الجمعة، 31 يناير 2014

حدث في التاسع والعشرين من ربيع الأول

 
في التاسع والعشرين من ربيع الأول من سنة 11 جاء الخبر إلى الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بالمدينة بمقتل الأسود العنسي المتنبئ الكذاب في اليمن، وذلك بعد أيام من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإخباره قبل وفاته بهذا الخبر، وكان مقتل الأسود العنسي وعودة الإسلام والاستقرار لربوع اليمن خبراً ساراً مطمئناً لأبي بكر ومن معه من الصحابة بالمدينة، ومبشراً بالقضاء على ثاني الكذابَين: مسيلمة. ونورد هنا استعراضاً تاريخياً لما جرى في تلك الفترة مبنياً في مجمله على ما أورده الإمام أبو جعفر الطبري رحمه الله في تاريخه، مع الإشارة أن كتب التاريخ والسيرة ليست على نسق واحد في تسلسل الأحداث ولا في أسماء الأشخاص أو ما قاموا به في هذه الأحداث.
انتشر الإسلام في اليمن على حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءته وفود قبائلهم ومنها أبو موسى الأشعري، وحل أهل اليمن من رسول الله في القلب لما حباهم الله من خصال الإخلاص والبذل والتجرد والحكمة، ولذا قال لأصحابه في الأحاديث الصحيحة التي ترويها كتب السنن: أتاكم أهل اليمن أضعف قلوبا وأرق أفئدة؛ الإيمان يمان، والفقه يمان والحكمة يمانية. ولما جاءت بنو تميم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبشروا يا بني تميم، قالوا: أما إذ بشرتنا فأعطنا! فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء ناس من أهل اليمن فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اقبلوا البشرى إذ لم يقبلها بنو تميم، قالوا: قد قبلنا يا رسول الله. ثم زاد الرسول في إكرام أهل اليمن فقال: هم مني، وأنا منهم.
وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أناساً من أهل اليمن بأعيانه مادحاً لهم ومخبراً بكرامتهم على الله عزَّ وجل،  منهم أويس بن عامر القرني رحمه الله تعالى.
وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل داعيين وواليين، وأرسل علياً رضي الله قاضياً، وأرسل خالد بن الوليد مجاهداً ثم رده، رضي الله عنهم جميعاً، وكل ذلك في السنتين الأخيرتين من حياته الشريفة، روى البخاري عن أبي بردة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا موسى ومعاذ بن جبل إلى اليمن، كل واحد منهما على مخلاف، واليمن مخلافان، ثم قال: يسِّرا ولا تعسِّرا، وبشِّرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا.
ويبدو أنه أرسل معاذ لشمالي اليمن حيث كان الدين المسيحي منتشراً بها، فقال له صلى الله عليه وسلم: إنك ستأتي قوما من أهل الكتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم طاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم طاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم طاعوا لك بذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينه وبين الله حجاب.
وتزوج معاذ من السَّكون، وأحبهم حباً شديداً، وكان من دعائه: اللّهم ابعثني يوم القيامة مع السّكون. فلما وقعت الردة انحازت إليه السكون واعتصم بهم، فلما جاءت كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاموا معه في قتال الأسود خير قيام، وقويت نفوس المسلمين إزاء هذه الردة الخطيرة.
وكان حاكم اليمن في صنعاء يدعى باذان، وهو فارسي الأصل من أبناء الفرس، ويدين بالولاء لكسرى، وهنا يبنغي أن نتحدث كيف نشأت العلاقة بين فارس كسرى واليمن السعيد، فيذكر المؤرخون أن سيف بن ذي يزن لما ذهب يستنصر كسرى على الحبشة أرسل معهم مدداً من مقاتلي الفرس، رحلوا بحراً إلى عدن، فقاتلوا معه، وصار منهم ملوك اليمن ومديروها وتزوّجوا في العرب فقيل لأولادهم الأبناء، وغلب عليهم هذا الاسم، لأن أمهاتهم من غير جنس آبائهم، وكان هؤلاء الكبراء من سلالة الأبناء.
ولما بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كسرى إلى باذان : أنه بلغني أن رجلا من قريش خرج بمكة، يزعم أنه نبي، فسِر إليه فاستتبه فإن تاب وإلا فابعث إلي برأسه، فبعث باذان بكتاب كسرى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد وعدني أن يقتل كسرى في يوم كذا من شهر كذا، فلما أتى باذان الكتاب توقف لينظر، وقال إن كان نبيا، فسيكون ما قال. فقُتِلَ كسرى في اليوم الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على يدي ابنه شيرويه، وكان ذلك في السنة السابعة للهجرة، فلما بلغ ذلك باذان بعث بإسلامه وإسلام من معه من الفرس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات باذان فقام بعده ولده شهر بن باذان.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم جمع لباذان حين أسلم وأسلمت اليمن كلها على جميع مخاليفها، فلم يزل عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام حياته لم يعزله عنها ولا عن شيء منها، ولا أشرك معه فيها شريكاً حتى مات باذان، ففرّق رسول الله صلى الله عليه وسلم عمل اليمن على جماعة من أصحابه، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل منطقة في اليمن والياً، فجعل شهر بن باذان صنعاء وأعمالها فقط، وولى كِندة والصدف أخا أم سلمة لأمها المهاجر بن أبي أمية بن المغيرة، وولى زياد بن لبيد البياضي الأنصاري حضرموت، وولى أبا موسى الأشعري زَبيد وعدن ورمَع والساحل، وولى نجران أبا سفيان صخر بن حرب بن أمية، وعمرو بن حزم؛ عمرو بن حزم على الصلاة، وأبا سفيان بن حرب على الصدقات، وعلى ما بين رِمَع وزَبِيد إلى حد نجران خالد بن سعيد بن العاص، وعلى هَمَدَان كلها عامر بن شهر الهمداني، وعلى الجند يعلى بن أمية، وعلى مأرب أبو موسى الأشعري، وعلى الأشعريين مع عَكّ ربيبه ابن السيدة خديجة الطاهر بن أبى هالة، ومعاذ بن جبل يعلم القوم يتنقل في عمل كل عامل.
وكانت حركة الردة قد بدأت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني تميم باليمامة وفي اليمن، ومبعثها مطمع الكذابَين في المال والثروة، وتعاميا عن أن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم مسيلمة الكذاب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده، تبعته. وقدِمها في بشر كثير من قومه، فأقبل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ثابت بن قيس بن شماس، وفي يد رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعة جريد، حتى وقف على مسيلمة في أصحابه فقال: لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها، ولن تعدو أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليَعْقِرَنَّكَ الله، وإني لأراك الذي أُرِيتُ فيك ما رأيت. فأخبرني أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بينما أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب، فأهمني شأنهما، فأوحي إلي في المنام أن انفخهما، فنفختهما فطارا، فأولتهما كذابين يخرجان بعدي، فكان أحدهما العنسي والآخر مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة.
