الجمعة، 28 فبراير 2014

حدث في السابع والعشرين من ربيع الآخر

 
في السابع والعشرين من ربيع الآخر من سنة 258 توفي في نيسابور، عن 86 سنة، الإمام المحدث أبو عبد الله، محمد بن يحيى بن عبد الله الذُهلي النيسابوري. والذهلي نسبة إلى قبيلة ذهل بن شيبان، كان لأحد أجداده علاقة ولاء فيها.
ولد سنة 172 في نيسابور، في شمالي شرق إيران قرب الحدود مع أفغانستان، وطلب الحديث وهو صغير، ثم في سنة 197 ارتحل منها في طلب الحديث إلى الري، وهي طهران اليوم، فأخذ فيها عن قاضيها الإمام المحدث يحيى بن ضريس البُجلي الرازي، المتوفى سنة 203، وكان من بحور العلم وعنده عن حماد بن سلمة عشرة آلاف حديث.
وأخذ في نيسابور عن عالم خراسان الحافظ يحيى بن يحيى التميمي المنقري النيسابوري، المتوفى سنة 226، وكان يرجع إليه في المشكلات ويقول: هو إمام فيما بيني وبين الله. وفي مجلس هذا الإمام الجليل جاءت الذهلي نصيحة وجهته للمبادرة بالرحلة في طلب الحديث وإدراك المشايخ، فقد نظر علي بن سلمة اللبقي، المتوفى سنة 252، إلى حسن خطه وتقييده، فقال: يا بني، ألا أنصحك؟ إن أبا زكريا يحدثك عن سفيان بن عيينة وهو حي، وعن وكيع وهو حي بالكوفة، وعن يحيى بن سعيد وجماعة أحياء بالبصرة، وعن عبد الرحمن بن مهدي وهو حي بأصبهان، فاخرج في طلب العلم، ولا تضيع أيامك. فتأثر بهذا القول وأخذ بهذه النصيحة، وخرج إلى الرحلة في طلب الحديث.
رحل الذهلي إلى البصرة سنة 198 فدخلها يوم توفي الإمام المحدث يحيى بن سعيد القطان، ولكنه أدرك الإمام عبد الرحمن بن مهدي، المولود سنة 135، فأدام مجالسته والأخذ عنه، وكان في هذا موفقاً لأنه ابن مهدي توفي بعد 4 شهور، وهو أكبر شيوخه في الحديث، وأخذ كذلك عن أبي داود الطيالسي، سليمان بن داود ، المولود سنة 133والمتوفى سنة 204، وكان يقول: أسرد ثلاثين الف حديث ولا فخر!
وأخذ الذهلي عن الإمام يحيى بن معين، المولود سنة 158 والمتوفى سنة 233، ونقل عنه قوله العظيم السديد: الذَّبُّ عن السنة أفضل من الجهاد في سبيل الله، فقال له متساءلاً مستغرباً: الرجل ينفق ماله، ويتعب نفسه، ويجاهد، فهذا أفضل منه!؟ قال ابن معين: نعم، بكثير.
ومن الطبيعي أن يحط الذهلي رحاله عند الإمام أحمد بن حنبل إذ كان هو إمام العصر ومحدثه، على كثرة من حوله من الأئمة والمحدثين، وكانت علاقة الذهلي بالإمام أحمد بن حنبل علاقة وثيقة قائمة على الاحترام وتقدير العلم الذي يحمله، وكان الإمام أحمد إذ دخل عليه محمد بن يحيى، يقوم إليه  ويقرب مجلسه، ويأمر بنيه وأصحابه أن يكتبوا عنه، وكان يسأل عن أخباره الواردين من نيسابور ويثني عليه أمامهم، وقال لأحدهم مرة: لو أنه عندنا، لجعلناه إماما في الحديث.
وولد للذهلي ابن أسماه يحيى، ويلقب حيكان، ورحل به ليسمع الحديث كما هي عادة كثير من المحدثين في ذلك الوقت، وحيث كانت علاقته مع الإمام أحمد بن حنبل جِدُّ وثيقة، فقد ذهب به ليسمع منه، وصاحبه في رحلته عدد من طلبة الحديث، وجرت له قصة مع الإمام أحمد بينت عن عقله وحكمته، قال محمد بن يحيى: لما رحلت بابني إلى العراق صحبني جماعة من الغرباء، فسألوني: أي حديث عند أحمد بن حنبل أغرب؟ فكنت أقول: إذا دخلنا عليه، سألته عن حديث تستفيدونه. فلما دخلنا سألته عن حديث يحيى بن سعيد، عن عثمان بن غياث، عن ابن بريدة، عن يحيى بن يعمر، عن ابن عمر، عن عمر حديث الإيمان،  فقال: يا أبا عبد الله، ليس هو عندي عن يحيى بن سعيد. فخجلت، وقمنا، فأخذ أصحابنا يقولون: إنه ذكر هذا الحديث غير مرة، ثم لم يعرفه أحمد، وأنا ساكت لا أجيبهم.
وتابع الذهلي الرحلة مع أصحابه إلى البصرة ليسمعوا من محدثيها، وعلى رأسهم الإمام علي بن المديني، علي بن عبد الله، المولود سنة 161 والمتوفى سنة 234، ثم عادوا في طريقهم إلى بغداد، قال الذهلي: ثم قدمنا بغداد، فدخلنا على أحمد، فرحب بنا، وسأل عنا، ثم قال: أخبرني يا أبا عبد الله: أي حديث استفدت عن مسدد، عن يحيى بن سعيد؟ فذكرت له حديث الإيمان. فقال أحمد: حدثناه يحيى بن سعيد، ثم أخرج كتابه، وأملى علينا. وسكت الذهلي ولم يقل للإمام: سألناك عنه من قبل، فلم تتذكره، وتعجب أصحابه من صبره، ثم أُخبِرَ الإمام أحمد أنه كان سأله عن الحديث قبل خروجه إلى البصرة، فأعجبه عقله ورزانته، وكان إذا ذكره يقول: محمد بن يحيى العاقل!
ثم خرج مع الحاج إلى الحجاز فسمع الحديث من مشايخ المدينة المنورة ومكة المكرمة، ثم رحل منها إلى اليمن حيث أخذ الحديث عن محدثي اليمن وروى قدراً كبيراً من أحاديث الإمام عبد الرزاق الصنعاني، عبد الرزاق بن همام المولود سنة 126 والمتوفى سنة 211.
وأخذته رحلته في طلب العلم إلى مصر والشام وجزيرة ابن عمر، وصارت لديه حصيلة وافرة من الحديث، ولم تكن رحلته هذه الأولى والأخيرة فقد كانت له بعدها رحلتان، وكان الذهلي يتحدث بنعمة الله عليه في ذلك فيقول: ارتحلت ثلاث رحلات، وأنفقت على العلم مئة وخمسين ألفا.
وعاد الذهلي إلى بلده نيسابور بعد أن حمل العلم والحديث عن الكبير والصغير، والبعيد والقريب، والمحدث والمفتي، وأهل الحديث وأصحاب المذاهب، فصار إمامها وشيخها الأكبر مع السؤدد والتعظيم، أشبه بما تمتع به الإمام أحمد بن حنبل في بغداد والإمام مالك بن أنس في المدينة المنورة، ولم ينقطع الذهلي بتسنمه هذه الوجاهة عن طلب العلم والتحقيق، والتعب في سبيل ذلك، قال ابنه يحيى: دخلت على أبي في الصيف الصائف وقت القائلة، وهو في بيت كتبه، وبين يديه السراج، وهو يصنف، فقلت: يا أبة، هذا وقت الصلاة، ودخان هذا السراج بالنهار، فلو نفست عن نفسك. قال: يا بني، تقول لي هذا، وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين!!
وبقي الذهلي على صلة وثيقة بالعلماء الذين رحل إليهم، ويدلنا على ذلك رواية وصلتنا عن رسالة أتته من البويطي، أبو يعقوب يوسف بن يحيى، خليفة الشافعي في درسه ومذهبه، فقد امتحنه الخليفةُ العباسي الواثق، وأمر بإحضاره في الأغلال الثقيلة من مصر إلى بغداد ليجبره على القول بخلق القرآن، ومات البويطي مسجوناً مظلوماً، وأرسل من سجنه رسالة للذهلي يسأله الدعاء له في محنته، قال مستملي الذهلي: حضرنا مجلس محمد بن يحيى الذهلي، فقرأ علينا كتاب البويطي إليه، وإذا فيه: أسألك أن تعرض حالي على إخواننا أهل الحديث، لعل الله يخلصني بدعائهم، فإني في الحديد، وقد عجزت عن أداء الفرائض والطهارة والصلاة. فضُج الناس بالبكاء والدعاء له.
وتميز الذهلي بجمعه لمرويات الإمام محمد بن شهاب الزُهري، المولود سنة 58 والمتوفى سنة 124، وهي من الأهمية بمكان لكونه من أوائل من جمعوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبخاصة ما يتعلق بالسيرة والشمائل، وقد انفرد الزهري بسنن كثيرة وبرجال عدة لم يرو عنهم غيره، وكان للعلماء ثقة في عمل الذهلي فلم يتعقبوه أو يزيدوا على ما فعل، قال سعيد بن منصور ليحيى بن معين: لم لا تجمع حديث الزهري؟ فقال: كفانا محمد بن يحيى ذلك. وبقي الثناء على هذا الكتاب حتى ممن جاؤوا بعدهم وكان من سماتهم التعقب والتدقيق، فقد جرى بين الإمام الدارقطني، علي بن عمر، المولود سنة 306 والمتوفى سنة 385، وبين أبي عبد الرحمن السلمي النيسابوري، محمد بن الحسين، المتوفى سنة 412،  جرى بينهما حديث عن محمد بن يحيى الهذلي فقال له الدارقطني: من أحب أن ينظر ويعرف قصور علمه عن علم السلف، فلينظر في علل حديث الزهري لمحمد بن يحيى.
