقرب البيمارستان النوري، وتعرف بالصمصامية، وحصل به الضرر لمدرسة النورية ببعلبك، فشُنق بسبب هذه الأمور هو وناظر السليمية حسين جلبي في سنة 966... وأما الآن، فقد تجاوز أهل الفساد إلى أمور فوق هذه الأمور، بحيث هذه الأمور التي انتقدت على سنان لا تعد بالنسبة إليها شيئاً، ثم إن حصل عليهم إنكار دفعت الرشوةُ عنهم وبالَه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم:
برطيل أهل الجور يكفيهم ... في هذه الدنيا العقابَ الأليم
ورشوة الحكام أعمتهم ... عن الطريق الحسن المستقيم
فاعبث كما شئت، وكن ظالماً ... ولا تقل في الظلم يوماً وخيم
جبل الله عز وجل الناس على حب الرئاسة والبروز، فلا عجب أن يقع شيء من ذلك في صفوف العلماء وبخاصة عند الاختلاف في الآراء، ويكاد التزاحم على مناصب التدريس أن يكون تقليداً عريقاً منذ أن أسس الوزير نظام الملك رحمه الله المدرسة النظامية في بغداد وغيرها من مدن الإسلام، وهو في أيام الدولة العثمانية ظاهرة متكررة دائماً، يسعى فيها الشيخ للحصول على درس في إحدى مدارس الأوقاف أملاً في الحصول على راتبها، ويزداد الحرص على المنصب كلما كان في مسجد من المساجد الهامة.
ووقع هذا لنجم الدين الغزي، فقد كان مدرساً في المدرسة الشامية البرانية بالعقيبة، فرغب أحد كبار علماء الشام أن يحصل على هذه الوظيفة، فقد سعى شمس الدين الحموي الميداني، محمد بن محمد، المتوفى سنة 1033، لدى أحد المتنفذين من الأتراك ليدرس هو فيها، فجاء الأمر من استانبول في سنة 1032 أن يحال الدرس على الميداني، ولم يقبل نجم الدين بذلك، وسافر إلى استانبول ليسعى لدى ولاة الأمر في نقض القرار، ووصف سفره في رسالة ألفها أسماها العقد المنظوم في رحلة الروم، وعاد من رحلته ومعه قرار بأن يكون هو المدرس ما دام علي قيد الحياة، وبناء على ذلك تسلم المدرسة من جديد.
ولكن الميداني عاد وسعى في الأمر مع المتنفذ، وجاء بأمر جديد يوكل إليه التدريس في المدرسة، ورفض ذلك الغزي، ودفع بأن هذا التكليف الجديد أضعف مرتبة من تكليفه بالدرس مدى الحياة، ولذا فهو لا ينقضه، وترافع الميداني والغزي لدى قاضي القضاة، فأبرز الغزي فتوى لعلماء الحنفية أن السلطان إذا أعطى رجلا وظيفة بقيد الحياة ثم وجهها لغيره لا ينعزل عنها، إلا أن ينص السلطان على الرجوع عن الإعطاء بقيد الحياة، فقال قاضي القضاة للغزي: الحق لك، لكن تطيعنا على رعاية سن هذا الرجل، ونقسم بينكما التدريس. فصارت الوظيفة بينهما شطرين، ولكن الميداني لم يمتع بها طويلاً إذ توفي آخر سنة 1033.
وقبل موته بست سنوات أو سبع، أصيب نجم الدين الغزي بشيء من الفالج، فكان لا يتكلم إلا قليلا، وقبل وفاته بقريب توجه في زيارة للقدس الشريف مع الشيخ إبراهيم الصُمادي، ثم لما رجعا إلى دمشق ترك التأليف وتفرغ للعبادة، حتى توفي رحمه الله تعالى.
وكأن الغزي شعر بدنو أجله فطلع قبل وفاته بيومين إلى بساتينه أوقاف جده واستبرأ ذمته من الفلاحين وطلب منهم المسامحة، ثم في اليوم الثاني دار على أهله؛ ابنته وبنتها وغيرهم، وزارهم ثم عاد إلى منزله، وصلى المغرب ثم جلس لقراءة الأوراد، وأخذ يسأل عن أذان العشاء، وأخذ في ذكر لا إله إلا الله وهو مستقبل القبلة، ثم سُمِعَ منه وهو يقول: بالذي أرسلك ارفق بي! فدخلوا عليه فرأوه قد قضى نحبه ولقي ربه رحمه الله تعالى، ودفن في مقبرة آل الغزي في تربة الشيخ رسلان.
ذكرنا من قبل أن للغزي ابناً أسماه سعودي، وقد ولد في سنة 998، وسار على طريقة والده في طلب العلم حتى أصبح كذلك من كبار العلماء وناب عن والده في فتوى الشافعية، وبعد وفاة والده تولى درس الحديث تحت قبة النسر في الجامع الأموي، وتوفي سنة 1071، وخلف ولداً هو علي بن سعودي، المولود سنة 1024، والمتوفى سنة 1083، وكان كذلك فقيهاً فاضلاً تولى الفتوى كذلك.
ونختم ببيتين لطيفين من نظمه رحمه الله تعال:
لنا نفوسٌ إذا هي انصدعت ... بلمح طرفٍ تقوم ساعتها
عزَّت فعاشت بفقرها رغداً ... وفي اعتزال الأنام راحتها
 

الجمعة، 18 أبريل 2014

حدث في الحادي عشر من جمادى الآخرة

 
في الحادي عشر من جمادى الآخرة من عام 1149، الموافق 17 تشرين الأول/أكتوبر 1736، وقع السلطان العثماني محمود الأول اتفاق استانبول مع نادر شاه ملك إيران، والذي اعترفت فيه الدولة العثمانية من جديد بحدود الدولة الفارسية، وتنازلت عن المناطق التي كانت قد استولت عليها في إيران، وصار الاتفاق تأكيداً آخر لسيادة إيران على هذه المناطق وتحديداً لحدود إيران كما نعرفها اليوم، وجاء الاتفاق بعد حروب ونزاعات بين روسية وبين الدولة العثمانية وبين الدولة الفارسية، كل طرف يواجه الطرفين الآخرين منفردين.
والحروب مثل العواصف، يندر أن تهب فجأة دون نذر ومقدمات، ولعل بداية هذه الحرب بين الدولة العثمانية وبين نادر شاه في إيران تعود إلى حروب العثمانيين مع روسية في عهد القيصر بطرس الأكبر الذي ولد سنة 1672 وتولى الحكم سنة 1682 وتوفي سنة 1725، وكان من أعظم الحكام في التاريخ الروسي، وتطلع بطرس الأول إلى أن يكون لروسية منفذ إلى البحار الدافئة، فشن حملات على الأراضي التركية في البحر الأسود وعلى بولندا بهدف الوصول إلى موانئ مفتوحة، فأعلن السلطان أحمد الثالث الحرب على روسيا سنة 1120=1710، وقاد الصدر الأعظم محمد باشا بلطجي الجيوش العثمانية وألحق ببطرس الأكبر هزيمة منكرة، كادت أن تكون القاضية، وذلك حين استطاع تطويقه وجيشه في سنة 1123=1711 على حدود رومانية الشرقية.
ولم يفت ذلك من عضد القيصر وطموحاته، وقرر أن يتجه إلى القوقاز وإيران التي كانت تعصف بها الاضطرابات السياسية، فلعله يحقق أحد تطلعاته في أن يكون لروسيا طريق تجاري إلى الهند يمر عبر شرق بحر قزوين.
وكانت الدولة الصفوية في إيران قد واجهت في سنة 1134=1722 غزواً من أفغانستان قام به محمود بن أويس الحوتاكي، واستطاع اكتساح البلاد وهزم الصفويين في معركة جولن آباد، ثم حاصر أصفهان عاصمة الصفويين وأجبر الملكَ شاه سلطان حسين على خلع نفسه والاعتراف به ملكاً على إيران، ثم ما لبث محمود أن قتل شاه حسين، وأرسى حكمه في المناطق الجنوبية والجنوبية الشرقية من إيران.
وانتهز بطرس الأكبر هذه الفوضى، وواته الذريعة حين تعرضت بعض القبائل للتجار الروس ونهبت بضائعهم، فبدأ حملته وأرسل أسطوله في بحر قزوين في أواخر سنة 1134=1722، واستطاع الاستيلاء على باب الأبواب في القوقاز الشرقي، وتدعى بالفارسية دربند وهي اليوم في داغستان، ومدينة باكو عاصمة أذربيجان اليوم.
وكان لدى العثمانيين أسبابهم للهجوم على إيران، أولها أن وجود روسية وهي الخصم التاريخي اللدود على حدودهم الشرقية يشكل خطراً كبيراً يهددهم من الخلف في كل حين إذا هم انشغلوا بالحملات الأوربية، وثانيها التعويض معنوياً ومادياً عن خساراتهم الأوربية في حربهم مع النمسا سنتي 1716-1717، وثالثها تصفية ثارات قديمة والقضاء على الحكم الصفوي أو إضعافه، وهكذا أعلن الصدر الأعظم الداماد إبراهيم باشا الحرب على إيران، واحتل الجيش العثماني الذي قاده حكيم أوغلو علي باشا عدداً من المناطق الغربية في إيران وأهمها مدينتا كرمنشاه ثم تبريز، وأرمينية وبلاد الكرج التي تدعى اليوم جورجية، وبحلول سنة 1136=1724 كان العثمانيون قد استولوا على مناطق شاسعة واستطاعوا تشكيل منطقة عازلة تقف في وجه التوسع الروسي، ولكنهم لم يستطيعوا القضاء على الصفويين فقد هزموا خارج أصفهان في سنة 1138=1726.
ثم ما لبثت روسية والدولة العثمانية أن وقعتا معاهدة استانبول في أواخر سنة 1136= 1724، والتي اقتسمتا بموجبها ما احتلتاه من أراض فارسية، وأعطت المعاهدة العثمانيين مساحات كبيرة في أذربيجان وأرمينية وشمال غربي إيران بما فيها تبريز عاصمة الصفويين السابقة، وكان الروس هم الكاسبين لأنهم عملياً وصلوا إلى جنوب القوقاز. وتوصل الطرفان لهذه المعاهدة بوساطة فرنسة التي على صداقة مع الدولة العثمانية، وتريد التحالف معها في مواجهة تهديد الإمبراطورية النمساوية، فتوسطت بينها وبين روسية لهذا السبب.