وكانت أول ردة في باليمن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يدى الأسود العنسي، واسمه عيهلة بن كعب، ويلقب بذى الحمار، وذلك أنه كان له حمار معلَّم، يقول له: اسجد لربك. فيسجد، ويقول له: ابرك. فيبرك، فسُمي ذا الحمار، ويقال إنه يلقب بذي الخِمار، لخمار كان يضعه على وجهه فلا يرفعه،  وخرج بعد حجةالوداع، في عامة مَذْحِج، وكان كاهنا مشعوذا، وكان يريهم الأعاجيب ويسبي قلوب من سمع منطقه، وتسمى رحمن اليمن، وكان أول ما خرج أن خرج من كهف خُبَان، وهى كانت داره، وبها ولد ونشأ، فكاتبته مذحج وواعدته نجران فوثبوا بها وأخرجوا عمرو بن حزم وخالد بن سعيد بن العاص وأنزلوه منزلهما، ووثب قيس بن هبيرة ابن مكشوح المرادي على فَروة بن مُسَيك المرادي وهو على مراد فأجلاه ونزل منزله، فلم ينشب عيلهة بنجران أن سار إلى صنعاء فأخذها، وكُتِبَ بذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم من فعله ونزوله صنعاء، وكان أول خبر وقع به عنه من قبل فروة بن مسيك، ولحق بفروة من بقي على الإسلام من مذحج فكانوا بالأحسية، ولم يكاتبه الأسود ولم يرسل إليه، لانه لم يكن معه أحد يشاغبه، وغلب الأسود على ما بين مفازة حضرموت إلى الطائف إلى البحرين والأحساء إلى عدن.
وحاربهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسل، ولم يشغله ما كان فيه من الوجع عن أمر الله عز وجل والذب عن دينه، فبعث وَبَرَة بن يُحنَّس الخزاعي إلى فيروز وجُشَيش الديلمى وداذويه الاصْطَخْرِى، وهم من الأبناء، وبعث جرير بن عبد الله البَجَلي إلى ذى الكلاع وذى ظليم، وبعث الأقرع بن عبد الله الحِمْيَرى إلى ذى زود وذى مُرَّان، وكتب إليهم يأمرهم أن يبعثوا الرجال لمجاولته ومصاولته، وأن يبلِّغوا عنه ذلك كل من رأوا عنده نجدة أو دينا، وأرسل إلى أولئك النفر أن ينجدوهم ففعلوا ذلك، فاطمأنت قلوب المسلمين بقوتهم ووثقوا بنصر الله.
وقتل الأسودُ شهرَ بن باذان، وتزوج ابنته المَرْزُبانة، وجعل بعده رجلاً يُسَمّى ذادويه، وجعل الأسود خليفته في مذحج عمرو بن معديكرب، وأسند أمر جنده إلى قيس بن هبيرة ابن مكشوح، وأسند أمر الأبناء إلى فيروز وداذويه. فلمّا تمكن استخف بقيس وبفيروز وبداذويه، واتفق ذادويه مع فيروز الديلمي وقيس بن هبيرة ابن مكشوح على قتل الأسود، ودَسُّوا إلى المَرْزُبانة امرأته من أعلمها بنيتهم، وكانت مبغضة له حَنِقة عليه، لقتله أباها باذان، فدلتهم على جَدْول يَدْخل منه الماء، فدخلوا عليه بسَحر، ويقال : بل ثَقَبوا عليه جدار بيته، فجعل الأسود حين ذبح يخور خوار الثور حتى أفزع حرسه، فقالوا للمرزبانة: ما شأن رحمن اليمن؟ قالت: إن الوحي ينزل عليه. فأمسكوا عند قولها وسكنوا.
وعلا فيروز وصاحبيه رأس المدينة حتى أصبحوا فقالوا : نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن الأسود الكذاب عدو الله. فاجتمع أصحاب الأسود فألقوا إليهم رأسه فتفرقوا إلا قليلا، وخرج أصحاب قيس فوضعوا في بقية أصحاب الأسود السيف فلم يبق إلا من أسلم منهم، والمدة بين خروج الأسود العنسي ومقتله قرابة 4 أشهر. وأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بقتل الأسود، وأخبر عن ذلك فقال: قتله الرجل الصالح فيروز ابن الديلمي.
ولما بلغ خبر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ارتد قيس بن مكشوح الذي ساهم في قتل الأسود، وكاتب جماعة من أصحاب الأسود العنسي يدعوهم إليه، فأتوه فخافهم أهل صنعاء، وأتى قيس إلى فيروز وداذويه يستشيرهما في أمر أولئك أصحاب الأسود، خديعة منه ومكراً، فاطمأنا إليه، وصنع لهما من الغد ودعاهما، فأتاه داذويه فقتله، وأتى إليه فيروز، فسمع امرأة تقول: هذا مقتول كما قتل صاحبه. فعاد يركض فلقيه جشيش بن شهر، فتوجها نحو جبل خولان، وهم أخوال فيروز، وملك قيس صنعاء.
واجتمع إلى فيروز جماعة من الناس، وكتب إلى أبي بكر يخبره، واجتمع إلى قيس عوام قبائل من كتب إلى أبو بكر إلى رؤسائهم، واعتزل الرؤساء، وعمد قيس إلى الأبناء ففرقهم ثلاث فرق: من أقام أقر عياله، والذين ساروا مع فيروز فرق عيالهم فرقتين فوجه إحداهما إلى عدن ليحملوا في البحر وحمل الأخرى في البر، وقال لهم جميعهم: الحقوا بأرضكم.
فلما علم فيروز ذلك جد في حربه وتجرد لها وطلب المدد ممن حوله من بني عقيل وعك، فأمدوه بالرجال،  فخرج بهم وبمن اجتمع عنده فلقوا قيساً دون صنعاء فاقتتلوا قتالاً شديداً، وانهزم قيس وأصحابه، وأسروه، وحملوه إلى أبي بكر فوبخه ولامه على فعله، فأنكر، وقال: يا خليفة رسول الله استبقني لحربك، فإن عندي بصراً بالحرب ومكيدة للعدو. فخلاه، ثم إنه كان من أعوان علي، وقتل يوم صفين رحمه الله تعالى.
ولم تكن تلك حالة فريدة، فقد انتقضت كثير من مناطق اليمن لما بلغها موتُ النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرتد من عمال النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلا عمرو بن حزم وخالد بن سعيد، وانحاز سائر العمال إلى المسلمين، ورجعت الرسل مع من رجع بالخبر فرجع جرير بن عبد الله والأقرع بن عبد الله ووبرة بن يحنس.
فحارب أبو بكر المرتدة جميعا بالرسل والكتب، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حاربهم، إلى أن رجع أسامة بن زيد من الشام بعد قرابة ثلاثة أشهر، وانتقضت عكٌّ فكانوا أول منتقض بتهامة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تجمع عك والأشعريون، وأقاموا على الأعلاب من أرضهم بين الطائف والساحل، فسار إليهم الطاهر بن أبي هالة ومعه مسروق العكي وقومه من عك ممن لم يرتد، فالتقوا على الأعلاب، فانهزمت المرتدة من عك ومن معهم، وكان ذلك فتحاً عظيماً. وكتب أبو بكر رضي الله عنه إلى الطاهر بن أبي هالة قبل أن يأتيه بالفتح: بلغني كتابك تخبرني فيه مسيرك واستنفارك مسروقاً وقومه إلى الأخابث بالأعلاب، فقد أصبت، فعاجلوا هذا الضرب، ولا ترفهوا عنهم، وأقيموا بالأعلاب، حتى تأمن طريق الأخابث ويأتيكم أمري. فصار اسمهم الأخابث.