ويبدو أن الذهلي جمع الأحاديث الزهريات وهو في الطلب لم يعد بعد إلى نيسابور، فقد ذكر محمد بن أحمد بن الجراح، أبو عبد الرحيم الجوزجاني قال: قلت لأحمد بن حنبل: إني أريد البصرة، وقد عرفتَ أصحاب الحديث وما بينهم، فقال: إذا قدمت فسل عن محمد بن يحيى النيسابوري، فإذا رأيته فالزمه، ثم قال: ما قدم علينا أحد أعلم بحديث الزهري منه، ولا أصح كتاباً منه.
وقصد المحدثون نيسابور من كل الأقطار للسماع من محمد بن يحيى الذهلي والرواية عنه، فقد صارت الرحلة إليه لازمة لكل محدث، ومن أبرز من أخذ عنه الإمام المحدث ابن ماجه، محمد بن يزيد القزويني، المولود سنة 209 والمتوفى سنة 273، والإمام المحدث أبو داود السجستاني، سليمان بن الأشعث، المولود سنة والمتوفى سنة 275، وكلاهما من أصحاب السنن.
وفي ذلك العصر ضاهت خراسان العراق في وجود محدثين أئمة بها صارت إليهم الرحلة، قال الحافظ أبو حامد ابن الشرقي، أحمد بن محمد المولود سنة 240 والمتوفى سنة 325: قيل لي وأنا أكتب الحديث في بلدي: لم لا ترحل إلى العراق؟ فقلت: وما أصنع في العراق وعندنا من بنادرة الحديث ثلاثة: محمد بن يحيى الذهلي، وأبو الأزهر أحمد بن الأزهر، وأحمد بن يوسف السلمي، فاستغنينا بهم عن أهل العراق. وتوفي أبو الأزهر سنة 261، والسلمي سنة 264. ويقصد بالبنادرة: التجار المتمرسين.
وقد أورد الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد قصة تدل على متانة علم الذهلي ونجاحه في الاختبارات الخفية التي ينصبها المحدثون سبراً لمتانة علم الشيخ الذي يأخذون عنه، وقد جرت مع الإمام المحدث صالح جزرة، صالح بن محمد، المولود سنة 210 والمتوفى سنة 293، ولقب بجزرة لانه صحف في حديث: كان لأبي أمامة خرزة يرقي بها المريض. فقال: جزرة.
قال صالح جزرة: لما خرجت من الري قلت للفضل بن العباس المعروف بفضلك الرازي: عمن أكتب بنيسابور؟ قال: إذا قدمت نيسابور فانظر إلى شيخ بهي، حسن الوجه، حسن الثياب، راكباً حماراً، وهو محمد بن يحيى، فاكتب عنه فإنه من قرنه إلى قدمه فائدة. قال: فلما قدمت نيسابور استقبلني محمد بن يحيى، فعرفته بهذه الصفة، فذهبت معه، وانتخبت عليه مجلساً وقرأته عليه، فلما فرغت قلت له: أفادني الفضل بن العباس الرازي حديثاً عنك عند الوداع لأسمعه من الشيخ، فقال: هات، فقلت: حدثكم سعيد بن عامر، حدثنا شعبة، عن عبد الله بن صبيح، عن محمد بن سيرين، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: هذا خالي فليرني امرؤ خاله. فقال محمد بن يحيى: من ينتخب مثل هذا الانتخاب، ويقرأ مثل هذه القراءة، يعلم أن سعيد بن عامر لا يحدث بمثل هذا الحديث؟ فقلت: نعم حدثكم سعيد بن واصل.
قال الخطيب البغدادي: قصد صالح امتحان محمد بن يحيى في هذا الحديث، لينظر أيقبل التلقين أم لا، فوجده ضابطاً لروايته، حافظاً لأحاديثه، محترزاً من الوهم بصيراً بالعلم. ولذلك عندما سئل صالح جزرة عن الذهلي، أجاب: ما في الدنيا أحمقُ ممن يسأل عن محمد بن يحيى!
وكان الذهلي يعتمد على أبي بكر الجارودي في مصنفاته لاتقانه العربية، والجارودي حافظ إمام عُرفت أسرتُه باتباعها للمذهب الحنفي، وكان جده الجارود صاحب أبي حنيفة، وصار أفرادها من أئمته في خراسان، وهو الإمام الحافظ محمد بن النضر بن سلمة بن الجارود، المتوفى سنة 291، وكان منزله بالقرب من منزل محمد بن يحيى الذهلي فنشأ معه وفي صحبته، وحدث مرة أن حدَّث محمد بن يحيى في مجلس الإملاء فردًّ عليه الجارودي، فزبره محمد بن يحيى، فلما كان المجلس الثاني قال محمد بن يحيى: ههنا أبو بكر الجارودي؟ قال له: نعم، قال: الصواب ما قلتَه، فإني رجعت إلى كتابي فوجدته على ما قلت.  فاعجب لرجوع الإمام الذهلي وخضوعه للحق، واعجب لسكوت الجارودي مع كونه محقاً في تصويبه.
وفي سنة 250 جاء الإمام محمد بن إسماعيل البخاري إلى نيسابور، بعد مراسلات بينه وبين الإمام الذهلي، ثم جرت بينهما قضية مؤسفة أدت بالبخاري أن يترك البلد حزيناً بائساً، فقد كان للبخاري رأي في مسألة خلق القرآن لا يتفق في جزئية مع الرأي السائد آنذاك في أوساط العلماء، ولم تشفع له عند بعضهم أن مكانته في علماء الحديث كانت كالشمس في النجوم، إذ لم يبق أحد منهم إلا وأثنى على علمه وعمله وإتقانه،
وكانت قضية خلق القرآن قد خفتت أصواتها بتولى المتوكل سنة 232 إذ كان من أول ما أمر به أن ينادى على المنابر بترك الجدل في القرآن، وأن الذمة بريئة ممن يقول بخلقه أو غير خلقه، فهدأت الفتنة وسارت الأمور على خير، حتى إن الإمام أحمد بن حنبل أثنى على البخاري، وهو يعلم موقفه المخالف في هذه الجزئية، ولكن الإمام أحمد توفي سنة 241، ثم قتل المتوكلَ ابنه المنتصر سنة 247، فعادت الفتن تموج في عالم السياسة وفي غياب حزم السلطان عاد كثير من المتعالمين إلى ديدنهم في إثارة القضايا الخلافية ومنها  بل أولها خلق القرآن.
ولما جاء البخاري إلى نيسابور، قال عالمها وشيخها محمد بن يحيى الذهلي في مجلسه: من أراد أن يستقبل محمد بن إسماعيل غدا، فليستقبله، فإني أستقبله، فاستقبله محمد بن يحيى، وعامة علماء نيسابور، لم يستقبلوا بمثله واليا ولا عالما، استقبلوه من مرحلتين من البلد، أو ثلاث، فدخل البلد، فنزل دار البخاريين، وحذر محمد بن يحيى العلماء والتلاميذ: لا تسألوه عن شئ من الكلام في خلق القرآن، فإنه إن أجاب بخلاف ما نحن عليه، وقع بيننا وبينه، وشمت بنا كل ناصبي ورافضي وجهمي ومرجئ بخراسان.
ونزل البخاري في دار البخاريين في نيسابور، وعقد فيها مجلس التحديث، وازدحم الناس على درسه حتى امتلأت الدار والسطوح، فلما كان اليوم الثاني أو الثالث من يوم قدومه، قام إليه رجل فسأله عن اللفظ بالقرآن، فقال: يا أبا عبد الله ما تقول في اللفظ بالقرآن، مخلوق هو أو غير مخلوق؟ فأعرض عنه البخاري ولم يجبه، فألح عليه ثلاثا، فقال البخاري: حركات البشر وأصواتهم واكتسابهم وكتابتهم مخلوقة، فأما القرآن المتلو المبين، المثبت في المصاحف، المسطور المكتوب، الموعى في القلوب، فهو كلام الله ليس بخلق، قال الله تعالى في سورة العنكبوت: ﴿بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم﴾، وأفعالنا مخلوقة، وألفاظنا من أفعالنا، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يصنع كل صانع وصنعته.
ولما كان كثيرٌ من أهل الحديث يرقى بهذا القول إلى الخروج من الدين، فقد انفضوا عن البخاري وسماع الحديث منه، وقال له بعض الناصحين: ترجع عن هذا القول حتى يعودوا إليك، فقال البخاري:  لا أفعل، إلا أن يجيئوا بحجة فيما يقولون أقوى من حجتي.
وكان محمد بن يحيى الذهلي يحث الناس على الذهاب إلى مجلس البخاري وقول: اذهبوا إلى هذا الرجل الصالح العالم، فاسمعوا منه، بل كان هو لا يتحرج أن يستفيد من البخاري أمام الناس، ويذكر أحد طلبة الحديث أنه رأى البخاري في جنازة ومحمد بن يحيى يسأله عن الأسامي والكُنى وعلل الحديث، ومحمد بن إسماعيل يمر في الجواب مثل السهم، كأنه يقرأ قل هو الله أحد.
ولكن الذهلي بعد أن صرح البخاري برأيه عاداه معاداة شديدة، وحرم على الناس مجالسته والاقبال عليه والسماع منه، وقال الذهلي: القرآن كلام الله غير مخلوق من جميع جهاته، وحيث يتصرف، فمن لزم هذا استغنى عن اللفظ وعما سواه من الكلام في القرآن، ومن زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر، وخرج عن الإيمان، وبانت منه امرأته، يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وجعل ماله فيئاً بين المسلمين، ولم يدفن في مقابر المسلمين، ومن وقف وقال: لا أقول مخلوق أو غير مخلوق، فقد ضاهى الكفر، ومن زعم أن لفظي بالقرآن مخلوق، فهذا مبتدع، لا يجالس ولا يكلم، ومن ذهب بعد مجلسنا هذا إلى محمد بن إسماعيل البخاري فاتهموه، فإنه لا يحضر مجلسه إلا من كان على مثل مذهبه، ألا من يختلف إلى مجلسه لا يختلف إلينا، فإنهم كتبوا إلينا من بغداد أنه تكلم في اللفظ ونهيناه فلم ينته، فلا تقربوه ومن يقربه فلا يقربنا!