وتمكنت الدولتان من تحقيق هذا الاقتطاع للأراضي الإيرانية لأن الدولة الصفوية كانت قد دخلت في مرحلة الضعف والأفول، وكانت نتيجة المعاهدة كما سنرى أن أطلقت من عقالها بعض القوى الكامنة في الدولة الإيرانية في سُنّة من سنن الله في هذا الكون: ﴿ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ.
وهنا نعود القهقرى لنتحدث باختصار عن بداية الدولة الصفوية في إيران، وقد تأسست على يد الشاه إسماعيل الأول، المولود سنة 892=1487 والذي حكم 24 سنة من سنة 906=1501 إلى وفاته سنة 930=1524، وكان ابتداء أمره أن هزم في مرو الشيبانيين السُّنة الذين كانوا يحكمون أزبكستان، ثم أعلن تحوله إلى المذهب الشيعي تميزاً عن الدولة العثمانية، وبذلك أرسى عدة مبادئ لا تزال أسس الدولة الإيرانية الحديثة على اختلاف ألوانها، وأولهما أن تقوم الدولة على الرقعة الجغرافية التي كانت تحتلها الدولة الساسانية قبل الفتح الإسلامي، وأن تعتنق الدولة المذهب الشيعي ديناً رسمياً للدولة، وثالثها التطلع للرياسة والتوسع والهيمنة، وينبغي أن نذكر أن هذه الدولة سميت بالصفوية نسبة  لطريقة صوفية سنية أسسها في أردبيل قبل قرابة 150 سنة الشيخ صفي الدين بن إسحاق، المتوفي سنة 735، وورث إسماعيل زعامتها وهو شاب من أخيه علي ميرزا.
ثم استولى إسماعيل على تبريز وجعلها عاصمته، وبدأ حملة قسرية لا رحمة فيها ولا هوادة لفرض التشيع على سكان إيران، فأطلق هو ومن جاء من بعده العنان لعلماء الشيعة لتحويل المساجد والمدارس، واستغرق تحول إيران إلى المذهب الشيعي أجيالاً، نظراً لأنها كان بلاداً تتبع أهل السنة والمذهب الحنفي،  وخرجت أجيالاً من كبار علماء الإسلام، كما يشهد بذلك تاريخ طبرستان وقزوين وغيرها من مدن فارس، وتذكر بعض المصادر أن إسماعيل جلب علماء الشيعة من العراق ومن جبل عامل في لبنان ليستعين بهم على تحويل محكوميه إلى التشيع.
ثم توسع إسماعيل إلى ديار بكر في جنوبي تركية، وبدأ يستميل القبائل التركمانية والكردية ويشجع رؤساءهم على شق عصا الطاعة والاستقلال، وأرسل دعاته من الشيعة لتحويلهم عن السنة، فكان ذلك بلا شك مواجهة مباشرة وتحدياً مصيرياً للدولة العثمانية في شرقي الأناضول والعراق، فنشبت بينه وبينها عدة معارك آلت في نهايتها أن جرد له السلطان سليم الأول جيشاً جراراً قاده بنفسه فهزمه سنة 920 في معركة جالدران قرب تبريز، واحتل السلطان سليم تبريز، ولا يزال عرش إسماعيل شاه في متحف طوبقبو باستانبول إلى اليوم.
ولكن لم تكن الهزيمة قاصمة الظهر للشاه إسماعيل، فقد أعاد تنظيم دولته وقواته، ولم يستطع السلطان سليم متابعة حملته فقد تململ إنكشارية جيشه ثم تمردوا بحجة البرد فعاد إلى بلاده في الأناضول واستمرت الدولة الصفوية على قيد الحياة.
وتعاقب حكام الصفويين من سلالة الشاه إسماعيل قرابة 230 سنة، لا تكاد تنقطع الحروب بينهم وبين العثمانيين، واستنفد ذلك طاقات وموارد الدولتين في حروب غير حاسمة، وهما في الوقت ذاته تواجهان أعداء آخرين يتربصون بهم، فقد كان العثمانيون يواجهون أسرة هابسبرج في ألمانيا والنمسا وحلفاءها الأوربيين، أما الصفويون فكانوا على عداء مع الأزبكيين والأفغان والدولة المغولية في الهند.
وبرز في الفترة التي ذكرنا الشاه عباس الذي تولى، في السابعة عشرة من عمره، الحكم سنة 995=1588، واستطاع بالتدريج بناء قوة عسكرية ضخمة استرجعت ما خسره الصفويون من قبل مثل تبريز ويروفان وخوارزم وجيلان وسجستان، واحتل قندهار في أفغانستان وبغداد في العراق، فامتدت الدولة في عهده امتداداً كبيراً، وتوفي الشاه عباس سنة 1038، وتولى عرش إيران حفيده شاه صفي، وكان في الثامنة عشرة من عمره، منصرفاً إلى اللهو، فتصدى له السلطان مراد الرابع، المولود سنة 1021 والمتوفى سنة 1050، والذي تولى السلطنة سنة 1032،  وجرد في سنة 1044 جيشاً جراراً لاستعادة ما خسرته الدولة العثمانية من أراض، واختتم ذلك بأن توجه بنفسه في سنة 1048 لحصار بغداد حتى استسلمت حاميتها وأرسل الشاه يطلب الصلح، فأجابه إلى ذلك، وحدَّد هذا الصلح حدود الدولة العثمانية الشرقية.
ثم نعود إلى سنة 1137=1725حين تسنم عرش إيران الملك شاه أشرف الأفغاني، في إطار الغزو الأفغاني الذي تم في سنة 1134=1722 وأشرنا إليه من قبل، وتفاوض أشرف مع الروس والعثمانيين فاعترفوا به ملكاً على إيران مقابل تنازله لهم عما احتلوه من أراضي، ولكن طهماسب الثاني ابن الملك حسين الصفوي، ويقال له طهماز كذلك، والمولود سنة 1116، كان لا يزل مسيطراً على منطقتي مازندران وجيلان جنوبي شرق بحر قزوين، وبدأ سنة 1727حركة من تبريز لاسترجاع عرش والده، وأيده المسلمون السنة في القوقاز وبقايا القبائل الشيعية، وانضم إليه زعيم خارج على القانون ينتمي لقبائل الأفشار واسمه نادر، وتسمى بطهماسب قولي، أي عبد طهماسب، ونجحت حركة طهماسب الثاني بفضل ما تمتع به نادر قولي من عبقرية عسكرية وشجاعة مكنته من هزم الأفغان في عدة مواقع، وهكذا عاد حكم إيران إلى السلالة الصفوية من جديد، في سنة 1142=1729.
وتوجه السلطان أحمد الثالث والصدر الأعظم للتفاهم مع طهماسب، تفادياً للدخول في حرب غير مضمونة النتائج تستنزف موارد البلاد، وبخاصة أن الدولة العثمانية كانت خارجة لتوها من حروب مع النمسا خسرت فيها هنغاريا وجزءاً من بلاد الصرب، ولكن الأنكشارية ثاروا عليه بحجة ميله لإعطائه الدنية للعجم، وقاموا بأعمال السلب والتخريب، وطلب زعيمهم بترونا خليل من السلطان إعدام الصدر الأعظم الداماد إبراهيم باشا والمفتي وقائد الأسطول بحجة أنهم متخاذلون متآمرون، فرفض السلطان ذلك في بداية الأمر، فاشتدت وتيرة الفتنة، وخشي السلطان أن يحترق بنارها، فسلمهم الوزير والقائد دون المفتي، فقتلوهما وألقوا جثتيهما في البحر.
لكن لم يمنعهم انصياع السلطان لطلباتهم من التطاول عليه، بل جرأهم تساهله معهم، فأعلنوا خلعه في أوائل سنة 1143=1730 ونادوا بابن أخيه السلطان محمود الأول خليفة للمسلمين وأميرا للمؤمنين، وتنازل  السلطان أحمد الثالث عن الملك دون معارضة، وبقي معزولا منفياً حتى وفاته في سنة 1149، وكان أول ضحية ملكية لهذه الحرب.
وفي بداية الأمر لم يكن للسلطان محمود الأول، المولود سنة 1108، أمرٌ ولا نهي، وكان بترونا خليل يولي من يشاء ويعزل من يشاء تبعا لأهوائه وأغراضه، ثم ما لبث أن عيل صبر السلطان من استبداده فاتفق مع رؤساء الأنكشارية على قتله والتخلص منه، وعاد الاستقرار والأمن في البلاد.
وكان أول أهداف طهماسب بعد أن تمكن واشتد ساعده أن يسترجع ما فقدته إيران من أراض، وبدأ في التفاوض مع الدولة العثمانية مطالباً أن تعيد إليه كل ما أخذته من بلاد أجداده، وكان من الطبيعي ألا تلبي الدولة العثمانية الطلب، وأراد طهماسب أن يظهر أنه لا يقل في مهارته العسكرية عن قائده نادر، فانتهز فترة انشغاله في حملة على أفغانستان احتلت هَراة، وقام طهماسب بشن حملة لاسترداد يروفان فشلت فشلاً ذريعاً فقد هزمه الجيش العثماني بقيادة حكيم أوغلو علي باشا، وخسر كثيراً  من الأراضي التي استردها نادر، مما اضطره لطلب الصلح، وتم في منتصف 1144= 1732 التوصل بينه وبين أحمد باشا لاتفاق تترك بموجبه مملكة العجم للدولة العثمانية كل ما فتحته في إيران باستثناء مدن تبريز وهمذان وباقي إقليم لورستان في شمال إيران.
ولم يقبل نادر قولي بهذا الاتفاق الذي خرج على أسس الدولة الفارسية التي سبق أن أشرنا إليها، ووجده فرصة لإبعاد طهماسب عن الحكم، فخلعه نادر قولي في سنة 1150=1732بعد قرابة 3 سنوات من بقائه في سدة الحكم، ونفاه إلى قلعة سابزوار في خراسان، وعين نادر ابن طهماسب الصغير عباس ملكاً محل والده في سنة 1145=1732،  وسمي الملك الطفل عباس الثالث، ونصب نادر نفسه وصياً عليه ونائباً للملك، وتسمى بنادر شاه، وهكذا كان طهماسب الضحية الملكية الثانية لهذه الحرب، وبخلعه انتهت الدولة الصفوية في إيران.