وأما عامل رسول الله على الطائف الشاب عثمان بن أبى العاص الثقفي فمنع أهل الطائف من الردة فأطاعوه، فبعث بعثا من أهل الطائف عليهم عثمان بن ربيعة إلى شَنوءة وقد تجمعت بها جموع من الأزْد وبَجيلة وخَثعم عليهم حميضة بن النعمان، فالتقوا بشنوءة فهزموا المرتدين وتفرقوا عن حميضة وهرب حميضة في البلاد، فقال في ذلك عثمان بن ربيعة:
وأبرقَ بارقٌ لما التقينا ... فعادت خُلَّبا تلك البروق
ولما بلغت أهلَ نجران وفاةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يومئذ أربعون ألف مقاتل من بنى الأفعى بن الجرهمي، فبعثوا وفدا ليجددوا عهدا فقدموا إلى أبي بكر، فكتب لهم كتابا:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب من عبد الله أبى بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأهل نجران أجارهم من جنده ونفسه، وأجاز لهم ذمة محمد صلى الله عليه وسلم، إلا ما رجع عنه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر الله عز وجل في أرضهم وأرض العرب أن لا يسكن بها دينان، أجارهم على أنفسهم بعد ذلك وملتهم وسائر أموالهم وحاشيتهم وعاديتهم وغائبهم وشاهدهم وأسقفهم ورهبانهم وبِيَعِهِم، ما وقعت وعلى ما ملكت أيديهم من قليل أو كثير، عليهم ما عليهم فإذا أدوه فلا يحشرون ولا يعشَّرون، ولا يغير أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ووفى لهم بكل ما كتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى ما في هذا الكتاب من ذمة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجوار المسلمين، وعليهم النصح والإصلاح فيما عليهم من الحق. شهد المِسْوَر بن عمرو وعمرو مولى أبى بكر.
وكان وفدٌ من نجران في ستين راكباً قد قدم المدينة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان على رأس الوفد العاقب عبد المسيح كبير أحبارهم، والأيهم رئيس البلد، ودخلوا على رسول الله في مسجده حين صلى العصر، عليهم جبب وأردية من الحِبَرات، والحبرة نوع فاخر من ثياب اليمن منقط بالسواد، وقال بعض من رآهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ: ما رأينا وفدا مثلهم. وحانت صلاتهم فقاموا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوهم. فصلوا إلى المشرق.
وجلس الوفد في المدينة أياماً، وسألوا الرسول عن أمورفنزل بها القرآن يبينها لهم، ثم دعاهم الرسول للمباهلة تنفيذاً لتوجيه الله عزوجل في سورة آل عمران: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾، فقالوا له: يا أبا القاسم دعنا ننظر في أمرنا، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه. فانصرفوا عنه ثم خلوا بالعاقب وكان ذا رأيهم فقالوا: يا عبد المسيح ماذا ترى؟ فقال: والله يا معشر النصارى، لقد عرفتم أن محمدا لنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم ما لاعن قومٌ نبيا قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم، والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم، فوادِعوا الرجلَ ثم انصرِفوا إلى بلادكم. فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا أبا القاسم قد رأينا ألا نلاعنك، وأن نتركك على دينك، ونرجع على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا، يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها من أموالنا، فإنكم عندنا رضا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتوني العشية أبعث معكم القوي الأمين. قال عمر بن الخطاب: ما أحببت الإمارة قط حبي إياها يومئذ رجاء أن أكون صاحبها، فرحت إلى الظهر مهجِّرا، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر سلم ثم نظر عن يمينه وعن يساره فجعلت أتطاول له ليراني، فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح فدعاه فقال: اخرج معهم، فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه. فذهب بها أبو عبيدة!
وممن ارتد مع الأسود العنسي عمرو بن معديكرب المدحجى، وهو خال قيس بن هبيرة ابن مكشوح، وكان قد وفد على النبى صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة للهجرة فأسلم، ورجع إلى بلاده، فلما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتد مع الأسود العنسى، فسار إليه خالد بن سعيد بن العاصى، فقاتله فضربه خالد على عاتقه فانهزم، وسلبه خالد سيفه الشهير الصمصامة، فلما رأى عمرو الإمداد من أبى بكر الصديق رضى الله عنه إلى اليمن أسلم، ودخل على المهاجر بن أبى أمية بغير أمان، فأوثقه وبعثه إلى أبى بكر.
فقال له أبو بكر رضى الله عنه: أما تستحى كل يوم مأسوراً ومهزوماً، لو نصرت هذا الدين لرفعك الله تعالى، قال عمرو: لا جَرَم، لأُقبِلنَّ ولا أعود! فقبل منه أبو بكر علانيته، ووكل سريرته إلى الله عز وجل، فأطلقه وعاد إلى قومه، ثم عاد إلى المدينة، فبعثه أبو بكر رضى الله عنه، إلى الشام، فشهد اليرموك، وله فيه بلاءٌ حسن؛ وذهبت فيه إحدى عينيه. ثم بعثه عمر رضي الله عنه إلى العراق؛ وكتب إلى سعد بن أبى وقاص أن يصدر عن مشورته فى الحرب، فشهد القادسية، وله فيها بلاء حسن، وهو الذي ضرب خرطوم الفيل بالسيف، فانهزمت العجم، وكان سبب الفتح. ومات سنة 21 في موقعة نهاوند مع النعمان بن مقرن.
وكان الأشعث الكندي، الأشعث بن قيس بن معديكرب، قد وفد على النبي صلى الله عليه وسلم في جمع من قومه، فأسلم وخطب أم فروة أخت أبي بكر، ولما ولي أبو بكر الخلافة امتنع الأشعث وبعض بطون كندة في حضرموت من تأدية الزكاة، ولما جاءت نجدات أبي بكر استسلم الاشعث لوالي حضرموت زياد بن لبيد، فأرسله موثوقا إلى أبي بكر في المدينة ليرى فيه رأيه، فجعل يكلم أبا بكر وأبو بكر يقول له: فعلتَ وفعلتَ! فقال الأشعث: استبقني لحربك، فوالله ما كفرتُ بعد إسلامي، ولكني شححتُ على مالي، فأطلقني وزوجني أختك أم فروة، فإني قد تُبتُ مما صنعتُ ورجعتُ منه من منعي الصدقة. فمنَّ عليه أبو بكر رضي الله عنه وزوجه أخته أم فروَة، ولما تزوجها دخل السوق فلم يمر به جزور إلا كشف عن عُرقوبها وأعطى ثمنها وأطعم الناس، ولم يزل بالمدينة إلى أن سار إلى العراق مجاهداً وشهد الوقائع وأبلى البلاء الحسن، ثم كان مع سعد بن أبي وقاص في حروب العراق، وكان مع عليٍٍّ يوم صفين، على راية كندة، وحضر معه وقعة النهروان، وتوفي سنة 40 مات بالكوفة وصلى عليه الحسن بعد صلح معاوية.