ويعزو بعض الرواة موقف الذهلي إلى أن البخاري أضحى منافساً له في المكانة،وأن مجلس الذهلي لم يعد كما كان ممتلأً لانصراف الناس إلى مجلس البخاري، فحسده الذهلي بعد ذلك وتكلم فيه، وأنا أستبعد ذلك لأن الذهلي من أهل البلد وله عزوة وعصبية فيه لا تضعف بوجود البخاري، وأرجح أن يكون ذلك بسبب بعض "أهل الخير" في بغداد الذين كتبوا للذهلي يؤزونه على البخاري كما أشار الذهلي في كلامه.
وبسبب هذا التحذير والوعيد انقطع الناس عن البخاري إلا الإمام مسلم بن الحجاج وأحمد بن سلمة النيسابوري، وكان للإمام مسلم  موقف قوي في استنكار هذا فإنه عندما سمع هذا القول من الذهلي، أخذ رداءه فوق عمامته، وقام فترك المجلس على رؤوس الناس، ثم بعث إلى الذهلي جميع ما كان كتبه عنه على ظهر حمَّال، ولم يحدث في صحيحه عنه.
وخشي البخاري على نفسه من البقاء في نيسابور، وعاد إلى بخارى مسقط رأسه، ولم تجعله هذه الحادثة المؤلمة يمتنع عن الرواية عن الذهلي في صحيحه.
ولما توفي الذهلي تقدم في الصلاة عليه أمير خراسان محمد بن طاهر بن عبد الله بن الحسين الخزاعي،  وخلفه في المشيخة ولده يحيى والملقب بحيكان، كما ذكرنا من قبل، وكان يحيى عالماً عابداً مجاهداً، ترأس المطوعة بخراسان، وترأس ثورة أهلية على أحد أمراء عمرو بن الليث الصفار، وهو أحمد بن عبد الله الخُجُستاني، لظلمه وعسفه، فخذلته جموعه عند اللقاء، فقبض عليه وقتله، في سنة 267.
 
 

الجمعة، 21 فبراير 2014

حدث في العشرين من ربيع الآخر

 
في العشرين من ربيع الآخر من السنة الخامسة للهجرة عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من حملته على منطقة دَُومة الجَندل شمال المدينة المنورة، ودامت الحملة 25 يوماً لم يهاجم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بلدة دومة الجندل، ولم يكن فيها قتال، وسميت بغزوة دومة الجندل.
والدوم شجرة، والجندل الحجر بحجم رأس الإنسان، فكأن الاسم جاء من وجود شجر ملتف في أرض ملأى بالحجارة، وقيل سميت كذلك لأن سورها كان مبنياً بالجندل، وأن ملكها الأكيدر كان منزله أولاً مكان بالحيرة من العراق يدعى دومة الحيرة، وأنه كان في زيارة لأخواله فوجد البلدة متهدمة فأعاد بناءها وغرس فيها الزيتون، وسموها دومة الجندل تفرقة بينها وبين دومة الحيرة، والدومة بالفتح أو الضم.
أما موقع دومة الجندل اليوم، فقال الأستاذ المحقق عاتق بن غيث البلادي في كتابه المعالم الجغرافية الواردة في السيرة النبوية: دَومة الجندل، بالفتح، قرية في الجوف، يشرف عليها حصن مارد، حصن أكيدر الكِندي، والجوف: منطقة زراعية شمال تيماء على قرابة 450 كيلا، تصلها طريق معبدة بكل من تيماء فالمدينة المنورة.
جاءت هذه الغزوة والرسول لا يزال يواجه قريشاً المتربصة به والتي تؤلب عليه القبائل وتحشد له الأحلاف، ولكن رسول الله كان يراقب خطراً آخراً يتهدده من شمال الجزيرة العربية؛ من الروم البيزنطيين في الشام والقبائل العربية التي تدين لهم بالولاء وتخضع لسلطانهم.
وكانت دومة الجندل أحد مراكز الروم البيزنطيين على حدود الجزيرة العربية، مدينة عليها سور، ولها حصن مشهور، وتقع على مفترق طريق القوافل الذاهبة من جزيرة العرب إلى العراق والشام وبالعكس، وهي أرض نخل وزرع، يسقي أهلها على النواضح، وحولها عيون قليلة، وزرعهم الشعير، وكانت مركزاً تجارياً يعقد فيها سوقٌ سنوي عظيمٌ في ربيع الأول، ويُدفع لرئيسها عُشر قيمة البضائع، وهي موطن قبيلة كلب العربية، وفيها صنم وَدّ المذكور في سورة الحج، وكان عامل هرقل عليها الملك الأكيدر بن عبد الملك الكِندي، وكان على النصرانية، وكان يسيئ معاملة التجار والسابلة المارين ببلاده ويفرض عليهم المكوس، وكان تجار العرب شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ظلم الأكيدر، ثم بلغه أنه قد جمع جمعاً كبيراً، وانضم إليه قوم كثير من العرب من قضاعة وغسان، ويريدون أن يهاجموا المدينة.
فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، واستخلف على المدينة سِباع بن عُرفُطة الغِفاري، وخرج في ألف من المسلمين فكان يسير الليل ويكمن النهار، ومعه دليل له من بني عُذرة يقال له مذكور، فلما دنا رسول الله من دومة الجندل مسيرة يوم، قال له الدليل: يا رسول الله، إن سوائمهم ترعى فأقم لي حتى أطلع لك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: نعم. فخرج العذرى طليعةً حتى وجد آثار النعم والشاء وهم مغربون، ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فأخبره وقد عرف مواضعهم، فسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى هجم على ماشيتهم ورعاتهم، فأصاب من أصاب وهرب من هرب في كل وجه، وجاء الخبر أهل دومة فتفرقوا، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بساحتهم فلم يجد بها أحدا، فأقام بها أياما وبث السرايا وفرقها، حتى غابوا عنه يوماً ثم رجعوا إليه ولم يصادفوا منهم أحدا، إلا أن محمد بن مسلمة الأوسي الأنصاري رضي الله عنه أخذ منهم رجلاً، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قومه، فقال: هربوا حيث سمعوا أنك أخذت نَعمهم. فعرض عليه الإسلام فأسلم ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
وكان سعد بن عبادة رضي الله عنه من المشاركين في تلك الغزوة، فتوفيت أمه عمرة بنت مسعود بالمدينة وهو غائب، وكانت من أهل بيعة العقبة، فلما عاد الرسول وصحبه إلى المدينة قال له سعد: إن أم سعد ماتت، وإني أحب أن تصلي عليها. فجاء قبرها فصلى عليها.
وفي غياب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة دومة الجندل، بَنَتْ أمُ سلمة حجرتها بلبِن، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى اللبِن، فدخل عليها أول نسائه، فقال: ما هذا البناء ؟ فقالت: أردت يا رسول الله أن أكفَّ أبصار الناس، فقال: يا أم سلمة، إن شرَّ ما ذهب فيه مال المسلمين البنيان.
وعاد رسول الله في السنة القادمة في شعبان من السنة السادسة للهجرة، فأرسل عبد الرحمن ين عوف على رأس سرية إلى دومة الجندل، فدعاه وقال له: تجهز فإني باعثك في سريةٍ من يومك هذا، أو من غدٍ إن شاء الله. قال ابن عمر: فسمعت ذلك فقلت: لأدخلن فلأصلين مع النبي العداة، فلأسمعن وصيته لعبد الرحمن بن عوف.
قال: فغدوت فصليت فإذا أبو بكر، وعمر، وناس من المهاجرين، فيهم عبد الرحمن بن عوف، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان أمره أن يسير من الليل إلى دومة الجندل فيدعوهم إلى الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن: ما خلفك عن أصحابك؟ وكان قد مضى أصحابه في السحر، وعسكروا بالجرف على بعد ثلاثة أميال من المدينة، وكانوا سبعمئة رجل، فقال: أحببت يا رسول الله أن يكون آخر عهدي بك، وعلي ثياب سفري. وعبد الرحمن بن عوف متوشح سيفه وعليه عمامةٌ كرابيس سوداء قد لفها على رأسه ، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فأقعده بين يديه فنقض عمامته بيده، ثم عممه فأرسل بها من خلفه أربع أصابع أو نحواً من ذلك، ثم قال: هكذا فاعتم يا ابن عوف، فإنه أحسن وأعرف! ثم أمر بلالا أن يدفع إليه اللواء، فدفعه إليه ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذه يا ابن عوف،  اغزوا باسم الله، وفي سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله، لا تغلُّوا، ولا تغدروا، ولا تنكثوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً، فهذا عهد الله وسنة نبيكم فيكم.
قال ابن عمر: ثم بسط يده، فقال: يا أيها الناس، اتقوا خمساً قبل أن يحل بكم؛ ما نقص مكيال قومٍ إلا أخذهم الله بالسنين ونقصٍ من الثمرات لعلهم يرجعون، وما نكث قومٌ عهدهم إلا سلط الله عليهم عدوهم، وما منع قومٌ الزكاة إلا أمسك الله عليهم قطر السماء، ولولا البهائم لم يسقوا، وما ظهرت الفاحشة في قومٍ إلا سلط الله عليهم الطاعون، وما حكم قومٌ بغير آي القرآن إلا ألبسهم الله شيعاً، وأذاق بعضهم بأس بعض.
فخرج عبد الرحمن حتى لحق أصحابه فسار حتى قدم دومة الجندل، فلما حل بها مكث بها ثلاثة أيامٍ يدعوهم إلى الإسلام، وقد كانوا أبوا أول ما قدم يعطونه إلا السيف، فلما كان اليوم الثالث أسلم الأصبغ بن عمرو الكلبي، وكان نصرانياً وكان رأسهم، وأسلم معه ناس كثير من قومه، وأقام من أقام على إعطاء الجزية، فكتب عبد الرحمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره بذلك، وبعث رافع بن مكيث الجهني، وكتب يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد أراد أن يتزوج فيهم، فكتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج ابنة الأصبغ واسمها تُماضِر، فتزوجها عبد الرحمن، ولما قدم بها المدينة رغب القرشيون في جمالها، فجعلوا يسترشدونها، فترشدهم إلى بنات أخواتها وبنات إخوتها.
ويقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له عندما أرسله: إن أطاعوا فتزوج ابنة ملكهم. وكانت قريش لا تتزوج من كلب، أنفة وكبرياء، فأبطل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت تماضر بنت الأصبغ أول كلبية تزوجها قرشي،  ولها ولد وحيد هو الفقيه الجليل أبو سلمة ابن عبد الرحمن بن عوف، واسمه كنيته، المتوفى سنة 94 عن 72 سنة.
وفي رجب من السنة التاسعة للهجرة بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن الروم البيزنطيين تجمعوا في الشام، فخرج إلى تبوك، في غزوة العسرة، يترقب جيش الروم، وأقام صلى الله عليه وسلم بضع عشرة ليلة دون أن يلقى عدواً ثم عاد إلى المدينة، وخشية من أن يكون الروم قد حركوا أعوانهم على أطراف الجزيرة بدلاً من أن يهجموا بأنفسهم، أرسل رسول الله من تبوك خالد بن الوليد إلى الأكيدر في دومة الجندل، وأمره أن يعتقله ولا يقتله، ويأتي به إليه فيجدد العهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعله على رأس سرية قوامها 420 فارساً، فلما عهد إليه عهده، قال خالد: يا رسول الله كيف بدومة الجندل وفيها أكيدر، وإنما نأتيها في عصابة من المسلمين، فقال لخالد: لعل الله يلقيك أكيدر فستجده يصيد بقر الوحش، فخذوه أخذاً فابعثوا به إلي ولا تقتلوه.
فخرج خالد حتى رابط خارج الحصن على مرأى منه في ليلة مقمرة صائفة، والأكيدر على سطح له ومعه امرأته، فأتت البقر تحك بقرونها باب القصر، فقالت له امرأته: هل رأيت مثل هذا قط؟ قال: لا والله! قالت: فمن يترك هذه؟! قال: لا أحد. فنزل فأمر بفرسه فأُسرج له، وركب معه نفر من أهل بيته فيهم أخ له يقال له حسان، فركب وخرجوا معه بمطاردهم، فلما خرجوا تلقتهم خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأسر أكيدر وامتنع أخوه حسان فقاتل حتى قتل.
وقال خالد لأكيدر: أرأيتك إن أجَرتُك تفتح لي دومة قال: نعم. فانطلق حتى دنا منها، فثار أهلها وأرادوا أن يفتحوا له فأبى عليهم أخوه، فلما رأى ذلك قال لخالد: أيها الرجل، خلني فلك الله لأفتحنها لك، إن أخي لا يفتحها لي ما علم أني في وثاقك. فأرسله خالد ففتحها له، فلما دخل أوثق أخاه وفتحها لخالد، ثم قال: اصنع ما شئت، فدخل خالد وأصحابه فذكر خالد رضي الله عنه له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي أمره، فقال له أكيدر: والله ما رأيتها قط جاءتنا إلا البارحة، يريد البقر، ولقد كنت أضمر لها إذا أردت أخذها، فأركب لها اليوم واليومين، ولكن هذا القَدَر! ثم قال: يا خالد، إن شئتَ حكمّتُك، وإن شئتَ حكمّتني. فقال خالد: بل نقبل منك ما أعطيت، فأعطاهم ألفي بعير، وثمانمئة فرس، وأربعمئة درع، وأربعمئة رمح.
وأقبل خالد رضي الله عنه بأكيدر وهو يحمل هدايا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيها بغلة وثياب حرير فقبلها منه، واستعمل رسول الله صلى الله البغلة، وأعطى ثوب حرير علياً رضي الله عنه ليوزعه على نساء بني هاشم، وقال له: شقِّقهُ خُمُراً بين الفواطم. يقصد فاطمة الزهراء، وفاطمة بنت أسد أم علي، وفاطمة بنت حمزة. وكان في هدايا الأكيدر جرةٌ فيها المَنُّ، وبالنبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته يومئذ إليها حاجة، فلما قضى الصلاة أمر طائفا فطاف بها على أصحابه، فجعل الرجل يدخل يده فيستخرج فيأكل، فأتى على خالد بن الوليد فأدخل يده، فقال: يا رسول الله، أخذ القوم مرة، وأخذتُ مرتين فقال:  كل وأطعم أهلك. وكذلك أعطى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قطعة ثم إنه رجع إليه فأعطاه قطعة أخرى، فقال: إنك قد أعطيتني مرة، قال: هذا لبنات عبد الله. وكان والده قد استشهد في أحد وخلف 7 بنات.
وكتب له الرسول معاهدة، ختمها بظفره إذ لم يكن معه خاتمه، والكتاب على بساطته يوضح الملكية العامة في الفقرة الأولى وهي ما كان من الأراضي خارج السور أو لم يكن مستصلحاً أو له مالك، ثم يمنحهم حق الرعي فلا تُصرفُ سارحة ماشيتهم عن مَرْعى تُريده، ثم حظر عليهم التسلح والتحصن في الفقرة الثانية ليأمن غدرهم، ثم بين لهم حقوقهم وطمأنهم أن لا عُشر في البتات وهو المتاع الذي لا يكون للتجارة، ونص الكتاب هو:
من محمد رسول الله لأكيدر دومة حين أجاب إلى الإسلام، وخلع الأنداد والأصنام، مع خالد بن الوليد سيف الله في دومة الجندل وأكنافها: إن لنا الضاحية من الضحل والبور والمعامي وأغفال الأرض، والحلقة والسلاح والحافر والحصن، ولكم الضامنة من النخل، والمَعين من المعمور، لا تعدل سارحتكم، ولا تُعدُّ فاردتكم، ولا يحظر عليكم النبات، ولا يؤخذ منكم عُشرٌ البَتَات، تقيمون الصلاة لوقتها، وتؤتون الزكاة بحقها، عليكم بذلك عهد الله والميثاق، ولكم بذلك الصدق والوفاء. شهد الله ومن حضر من المسلمين.
وكان على الأخ القتيل حسان قباء من ديباج مخوص بالذهب، فاستلبه خالد فبعث به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل قدومه عليه، فجعل المسلمون يلمسونه بأيديهم، ويتعجبون منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتعجبون من هذا؟ فو الذي نفسى بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا.
وقال بَجير بن بجرة الطائي يذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم لخالد: إنك ستجده يصيد البقر. وما صنع البقر تلك الليلة بباب الحصن، تصديقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
تبارك سائق البقرات إني ... رأيت الله يهدي كل هاد
فمن يك حائدا عن ذي تبوك ... فإنا قد أُمِرنا بالجهاد
فقال له رسول الله: لا يفضض الله فاك. فعاش 90 سنة ما تحركت له سن ولا ضرس، لبركة دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم، واستشهد في القادسية.
وجاء بعض أهل دومة الجندل مسلمين إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، منهم حارثة بن قّطَن، وحمل بن سعدانة، وتذكر كتب السيرة أن الرسول أعطى حارثة كتاباً يطابق ما أعطاه للأكيدر، فلعله كان نسخة وتأكيداً لذلك، وعقد الرسول بيده لحمل لواءً يحمله، وفي هذا إكرام متميز من رسول الله لهذا الصحابي الشجاع رضوان الله عليه، وشهد حمل مع خالد بن الوليد مشاهده، ومن رجزه الذي تمثل به شجعان العرب:
لَبِّثْ قليلاً يلحقِ الهيجا حَمَلْ
ما أحسنَ الموتَ إذا حانَ الأجلْ
وكان من نتائج هذه السرية الناجحة أن خشي زعماء العرب ممن يدينون بالولاء للدولة البيزنطية أن يصييهم ما أصاب الأكيدر من أسر وصَغار، فقدم على الرسول صلى الله عليه وسلم عدد منهم، من أبرزهم يوحنا بن رؤبة ملك أيلة، وهي اليوم العقبة، فصالحه وكتب له كتابا هذا نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم. هذا أمَنَة من الله ومحمد النبي رسول الله ليحنة بن روبة وأهل أيلة، لسفنهم وسيارتهم في البر والبحر، لهم ذمة الله، وذمة محمد رسول الله، ولمن كان معهم من أهل الشأم وأهل اليمن وأهل البحر، ومن أحدث حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وأنه طيبة لمن أخذه من الناس، وأنه لا يحل أن يُمنعوا ماء يردونه، ولا طريقا يريدونه من بر وبحر. هذا كتاب جهيم بن الصلت وشرحبيل بن حسنة بإذن رسول الله.
ويبدو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل بعد ذلك سرايا أخرى لغير الأكيدر فخشي أن تكون إليه فجاء إلى رسول الله مستأمناً، فقد ذكر أصحاب السير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل خيلاً فسمع بها الأكيدر، فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنه بلغنا أن خيلا انطلقت، وأني خفت على أرضي ومالي، فاكتب لي كتابا لا يعرِضوا من شئ لي، فإني مقر بالذي علي من الحق. فكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن أكيدر أخرج قباء من ديباج منسوج مما كان كسرى يكسوهم، فقال: يا رسول الله اقبل عني هذا فإني أهديته لك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ترجع بقباك فإنه ليس يلبس هذا في الدنيا إلا حُرِمَه في الآخرة. فرجع به حتى أتى منزله، ووجد في نفسه أن يرد عليه رسول الله هديته، فقال: يا رسول الله، إنا أهل بيت يشقُّ علينا رد هديتنا، فاقبل مني هديتي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلق فادفعه إلى عمر بن الخطاب. وكان عمر قد سمع ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فدمعت عيناه وظن أنه قد لحقه شئ، فانطلق فقال: يا رسول الله أحدث فيَّ أمر؟ قلتَ في هذا القباء ما قلت ثم بعثتَ به إليّ؟! فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وضع يده أو ثوبه على فيه ثم قال: ما بعثت به إليك لتلبسه، ولكن تبيعه وتستعين بثمنه.