وكان أهم أهداف نادر شاه إخراج العثمانيين والروس من الأراضي التي احتلوها من إيران، وإعادة حدود الدولة الإيرانية إلى ما رست عليه الأمور أيام مراد الرابع، وحقق نادر شاه نجاحاً كبيراً في هذا الصدد، وساعدته نذر الحرب الوشيكة بين العثمانيين وبين الروس، والتي اندلعت سنة 1735، فقد كان الطرفان يتحسبان لها ويعدان عدتها، فكان من السهل نسبياً عليه أن يتوصل لاتفاق مع الروس أعادوا له بموجبه كل ما احتلوه من أراض في الحرب التي ذكرنا، فصارت حدود إيران ممتدة حتى داغستان.
وليستعيد نادر شاه ما خسره طهماسب في أرمينية وجورجية، قرر أن يهاجم العراق ويستولي عليه ليقايض به العثمانيين، فهاجم مدينة بغداد سنة 1146=1733 فتصدى له الجيش العثماني بقيادة رئيس الوزراء الصدر الأعظم طوبال عثمان باشا وهزمه هزيمة منكرة، وكأي قائد عسكري محنك، قام نادر شاه بتجميع قواته من جديد واتجه إلى الموصل فثبت أهلها ودافعوا عنها، فتركها بعد أن حاصرها، واتجه إلى كركوك وقتل سكانها ودمر منازلهم وأحرق محاصيلهم، فجاءه الوزير طوبال عثمان باشا لصده عنها، وقُتِل الوزير في المعركة ودفن في مسجد الإمام القاسم في كركوك، وكان عمره عند مقتله 70 سنة.
وكان نادر شاه يتأسى بقائدين عسكريين عظيمين غزت جيوشهما على المنطقة وسيطرا عليها في مدة وجيزة، وهما جنكيز خان وتيمور لنك، ولذا كانت  حملاته العسكرية تعتمد على الحرب النفسية والتدمير الشديد والفتك بالمدنيين لإرهابهم وإلقاء الذعر في أوساط مناوئيه، وكان تكتيكه في القتال يعتمد على القتال السريع المتحرك وخلخلة صفوف الخصم بسرعة، ثم استغلال ذلك في هزيمته هزيمة ساحقة لا تقوم له بعدها قائمة.
وحقق نادر شاه نجاحاً أفضل في القوقاز، فقد استولى على تفليس ويرَوفان، عاصمتي جورجيا وأرمينية اليوم، مستغلاً انشغال العثمانيين بالحرب التي استجدت مع روسية حول بولندة، وبسبب هذه الحرب دفعت الدولة العثمانية باتجاه الصلح، فجرت مفاوضات دامت بضعة أشهر قادها علي باشا عن الطرف العثماني وميرزا محمد عن الطرف الفارسي، وابتدأت في مدينة تفليس وانتهت باتفاق استانبول في 11 جمادى الآخرة، وينص الاتفاق على اعتراف الدولة العثمانية بنادر خان ملكا على إيران، وأن ترد الدولة العثمانية إليه الأراضي التي أخذتها في الحروب الماضية، وأن تكون حدود الدولتين كما تقرر بمعاهدة سنة 1639 المبرمة في زمن السلطان مراد الرابع، وأن تسمح الدولة العثمانية لحجاج العجم بأداء الحج. أي أن التاريخ أعاد نفسه بعد خسائر في الأرواح والأموال لا يعلمها إلا الله.
وفي سنة 1148=1736 قام نادر شاه بخلع عباس الثالث وأرسله لينضم إلى والده في  سابزوار، ثم ما لبث رضا ميرزا ابن نادر شاه في غياب والده في أفغانستان والسند أن قتل الوالد طهماسب وابنه الصغير عباس الثالث سنة 1152، والمؤلم أن رضا ميرزا كان زوج ابنة طهماسب، فلما علمت بمقتل والدها على يد زوجها، قتلت نفسها خلفه، وقبر طهماسب موجود معروف اليوم في نيسابور.
وأتاح اتفاق استانبول لنادر شاه أن يأمن جانب الدولة العثمانية، فعاد إلى طموحه التوسعي، فاتجه لغزو الهند التي كانت تحكمها الأسرة البابرية المغولية المسلمة، فهاجم لاهور ودمرها، ثم استولى على عاصمتها دلهي في سنة 1152=1739 فأمعن فيها سلباً ونهباً، ونقل كنوزها ونفائسها وكتبها إلى إيران، ومن ذلك عرش الطاووس، وهو عرش يظلله ذنبا طاووسين ألوانهما من الجواهر المختلفة، وفيه من دقائق الصنعة والأحجار الكريمة ما يشهد للصناعة والفن في ذلك العصر، وينبغي أن نذكر في هذا الصدد أن نادر شاه أنشأ المكتبات ووقف عليها الكتب النفيسة مما حصل عليه في حروبه أو اشتراه لها بخاصة.
وكان نادر شاه قد نذر إن فتح الهند أن يُذَّهِبَ قبر الحسين في النجف، فلما  نجح في غزوه لها وفى بنذره في سنة 1155 وبذل في ذلك أموالا عظيمة، قيل إن كل آجرّة طليت بمثقالين من الذهب الخالص، ولم يكن ذلك تديناً بل من باب السمعة والتودد إلى العامة، إذ لم يكن نادر شاه على علاقة طيبة مع علماء الشيعة في عصره، بل اعتبرهم مركز قوة ينبغي تفتيته، فقد كانوا هم أصحاب الأمر والنهي في الدولة الصفوية أيام ضعفها، وتصرف كثير منهم تصرف الأمراء لا العلماء، ولذا كف نادر شاه أيديهم عن الأوقاف التي كانوا يتولونها، ومنع زعماءهم أن يتلقبوا بصدر الصدور أو شيخ الإسلام، ونفى من عارضه منهم، ولقي تصرفه قبولاً لدى عامة الناس الذين كانت ثقتهم بعلمائهم قد ضعفت لما عهِدوا من العلماء الأُول من التقشف والزهد، ورأوا من هؤلاء الترف والبذخ واستدرار الأموال بشتى الوجوه، ونتج عن تضييقه عليهم أن بدء رؤساؤهم في الهجرة إلى كربلاء والنجف لتصبح مقر كثير من الحوزات العلمية الشيعية.
ومما يذكر لنادر شاه أنه أراد أن يضم الشيعة إلى الأغلبية السنية، ويوحد المسلمين من فِرقة طالما عصفت بهم، فأصدر أوامره بمنع أو تخفيف غلواء العقائد والمراسم والتصرفات الشيعية التي تسيء إلى أهل السنة، وبدأ محاولات مع الدولة العثمانية للقبول بمذهب شيعي معدَّل ليصبح المذهب الخامس في الإسلام، وأسمى هذا المذهب: الجعفري، وهو يختلف عن المذهب الجعفري المتعارف عليهم اليوم، ولاهتمامه بالأمر جعل نادر شاه ذلك أحد مطالبه في مفاوضاته فيما بعد اتفاقية استانبول، ولم يكتب لهذه المحاولة النجاح لمعارضة شيخ الإسلام في ذلك الوقت.
ويعزو بعض المؤرخين محاولته الانضواء للأغلبية السنية، لطموحه في أن يمد نفوذه لأبعد من إيران، ولأن كثيراً من قواده وحاشيته كان من أهل السنة من أفغانستان وأذربيجان، ولكن الأمر فيما يبدو نابعاً عن رغبة صادقة تتجاوز المصالح الآنية، وينبغي أن نذكر في هذا الإطار أن نادر شاه طلب في سنة 1156 من أحد علماء السنة في بغداد، وهو الشيخ أبو البركات عبد الله بن الحسين السويدي، المولود سنة 1104 والمتوفى سنة 1174، أن يأتي إليه في النجف ليناظر علماء الشيعة ويكون حكماً في خلاف شجر بينهم، وكانوا من ثلاث بلاد مختلفة: من إيران وأفغانستان وما وراء النهر، وقد دون السويدي أخبار المناظرة في رسالة أسماها الحجج القطعية لاتفاق الفرق الإسلامية.
وبقي نادر شاه يتابع توسعه فاتجه شمالاً واحتل خوارزم وأخضع بخارى، أما في جنوب إيران فبنى نادر شاه أسطولاً بحرياً في بوشهر واحتل جزيرة البحرين، ثم مسقط وطرفاً من عمان، فسيطر على مضيق باب المندب، ثم عاد فبدأ حرباً أخرى مع الدولة العثمانية في سنة 1743، لم يحقق فيها أي نجاح يذكر، وانتهت باتفاقية تؤكد ما سبقها من اتفاقات، ثم لاقى مصرعه في سنة 1160=1747 حين اغتاله في نومه بعض قواده حين ارتابوا في أنه ينوي قتلهم، ودفن في مشهد في إيران، وبموته عادت الفوضى من جديد إلى أرض فارس ودامت فيها زهاء 40 سنة حتى قامت الدولة القاجارية فيها سنة 1203=1788.


 
 

الجمعة، 11 أبريل 2014

حدث في الرابع من جمادى الآخرة

  في الرابع من جمادى الآخرة من عام 1356= 11 آب/أغسطس1937 قتل غيلة في مطار الموصل في شمال العراق الفريق بكر صدقي رئيس أركان الجيش العراقي، وقائد أول انقلاب عسكري في الدول العربية أتى بالعسكر لحكم البلاد، وأول من ساق العراق نحو الاضطراب وسفك الدماء.
ولد بكر صدقي سنة 1302=1885 لأبوين كرديين في بلدة عسكر القريبة من كركوك، وانخرط في الجيش العثماني، ودرس في بغداد ثم في الكلية العسكرية بإستانبول حيث تخرج منها برتبة ملازم ثاني وحارب في البلقان، ثم عاد وانخرط في مدرسة أركان الحرب في إستانبول، وتخرج منها سنة 1915، وشارك في الحرب العالمية الأولى في آخر سنينها.
ولما قامت الثورة العربية على الأتراك التي تزعمها الشريف حسين بن علي بالاتفاق مع بريطانية، وذلك في عام 1916، مقابل وعود بريطانية بإنشاء دولة عربية واحدة تضم بلدان المشرق، ترك صدقي الجيش العثماني و انضم إلى جيش ابنه الشريف فيصل في سورية، فأقام في حلب وخدم قرابة سنة مع القوات البريطانية كضابط استخبارات، قبل أن تنهار حكومة الملك فيصل بن الحسين في سورية أمام الاحتلال الفرنسي.