 

الجمعة، 24 يناير 2014

حدث في الثاني والعشرين من ربيع الأول

في الثاني والعشرين من ربيع الأول من سنة 626 وقع الملك الأيوبي الكامل اتفاقية لتسليم القدس للإمبراطور فردريك الثاني بعد مفاوضات دامت شهوراً وانتهت باتفاقية سلم فيها الملك الكامل القدس للفرنج مقابل ألا ينقضوا عليه وأن يقفوا معه في صراعه مع إخوته.
 
كيف وصلت الأمور أن يقوم ابن أخي صلاح الدين الأيوبي بتسليم القدس للصليييين بعد قرابة 40 من تحرير المسلمين لها على يد صلاح الدين في سنة 583؟! الجواب في نبوءة القاضي الفاضل عندما أعلن وفاة صلاح الدين سنة 589 لأبنائه وعشيرته وقال في كتابه:  إن وقع اتفاق فما عدمتم إلا شخصه الكريم، وإن كان غير ذلك فالمصائب المستقبلة أهونها موته وهو الهول العظيم.
ذلك إن صلاح الدين رحمه الله عندما توفي كان جعل أولاده ملوكاً على بلاد ومناطق الشام ومصر، وأخاه الملك العادل على الكرك والشوبك وإقليم شرق الأردن، وكان أولاده صغاراً أكبرهم الملك الأفضل نور الدين علي، الذي استقر في ملك دمشق عمره 23 عاماً، وكان كبير العائلة عمهم الملك العادل الذي كان عمره آنذاك 49 عاماً، وكان محنكاً ذا خبرة ناب عن صلاح الدين في حياته في مصر والشام.
وقد سبب هذا التوزيع عدة مشاكل تفاقمت بعد وفاة صلاح الدين، أولها أن الدولة الأيوبية بقيت دون إدارة مركزية، بل مجموعة دول ودويلات هي أشبه بما نسميه اليوم بالدولة الاتحادية، وجمع هذه المجموعة يتطلب مقدرة سياسية ومهارة إدارية، هذا في وقت السلم، فكيف والأعداء ما زالوا يتربصون بهذه الكيانات الدوائر، وينتهزون الفرصة للانقضاض عليها وانتقاصها؟! وثانيها أنه ترك الدولة الإيوبية دون منهج واضح يقرر طريقة توارث الحكم بين أفرادها أو حل خلافاتها، وثالثها عدم جامعة تلم شأنها وتوزع الأعباء بين وبخاصة في حالة هجوم الأعداء عليها، وقد ساهمت هذه العوامل في بقاء واستقرار الفرنجة في الساحل السوري بعد وفاة صلاح الدين، ونشطوا عندما دب الخلف بين الأبناء والأحفاد.
ووقع الخلاف بين البنين وبين عمهم في الباطن أولا، ثم خرج إلى العلن، ذلك إن الملك الأفضل استوزر ضياء الدين ابن الأثير، نصر الله بن محمد الجزري، المولود سنة 558 والمتوفى سنة 637، فحسن له طرد أمراء أبيه  ليخلو له وجه الملك، ففارقوه إلى أخويه الملك العزيز عثمان بمصر والملك الظاهر بحلب، وحسنوا للملك العزيز الانفراد بالسلطنة، وحدثوه عن سوء سيرة أخيه الأفضل، فحصلت الوحشة بين الأخوين واستحكم الفتور، وسار العزيز في عسكر مصر في سنة 590 وحصر أخاه الأفضل بدمشق عشرة أشهر وقطع الماء عنها، فأرسل الأفضل إلى عمه العادل وأخيه الظاهر وابن عمه الملك المنصور صاحب حماة يستنجدهم، فساروا إلى دمشق وأصلحوا بين الأخوين وعاد كل ملك إلى بلده، وعاد الأفضل إلى اللهو واللعب، واحتجب عن الرعية وانقطع إلى لذاته، فسمي الملك النوام، واستبدل وزيرُه وحاجبُه أراذل الناس بكبراء الأمراء والأجناد ففسدت أمور العباد.
وفي السنة التالية عاد الملك العزيز وقصد الشام  من مصر، فاضطرب عليه بعض عسكره، وفارقوه فعاد العزيز إلى مصر، وكان الأفضل استنجد بعمه العادل لما قصده أخوه، فلما رحل العزيز إلى مصر رحل الملك الأفضل وعمه العادل وساروا في أثره حتى نزلوا على بلبيس قرب القاهرة، وأراد الملك الأفضل قتال أخيه الملك العزيز فمنعه عمه العادل وقال: مصر لك متى شئت.
وطلب العم العادل من ابن أخيه الملك العزيز أن يرسل القاضي الفاضل ليصلح بين الأخوين، وكان قد اعتزل عن ملابسة أولاد صلاح الدين لما رأى من فساد أحوالهم، ففعل وتوجه القاضي الفاضل من القاهرة الى الملك العادل واجتمع به واتفقا على أن يصلحا بين الأخوين فأصلحا بينهما.
وأقام العادل بمصر عند العزيز ابن أخيه ليقرر أمور مملكته، وعاد الأفضل إلى دمشق وأموره بيد الجزري يدبرها برأيه حتى كثر شاكوه وقل شاكروه، وكتب أعيان الدولة إلى العادل يشكونه، فأرسل العادل إلى الأفضل يقول: ارفع يد هذا الأحمق السيئ التدبير، القليل التوفيق. فلم يلتفت لرأيه، فاتفق العم الملك العادل مع ابن أخيه الملك العزيز في سنة 592 على المسير إلى الشام ، واستشار الأفضل أصحابه فأشاروا عليه ألا يخالف عمه وأخاه، إلا الوزير الجزري فإنه أشار عليه بالعصيان.
واتفق العادل مع العزيز على أن يأخذا دمشق وأن يسلمها العزيز إلى العادل، ولما نزلا على دمشق وقد حصنها الأفضل، كاتب بعض الأمراء الملك العادل وسلموا المدينة إليه، واستسلم الملك الأفضل لمصيره وسلم دمشق لعمه العادل على أن يكون ثلث البلاد للعادل والثلثان للأفضل وهو السلطان، وتكون الخطبة والسكة للملك العزيز في جميع المملكة كما كانت لأبيه، وخرج الملك الأفضل إلى قلعة صرخد فسار إليها بأهله واستوطنها، وأخرج وزيره الجزري في الليل في صندوق خوفا عليه من القتل، فأخذ أموالا عظيمة وهرب إلى بلده.