ويختلف المؤرخون إن كان الأكيدر قد أسلم أم بقي على النصرانية مع ولائه لدولة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتذكر بعض الروايات مشاهدته في المدينة مرتدياً الحرير وعليه صليب من ذهب، وعلى كل حال فلا يختلف المؤرخون أن ذلك لم يكن آخر العهد بدومة الجندل، فبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، نقض الأكيدر العهد، أو ارتد في رأي من يرون أنه أسلم، وحشد الحشود من قبائل كلب وغسان، وكان ممن عاضده جبلة بن الأيهم، فأرسل أبو بكر الصديق في السنة الثانية عشرة للهجرة خالد بن الوليد على رأس جيش فقمع تمرده وقتله، وثبت أخوه حريث بن عبد الملك على الإسلام، وتزوج يزيد بن معاوية ابنته.

الجمعة، 14 فبراير 2014

حدث في الثالث عشر من ربيع الآخر

 
في الثالث عشر من ربيع الآخر من عام 1290، الموافق 10حزيران/يونيو 1873، أصدر السلطان العثماني عبد العزيز فرماناً يتعلق بتوارث بطريقة الحكم في أفراد أسرة محمد علي الكبير في مصر، وجعل المرسوم السلطاني الحكم الوراثي ينتقل عبر أكبر الأبناء بعد أن كان ينتقل عبر أكبر الإخوة، وحصره في أولاد الخديوي إسماعيل، وألحق الفرمان مديرتي سواكن ومصوَّع وملحقاتهما بالدولة التي كانت تشمل مصر والسودان، وسمح للخديوي بالاقتراض الخارجي دون الرجوع للدولة العثمانية، وهذا نص الفرمان:
فمن المعلوم لديكم أنكم استدعيتم منا جمع الخطوط الهمايونية والأوامر الشريفة السلطانية التي صدرت منذ توجيه الخديوية الجليلة بطريق التوارث إلى عهدة والي مصر الاسبق محمد علي باشا المرحوم إلى يومنا هذا، سواء كانت بخصوص تعديل توارث الخديوية المصرية، أو بخصوص إعطاء بعض امتيازات حسبما استوجبها موقع الخديوية وأمزجة الأهالي وطبائعها الخصوصية، وجعلها فرمانا واحدا مع التعديلات اللازمة في أحكامها والتفصيلات المقتضية في عباراتها، بشرط أن يكون هذا الفرمان الجديد قائم مقام الفرمانات السابقة وأن تكون الأحكام المندرجة فيها معمولا بها ومرعية الإجراء على الدوام والاستمرار، فقد قورن استدعاؤكم هذا بمساعدتنا الجليلة، وها نحن نذكر ونبين لكم أحكامها على الوجه الآتي:
لما تحقق لدينا أن تعديل أصول توارث الخديوية المصرية التي صار تعيينها بالفرمان العالي الصادر في اليوم الثاني من شهر ربيع الأول من شهور سنة 1257، 26 مارس 1841، الموشح أعلاه بالخط الهمايوني وتبديلها بأصول حصر الوراثة الخديوية في أكبر أولاد خديو مصر بطريق سلسلة النسب المستقيم بأن يصير تخصيص مسند الخديوية الجليل وتوجيهه إلى أكبر أولاد الخديو الذكور، وبعده إلى أكبر أولاد هذا الأكبر الذكور، وهكذا على النسب المستقيم الذكوري على الدوام، يكون مستلزما لحسن إدارة الخديوية المصرية، وجالبا لاستكمال سعادة أحوال أهاليها وسكانها، هذا مع ماحصل لدينا من استحسان مساعيكم الجميلة المصروفة في استحصال معمورية الأقطار المصرية المهمة الجسيمة، ورفاهية أهاليها، وحصول وثوقنا بكم، واعتمادنا الكامل عليكم، فلأجل أن يكون دليلا باهرا على ذلك، قد أجرينا تعديل توارث الخديوية المصرية وتعيين وصايتها على الطريق الآتي بيانها:
وهي أن خديوية مصر الجليلة وملحقاتها وجهاتها المعلومة الجارية إدارتها بمعرفتها مع ما صار إلحاقها بها أخيرا من قائمقاميتي سواكن ومصوع وملحقاتهما، يصير توجيهها بعدكم على الطريق المار ذكرها إلى أكبر أولادكم الذكور، وبعده إلى أكبر أولاد من يكون خديويا على الأقطار المصرية من أولادكم.
وإذا انحلت الخديوية المصرية بأن لا يكون للخديو ولد ذكر يصير توجيهها إلى أكبر إخوته الذكور، و إذا لم يوجد له أخ بقيد الحياة فإلى أكبر أولاد الأخ، وهكذا تتخذ هذه الاصول قانونا مستمرا وقاعدة مرعية أبدية في توارث الخديوية المصرية، ولا يصير انتقال الوراثة الخديوية إلى الأولاد الذكور المتولدة من أولادكم الإناث أصلا.
ولأجل تامين أصول توارث الخديوية المصرية سنذكر صورة تشكيل الوصاية المقتضية في إدارة أمور الخديوية فيما إذا انحلت الخديوية وكان الوارث الذي هو أكبر أولادكم الذكور صغيرا وصبيا ،وهي أن الخديوية المصرية إذا انحلت وكان أكبر أولادكم الذكور، أعني الوارث، صغيرا وصبيا، بأن يكون عمره أقل من ثمانية عشر سنة، ولو أنه يصير خديو بالفعل حسب استحقاق الوراثة، ففي الحال يصدر فرمان من طرف السلطنة السنية بتوليته على الخديوية.
لكن إذا كان الخديو السالف عيَّن ونصب وصياً، ورتب هيئة وصاية لأجل إدارة أمور الخديوية لحين بلوغ الخديو اللاحق الصبي إلى سن الثامن عشرة سنة، وكتب سند وصاية بذلك وختم عليه هو، وختم أيضا اثنان من الأمراء المصرية المأمورين بأحدى المأموريات المصرية، على طريق الإشهاد وإجراء الوصاية هكذا، فالوصي مع هيئة الوصاية المذكورة يأخذ بزمام الإدارة في الحال، وبعد ذلك تعرض الكيفية إلى الباب العالي ويصير التصديق على ذلك الوصي وهيئة الوصاية من طرف الدولة العلية بفرمان عال، ويبقى الوصي وهيئة الوصاية على ما هم عليه لحين البلوغ.
وأما إذا انحلت الخديوية، ولم يعين الخديو السالف وصيا، ولم يرتب هيئة الوصاية على الوجه المذكور، تتشكل هيئة الوصاية من الذوات المأمورين على الداخلية والجهادية والمالية والخارجية ومجلس الأحكام المصرية وسردارية العساكر المصرية وتفتيش الأقاليم، ويصير انتخاب وصي في الحال من هؤلاء المأمورين على الوجه الآتي، وهو أنه في تلك الساعة تصير المذاكرة والمداولة ما بين هؤلاء الذوات في حق انتخاب وصي منهم، فإذا حصل اتفاقهم أو اتفاق أكثرية آرائهم على تسمية وجعل واحد منهم وصيا، يتعين ذلك الشخص وصيا على الخديوية، و إذا اختلفت الآراء بأن رغب نصفهم في تعيين شخص، والنصف الآخر في تعيين شخص آخر، يكون الوصي على الترتيب المحرر آنفا من الداخلية إلى آخره، وتتشكل هيئة الوصاية من الأشخاص الباقين بعده، ويباشرون إدارة الأمور الخديوية مع الوصي، وتعرض الكيفية بمضبطة من طرفهم إلى طرف سلطنتنا السنية، ويصير التصديق عليها بالفرمان الشريف.
وكما أنه لا يجوز تبديل الوصي وتغيير هيئة الوصاية قبل ختام مدتها في الصورة الأولى، أعني فيما إذا كان تعيين الوصي وترتيب الوصاية وتركيب اعضائها بمعرفة الخديو السالف، فكذلك في الصورة الثانية، أعني فيما إذا كان انتخاب الوصي بمعرفة المأمورين المذكورين، لا يجوز تبديل الوصي، ولا تغيير هيئة الوصاية ولا أعضائها في تلك المدة، وإذا توفي أحد من أعضاء هيئة الوصاية في ظرف تلك المدة، يصير انتخاب واحد من المأمورين المصرية بمعرفة الباقين، وتعيينه بدل المتوفي، وإذا توفى الوصي في تلك المدة، يصير انتخاب واحد من أعضاء هيئة الوصاية بمعرفتهم على الوجه السابق، وجعله وصيا، وانتخاب واحد من المأمورين المصرية وإلحاقه بأعضاء هيئة الوصاية بدل الذي نصب وصيا.
وبمجرد بلوغ الخديو الصبي إلى سن الثامن عشرة سنة صار رشيدا وفاعلا مختارا، فيباشر هو بنفسه إدارة أمور الخديوية المصرية مثل سلفه، وهذا حسبما تقرر لدينا واقتضته ارادتنا الملوكية.
ولما كان تزايد عمران الخديوية المصرية وسعادة حالها وتأمين رفاهية الأهالي والسكان وراحتها من اهم المواد الملتزمة المرغوبة لدينا، وإدارة المملكة الملكية والمالية ومنافعها المادية وغيرها المتوقف عليها تأسيس واستكمال وسائل الرفاهية وأسبابها عائدة على الحكومة المصرية، فنذكر بيان كيفية تعديل الامتيازات وتوضيحها بشرط بقاء كافة الامتيازات المعطاة قديما وحديثا من طرف الدولة العلية إلى الحكومة المصرية واستمرار جريانها خلفا عن سلف.
وتلك الكيفية هي أنه لما كانت إدارة المملكة بكل الصور والحالات سواء كانت إدارتها الملكية أو المالية أو كافة منافعها المادية وغيرها هي من المواد العائدة على الحكومة المصرية والمتعلقة بها، ومن المعلوم أن أمر إدارة أي مملكة كانت وحسن انتظامها وتزايد معموريتها وثروة اهاليها وسكانها لا يتيسر إلا بتوفيق معاملاتها وتطبيق إجراءآتها العمومية بالأحوال والمواقع وأمزجة الأهالي وطبائعها، فقد أعطينا لكم الرخصة الكاملة في أعمال قوانين ونظامات داخلية على حسب لزوم المملكة، وكذا لأجل تسهيل تمشية وتسوية كافة المعاملات سواء أكانت من طرف الحكومة أو من طرف الأهالي مع الأجانب، وترقي وتوسع الصنائع والحرف وأمور التجارة وأمور الضبطية مع الأجانب، قد أعطينا لكم الرخصة الكاملة في عقد وتحديد المقاولات والمعاهدات مع مأموري الدولة الأجنبية في حق الكمرك وأمور التجارة وكافة المعاملات الجارية مع الأجانب في أمور المملكة الداخلية وغيرها بصورة لا تستلزم إخلال معاهدات الدولة العلية البولتيقية السياسية.