وكانت بريطانية قد احتلت العراق سنة 1335=1917، ولكنها لم تستطع إخضاعه لسلطانها، فلم تتوقف الثورة عليها فيه من طرف أو آخر، فقررت الحكومة البريطانية تأسيس حكومة عربية فيه وعقدت سنة 1921 مؤتمراً في القاهرة ترأسه ونستون تشرشل، وقرر ترشيح الملك فيصل لعرش العراق، فقبل ذلك فيصل بشرط أن يتم استفتاء يوافق فيه العراقيون على تمليكه، وأجري الاستفتاء وبناء على نتيجته الإيجابية انتقل فيصل إلى بغداد حيث نودي به ملكا للعراق آخر سنة 1339=1921، على أساس أن تكون حكومته حكومة دستورية ديمقراطية وممثلة للشعب العراقي.
وشرعت بريطانية في تشكيل جيش عراقي، وأوصت هيئة الأركان البريطانية بنقل بكر صدقي إلى هذا الجيش، فالتحق به في سنة 1921 برتبة رئيس، تعادل رتبة المقدم اليوم، وانتهز بعض الفرص لاستكمال دراساته العسكرية في مدرسة إنكليزية بالهند ثم بمدرسة الأركان الإنكليزية في كامبرلي في إنجلترة سنة 1932، وبلغ رتبة فريق في الجيش العراقي.
وأدرك الملك فيصل أن لا جدوى من السير وراء أحلام أن تفي بريطانية بوعدها في إنشاء دولة تضم البلدان العربية في المشرق، فقد كانت قد اتفقت وفرنسا على تقاسم احتلال هذه البلدان، فيمم وجهه إلى إنجاز ما يستطاع، وشهد العراق بدايات نهضة واعدة في أيامه، فقد انصرف إلى الإصلاح الداخلي، بوضع دستور للبلاد، وإنشاء مجلس للنواب، وأقام العلاقات بين العراق وبريطانيا على أسس معاهدات تعاون في إطار الممكن المفيد، وأصلح ما بين العراق وجيرانه: السعودية، وتركيا، وإيران.
وتكللت جهود الملك فيصل بأن وقعت بريطانية والعراق في سنة 1932 معاهدة تعترف باستقلال العراق، وساءت صحة الملك فيصل فسافر للاستشفاء، وتوفي في برن بسويسرة سنة 1352= 1933 عن قرابة 50 عاماً، وتلاه ابنه الشاب غازي المولود سنة 1330=1912، الذي كان قد نودي به ولياً للعهد سنة 1924، وهو كذلك خريج الكلية العسكرية في بغداد، وواجه ولي العهد الشاب في غياب والده المريض تحدياً كبيراً في التمرد الآشوري الذي قام في العراق.
ذلك أنه مع استقلال العراق قامت حركة آشورية تدعو إلى حكم ذاتي للآشوريين، ويقودها البطرك مار شمعون الثالث والعشرين، المولود سنة 1908 والذي ورث كرسي البطرك عن والده سنة 1919، وذلك تحقيقاً لما وعد به البريطانيون الآشوريين مقابل حربهم معهم في خضم الحرب العالمية الأولى، وقام بكر صدقي بقمع التمرد دون رحمة أو هوادة، فاكتسب سمعة قوية لدى الرأي العام العراقي الذي اعتبر مطالب الآشوريين تمهيداً لتمزيق أوصال العراق إلى كيانات عرقية ودينية.
وكان البريطانيون بعد احتلالهم العراق قد شكلوا قوة مرتزقة من متطوعين آشوريين عراقيين أو من الذين هجَّرتهم تركية، وأسموها الليفي العراقي Iraq Levies، ويدعى كذلك اللواء الآشوري، وكانت قوة يقودها ضباط بريطانيون وتتميز بالقوة والكفاءة، سلطها المحتل البريطاني على حركات التمرد العربية والكردية التي قامت في العراق بعد الاحتلال البريطاني، وخدمت البريطانيين إذ مكنتهم من الحفاظ على أمنهم في العراق إن لم يكن من الاحتفاظ بالعراق.
وحاول البطرك مار شمعون حشد التأييد الدولي لهذه الحركة، فعرض مطالبها على عصبة الأمم سنة 1932، ولما لم يلق التجاوب المأمول تحولت خطته إلى أن يستقيل أتباعه من اللواء الآشوري، ويتحولوا إلى ميليشيا تتمركز في منطقة العمادية ذات الأغلبية الآشورية في شمال العراق، وإقامة الاستقلال بقوة السلاح والمنعة في منطقتهم على أمل أن تعترف به الدوائر السياسية من باب الأمر الواقع.
وهي خطة لم يكتب لها النجاح فقد كانت بريطانية أول من عارضها، وقامت تركية بنزع سلاح من بقي من الآشوريين في مناطقها وطردتهم إلى العراق، ولذا فقد كانت تطلعات الآشوريين جعجة لا طحن وراءها، ويلوم بعض المؤرخين البطرك مار شمعون الشاب الطموح على تأجيجه لمشاعر الآشوريين بعيداً عن الواقع والممكن، وينعون عليه تدخله في الشؤون السياسية مع أن رئاسته دينية روحية لا دنيوية، ويشككون في كفاءته لإدارة الأزمة.
وفي أوائل سنة 1352=1933 دعت الحكومة العراقية، التي ترأسها رشيد عالي الكيلاني، البطرك إلى بغداد للتفاوض، ثم احتجزته لما رفض أن يعلن تخليه عن السلطات الدنيوية، ومن ثم نفته إلى قبرص، واستقر مار شمعون ومعه مقر الكنيسة الآشورية في شيكاغو ثم كاليفورنيا في أمريكة، وأدى هذا فيما بعد لأن تنشق وتقوم في العراق كنيسة آشورية وطنية.
وشعر مسلحو الآشوريين بأن لا قِبل لهم بمقاومة الجيش العراقي، بعد أن تخلت عنهم بريطانية، وفي منتصف سنة 1933 وقام  مالك ياقو أحد زعماء الآشوريين باللجوء مع قرابة 1000 من مقاتليه إلى سورية، آملاً في إقناع حكومة الاحتلال الفرنسي المسيحي أن تسمح لهم بإقامة حكم ذاتي في الأراضي الخاضعة تحت سيطرتها شرقي سوريا، ولكن السلطات الفرنسية رفضت حتى إيواءهم، ونزعت بعض سلاحهم ثم أعادتهم إلى العراق بعد أسبوعين، وأخطرت الجيش العراقي بذلك، وفي أثناء قيام الجنود العراقيين بتفتيش هؤلاء ونزع سلاحهم انطلقت رصاصات لا يعرف من بدأ بها فاندلعت معركة انجلت عن هزيمة القوة العراقية ومقتل 33 من جنودها.
وزادت هذه الواقعة في تأجيج المشاعر الشعبية، وتصورها الرأي العام مؤامرة بريطانية للرجوع عن استقلال العراق والسيطرة عليه من جديد، فجردت الحكومة قوة ترأسها بكر صدقي الذي كان قد عاد قريباً  من دورة الأركان في بريطانية، وأرسلتها إلى شمال العراق لتمشيط جبال بيخير في شمالي الموصل وبلدة سميل في دهوك من الانفصاليين الآشوريين، فقامت هذه القوات بمهاجمة المتمردين الآشوريين والقضاء على تمردهم في 4 أيام، ولكنها كذلك هاجمت المدنيين وقتلت المئات منهم، كما شجعت بعض الأكراد والبدو واليزيديين على نهب الممتلكات الآشورية، دون مراعاة للأعراف العسكرية أو التعاليم الإسلامية.
ثم وقع تمرد آخر قام به بعض الشيعة في جنوب العراق، وقمعه كذلك بكر صدقي، فأصبح نجم الرأي العام العراقي، ورجل العراق القوي.
وكانت الاضطرابات في جنوب العراق لا تكاد تتوقف منذ الاستقلال، وكانت دوافعها غير سياسية، فتارة تكون للحصول على مخصصات مالية أكثر لمشاريع في هذه المناطق المهملة أو لوجهائها، وتارة أخرى تكون للحصول على عدد أكثر من المناصب، ولكنها وقعت ضحية بريئة لصراع الأقطاب في بغداد، فدفعت ثمناً غالياً لذلك.
واتخذ الملك غازي بعد توليه الحكم عدة سياسات أغضبت بعض المتنفذين من الشيعة، فقد أقر سياسة التجنيد الإلزامي لبناء جيش عراقي قوي يليق ببلد كالعراق بإمكانياته البشرية والمادية والطبيعية، وزاد في الإنفاق على تجهيز الجيش وتسليحه، وكذلك رفض الملك غازي سياسة المحاصصة الطائفية التي كان بعض زعماء الشيعة من خارج بغداد يرغبون أن تسير الحكومة عليها، فيزدادوا بها نفوذاً وجاهاً بين أتباعهم.
وفي سنة 1934 عين الملك الشاب  رئيساً جديداً للوزراء هو رئيس الديوان الملكي علي جودت، المولود سنة 1886، وسلك جودت سياسة تهدف إلى إحكام سيطرته على الملك الشاب واستبعاد من ينافسه على ذلك من السياسيين وعلى رأسهم ياسين الهاشمي وحكمت سليمان وبكر صدقي، وفي سبيل حكم العراق حكماً مطلقاً قام جودت بحل مجلس النواب الذي كان يقف في وجه طموحه وأجرى انتخابات جديدة جاءت بنواب موالين له.
ووجد معارضو جودت في بعض القبائل الشيعية في منطقة الفرات الأوسط أداة طيعة جاهلة يستغلونها للضغط على الحكومة في سبيل الوصول إلى أهدافهم وغاياتهم الشخصية، فحرضوها على التمرد المسلح ورفعوا سقف مطالبهم حتى وصلوا إلى إسقاط الوزارة، بحجة أن جودت يريد إسقاط الملكية وإقامة حكم دكتاتوري، وبسبب هذا التحريض اندلعت الاضطرابات في منطقة الديوانية في عيد الفطر من عام 1353= كانون الثاني/يناير 1935، ولكن الحكومة استجابت لبعض من مطالب المحتجين فعاد الهدوء، وكلف الملك ياسين الهاشمي بتشكيل وزارة جديدة كان رشيد علي الكيلاني وزير داخليتها، وكان من أول قراراته نزع سلاح القبائل المتمردة تحقيقاً لهيبة الدولة، وأثار هذا القرار تمرداً مُسلحاً في صفوف هذه القبائل وبخاصة بعد أن اعتقلت الحكومة أحد المحرضين من أتباع محمد حسين آل كاشف الغطاء، عالم الدين الشيعي في النجف.