وفي سنة 595 توفي الملك العزيز عثمان في مصر، وعمره 27 سنة، فأقاموا ولده  الملك المنصور محمد، وعمره 9 سنين، واتفقت الآراء على إحضار أحد بني أيوب ليقوم بالملك، وأشار القاضي الفاضل أن يؤتى بالملك الأفضل من بصرخد ليكون أتابك الملك المنصور بن الملك العزيز، ولما وصل الأفضل إلى مصر كره ذلك كبير الأمراء وسار مع من تبعه إلى الشام بقصد الانضمام للملك العادل، وكان آنذاك  يحاصر ماردين.
وأرسل ملك حلب الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين إلى أخيه الأفضل يشير عليه أن ينتهز فرصة اشتغال العادل بماردين، فيقصد دمشق ويأخذها من عمه العادل، فأخذ بنصيحته وسار إلى دمشق، فبلغ العادل مسيره فعاد إليها، ونزل الأفضل على دمشق وجرى بين العم وابن أخيه قتال، رجحت كفته لصالح الملك العادل، ثم وصل إلى الأفضل أخوه الظاهر، ومن المفارقات أنه زوج ابنة الملك العادل، فحاصرا دمشق زماناً وقطعوا عنها الأنهار وأحرقوا غلة حرستا في بيادرها، حتى شحت الأقوات فيها، فلجأ العادل للدهاء وبث الشقاق بين الأخوين، فبعث إلى الظاهر يقول له: أنا أسلم إليك دمشق على أن تكون أنت السلطان وتكون دمشق لك لا للأفضل. فطمع الظاهر وأرسل إلى الأفضل يقول: أنت صاحب مصر فآثرني بدمشق. فقال: دمشق لي من أبي، وإنما أخذت مني غصبا فلا أعطيها أحدا.
وإزاء هذا الموقف ترك الظاهر ترك قتال العادل في سنة 596، فانتهى الحصار، وسار الأفضل إلى مصر والظاهر إلى حلب، فخرج العادل من دمشق في إثر الأفضل إلى مصر، وهزمه وأجبره تسليم مصر على أن يعوضه عنها مدناً في جنوب تركية اليوم هي ميافارقين وسميساط، فأجابه العادل إلى ذلك ولم يف له به، وعاد الأفضل إلى صرخد.
وأقام العادل بمصر مدة يسيرة ثم أزال الملك المنصور واستقل في السلطنة، وخطب لنفسه ولولده الكامل محمد من بعده، وكان ذلك مبدأ سلطنة العادل، فإن الملكين الأخوين الظاهر والأفضل قبلا أن ينضويا تحت رايته ولكن ليس بعد محاولات تمرد باءت بالفشل، واستقر الأمر للعادل سنة 598، وانتظمت ديار الشام والشرق ومصر كلها في سلك ملكه وخطب له على منابرها وضربت السكة فيها باسمه، وأخذ في السنوات التالية يقلم أظافر أمراء الأقاليم المدن والحصون ويخضعهم لسلطانه التي امتد من جنوبي تركية اليوم إلى مصر والحرمين.
وكانت بقايا الصليبيين في عكا وصور وطرابلس، وكانت تجري بينهم وبين الملك العادل مناوشات ومعارك من حين لآخر، غالباً ما كانت تنتهي بالتفاوض والتهادن مع بعض التنازلات من الطرفين، وكان العادل قد توصل بدهائه إلى أن يرشي نساء قواد الصليبيين بالجواهر والمصنوعات الدمشقية فينقلن له أخبار قومهن وما يزمعون القيام به من حملات صغيرة أو كبيرة.
ثم مالبثت الحملة الصليبية الخامسة أن وصلت من أوربا إلى عكا في جمع عظيم في سنة 615 وانفسخت بذلك الهدنة بين المسلمين والفرنج، وخرج العادل بعساكر مصر ونزل على نابلس فسار الفرنج إليه وكان عددهم 15.000 مقاتل، ولم يكن معه من العساكر ما يقدر به على مقاتلتهم، فانسحب من وجههم وانطلقوا يشنون الغارات حتى وصلوا إلى صيدا ثم جزِّين على الساحل اللبناني.
واختلف ملوك الحملة الصليبية في الهدف التالي هل يكون دمشق أم مصر انتهازاً لفرصة وجود العادل في الشام، واستقر رأيهم على مهاجمة السواحل المصرية، ومقايضة القدس بما سيحتلونه، فهاجموا الساحل المصري، فنفر العادل في بلاد الشام وابنه الكامل في مصر لصد الهجمات الصليبية القائمة والمتوقعة، فسار الملك الكامل من القاهرة لمواجهتهم، وأرسل أبوه القوات التي عنده كذلك لتنضم إليه، وبقي هو في الشام.
وكان أول نجاح للصليبيين أن استولوا بعد قرابة 4 شهور على برج السلسلة في دمياط، وهو برج عليه سلسلة تمنع دخول السفن من البحر إلى النيل، وذلك أنهم بنوا مركباً بعلو سورها، وشحنوه من الرجال والسلاح وأجروه في البحر إلى أن اتصل بالبرج فوثبوا إليه واستولوا عليه، وظنوا أن النيل أصبح مفتوحاً أمام سفنهم، فأخذ الملك الكامل عدة مراكب كبار وملأها بالحجارة وأغرقها فسدت الطريق على مراكبهم، ولما جاء خبر سقوط البرج إلى الملك العادل وهو مرابط في حوران في منتصف سنة 615 تأثر كثيراً وتوفي على إثره، فجاء ابنه الملك المعظم عيسى من نابلس وكتم موته، وعاد به في محفة إلى دمشق، وحلف له الناس وكتب على جناح الطير إلى الملوك من إخوته يخبرهم بموته، وكان الحمام الزاجل الوسيلة الأساسية للاتصالات الرسمية في الدولة الأيوبية.
ولما بلغ خبرُ موتِ الملك العادل الجيشَ الأيوبي في دمياط، وقع الاختلاف فيه وطمع الأمير عماد الدين المشطوب في الملك، وبدأ يخطط لخلع الملك الكامل الذي تضعضع موقفه واضطربت عزيمته، حتى إنه فكر بترك البلاد والذهاب إلى اليمن، وبلغ أخاه المعظم ذلك فجاء من الشام إلى أخيه الكامل، وأخرج عماد الدين ونفاه من العسكر إلى الشام فانتظم أمر الكامل، وكان ثمن هذه الفتنة أن قويت شوكة الفرنج ووهنت نفوس المسلمين.
وكان الملك العادل الوريث الحقيقي لصلاح الدين، لا لكونه أخاه، بل من حيث رغبته في متابعة الجهاد وحركته الدائمة، ولو رصد المرء حركته في السنين التي تلت وفاة صلاح الدين لوجد أنه لم يكن له مقر دائم على الحقيقة، بل كان يذهب حيث كان وجوده ضرورة لصد عدو أو لرأب شمل.
وكان العادل كذلك قد قسم المملكة في حياته بين أولاده، فجعل بمصر الكامل محمدا، وبدمشق والقدس وطبرية والأردن والكرك وغيرها من الحصون المجاورة لابنه المعظم عيسى، وابنه الملك الأشرف موسى على الرها وحران، ولما توفي لم يجر مع أولاده ابتداءً من الاختلاف ما جرت العادة أن يجري بين أولاد الملوك بعد آبائهم، بل كانوا على قلب رجل واحد، كل منهم يثق بالآخر بحيث يحضر عنده منفردا من عسكره ولا يخافه.