وكذا لكون خديو مصر حائز التصرفات الكاملة في الأمور المالية، قد صار إعطاء المأذونية التامة له في عقد استقراض من الخارج بلا استئذان من الدولة العلية في أي وقت يرى فيه لزوم للاستقراض، بشرط أن يكون باسم الحكومة المصرية، وكذا لكون أمر محافظة وصيانة المملكة الذي هو الأمر المهم والمعتنى به زيادة عن كل شيء من أقدم الوظائف المختصة بخديو مصر، فقد أعطيت له الرخصة الكاملة في تدارك كافة أسباب المحافظة وتأسيسها وتنظيمها بنسبة إلجاءآت الزمن والموقع، وكذا في تكثير أو تقليل مقدار العساكر المصرية الشاهانية بلا تحديد على حسب الإيجاب واللزوم
وكذا ابقينا لخديو مصر الامتياز القديم في حق إعطاء رتبة أميرالاي من الرتب العسكرية، واعطاء رتبة ثانية من الرتب الديوانية، بشرط أن المسكوكات الجاري ضربها بمصر تكون باسمنا الملوكي، وأن تكون أعلام وصناجق العساكر البرية والبحرية الموجودة في الخطة المصرية كأعلام وصناجق سائر عساكرنا الشاهانية بلا فرق، وبشرط عدم إنشاء سفن زرخ أي مدرعة بالحديد فقط بدون استئذان لا غيرها من السفن الحربية، فإنها جائز إنشاؤها بلا استئذان.
ولأجل إعلان المواد المشروحة أعلاه وتأييدها أصدرنا لكم أمرنا هذا الجليل القدر من ديواننا الهمايوني بمقتضى إرادتنا الملوكية وصار توشيح أعلاه بخطنا الهمايوني وإعطاؤه لكم متمما ومكملا ومصرحا للخطوط الهمايونية والأوامر الشريفة الصادرة لحد هذا التاريخ سواء كان في تأسيس وترتيب وراثة الحكومة المصرية، أو في تشكيل هيئة الوصاية، أو في إدارة الأمور الملكية والعسكرية والمالية والمنافع المادية والمواد السائرة، بشرط أن تكون الأحكام المندرجة بهذا الفرمان الجديدة نافذة وباقية ومرعية الإجراء على ممر الزمان، وقائمة مقام أحكام الفرمانات السالفة على ما اقتضته ارادتنا الملوكية.
فيلزم أن تعلموا قدر لطف عنايتنا الملوكية، وأداءَ شكرها بصرف جل هممكم في حسن إدارة أمور الخطة المصرية، واستكمال أسباب وقاية أمنية الأهالي المنوطة بها واستحصال راحتهم، على حسب ما جُبِلتم عليه من الشيم المرغوبة والغيرة والاستقامة، وما اكتسبتموه من الوقوف والمعلومات في أحوال تلك الحوالي والأقطار، وأن تراعوا إجراء الشروط المقررة في هذا الفرمان الجديد، وأداء المئة وخمسين ألف كيسة التي هي ويركو، أي ضريبة، مصر المقطوع سنويا بأوقاتها وزمانها إلى خزينتنا الجليلة الشاهانية، على الترتيب والقاعدة المرعية في ذلك.
هذا هو الفرمان الذي رفع كثيراً من القيود التي كانت مفروضة على حاكم مصر منذ أن قاد والد الخديوي إسماعيل؛  إبراهيم باشا، في أيام والده محمد علي الحملة العسكرية التي استولت على بلاد الشام ووصلت حتى قونية وكادت أن تطيح بالخلافة العثمانية، بل إن الفرمان جعل من حكام مصر فئة فريدة حين منحها، بدلاً من لقب الوالي، لقب الخديوي الذي لم يتمتع بها غيرهم من ولاة وملوك التي خضعوا لسلطان الدولة العثمانية، وهي كلمة مشتقة من كلمة تعني السيد أو الأمير باللغة الفارسية.
وإسماعيل باشا المولود سنة 1246=1830، هو ثاني أولاد إبراهيم باشا المتوفى سنة 1264=1848، عن 59 سنة، بعد أن تربع على عرش مصر مدة 40 يوماً، وتلاه ابن أخيه عباس بن طوسون الذي حكم مدة 6 سنين حتى وفاته مقتولا بيد خدمه سنة 1270=1854، فتلاه عمه محمد سعيد بن محمد علي باشا الكبير الذي دام حكمه 7 سنين حتى وفاته سنة 1279=1863، حيت تلاه ابن أخيه إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي الكبير، وهذا التنقل في ولاية العهد في أكبر الذكور من أسرة محمد علي، يظهر لنا أحد الأسباب وراء تغيير نظام الوراثة إلى أكبر أبناء الحاكم، وبالطبع فإن السبب الأهم هو الطمع البشري، كما سيتبين لنا من شخصية الخديوي إسماعيل.
درس إسماعيل باشا في القاهرة، وتعلم فيها اللغات العربية والتركية والفارسية والرياضيات والطبيعيات، ثم أصيب برمد فأرسله أبوه إلى فيينا ليعالج من رمد أصابه، وقضى فيها عامين فى التعليم، ثم انتقل في سنة 1848 إلى باريس، وانضم إلى البعثة المصرية الخامسة ليدرس في الكلية العسكرية العليا في سان سير قرب باريس، وأتقن الفرنسية حتى كان يتكلمها كأحد أبنائها.
ولم تكن العلاقات بينه وبين ابن عمه عباس على مايرام، فلما تولى الحكم عباس رحل إسماعيل إلى الآستانة فعينه السلطان عبد المجيد، وهو أول سلطان يتحدث الفرنسية، عضوا بمجلس أحكام الدولة العثمانية وأنعم عليه بالباشوية، ثم عاد إلى مصر فى عهد عمه سعيد حيث تولى رئاسة مجلس الأحكام، وأوفده سعيد فقابل نابليون الثالث فى باريس والبابا بيوس التاسع حيث قوبل بالترحاب، ثم تولى  منصب سردار الجيش المصرى، وعهد إليه سعيد بإخماد تمرد بعض القبائل فى السودان , فقام بالمهمة دون أن يسفك قطرة دم واحدة.
تولى إسماعيل الحكم بعد وفاة سعيد فى 28 رجب سنة 1279=1863، وكانت أبرز إنجازاته عمه سعيد ما أدخله من إصلاحات على نظام الجباية الضريبية ونظام الملكية الزراعية، وهو الذي منح في عام 1856 ترخيص قناة السويس للشركة الفرنسية التي قام عليها دليسبس.
كان إسماعيل شديد الطموح، فهو أشبه في ذلك بجده محمد علي الكبير، وأوحى له حب العظمة أن يتشبه بفرنسة في مظاهر النهضة والرقي، فكان أن سعى أن يتخلص من إسار الولاية إلى عظمة الملك، وأن يستكمل استقلال مصر، ليصير أسوة بالدول الأوربية في كل شيء، حتى إنه قال: إن بلادي ليست من أفريقية ولكنها جزء من أوربة! ولئن اعتمد جده في مساعيه الاستقلالية على القوة العسكرية، فإن إسماعيل اعتمد على الدبلوماسية القائمة على إغداق المال على أولي الشأن وأصحاب القرار.
وساعدت إسماعيل عدة عناصرأولها أنه والسلطان العثماني عبد العزيز في نفس السن، ولديهما نفس الإعجاب الشديد، بل الانبهار بالغرب وبخاصة فرنسة، وبين تولي كل منهما الحكم سنة ونصف، وكلاهما يميل للبذخ والإنفاق وبخاصة على المباني والعمران، وتزعم بعض المصادر أن والدته هي خالة السلطان عبد العزيز.
وثاني هذه العناصر أنه استفاد من معرفته برجال القصر السلطاني الذين عاش بينهم، فأغرقهم بالهدايا الراشية لتسهيل اتخاذ القرار وعدم إبداء أي رأي معارض لما يريد، ونذكر أنه قد قدم للصدر الأعظم فؤاد باشا مبلغ 60.000 جنيه ليبذل مساعيه لدى السلطان لاستصدار هذا الفرمان.
وثالث هذه العناصر أن إسماعيل ما أن تولى على مصر حتى سافر إلى استانبول لتقديم الولاء شخصيًا للسلطان عبد العزيز، ولدعوته لزيارة مصر، وجاء السلطان بعد حوالي شهرين  مع ابنه يوسف وولي عهده مراد وأخيه عبد الحميد الثاني، واستمرت الزيارة 10 أيام لقي فيها السلطان من الحفاوة والاحترام والهدايا ما يفوق التصور، ويقال إن الهدايا وحدها بلغت حمولة سفينة بأكملها، وتيمناً بالزيارة أطلق اسم عبد العزيز على الشارع المعروف في القاهرة من العتبة حتى ميدان عابدين، وتوطدت عرى الصداقة بينه وبين إسماعيل الذي أنعم عليه السلطان بسيف الشرف العثماني.
ولما دعا الإمبراطور نابليون الثالث السلطان عبد العزيز إلى باريس لحضور معرضها العام في سنة 1284=1867، سافر إسماعيل باشا إلى باريس ليكون فيها حين قدوم السلطان إليها، وبقي في معيته إلى أن عاد إلى استانبول.
ورابع هذه العناصر أن الخديوي إسماعيل أرسل بطلب من السلطان عبد العزيز جيشاً من مصر في سنة 1867 شارك في قمع تمرد السكان اليونان في جزيرة كريت، وأنجز المهمة بنجاح.