وقامت الحكومة العراقية بإعلان الأحكام العرفية في مناطق التمرد، وقام الفريق بكر صدقي بنشر الجيش العراقي في مناطق القبائل المتمردة، وقصفها سلاح الجو العراقي بالطائرات، وفي غضون بضعة أسابيع قضى بكر صدقي على تمرد القبائل الشيعية، ثم ما مضت بضعة شهور حتى أطلت الفتنة برأسها من جديد، وقتل في أحداثها 90 جندياً كما أسقطت طائرتان لسلاح الجو العراقي، فعاد بكر صدقي ونشر الجيش العراقي في منطقة الاضطرابات، وعقد المحاكم العرفية، وبدأ في تنفيذ أحكامها الصارمة من شنق في الساحات العامة، ومصادرة أملاك وسجن، فخمدت الفتنة بعد أن راح ضحية رخيصة لها عدد من العراقيين عسكريين وأهالي، وارتفع نجم بكر صدقي أكثر فأكثر.
وكان الملك الشاب غازي بن فيصل بن الحسين، المولود سنة 1912، يشعر بأن رئيس وزرائه ياسين الهاشمي، المولود سنة 1882،  ينظر إليه نظرته إلى ابن صغير له، يحوطه برعايته ويكبح جماحه، فتملل بهذه الوصاية وتاقت نفسه إلى الانطلاق، ولم يكن هذا خافياً على رجال الحكومة ومنهم الفريق بكر صدقي، فوجد في هذا التململ طريقه إلى تحقيق طموحه ليصبح رجل العراق الأول.
وكانت شعبية وزارة ياسين الهاشمي قد تدنت، واشتد الصراع بينه وبين والمعارضة التي عملت جاهدة لإسقاط وزارته، وكان قطب هذه المعارضة حكمت سليمان وزير المالية الأسبق، وكان صديقاً لبكر صدقي فاتفقا على إسقاط وزارة الهاشمي ولو بقوة انقلاب عسكري.
وبدأ بكر صدقي من موقعه كقائد للفرقة العسكرية الثانية في تجميع الأعوان من داخل الجيش، وانضم إليه الفريق عبد اللطيف نوري قائد الفرقة الأولى، والعقيد محمد علي جواد قائد القوة الجوية، والطيار الخاص للملك، وأحكموا أمورهم بكتمان شديد فخفي على الاستخبارات العسكرية أمرهم، وباتوا ينتظرون الظروف المواتية للقيام بانقلابهم، وكانت مناورات الخريف السنوية التي يجريها الجيش عام 1936 فرصة مناسبة، وساعدت الظروف الانقلابيين، فقد سافر بمهمة إلى خارج العراق الفريق طه الهاشمي رئيس أركان الجيش وشقيقُ ياسين الهاشمي رئيس الوزراء، وأناب عنه الفريق عبد اللطيف نوري، فصار الجيش عملياً في قبضة المتآمرين، وهكذا تم الانقلاب في 13 شعبان  1355=29 تشرين الأول/أكتوبر 1936.
في الساعة 8:30 من صباح ذلك اليوم حلقت في سماء بغداد 3 طائرات حربية يقودها العقيد محمد علي جواد وألقت ألوف المنشورات التي احتوت على البيان الأول للانقلاب، ومما جاء فيه:
أيها الشعب العراقي الكريم
لقد نفذ صبر الجيش المؤلف من أبنائكم من الحالة التي تعانونها من جراء اهتمام الحكومة الحاضرة بمصالحها وغاياتها الشخصية دون أن تكترث لمصالحكم ورفاهكم، فطلبنا إلى صاحب الجلالة الملك المعظم إقالة الوزارة القائمة، وتأليف وزارة من أبناء الشعب المخلصين برئاسة السيد حكمت سليمان الذي طالما لهجت البلاد بذكره الحسن، ومواقفه المشرفة، وبما أنه ليس لنا قصد في هذا الطلب إلا تحقيق رفاهكم، وتعزيز كيان بلادكم، فلا شك في أنكم تعاضدون إخوانكم أفراد الجيش ورؤسائه في ذلك، وتؤيدونه بكل ما أوتيتم من قوة، وقوة الشعب هي القوة المعول عليها في الملمات .
وأنتم أيها الموظفون، لسنا إلا إخوان وزملاء لكم في خدمة الدولة التي نصبو كلنا إلى جعلها دولة ساهرة على مصلحة البلاد وأهلها، عاملة على خدمة شعبكم قبل كل شيء، فلابد وأنكم ستقومون بما يفرضه عليكم الواجب الذي من أجله لجأنا إلى تقديم طلبنا إلى جلالة ملكنا المفدى لإنقاذ البلاد مما هو فيه، فتقاطعون الحكومة الجائرة، وتتركون دواوينها، ريثما تؤلف الحكومة التي ستفخرون بخدمتها، إذ ربما يضطر الجيش، بكل أسف، لاتخاذ تدابير فعالة لا يمكن خلالها اجتناب الأضرار بمن لا يلبي هذه الدعوة المخلصة مادياً وأدبياً .
بكر صدقي العسكري، قائد القوة الوطنية الإصلاحية.
في الوقت الذي كانت الطائرات تلقي بيان الانقلاب، استقل حكمت سليمان سيارته وتوجه نحو القصر الملكي حيث سلم رئيس الديوان الملكي رستم حيدر  المذكرة التي وقعها الفريقان بكر صدقي وعبد اللطيف نوري، والتي حددا فيها مهلة 3 ساعات للملك غازي لإقالة وزارة ياسين باشا الهاشمي.
وكان الفريق جعفر باشا العسكري، المولود سنة 1302=1855، وزير الدفاع في وزارة الهاشمي، وهو عسكري عثماني عراقي مخضرم، وسياسي عريق، وحقوقي خبير، تولى وزارة الدفاع في أول حكومة وطنية في العراق، ثم صار رئيس وزرائه، وحاول العسكري مُدِلاًّ بأسبقيته وسابقته أن يثني بكر صدقي عن انقلابه، فاتصل به وأبلغه أنه آت لمقابلته في مقره في بعقوبة وأنه يحمل رسالة من الملك غازي، فاهتبلها بكر صدقي فرصة للتخلص من جعفر العسكري، فهو  صهر نوري السعيد أحد أعمدة السياسة في العراق، ووزير الخارجية آنذاك، والمقرب من الإنكليز، فأرسل إليه بضعة ضباط اعترضوه وأنزلوه من سيارته وقتلوه، وينقل الأستاذ الزركلي في الأعلام  أن مجلة بريطانية العظمى والشرق قالت عن مقتله: إن الرجل الذي عجز الإنكليز والأتراك عن قتله في الحرب الكبرى مات مقتولا بأيد عربية!
ولم يكن أمام الملك غازي سوى أن يكلف حكمت سليمان بتشكيل وزارة جديدة، فصدرت الإرادة الملكية بتشكيلها في الساعة السادسة مساءً، وتولى بكر صدقي منصب رئيس أركان الجيش بدلاً من طه الهاشمي الذي أحيل على التقاعد، وقام مؤيدو الانقلاب بمظاهرات تأييد له، كان على رأسها محمد صالح القزاز وهو من الشيوعيين المعروفين، والشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري، وطالبت بإصدار العفو العام عن المسجونين السياسيين وإطلاق حرية الصحافة وحرية التنظيم الحزبي والنقابي، وإزالة آثار الماضي والعمل على رفع مستوى معيشة الشعب وضمان حقوقه وحرياته وتقوية الجيش ليكون حارساً أميناً لاستقلال البلاد، ولم تقتصر المظاهرات على العاصمة فقط، بل امتدت إلى سائر المدن الأخرى.
وخوفاً من أن يلقى نفس المصير هرب نوري السعيد من العراق، بمساعدة من السفارة البريطانية فيما يقال، وأوعز حكمت سليمان لياسين الهاشمي ورشيد عالي الكيلاني بالخروج من العراق ففعلا ذلك، ولولاه كانا في عداد المقتولين، ولم يطل العمر بياسين حلمي بن السيد سلمان الهاشمي، فقد أدركته المنية في منفاه بلبنان سنة 1937 ودفن في دمشق، وخسر العراق أحد أعظم ساسته في العصر الحديث، يقول عنه الأستاذ الزركلي في الأعلام: ألّف أول حزب سياسي في العراق، وانتخب عضوا في المجلس التأسيسي عن بغداد، وتقلد رئاسة الوزارة مرتين، وضع في أولاهما قانون الانتخاب وجمع أول مجلس للأمة، وفي الثانية نفذ قانون التجنيد الإجباري، وزود الجيش بثلاثة أسراب من الطيارات، وأنشأ معملاً لصنع الذخيرة، وباشر بإنشاء معامل لصنع البنادق والرشاشات وعتاد المدافع، ووضع اتفاقية الحلف العربي مع المملكة العربية السعودية واليمن، وأحكم الصلات مع مصر... كان واسع أفق التفكير، هادئ الطبع، قليل الكلام، حازما، مسموع القول في بلاد الشام والعراق وسواهما، وكان وهو في المعارضة حكيما كحكمته وهو في مقعد الحكم.
وبعد الانقلاب تمت لبكر صدقي السيطرة على مقدرات البلاد، وأصبح الحاكم الفعلي للعراق، فاتخذ أتاتورك قدوة في البطش والتنكيل، وكان يشبهه في التهتك والاستهتار، وأحاط نفسه بمئات من الماجنين العابثين الذين كانوا يصولون ويجولون في الملاهي ويعبثون بأعراض الناس ويرهبون النساء والأطفال، وكل ذلك بعلم سيدهم وموافقته، فقد أطلق يد هذه الطغمة في أعراض الناس وأموالهم مقابل أن تتعقب الأعداء والمعارضين والتجسس عليهم، بل وأن تقضي على الخطرين منهم.
ثم أجرى بكر صدقي انتخابات برلمانية في آخر سنة 1355= أول سنة 1937، رتب فيها قوائم المرشحين من المؤيدين له، وجاءت النتيجة كما أراد، وأصبح يمتلك ظهيراً قانونياً لبقائه سيد الموقف من دون منازع، ولكن ذلك ما كان ليتم في هدوء ويسر في بلد مثل العراق، فبعد شهرين من الانتخابات قامت في صفر 1356 حركة عصيان في لواء الديوانية، وبعده بشهرين ثارت قبائل السماوة، وقمع بكر صدقي الثورتين بالشدة التي رأيناها من قبل، ولكن بعض الوزراء ممن كانوا مع حكمت سليمان كره أن تكون عليهم التبعات وفي أيدي العسكريين مقاليد الحكم، فاستقال أربعة منهم مستنكرين إهراق الدماء في البلاد والسير بها نحو الهاوية، ولم يلق بكر صدقي صعوبة في أن يجد غيرهم من الطامعين النفعيين.