واحتل الفرنج دمياط في شعبان سنة 616 بعد أن هلك أهلها بالجوع والوباء، فشق ذلك على الملك الكامل ابن الملك العادل، وسار من القاهرة لمواجهتهم، وبنى مدينة المنصورة مقابلهم في البر على مفترق شعبتين من النيل تنتهي إحداهما في دمياط، وأرسل أبوه القوات التي عنده كذلك لتنضم إليه، وبقي هو في الشام، وفي سنة 618 بدا أن الفرنج في دمياط على وشك أن يأخذوا مدينة المنصورة، واشتد القتال بين الفريقين برا وبحرا وكتب الكامل إلى إخوته وأهل بيته يستحثهم على إنجاده، فساروا إليه بالمدد، وكان الكامل قد بدأ مفاوضات مع الفرنج، وبذل لهم مقابل الصلح واستعادة دمياط أن يسلمهم القدس وعسقلان وطبرية واللاذقية وجبلة وجميع ما فتحه صلاح الدين من الساحل ما عدا الكرك والشوبك، فلم يرض مبعوث البابا بذلك وأصرعلى تسليم الكرك والشوبك، وكان يعلق آماله على قدوم وشيك لفردريك الثاني يحققون به نصراً ساحقاً على المسلمين.
وفي أثناء المفاوضات تمكنت جماعة من عسكر المسلمين ففتحوا من النيل في أثناء زيادته بثقاً صار حائلا بين الفرنج أمام المنصورة وبين عودتهم إلى دمياط، وانقطعت عنهم الميرة والمدد، وأحبط المسلمون محاولة بحرية لإمداد جيش دمياط بالمؤن والرجال، فاضطر الفرنج المحاصرون أن يطلبوا الأمان والصلح، ويقنعوا من الغنيمة بالإياب، وانتهت الحملة الصليبية الخامسة بالفشل الذريع، وتذكر المراجع الغربية أن ممن شارك في هذ الحملة الراهب فرانسيس الأسيسي، القديس فيما بعد، والذي ألح حتى سُمح له بمقابلة الملك الكامل وجرت بينهم مناقشات دينية. 
قال المؤرخون المسلمون: لما تقرر الصلح جلس الملك الكامل في خيمته، وحضر عنده الملوك، فكان على يمين السلطان صاحبُ الملك حمص المُجاهد، ودونه الملك الأشرف شاه أرمن، ودونه الملك المعظم عيسى، ودونه صاحب حماة، ودونه الحافظ صاحب جعبر، ومُقدم نجدة حلب، ومُقدم نجدة الموصل، ومُقدم نجدة ماردين، ومقدّم نجدة إربل، ومقدم نجدة ميافارقين، وكان على يساره نائب البابا، وصاحب عكا، وصاحب قبرص، وصاحب طرابلس، وصاحب صيدا، وعشرون كوُنْت لهم قلاع في المغرب، ومقدم الداوية، ومُقدم الإسبتار، وكان يوماً مشهوداً، فرسم السلطان بمبايعتهم وكان يحمل إليهم في كل يوم خمسين ألف رغيف، ومئتي إردب شعير... فركب السلطان ومعه صاحب عكا فأخرج السلطان من صدر قبائه صليب التابوت، الذي كان صلاح الدين أخذه من خزائن خلفاء مصر فلما رآه صاحب عكا رمى بنفسه إلى الأرض، وشكر السلطان، وقال: هذا عندنا أعظم من دمياط. وقال له السلطان: خذ هذا تذكاراً من عندي، واركب في مركب، ورُح أنفذ رهائننا. فلم يفعل، وبعث الصّليب مع قسيس.
وبعد زوال خطر الفرنج الداهم بدأ الملك المعظم يتطلع إلى توسيع ملكه فهاجم حماة، ولكن أخاه الملك الكامل أمره بالعودة عنها فرحل مغضبا، وفي سنة 623 سار المعظم ونازل حمص ثم رحل عنها إلى دمشق، وورد عليه أخوه الأشرف طلبا للصلح وقطعا للفتن، فبقي مكرما ظاهرا وهو في الباطن كالأسير معه، ولما رأى الأشرف حاله مع أخيه المظفر وأنه لا خلاص له منه إلا بإجابته إلى ما يريد، حلف له مكرهاً أن يعاضده ويكون معه على أخيهما الكامل، وأن يكون معه على صاحبي حماة وحمص، فلما حلف له على ذلك أطلقه المعظم، ولما استقر الأشرف بأرضه رجع عن جميع ما تقرر بينه وبين أخيه المعظم، وتأول في أيمانه التي حلفها أنه مكره.
وإلى جانب الخطر الصليبي كان هناك خطر خارجي آخر تهدد مملكة الكامل، فقد برز الملك جلال الدين خوارزم شاه، محمد بن تكش بن آتسز، الذي تولى الملك بعد وفاة أبيه سنة 596، وكان مقاتلاً شديد المراس، لا يضحك إلا تبسما، ولا يكثر كلاما، هزم المغول أول خروجهم وقتل ابن جنكيز خان، ثم كسروه فاتجه شرقاً، ومن علو همته استولى على كرمان ثم شيراز وأراد الاستيلاء على بغداد والمشرق العربي، وهاجم أراضي الملك الكامل في الجزيرة الفراتية، واستولى على بعضها سنة 626، وخشيه ملوك وأمراء المنطقة لطموحه وشجاعته، فتحالفوا ضده وهزموه  في سنة 627 ثم أدركته المنية سنة 628، عن 32 سنة، فاختفى هذا الخطر الداهم الشديد.
وفي سنة 624 كتب الملك المعظم إلى السلطان جلال الدين خوارزم شاه، يسأله أن ينجده ويعينه على أخيه الملك الكامل، ويكون من جملة المنتمين إليه، ويخطب له على منابر بلاده، ويضرب باسمه الدينار والدرهم، فأجابه إلى ذلك، وسير إليه خلعةً فلبسها، وشق بها مدينة دمشق، وغرم على رسل السلطان جلال الدين، في مدة تسعة أشهر، تسعمئة ألف درهم، وقطع خطبة الملك الكامل.
وبلغ ذلك الكامل، فخرج من القاهرة بعساكره قاصداً الشام، فبعث إليه المعظم رسولاً بكتابين أحدهما سري جاء فيه: إني نذرت لله تعالى أنَّ كل مرحلة ترحلها لقصدي أتصدق بألف دينار، فإن جميع عسكرك معي، وكتبهم عندي، وأنا آخذك بعسكرك! وأما الكتاب العلني فجاء فيه: إني مملوكك، وما خرجت عن محبتك وطاعتك، وحاشاك أن تخرج وتقابلني، وأنا أول من أنجدك وحضر إلى خدمتك من جميع ملوك الشام والشرق. فأظهر الكامل هذا بين الأمراء، ورجع إلى القاهرة وقبض على عدة من الأمراء ومماليك أبيه، لمكاتبتهم المعظم.