ولعل أبرز ما في هذا الفرمان من الناحية العملية، بعيداً عن الألقاب، إطلاق يد حاكم مصر في الاستدانة بعيداً عن رقابة أو موافقة استانبول، ولا يعني هذا أن إسماعيل لم يقترض قبل هذا المرسوم، وكانت ديون مصر عند استلامه الحكم 3 ملايين جنيه، وهو مبلغ لم يكن من الصعب سداده على دولة مثل مصر غنية بزراعتها، ولما كان إسماعيل يريد إنجاز مشاريعه التنموية والعمرانية الغث منها والسمين في أقصر فترة ممكنة، فقد اضطر إلى تمويلها بالاقتراض لأن خزينة الدولة ما كانت لتتحمل مثل هذا الإنفاق الكثير في وقت قصير، وبخاصة أن القطن الأمريكي بدأ ينافس القطن المصري وتسبب في هبوط أسعاره.
قام إسماعيل بعدد من المشاريع العامة ففي أيامه أوصلت أسلاك البرق وسكك الحديد إلى بلاد السودان، وأقيمت المنارات في البحر الأحمر، وأنشئ المتحف المصري ودار الكتب المصرية، وتألفت شركات المياه والغاز في القاهرة والإسكندرية،  ولكنه كان متلافاً للمال في بناء قصوره وتأثيثها وتجميلها، وفي حفلاته وأفراحه ومراقصه، ورحلاته وسياحاته، وأهوائه وملذاته، بنى نحو ثلاثين قصراً من القصور الفخمة، وكان دائم الرغبة في التغيير والتبديل، وكان بعض القصور التي يبنيها لا يكاد يتم بناؤها وتأثيثها حتى يعرض عنها ويهبها لأحد أنجاله أو حاشيته.
ومما يدعو إلي الأسف أن أمواله التي كانت تتدفق ذات اليمين وذات الشمال لم يكن ينال المصريين منها إلا النزر اليسير، بالنسبة لما ينال الأجانب الطامعين الذين كانوا يحيطون به ويشملهم بثقته ورعايته، فكم من الفرنسيين والإيطاليين والإنجليز كانوا تعساء في بلادهم، ثم نالوا بعد أن هبطوا مصر الرخاء والنعيم، وصاروا من أصحاب الملايين.
وقد تم في عهد إسماعيل افتتاح قناة السويس في سنة 1869، بعد 11 سنة من بدء العمل فيها، والذي سُخِّر له عشرات الألوف من عامة المصريين، وتوفي فيه ألوف منهم، فأقام إسماعيل احتفالات دعى إليها ملوك أوروبا وتكلف عليه الأموال الطائلة، وبنى من أجله دار الأوبرا الخديوية في ستة أشهر، ودفع للموسيقار الإيطالي فيردي مبلغ 150.000 فرنك ذهبي ليؤلف أوبرا عايدة، عدا ما تكلفته من ملابس وتأثيث وزينة استقدمها من باريس، ولكنها لم تصل في الوقت المناسب، فاستعيض عنها بأوبرا أخرى..
ولم يكتف إسماعيل بأحلام العظمة من حيث العمران والسرف، بل طمح أن يوسع حدود دولته، أسوة بجده محمد علي باشا، ولكن شتان ما بين الجد والحفيد، فقد كان محمد علي يجند جميع مرافق البلاد لخدمة جيوشه والإنفاق عليها، وكانت هذه الجيوش تجلب له ما تجلب من المغانم والأسلاب، ولكن إسماعيل كان يستدين وينفق على حملاته، وكانت هذه الحملات تأخذ دائماً ولا تعطي شيئاً.
ولئن اتجه جده إلى فلسطين والشام ، فإن إسماعيل اتجه إلى التوسع جنوباً في أفريقية، وتحدث عن إقامة وحدة أفريقية تشمل حوض نهر النيل من المنبع إلى المصب، ولذا أعطته الدولة العثمانية مصوع وسواكن، فتوسع منهما للداخل، ووصل بعد السودان إلى البحيرات العظمى في إقليم خط الاستواء وأوغندة، وأدى هذا إلى اصطدامه مع الحبشة في معارك باهظة التكاليف، في وقت كانت الخزانة المصرية تأن تحت وطأة الديون، وحققت حملات إسماعيل نجاحات مبدئية، ثم انتهت بالهزيمة واضطر للانسحاب منها إلى حدود ما منحته الدولة العثمانية، وقد جعلته حملاته الإفريقية منافساً مباشراً للتوسع الاستعماري الأوربي في شرق ووسط أفريقية، ولذا أصبحت الدول الأوربية تتوجس منه وتود احتوائه وكبت طموحه.
ولذا فإن هذا الفرمان كان لعنة على مصر وعلى إسماعيل من الناحية المالية، فقد أطلق يده ليقترض بفوائد باهظة ناءت بدفعها ودفع أقساطها الخزانة المصرية، وفي البداية كانت الفائدة الاسمية للقروض تتراوح بين 6 و 7%، ثم بدأت البنوك والمقرضون في رفع الفائدة حتى وصلت إلي 12 و18 و26 و27%، ولم تكن قيمة القروض تصل كاملة إلي الخزانة، بل كان أصحاب البيوت المالية والمرابين يخصمون منها مبالغ طائلة لحساب المصاريف والسمسرة والفوائد، وما إلى ذلك، وهكذا بحلول سنة 1876 بلغت ديون مصر 126 مليون جنيه.
ومثله مثل الغارق في الديون لم يكن إسماعيل يدقق أو يعارض في الحسابات التي يقدمها له الماليون والسماسرة، وقد أحصى بعض الماليين الفرنسيين مقدار ما تسلمه الخديوي من القروض فبلغ 54 مليوناً من الجنيهات تقريباً في حين أن قيمتها الرسمية 96 مليوناً، وذكر الخبراء أن ميزانية الحكومة لو حسن تدبيرها كانت تفي بنفقاتها المعتدلة، وتفي بأعمال العمران دون حاجة للاستدانة.
وقد رهنت في مقابل هذه الملايين إيرادات بعض مديريات الوجهين القبلي والبحري، وإيرادات الجمارك والسكك الحديدية وجميع الثغور والعوائد المختلفة، وإيرادات أملاك الدائرة الخديوية، ثم باع إسماعيل لبريطانية حصة مصر في قناة السويس بثمن بخس؛ 4 ملايين جنيه، فاستعادت بريطانية ما فاتها حين أعرضت عن المساهمة في مشروع قناة السويس، ولم يلبث إسماعيل أن رأى مصر التي أراد أن تكون قطعة من أوربا تساق على رغمه لأن تكون تحت رحمتها، فمن أوربا استدانت تلك الملايين؛ ولما عجزت عن دفع دينها كانت رهينة لذلك الدين.
وطلب الخديوي من بريطانية أن ترسل له خبيراً مالياً يدرس الحالة المالية ويعاون الوزير المصري في إدارة شؤونها وعلاج أسباب اضطرابها، ولاقى طلبه هوى في نفس بريطانية التي أرسلت بعثة وضعت تقريراً مطولاً مستفيضاً استعرض أسباب الخلل واقترح توحيد الديون في دين واحد طويل الأجل، وإنشاء مصلحة مراقبة مالية تتسلم الإيرادات ولا تعقد الحكومة أي قرض جديد إلا بعد موافقتها.
واضطر الخديوي أن يصدر مرسوماً في 6 أبريل 1876 بتأجيل دفع السندات والأقساط المستحقة علي الحكومة ثلاثة أشهر، فكان هذا التوقف عن الدفع  إيذاناً بالإفلاس، فسرى السخط والذعر في الأسواق المالية الأوروبية، وصار إسماعيل هدفاً لطعون الماليين والمرابين الأجانب، ثم بعدها بشهرين جرى عزل السلطان العثماني عبد العزيز بسبب إنفاقه وإسرافه، ففقد الخديوي إسماعيل صديقاً وحليفاً، وصنواً في التبذير والتفاخر.
ثم أصدر إسماعيل أمراً بإنشاء صندوق الدين من أعضاء أجانب يعينهم الخديوي بناء على ما تعرضه الدول التابع لها كل منهم، ثم أعقبه بإنشاء مجلس المالية الأعلى، ثم أنشأ هيئة المراقبة الثنائية المكونة من فرنسة وبريطانية في أواخر سنة 1876، مما يكفل لهما دقة الإشراف المالي على مصر، وذلك بتعين مراقب إنجليزي للإيرادات، ومراقب فرنسي للمصروفات، ثم أرغم الخديوي على تأليف لجنة من الأجانب سميت لجنة التحقيق العامة، منحت سلطة واسعة غير محدودة، وكان هدفها العمل لصالح الدائنين، ولذلك فلم تتضمن دراساتها واقتراحاتها أي دعوة لهم للتنازل عن شيء من ديونهم، متناسية ما جره جشعهم على البلاد من دمار، وما انطوى عليه مكرهم من وبهتان وزور، واقترحت أن يتنازل الخديوي وأسرته عن أملاكه لصالح الدين، وأن تحكم الرقابة على الواردات المصرية لضمان وصولها لصندوق سداد الدين المصري.
وانفتح الباب أمام التدخل الأجنبي في إدارة مصر، وهو تدخل تجاوز الرقابة أو الإدارة المالية إلى القضاء، حيث إرضاء للدول الأوربية جرى في سنة 1875 إنشاء المحاكم المختلطة لتختص بالفصل في قضايا الأجانب المختلفي الجنسية والأجانب والمصريين، وجعلت أغلبية قضاتها من الأجانب، ووضعت لها لوائح وقوانين جديدة مستمدة من القانون الفرنسي؛ وتتم مرافعاتها باللغة الأجنبية، فكانت عبئاً ثقيلا على سيادة مصر ويعرقل حريتها وتقدمها، ويحدث الخلل والاضطراب في شؤونها القضائية والمالية والإدارية، لم تتخلص منها مصر إلا في معاهدة مونرو سنة 1937.