ورغم تشكك عدد من المؤرخين فإن الأرجح أنه لم تكن لبريطانية يد في انقلاب بكر صدقي، فقد كانت تريد أن تكون في العراق حكومة مدنية صديقة مستقرة تحظى بتأييد أغلب السكان، وذلك لتأمين مصالحها الاقتصادية في العراق وبخاصة النفط الذي كانت المصالح البريطانية، ممثلة في شركة أسميت شركة النفط التركية، تحتكر استخراجه، ولم تكن علاقات بكر صدقي مع بريطانية جيدة، وبخاصة عندما أفقدته تصرفاته الدموية التأييد الشعبي الذي أحرزه في البداية، ولذا اتجه بكر صدقي لتحسين علاقاته مع حكومة أتاتورك في تركية ومع ألمانية الهتلرية التي كانت في إبان عنفوانها، ووجهت له الحكومة التركية الدعوة لحضور المناورات العسكرية التركية المقرر القيام بها في 18 آب 1937، فقرر تلبية الدعوة، وأن يزور ألمانية بعد تركية، تلبية لدعوة من الحكومة الألمانية التي كانت شديدة الاهتمام بالعراق، نكاية ببريطانيا، ورعاية لمصالحها الاقتصادية والصناعية في دولة بدأت تجنى ثمرات النفط وأمواله.
وغادر بكر صدقي بغداد في 9 آب بالطائرة واصطحب معه العقيد محمد علي جواد قائد القوة الجوية، وحطت طائرتهما في الموصل في طريقها إلى أنقرة، وفي يوم 4 جمادى الآخرة 1356 الموافق 11 آب/أغسطس كان جالساً في مطار الموصل مع العقيد محمد علي جواد والمقدم الطيار موسى علي يتجاذبون أطراف الحديث، تقدم نحوهم نائب العريف عبد الله إبراهيم التلعفري، وهو من أكراد الموصل، ليقدم لهم المرطبات، وكان يخبئ مسدسا تحت ملابسه، فصب على رأسه رصاصه فقتل في الحال، ثم قتل محمد علي جواد قائد القوة الجوية، وألقي القبض على القاتل ولم يعرف بالضبط إن كانت العملية من تدبير صغار الضباط أم كبارهم، ونقل جثمان صدقي ورفيقه بالطائرة إلى بغداد، حيث شيع إلى مثواه الأخير تشييعاً رسمياً، وسار في مقدمته الوزراء وكبار الضباط والأعيان والنواب والسفراء، واستقال حكمت سليمان بعد ذلك بأسبوع، وعاش حتى توفي، عن 75 سنة، في بغداد سنة 1384= 1964.
بعد حادثة اغتيال بكر صدقي  بأسبوعين كتب الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني في مجلة الرسالة مقالة بعنوان: حوادث العراق وذيول الانقلاب العسكري، قال فيها:
كان في العراق ما خفنا أن يكون، وجاءت الأنباء بأن بكر صدقي باشا رئيس أركان الحرب في الجيش بوغت في مطار البصرة وهو يتهيأ للسفر إلى تركيا برصاصات أطلقها عليه جندي، وهمَّ قائد القوة الجوية بأن يدفع عن صديقه فلحق به، ولقي حتفه مثله، فحملت الجثتان في طيارة إلى بغداد حيث دفنتا، وأبى الجندي الذي اغتالهما أن يفضي بشيء عن بواعثه على هذه الجريمة؛ وأرجحُ الآراء أن الاغتيال سياسي، وأنه إحدى نتائج الانقلاب العسكري الذي قام به المرحوم بكر صدقي باشا في العام الماضي، والذي عصف بالوزارة الهاشمية وشرد رجالها، والذي كان من ضحاياه المرحوم جعفر باشا العسكري وزير الدفاع يومئذ.
وفي الأنباء الواردة عن الحادث الجديد أن الجندي الذي أردى بكر صدقي كان يصيح وهو يفرغ رصاصته في صدره: يا لثارات جعفر! وسواء أصح هذا أم لم يصح، وكان الرجل قد أطلق هذه الصيحة أو لم يطلقها، فإن المحقق أن الأمر أمر انتقام، وأنه بعض رد الفعل لذلك الانقلاب العسكري المفاجئ الذي أحدثه بكر صدقي، فقد كان للوزارة الهاشمية أنصارها ولرجالها شيعتهم، وللعهد الجديد خصومه؛ وبعيد أن يكون الجيش كله - بأجمعه - قد رضي عما وقع، وارتاح إلى التدخل لقلب وزارة وإقامة أخرى، وسره أن يغتال جعفر العسكري ويدفن حيث لا يدري أحد، وأن يكون قتلته معروفين ولا يسألون عما اجترحوا؛ وغير معقول أن يكون الشعب العراقي قاطبة حامداً شاكراً، قانعاً، راضياً مطمئناً، فإن هذا مطلب عسير، وغاية لا تنال؛ ومتى بدأت تجيز لنفسك أن تقتل، وأن تستخدم القوة بعد إحكام التدبير في الخفاء، في تحقيق مآربك - كائنة ما كانت - فقد أجزت هذا لسواك، وأغريتهم بأن يحتذوا مثالك ويقتاسوا بك؛ ومتى أمكن أن يأتمر جانب من الجيش بوزارة، فإن من الممكن أن يأتمر جانب آخر منه بوزارة غيرها، لأن الأصل - والواجب - أن يبقى الجيش بمعزل عن السياسة والأحزاب والوزارات، وألا يعرف إلا وطناً يدافع عنه ويذود عن حقيقته حين يدعى إلى ذلك، فإذا زججت به مرة واحدة في السياسة، فقد أغرقته في لجها المضطرب إلى ما شاء الله؛ وعزيز بعد ذلك أن تصرفه عنها وأن ترده إلى الواجب الذي لا ينبغي أن يعرف سواه.
وهذا هو الذي خفناه وأشفقنا على العراق منه يوم حدث الانقلاب العسكري في العام الماضي، وإنا لنعرف للوزراء الحاليين كزملائهم السابقين وطنية وغيرة وإخلاصاً، ولم يكن جزعنا لأن وزارة معينة ذهبت وأخرى جاءت، فما نفرق - ولا ينبغي لنا أن نفرق - بين أحد منهم، وإنما خفنا على العراق عاقبة اتخاذ الجيش أداة لإسقاط حكومة وإقامة أخرى، فإن الحكم ليس من شأن الجيش بل من شأن الساسة والنواب والأمة، وكل دولة تحرص على إقصاء الجيش عن كل ما له صلة بالسياسة ودسائسها ومكايدها ومناوراتها وخصوماتها، اتقاء لما يفضي إليه اشتغاله بذلك من الشقاق وتفرق الكلمة وتوزع الولاء والمؤامرات والفتن والهزاهز.
وقد صح ما توقعناه مع الأسف وخسرت العراق اثنين من رجال الحرب مشهورين بالاقتدار والحزم، وقد وكان المرحوم ياسين باشا الهاشمي يُكْبِر المرحوم بكر صدقي باشا ويوقره ويعرف له قدره، ولكن بكر صدقي أخطأ مع الأسف، فجرَّ الجيش إلى ميدان كله شر وفساد، وكان هو الضحية الأولى لخطئه.
ولا نعرف ماذا انتوت حكومة العراق أن تصنع، ولكنا نرجو ألا تجمح مع أول المخاطر؛ ولا شك أن التحقيق واجب، وأن عقاب الجاني فرض؛ غير أن الأمر يحتاج إلى الاعتدال والحكمة وبعد النظر أكثر مما يحتاج إلى البطش والتنكيل، ولا خير في مثل ما جاء في بعض الأنباء من أن الوزارة العراقية تريد أن تشتت شمل أنصار العهد السابق جميعاً، فإن أنصار الحكم السابق لا ينقصهم التشتيت، وكل ما يؤدي إليه ذلك هو تعميق الهوة وإيغار الصدور، وإغراء النفوس بالانتقام وأخذ الثأر، والعراق اليوم أحوج ما يكون إلى الصفاء والسكينة ليتيسر له أن يستأنف النهضة التي صدها الانقلاب العسكري، أو جعلها على الأقل أبطأ وأقصر خطوات مما كان يرجى أن تكون، وليتسنى له أن يؤدي واجبه للقضية العربية التي عنيت بها وزارة السيد حكمت سليمان عناية مشكورة، ولا سبيل إلى شيء من ذاك إلا بعد أن يستقر الأمر على حدود مرضية، في الظاهر والباطن أيضاً، لتخلو النفوس من دواعي النقمة، وتتصافق الأيدي على العمل المشترك لخدمة الأمة، ولا يكون هذا إلا بالتفاهم والتراضي والتعاون، لا بالبطش والتنكيل، وقد جربت الوزارة السليمانية القوة والتشتيت، ولسنا نراهما أجديا عليه فتيلاً. نعم كانت البلاد ساكنة، ولكنه سكون ظهر الآن أنه يستر شراً عظيماً، ومتى آثرتَ الضغط والحجْر، فقد ألجأت الناس بكُرههم إلى العمل في الخفاء والتدبير في السر، والنفاق في الجهر، ولسنا نعرف أن اجتناب الاعتدال أثمر غير هذا.
ومن سوء الحظ أن بلادنا فقيرة في الرجال، فكل من تفقد، خسارة لا تعوض. وفق الله العراق ورجاله، وسدد خطاهم وألهمهم الحكمة والرشاد.
ومازلنا؛ تاريخنا يعيد نفسه!

 


 

 

الجمعة، 4 أبريل 2014

حدث في الأول من جمادى الآخرة


في مستهل جمادى الآخرة من السنة الثالثة للهجرة، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم مولاه زيد بن حارثة على رأس سرية من 100 فارس، ليعترض قافلة لقريش خرجت إلى الشام، فلحق بهم على ماء تدعى القَرَدة، موضع من أرض نجد بين الرَبَذة والغمرة، واستولى على الأموال، ونجا منه كبار القوم، وتسمى هذه السرية سرية القَرَدة.