واعتبر الكامل التهديد الخوارزمي أخطر من تهديد الصليبين الذين وصلت الأوضاع بينه وبينهم إلى حالة من توازن القوى، فلم يعد أحد منهم يهدد وجود الآخر أويخطط أو يتطلع لذلك، أما جلال الدين فكان يريد تأسيس دولة إسلامية واحدة من الهند إلى مصر بل وما بعدها، وهو جندي متقشف لا يأبه بنعيم الدنيا ولذائذ الملك، مفطور على حب القتال إلى حد التهور، لا يقيم لأحد وزناً ولا يعبأ بملك أو خطير، أرسل له الخليفة الناصر من بغداد شهاب الدين السهروردي رسولاً، فلم يأبه له ولمقام الخلافة، بل توعد بخلع الخليفة وتنصيب آخر مكانه، فهو مسعر حرب ومبيد دول ومنزل نقم.
ويذكر المؤرخون المسلمون أن تهديد خوارزم شاه وتحالف الملك المعظم معه، جعل الكامل يكاتب الأنبرور ملك الألمان أن يحضر إلى عكا، ويعطيه بعض ما بيد المسلمين من بلاد الساحل، وغرضه من هذا أن يشغل أخاه وخوارزم شاه، فأرسل الكامل إلى فردريك الثاني في إيطالية رسالة حملها أخوه من الرضاعة الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ، وكان لا يطوي عنه سراً، ويعتمد عليه في سائر أموره، ويثق به وثوقاً عظيماً، ويسكن إليه ظاهراً وباطناً، وسيستشهد في موقعة المنصورة مع لويس التاسع بعد قرابة 20 سنة.
وأجاب فردريك الملك الكامل بقبول عرضه، وأرسل هدية سنية وتحف غريبة، فيها عدة خيول، منها فرس الملك بمركب ذهب مرصع بجوهر فاخر، فاستقبل الكامل الرسول بالقرب من القاهرة بنفسه، وأكرمه إكراماً زائداً، وأنزله في دار الوزير صفي الدين بن شكر، واهتم الكامل بتجهيز هدية سنية إلى ملك الفرنج فيها من تحف الهند واليمن، والعراق والشام، ومصر والعجم ما قيمته أضعاف ما سيره، وفيها سرج من ذهب، وفيها جوهر بعشرة آلاف دينار مصرية، وعين الكامل للسير بهذه الهدية جمال الدين بن منقذ الشيزري. وسار رسول فردريك بعد ذلك إلى الملك المعظم في دمشق في نفس الصدد، ولعله أطلعه على موقف أخيه زيادة في التوهين، وأياً كان فقد كان جواب الملك المعظم صلباً لا استخذاء فيه، قال للرسول: قل لصاحبك ما له عندي إلا السيف.
ومن الغرابة أن يسعى الملك الكامل للتحالف مع الصليبيين ويدفع هذا الثمن المادي والمعنوي الباهظ، وهو الذي قال من قبل لأخيه الأشرف عندما جاء هو إلى دمشق ثم رجع عنها أثناء توتر العلاقات مع أخيه الملك المعظم: وأنت تعلم أن عمنا السلطان صلاح الدين فتح بيت المقدس، فصار لنا بذلك الذكر الجميل على تقضي الأعصار وممر الأيام، فإن أخذه الفرنج حصل لنا من سوء الذكر وقبح الأحدوثة ما يناقض ذلك الذكر الجميل الذي أدخره عمنا، وأي وجه يبقى لنا عند الناس وعند الله تعالى، ثم ما يقنعون حينئذ بما أخذوه ويتعدون إلى غيره، وحيث قد حضرت أنت فأنا أعود إلى مصر واحفظ أنت البلاد، ولست بالذي يقال عني أني قاتلت أخي أو حصرته، حاشا لله تعالى.
ثم توفي المعظم سنة 624، عن 48 سنة، وكان عالماً باللغة والفقه، وكما رأينا شجاعاً جريئاً فخوراً بنفسه، يهتم بجنده وكأنه واحد منهم، لديه ثلاثة آلاف فارس، وكان بهذا العسكر القليل يقاوم إخوته وتعظمه الملوك من حوله.
وذكر سبط ابن الجوزي أن الملك المعظم كان على منهج والده في التجسس على الفرنج، وكان يعطي النساء والجواسيس الأموال الكثيرة. قال يوسف سبط ابن الجوزي: قلت للملك المعظم في بعض الأيام: هذا إسراف في بيوت الأموال. فقال: أنا أستفتيك: لما أن عزم الأنبرور على الخروج إلى الشام، أراد أن يخرج من عكا بغتة، ويسير إلى باب دمشق، فبعث فارساً عظيماً، وقال له: أخف أمرنا ومجيئنا إلى البلاد لنُغِيرَ بغتة. وكان بعكا إمرأة مستحسنة، فكتبت إلي تخبرني الخبر، فبعثت إليها ثياباً ملونة، ومقانع وعنبرا، فلبست ذلك، واجتمعت بذلك الفارس. فدهش، وقال: من أين لك هذا؟ فقالت: من عند صديقٍ لي من المسلمين. فقال: من هو؟ فقالت: الكريدي. فصلّب على وجهه، وقام فخرج من عندها، فما زالت تلك المرأة تتلطف به، حتى تسحب المودة بيني وبينه، فصرت أهاديه، حتى كان يبعث إليّ كتب الأنبرور التي يبعثها إليه، مختومة، وأرسل إليه، فيكتب ما أقول. فأنا أداري عن المسلمين بهذا القدر اليسير، وأفدي به الخطير، فإن الأنبرور لو جاء بغتةً، أسر من أهل الشام، وساق من مواشيهم وأموالهم ما لا يحصى قيمته.
وقام بالأمر من بعده ولده الملك الناصر صلاح الدين داود، وعمره 21 سنة، فقصده عمه الملك الكامل من مصر ليأخذ دمشق منه، فاستنجد بعمه الملك الأشرف، فجاء إليه في دمشق، ثم خرج منها متوجهاً إلى أخيه الملك الكامل، واجتمع به وجرى الاتفاق بينهما على أخذ دمشق من الملك الناصر وتسليمها إلى الملك الأشرف، ومقابل ذلك ينزل الملك الأشرف عن حران والرها وسروج والرقة ورأس عين، ويسلمها إلى الملك الكامل، ويبقى للملك الناصر الكرك والشوبك ونابلس وبيسان وتلك النواحي، وندم الملك الكامل على مراسلاته مع فردريك الثاني إذ لم يبق له حاجة إليه، ولكن لات حين مندم.