وعلى الرغم من الترتيبات التي سبق ذكرها ازدادت الأحوال اضطراباً، وتدخلت بريطانية وفرنسة بطلب تعيين وزيرين أوربيين في الوزارة المصرية، فتولى السير شارلز ريفرز ويلسون وزارة المالية، والمركيز دي بلينيزر وزارة الأشغال في وزارة نوبار باشا التي تألفت في عام 1878، وبذلك انتقل الحكم المطلق من إسماعيل إلى الأجانب وبخاصة بريطانية، وامتلأت دوائر الحكومة المصرية بالموظفين الأجانب يتمتعون فيها بالمرتبات العالية، والموظفون المصريون تتأخر رواتبهم وتثقل كواهلهم الأعباء، واشتدت الضائقة على الأهلين لكثرة ما كانوا يؤدونه من الضرائب؛ وأحس المتعلمون منهم أنهم خرجوا من حكم الخديوي المطلق ليدخلوا في نير الأجانب الذين لا تعرف قلوبهم الرحمة، حتى تظاهر ضباط الجيش أمام وزارة المالية يطالبون بمرتباتهم المتأخرة، فحضر نوبار باشا ومعه السير ويلسن وزير المالية لفضهم، فهجموا عليهما وأشبعوهما ضرباً، وكاد يتفاقم الحادث لولا أن بلغ الخبر الخديوي فخف إلى هناك بنفسه في فرقة من حرسه ففر المتظاهرون، وكانت هذه الحادثة إرهاصاً بتمرد عرابي القادم.
وامتعض الوطنيون المصريون من هذه الحالة امتعاضاً شديداً، إذ كانت جرحاً عميقاً للكرامة المصرية، وقام إسماعيل بعزل الوزارة الأوربية في عام 1879، وتعيين وزارة وطنية برياسة شريف باشا، واحتجت فرنسة وبريطانية وغيرهما من الدائنين، وتحولت المسألة من مالية إلى قضية سياسية مهدت للاحتلال البريطاني لمصر في عام 1882م.
وطلبت حكومتا بريطانية وفرنسة من حكومة الآستانة عزل اسماعيل، فعزله السلطان مراد الخامس في سنة 1296=1879، واستأذن إسماعيل السلطان بالإقامة في استانبول أو أزمير، فلم يأته الجواب بالموافقة، فلما علم ملك إيطاليا الشاب أومبرتو الأول بهذا الرفض، وكان إسماعيل صديق والده فكتور إيمانويل الثاني الذي توفي حديثاً، أرسل يدعوه إلى إيطاليا ووضع تحت تصرفه قصر فافوريتا بضواحي نابولي،  قبل أن يأتيه الإذن في أيام السلطان عبد الحميد ليقطن في الآستانة، وجاءته الأمراض وكُفَّ بصره، ثم توفي في الخامس من رمضان سنة 1312=1895، ونقلت جثته إلى القاهرة.
ولما وصل جثمان الخديوي إسماعيل إلى القاهرة، لم يلق كثير استقبال من الناس، ورثاه أمير الشعراء أحمد شوقي بقصيدة، استحسنت إيراد بعض منها، على طوله،  لما فيها من معاني تطابق الوقائع التاريخية التي أسلفت:
حُلمٌ مدَّه الكرى لك مدَّا ... وسُّدى تبتغي لحلمك ردا
وحياةٌ ما غادرت لك في الأحياء قبلاً، ولم تذر لك بَعدا
لم ير الناس مثل أيام نُعماك زماناً ولا كبؤسك عهدا
كنت إن شئت بُدِّل السعدُ نحساً ... وإذا شئت بُدِّل النحسُ سعدا
قائماً بالعطاء والسلب فينا ... كالليالي أو أنت أكبر أيْدا
يتمشى القضاءُ خلف نواهيك حديدَ الأظفار يطلب صيدا
ويُظِلُّ السراةَ منك كريمٌ ... رضيت رِفدَه العنايةُ رفدا
ومُعِزٍّ يصير القيدَ تاجاً ... ومُذِّل يصير التاج قيدا
أنت من مثَّل السعادةَ لو لم ... يك ذاك النعيم أخذاً وردًَا
قصدَ الدهرُ منك ركنَ المعاني ... ورمى طَودها الذي كان طودا
والأبيَّ الذي أبى العصرَ في الملك ... شريكاً لو أن ذلك أجدى
لم ينؤ بالجبال ديناً ولكن ... ودَّ منه الغريم ما لم يودَّا
لبس الشرق من لقائك تاجاً ... وتلقى أعوام رُشدك عقدا
وجرت فيه بالسعود جَوار ... لك مَنَّينَ مصرَ مُلكاً ومجدا
كل يوم صرحٌ يُشيَّدُ للعلم، وظِلٌ يُمدُّ في مصر مدَّا
ولواءٌ، وعدة، وعديد ... ونظام نرى به الشهب جندا
وغَزاةٌ في البيض والسود تبغي ... مصرُ فيها مُجدِّداً مسترِدّا
وبريدٌ لها تسيل به القضب، وثان بالبرق أجرى وأهدى
وخطوطٌ بها التنائي تدانى ... وبُخار به الأقاليم تندى
وبيوتٌ لله ترفع فيها ... وقصور تشاد للحكم شيدا
وأمانيُّ للرعية تُوفى ... وحقوقٌ في كل يوم تؤدى
ووفود إلى الممالك تُزجى ... وثمين إلى الخواقين يهدى
يا كبير الفؤاد والهم والآراب مهلاً مهلاً رويداً رويدا
لم تكن حقبة أساءت علياً ... في جنى عمره لتحفظ ودَّا
خذلت منه واحدَ الترك والعرب ... وسامت سيف المشارق غمدا
لا غراماً بحاسديه ولكن ... رَهَباً اْن يبلغ الشرق قصدا
ولأنت ابنُه الذكيُّ فهلا ... جئت بالطَّلبة الطريقَ الأسَّدا
فتأنيتَ، والتأني فلاحٌ ... وهو يا ثاقبَ النُهى بك أجدى
وحميتَ الأيدي العوادي أن تدنو، وأن تعتلي، وأن تتصدى
بالغتْ بعد لينها لك في العسر، وصار الوعيدَ ما كان وعدا
وإذا العصرُ والملوك خصومٌ ... لك، والناسُ والمحبون أَعدا
ولو أنا صُنا وصُنتَ، لعشنا الدهر في العز والسيادة رغدا
نهضتْ مصرُ بالزمان نزيلاً ... وبأهليه يوم ذلك وفدا
خطروا بين زاخرَين ولاقوا ... ثالثاً من نداك أحلى وأندى
بين فُلك يجري وآخر راسٍٍ ... ولواء يحدو، وآخر يُحدى
وملوكٍ صِيد يراح بهم في ... واسع الريف والصعيد ويغدى
صُورٌ لم يكنَّ حقاً، وحلم ... فُجع الصبحُ فيه لما تبدى
وقناطير يجفل الحصر عنها ... كل يوم تَعدُّها مصر عدَّا
ليت شعري؟ هل ضعن في الماء، أم هل ... يضمر الماء للودائع ردا
ليعيدنَّها إلينا بوقت ... زمنٌ طالما أعاد وأبدى
إن ما أجَرَّت يداك لنرجو ... أن سيحيي البلاد من حيث أردى
وملكتَ السودان في الطول والعرض، وفي شأنه المعظم عبدا
نلت بالمال والدِّما منه أرضاً ... بجبال الياقوت والدر تفدى
ثم نظَّمته ممالكَ كانت ... نارُ تنظيمها سلاماً وبَردا
فهنئنا به السعادة عمراً ... وأصبنا به المُعين المُمِدَّا
وطريقَ البلاد نحو المعالي ... وسياجاً لملك مصر وحدَّا
ليتَ لم تَغشَ بعده في حماها ... حَبش المكر والخديعة أُسدا
سلبوا مصر أي جيش كريم ... كان للمجد والفخار أُعدِّا
أنت أنشأته فلم تر مصر ... جحفلاً بعده، ولم تر جندا
ونفضتَ اليدين يأساً على الرغم كأن لم تجد من الصبر بدا
وإذا لم يكن من الله عون ... فاطراح الآمال بالنفس أبدى
ما لمِصرٍ رآك في العز لا يرسل دمعاً، ولا يبلل خدا
أين ود عهدت منه وعطف ... وولاءً مؤكداً كان أبدى
وملوكٌ له أتتك وساداتٌ حداها إليك وفداً فوفدا
أبت الناسُ فيك للناس إلا ... أن يجاروا الزمان وصلاً وصَدَّا
فرأيتَ الحميم أول جاف ... ووجدت الولي في البؤس ضدا
ورجالاً لولاك لم يعرفوا العيش أبوا أن يقدموا لك حمدا
ما رأوا بعدك الأمور ولكن ... يحسنون الكفران حلاً وعقدا
 
بان مجدُ البلاد إذ بِنتَ والصفوُ، وكان الرجاء حياً فأودى
ودهتك الخطوبُ فينا فلم تترك صواباً لنا ولم تُبق رشدا
ولقينا من الحوادث ما لم ... يك يعيا به دهاؤك ذودا
فبكى البائسون منك حساماً ... طالما قدَّ هامة الخطب قدا
وبصيراً إذا المشورات لم تنجد ... ذويها ساس الأمور مُسِدا
نازح الدار ما لبينِك حدٌ ... ولَقربُ الديار زادك بعدا؟!
هكذا من قضى حنيناً وشوقاً ... وأنيناً مع الظلام وسهدا
شاكياً للبنين والأمر والصحة والجاه والشبيبة فَقدا
عد إلى مصرك الوفية وانزل ... في ثراها واسكن من المهد لحدا
لا تقل أعرضت بلادي وصدَّت ... مصرُ خيرٌ هوى وأكرم عهدا
وقبيح بالدار أن تعرف البغض ... وبالمهد أن يباشر حقدا
غفرت مصر ما مضى لعلى ... وبنيه وللحفيد المفدى
ولآثارك الجلائل فيها ... ولجسم من نأيها خرَّ هدَّا
إنما الموت منتهى كل حي ... لم يصب مالكٌ من المُلك خلدا
سنة الله في العباد وأمرٌ ... ناطق عن بقائه لن يردا
وإلى الله تُرجعُ النفسُ يوما ... صدق الله والنبيون وعدا
 

 
log analyzer