أما تحديد موقع هذه السرية، فقال الباحث المقدم عاتق بن غيث البلادي في كتابه المعالم الجغرافية الواردة في السيرة النبوية: واختلف المتقدمون في ضبط القَرَدة، فقيل: القِرْدة. وقيل: القَرْدة. وأجمعوا على أنه ماء بنجد أو بين المدينة والشام مما يلي نجدا، وهذا الماء على طريقٍ تمرُّ من مكة إلى الشام جاعلة المدينة يسارها، وهذا يعني أنه في المنطقة الواقعة شمال شرقي المدينة، لأن مياه هذا الطريق معروفة حتى يصل إلى نخل، ثم تفترق الطرق، ويبدو أن هذه هي الطريق التي تجعل خيبر يسارها أيضا وتمر بسَلاح المعروفة اليوم بالعِشاش، على مرحلة شمال خيبر.
وكانت قريش بعد هزيمتها في بدر في رمضان من السنة المنصرمة، تخاف أن تسلك قوافل تجارتها طريق الشام المعتادة لقربها من المدينة، وهي الطريق التي تسير شمالاً موازية لساحل البحر الأحمر، ولأنه كان من المؤكد أن رسول الله سيتعرض لها ويستولي عليها، فقد بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في تضييق موارد قريش المالية التي تساعدها على الحشد والاعتداء، وكان أهم تلك الموارد تجارتها مع بلاد الشام، ونجحت خطة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتضررت قريش ومواردها المالية تضرراً بالغاً، فقد كانت تعيش من كون مكة المكرمة مركزاً للتجارة الوسيطة بين الشام وبين اليمن والحبشة، وكانت لها رحلات تجارية منتظمة إلى الشمال في الصيف وإلى الجنوب في الشتاء، وهي التي امتن الله عليهم بها في سورة قريش بقوله: ﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ.
وبحثت قريش عن بدائل أخرى لتعود تجارتها إلى سالف عهدها، وعقدت مجلساً ضم أثرياءها وأشرافها لمناقشة الأزمة التي بدأت تحيط بها، فقال أحد أثرى أثريائها؛ صفوان بن أمية بن خلف الجمحي: إن محمدا وأصحابه قد عوّروا علينا متجرنا، فما ندري كيف نصنع بأصحابه؛ لا يبرحون الساحل، وأهل الساحل قد وادعوهم ودخل عامتهم معه، فما ندري أين نسلك؟! وإن أقمنا نأكل رؤوس أموالنا، ونحن في دارنا هذه ما لنا بها نفاق، إنما نزلناها على التجارة إلى الشام في الصيف وفي الشتاء إلى أرض الحبشة.
وكان المجلس يضم أحد رؤوس الكفر في قريش ومن المستهزئين المذكورين؛ الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العُزى بن قصي، وكان قد قُتل له أولاد ثلاثة في موقعة بدر، فقال الأسود لصفوان: فنكِّب عن الساحل، وخذ طريق العراق. قال صفوان: لست بها عارفا. قال أبو زمعة: فأنا أدلك على أخبرِ دليل بها يسلكها، وهو مغمض العين، إن شاء الله. قال: من هو؟ قال: فرات بن حيان العجلي، من بكر بن وائل، قد دوخها وسلكها. قال صفوان: فذلك والله.
فأرسل إلى فرات فجاءه فقال: إني أريد الشام وقد عور علينا محمد متجرنا، لأن طريق قوافلنا عليه، فأردتُ طريق العراق. قال فرات: فأنا أسلك بك في طريق العراق، ليس يطؤها أحد من أصحاب محمد - إنما هي أرض نجد وفياف. قال صفوان: فهذه حاجتي، أما الفيافي فنحن شاتون، وحاجتنا إلى الماء اليوم قليل.
فاستأجره صفوان ليكون دليلهم في الرحلة، وتجهز صفوان بن أمية، وأرسل معه أبو زمعة بثلاثمئة مثقال ذهب ونُقْر فضة، أي فضة مذابة، وبعث معه رجالا من قريش ببضائع وخرج معه عبد الله بن أبي ربيعة وحُويطب بن عبد العُزى في رجال من قريش، وخرج صفوان بمال كثير، نقر فضة وآنية فضة وزن ثلاثين ألف درهم، وخرجوا على طريق العراق باتجاه ذات عِرق.
وقدم المدينة نعيم بن مسعود الأشجعي، وهو على دين قومه لم يسلم بعد، وكان يأتي بني النضير ويصيب من شرابهم، وذلك قبل أن تُحرَّم الخمر، فنزل على كنانة بن أبي الحقيق في بني النضير فشرب معه وشرب معه سليط بن النعمان بن أسلم، فتحدث نعيم بن مسعود بقضية العير وخروج صفوان بن أمية فيها وما معه من الأموال، فخرج سليط بن النعمان من ساعته فأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر القافلة.
فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم مولاه زيد بن حارثة في مائة راكب فاعترضوا لها فأصابوا العير، وأفلت أعيان القوم وأسروا رجلا أو رجلين، وقدموا بالعير على النبي صلى الله عليه وسلم فخمَّسها، فكان الخُمس يومئذ قيمة عشرين ألف درهم، وقسَّم ما بقي على أهل السرية.
وكان في الأسرى دليل قريش فرات بن حيان، فأتي به المدينة، وكان الناس أحنق شيء عليه، لأنه كان نذير قريش إلى قافلة أبي سفيان في غزوة بدر، ثم شارك في القتال فجُرح وأُسر، ثم أُفلت على قدميه هارباً، وكان بين فرات بن حيان وبين أبي بكر رضي الله عنه علاقة طيبة، فقال له أبو بكر: أما آن لك أن تقصر؟ قال: إن أفلت من محمد هذه المرة لم أفلت أبدا. فقال له أبو بكر رضي الله عنه: فأسلِم. فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم، فأطلق سراحه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال شاعر الرسول حسان بن ثابت رضي الله عنه يتهكم على قريش:
دعوا فَلَجات الشام قد حال دونها... جَلادٌ كأفواه الـمَخَاض الأوارِكِ
بأيدي رجال هاجروا نحو ربهم... وأنصارِه حقاً وأيدي الملائك
إذا سلَكتْ للغَور من بطن عالج... فقولا لها ليس الطريق هنالك
فإن نلق في تطوافنا والتِماسِنا... فرات بن حيَّانٍ يكن رَهنَ هالك
وإن تلق قيس بن امرئ القيس بعده... يُزَد في سوادٍ لونُه لونُ حالك
فأبلغ أبا سفيان عني رسالة... فإنك من غُرِّ الرجال الصَّعالِكِ
والفلجات جمع فَلَج وهي العين الجارية، والمخاض الأوارك النوق الحاملة لتي أكلت شجر الأَرَاك فدميت أفواهها.
ويقال إن فرات بن حيان أجابه يتهمه بالنُوك وهو الحمق:
أبوك أبو سوء وخالك مثله ... ولستَ بخير من أبيك وخالكا
يصيب وما يدري، ويخطي وما درى ... وكيف يكون النَوك إلا كذالكا
وكانت هذه أول سرية يجعل فيها رسول الله زيد بن حارثة أميرها، وسيرسله في 6 سرايا أُخر، آخرها غزوة مؤتة في السنة الثامنة من الهجرة حيث سيستشهد فيها.
وزيد بن حارثة بن شراحيل الكعبي صحابي تبناه الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يحرّم التبني، وكان يدعى من قبل زيد بن محمد، وكان قد استُرِقَّ وهو غلام يافع في غارة على قبيلة أهل أمه في طيء ، وبيع في سوق عكاظ، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة رضي الله عنها بأربعمئة درهم، فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهبته له. وكان أبوه حارثة بن شراحيل قد حزن كثيراً لفقده وأخذ يبحث عنه في أحياء العرب، وقال حين فقده:
بكيت على زيد ولم أدر ما فعل ... أحيٌّ فيُرجى أم أتى دونه الأجل
فو الله ما أدري وإن كنت سائلا ... أغالك سهلُ الأرض أم غالك الجبل
فحج ناس من كلب فرأوا زيداً فعرفهم وعرفوه، فانطلقوا فأعلموا أباه ووصفوا له موضعه، فخرج حارثة وكعب أخوه بفدائه، فقدما مكة فسألا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل: هو في المسجد، فدخلا عليه فقالا: يا ابن عبد المطلب، يا ابن سيد قومه، أنتم أهل حرم الله، تفكون العاني، وتطعمون الأسير، جئناك في ولدنا عبدك، فامنن علينا، وأحسن في فدائه، فإنا سنرفع لك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ قالوا: زيد بن حارثة، فقال: أو غير ذلك؟ ادُعوه فخيِّروه، فإن اختاركم فهو لكم بغير فداء، وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني فداء. قالوا: زدتنا على النِصف. أي أنصفت وزيادة.
فدعاه فقال: هل تعرف هؤلاء؟ قال: نعم هذا أبي وهذا عمي، قال: فأنا من قد علمت، وقد رأيت صحبتي لك، فاخترني أو اخترهما. فقال زيد: ما أنا بالذي أختار عليك أحداً، أنت مني بمكان الأب والعم. فقالا: ويحك يا زيد أتختار العبودية على الحرية؟! وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك؟ قال: نعم إني قد رأيت من هذا الرجل شيئاً ما أنا بالذي أختار عليه أحداً. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أخرجه إلى الحِجر فقال: اشهدوا أن زيداً ابني؛ يرثني وأرثه. فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت أنفسهما وانصرفا، فكان يدعى زيد بن محمد، حتى نزلت السورة من آية الأحزاب ﴿ ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هو أَقْسَطُ عِنْدَ الله فصار يقال له من جديد زيد بن حارثة ونُسِب كل رجل من قريش إلى أبيه.
ولما دعا رسول الله إلى الإسلام كان زيد من أوائل من أسلم، وفي رواية أول من أسلم، وهاجر إلى المدينة، وشهد بدراً وما بعدها من الغزوات، واستخلفه الرسول على المدينة مرتين، ثم أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم في السنة الثامنة للهجرة لمواجهة الروم أميراً على 6000 من المسلمين، فاستشهد في غزوة مؤتة وهو ابن 50 سنة أو نحوها، إذ كان أصغر من الرسول بعشر سنين.
وكان زيد حبيباً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له: أنت مولاي مني وإلى، وأحب الناس إلي. ولم يذكر أحدٌ من الصحابة في القرآن باسمه إلا هو، وآخى الرسول بينه وبين حمزة بن عبد المطلب وبينه وبين أُسيد بن حضير الأنصاري رضوان الله عليهم أجمعين، ولما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة بعد عمرة القضاء، تبعتهم ابنة حمزة تنادي: يا عم يا عم. فتناولها علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأخذ بيدها، وقال لفاطمة عليها السلام: دونك ابنة عمك حملتها، فاختصم فيها عماها علي وجعفر وزيد بن حارثة، فقال علي: أنا أحق بها، وهي ابنة عمي. وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها تحتي، وقال زيد: ابنة أخي. فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها، وقال الخالة: بمنزلة الأم، وقال لعلي: أنت مني وأنا منك، وقال لجعفر: أشبهت خَلقي وخُلُقي وقال لزيد: أنت أخونا ومولانا.
وزوّج رسولُ الله زيداً مولاته وحاضنته أمَ أيمن فولدت له أسامة بن زيد، ثم زوجه زينب بنت جحش ابنة عمته أميمة بنت عبد المطلب، ولما طلق زينب زوَّجه الرسول أم كلثوم بنت عقبة أخت عثمان بن عفان لأمه، وذلك أنها هاجرت إلى المدينة بعد صلح الحديبية، وخطبها الزبير بن العوام، وزيد بن حارثة، وعبد الرحمن بن عوف، وعمرو بن العاص، فاستشارت أخاها لأمها عثمان بن عفان، فأشار عليها أن تأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فأتته، فأشار عليها بزيد بن حارثة، فتزوجته، ثم طلقها زيد وتزوج درة بنت أبي لهب بن عبد المطلب، ثم طلقها وتزوج هند بن العوام أخت الزبير.
وأما قائد قافلة قريش صفوان بن أمية بن خلف، فوالده أمية بن خلف صاحب بلال ومن صب عليه العذاب حتى يكفر، وقتله بلال في غزوة بدر، وكان صفوان من زعماء قريش في غزوة أحد، ولما رأى الرسول ما فعلوه من تمثيل بالقتلى دعا عليه وعلى أمثاله من زعماء قريش وقال: اللهم العن أبا سفيان! اللهم العن الحارث بن هشام! اللهم العن صفوان بن أمية! فأنزل الله قوله في سورة آل عمران: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ فأسلموا، وحسن إسلامهم.
وكان صفوان متزوجاً من عاتكة أخت خالد بن الوليد، فأسلمت يوم فتح مكة، وهرب نحو البحر ليركب إلى اليمن، فجاء ابن عمه عمير بن وهب بن خلف الجمحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله أن يؤمنه، وقال: إن صفوان بن أمية سيد قومي قد خرج هارباً منك ليقذف بنفسه في البحر ، فأمنه يا رسول الله، فإنك قد أمنت الأحمر والأسود، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدرك ابن عمك فهو آمن.  قال: يا رسول الله أعطني شيئاً يعرف به أمانك، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمامته التي دخل بها مكة، فخرج بها عمير حتى أدركه بجدة، وهو يريد أن يركب البحر فقال: يا صفوان فداك أبي وأمي! أذكرك الله في نفسك أن تهلكها، فهذا أمان رسول الله صلى الله عليه وسلم جئتك به. فقال: ويلك اغرب عني لا تكلمني، قال: فداك أبي وأمي! أفضل الناس، وأبر النّاس، وأحلم الناس، وخير الناس؛ ابن عمتك، عزُّه عزُّك، وشرفُه شرفُك، وملكه ملكك، قال: إني أخافه على نفسي، قال: هو أحلم من ذلك وأكرم. فرجع به معه إلى مكة فوقف على رسول الله وكلمه على رؤوس الناس وهو على فرسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انزل أبا وهب. فقال: لا والله لا أنزل حتى تبين لي! إن هذا يزعم أنك قد أمنتني؟ قال: صدق، قال: فاجعلني في ذلك بالخيار شهرين. قال : أنت بالخيار أربعة أشهر.
وكان ابنه يعلى وابنته بُسرة  زوجة المغيرة بن ثابت قد أسلما قبله، وبايعت ابنته رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي خالة الخليفة الأموي مروان بن الحكم وجدة الخليفة عبد الملك بن مروان. وقد أكرمه الرسول صلى الله عليه وسلم إذ ناداه، وهو مشرك،  بكنيته على عادة العرب في التبجيل.
ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هوازن بحنين، أرسل إلى صفوان بن أمية يستعيره دروعاً وسلاحا عنده، فقال صفوان: أطوعا أم كرها؟ فقال: بل طوعا؛ عارية مضمونة. فأعاره الدروع والسلاح الذي عنده، وخرج صفوان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كافر فشهد حنينا والطائف وهو كافر، وظهر منه ميل إلى معسكر الإسلام والمسلمين، ذلك إن المسلمين انهزموا أول الأمر فجعل أبو سفيان بن حرب يقول: غلبت والله هوازن، وصرخ كلدة بن الحنبل وهو مع أخيه لأمه صفوان بن أمية: ألا بطل السحر اليوم. فقال له صفوان: اسكت فض الله فاك، فوالله لأن يرُبَّني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن.
ثم نصر الله دينه والمسلمين، وهزم المشركون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجمعوا أدرع صفوان. ففقدوا من دروعه دروعا،  ورد الرسول إلى صفوان ما استعاره، وقال له: إن شئت غرمناها لك، فقال: لا، أنا أرغب في الإسلام من ذلك يا رسول الله.  وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ المؤلفة قلوبهم، ومنهم صفوان بن أمية؛ أعطاه مئة من النَعم ثم مئة ثم مئة، قال صفوان: والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إلي، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي.
وأسلم صفوان وحسن إسلامه، وقيل له: إنه من لم يهاجر هلك، ولا يدخل الجنة إلا من هاجر، فجاء ابنه يعلى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله اجعل لأبي نصيبا في الهجرة فقال: بل أبايعه على الجهاد، فقد انقضت الهجرة. فأتى يعلى إلى العباس فقال: يا أبا الفضل، ألست قد عرفت بلائي؟ قال: بلى، وما ذاك؟ قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي ليبايعه على الهجرة، فأبى. فقام العباس معه في قميص ما عليه رداء فقال: يا رسول الله أتاك يعلى بأبيه لتبايعه فلم تفعل؟! فقال: إنه لا هجرة اليوم، قال: أقسمت عليك يا رسول الله لتبايعنه، فمد رسول الله يده فقال: قد أبررت عمي ولا هجرة. وقال صفوان بن أمية: يا رسول الله إنهم يقولون إن الجنة لا يدخلها إلا من هاجر، قال: لا هجرة بعد فتح مكة، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا.
ورغم أن صفوان بقي على الشرك، فلم يفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين امرأته عاتكة، وامرأته آمنة بنت أبي سفيان التي أسلمت كذلك، وبين إسلامهما وإسلامه شهرين أو ثلاث، وكان لديه 6 أو  8 زوجات، فلما أسلم أمره رسول الله أن يمسك أربعاً ويطلق الباقيات.
وبقي صفوان بن أمية على ثرائه في قريش، ففي أيام عمر اشترى منه داراً بأربعة آلاف دينار، وتوفي رضي الله عنه في سنة 35  أيام مقتل عثمان رضي الله عنه، وبينما كان ابنه عبد الله بن صفوان يدفن أباه أتاه راكب، فقال: قُتِل أمير المؤمنين عثمان بن عفان، فقال: والله، ما أدري أي المصيبتين أعظم: موت أبي، أم قتل عثمان؟
أما دليل قريش فرات بن حيان، فحسُنَ إسلامه، وفَقِهَ في الدين، وصار مقرباً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما فتح الله على رسوله خيبر وأعطى المؤلفةَ قلوبهم، لم يعطه رسول الله إكراماً له لا استخفافاً به، ومنحه أفضل عطية عندما قال فيه: إن منكم رجالاً لا أعطيهم شيئاً أكِلُهم إلى إيمانهم، منهم فرات بن حيان. وأعطاه فيما بعد أرضاً باليمامة، وقد روى عن رسول الله بضعة أحاديث منها سؤاله للرسول عن حلف كان في الجاهلية على نصرة المظلوم وإعانة الضعيف، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعلك تسأل عن حلف لخم وتميم؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: لا يزيده الإسلام إلا شدة.
وهاجر فرات بن حيان إلى المدينة، وتذكر كتب السيرة أنه قد شارك في حصار الطائف، ولما خرج مسيلمة الكذاب على طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في السنة الحادية عشرة للهجرة، أرسل رسول الله ثلاثة رجال إلى الصحابي الجليل ثُمامة بن أُثَال في بني حنيفة باليمامة ليقاتل مسيلمة ويقضي على تمرده، وهم أبو هريرة وفرات بن حيان والرَجَال بن عُنْفُوة، وقال: ضرس أحدكم في النار مثل جبل أُحد! فما زال فرات وأبو هريرة خائفين من أن يكون قد عناهما، ثم ارتد الرَجَال  وانضم إلى مسيلمة، فاطمأنا وسجدا لله شكراً.
ولما تولى الخلافة أبو بكر رضي الله عنه، وارتدت كثير من أنحاء جزيرة العرب، ارتدت ربيعة في البحرين، وهي الأحساء اليوم، فرجع إلى المدينة أبان بن سعيد عامل رسول الله على البحرين، وأرسل أبو بكر محله العلاء بن الحضرمي من المدينة في ستة عشر راكبا، ومعه فرات بن حيان العجلي دليلا، وكتب أبو بكر كتابا للعلاء بن الحضرمي أن ينفر معه كل من مر به من المسلمين إلى عدوهم، فسار العلاء فيمن تبعه منهم وقاتل المرتدين وقمعهم.
شارك فرات بن حيان في فتوح الشام مع خالد بن الوليد، ثم تنازل عنه خالد للمثنى بن حارثة ليشارك في فتح العراق، وكان من قواده وخليفته على الجيش، ثم قاتل مع سعد بن أبي وقاص، وشهد القادسية، وكان من قادة الجيش الذي فتح تكريت سنة 16، ثم في سنة 20 جعله عمر رضي الله عنه مع هند بن عمرو والياً على الجزيرة الفراتية بعد أن عزل عياض بن غنم، ونزل فرات بن حيان الكوفة، وابتنى له داراً فيها في بني عجل، وتوفي فيها، وكان له عقِبٌ صالح فيها.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان

 
log analyzer