وفي منتصف سنة 625 جاء فردريك الثاني من إيطالية كرسي ملكه على رأس الحملة الصليبية السادسة، وقد ولد الإمبراطور الروماني المقدس سنة 591=1194 في إيطاليا، وتوفي والده هنري سنة 593، وعمره 32 سنة، وهو على وشك أن يرحل في حملة صليبية، ولم يوافق الأمراء الألمان أن يخلف الطفل والده، واختلفوا على انتخاب خلفه، فانتخبوا ملكين متنافسين، وذهبت بفريدريك أمه  إلى مملكة صقلية التي كانت ضمن ممالك والده وجرى تتويجه سنة 594 ملكاً على صقلية، وتوفيت والدته بعدها بقليل تاركة البابا إنوسنت الثالث وصياً على ابنها، فعين قيماً عليه راهباً سيصبح فيما بعد البابا أونريوس الثالث، ويبدو أن الملك الصغير قد تعلم العربية أثناء نشأته في صقلية.

وفي سنة 605 أعلن عن بلوغ فردريك سن الرشد، وتزوج في سنة 606 كوستانس أميرة أراجون الإسبانية مما وفر له عددا من الأشراف وجنودهم استطاع أن يوطد بهم دعائم ملكه في صقلية، ثم خلع الأمراء الألمان ملكهم وانتخبوا فردريك ملكاً على الإمبراطورية الألمانية المقدسة سنة 608، وأبدى الملك الشاب مبادرة وشجاعة في القضاء على منافسيه واستتب له الأمر سنة 611، إلا أن علاقاته بالبابا الطامع في صقلية كانت تمر بمد وجزر من حين لآخر.
وتوَّجه البابا إمبراطوراً سنة 617، فكان هذا ذروة الشرف له، ثم قام بتوطيد الأمور في صقلية والقضاء على المتمردين المسلمين فيها في حملة دامت سنتين 619-620، ونقل كل مسلمي صقلية إلى أنبولية Apulia في البر الإيطالي، وأسكنهم مدينة لوجاره Lucera وجعلهم جنوده المقربين لاطمئنانه أنهم لن يؤثرون البابا عليه في يوم من الأيام، وتوفيت زوجته كوستانس سنة 619، فتزوج الأميرة يولاند أو  إيزابيلا من سلالة بريّنّ Brienne، والتي كانت سلالتها وريثة اللقب الإسمي لمملكة القدس، وكان والدها أحد قادة الحملة على دمياط، وانتزع فردريك اللقب من أخيها وأعلن نفسه ملكاً على القدس قبل أن تطأها أقدامه.
وكان فردريك قد نذر لما توج سنة 608 و 617 أن يقود حملة صليبية تسترجع ما حرره صلاح الدين من أيديهم، ودأب البابا يذكره بميثاقه، ولكن كانت الظروف المختلفة تحول بينه وبين الرحيل إلى الأراضي المقدسة، ولما فشلت الحملة الصليبية الخامسة في دمياط والمنصورة، أنحت الكنيسة باللائمة عليه وألبت عليه الرأي العام المسيحي لكونه بتقاعسه سبب هذا الفشل الكارثي.
ولما جاء البابا جريجوار التاسع في أوائل سنة 624 لم يعبأ بظروف وأعذار فردريك، وأوقع به أقصى عقوبة دينية عندما أصدر مرسوماً بحرمانه كنسياً في سنة 625، ولم يعبأ فردريك كثيراً بالمرسوم ورحل في منتصف عام 625 إلى قبرص فاحتلها ثم نزل في عكا، وأحجم أمراء الصليبين عن التعاون معه متعللين ظاهراً بالحرمان البابوي، ومتخوفين في الحقيقة من طموحه وما هو معروف عنه من استئثار بالحكم ورغبة في توحيد الدولة المسيحية تحت لواء إمبراطوريته، بل ويقال إن الأمراء كتبوا للكامل يعرضون القبض على الإمبراطور حينما تقع المعركة، فأطلعه الكامل على كتبهم، فعرف له ذلك بالشكر والتقدير.
وأجرى فردريك تقييماً للموقف أدرك فيه أنه لا يستطيع تحقيق نصر عسكري بما معه من القوات، ودون مساعدة الإمارات الصليبية فلجأ للتفاوض، وبدأها من حيث انتهى اتصال الملك الكامل معه، وقال له: : أنا عتيقك وأسيرك، وأنت تعلم أنّي أكبر ملوك البحر، وأنت كاتبتني بالمجيء، وقد علم البابا وسائر ملوك البحر باهتمامي وطلوعي، فإن أنا رجعت خائباً، انكسرت حرمتي بينهم، وهذه القدس فهي أصل اعتقادهم وحجّهم؛ والمسلمون قد أخربوها، وليس لها دخلٌ طائل، فإن رأى السّلطان - أعزّه الله - أن ينعم عليّ بقصبة البلد، والزيادة تكون صدقة منه، وترتفع رأسي بين الملوك، وإن شاء السّلطان أن يكشف عن محصولها، وأحمل أنا مقداره إلى خزانته فعلت. وكنتم بذلتم لنائبي في زمن حصار دمياط الساحل كله، ومَنْ نائبي؟ إن هو إلا أقل غلماني! فلا أقل من إعطائي ما كنتم بذلتموه له.
وشاور الملك الكامل أمراءه فأجابوه على هواه إلا الأمير سيف الدين ابن أبي زكري فانه قال: أبق دمشق على ابن أخيك الملك الناصر، واطلبه، واطلب أخاك الملك الأشرف وعسكر حلب. ونقاتل هذا العدوّ فإما لنا وأمّا علينا، ولا يقال عن السلطان أنه أعطى الفرنج القدس. فامتعض لذلك وقبض عليه وحبسه.
ودامت المفاوضات عدة أشهر شارك فيها عن الجانب الأيوبي الأمير فخر الدين يوسف وصلاح الدين الإربلي، وتسلط الخوف من القتال على الملك الكامل فكان يتساهل في تقديم التنازلات، وانتهت المفاوضات باتفاقهما على إعطائه القدس فقط دون ريفها، والقرى التي على طريق عكا- القدس، وبيت لحم والناصرة، وأن تبقى قبة الصخرة ومسجد الأقصى في يد المسلمين، وتقام فيهما شعائر الإسلام، وألا يقوم فردريك ببناء سور حول القدس عوضاً عن الذي هدمه الملك المعظم، وأن تبقى الهدنة بينهم 10 سنوات، وأن يتعهد فردريك أن تشارك فيها الإمارات الصليبية الباقية في السواحل كطرابلس وإنطاكية.
ولم يلق الاتفاق القبول من بقية الصليبين، وأدانه البابا وبطريرك القدس، وأعلن الأخير الذي عُرف بحقده على العرب انزعاجه بخاصة من الوضع الخاص للمسلمين في المدينة المقدسة، ومن عدم ذكر حقوق كنيسته، وأن ظاهر القدس حيث توجد كنيسة القبر المقدس بقي في أيدي المسلمين، ولم رض عن الاتفاق كذلك فرسان المعبد Templars والأسبتارية Hospitalers، واعتبروه لعبة سياسية من فردريك لتوطيد مملكته على حساب الصليبين الذين قيد الاتفاق حركتهم ضد المسلمين، واعتبر بعضهم الإمبراطور كافراً أو زنديقاً واسموه تهكماً تلميذ محمد.
ولعل القصص التالية التي رواها مؤرخو المسلمون تفسر ذلك: بعث الإمبراطور يستأذن في دخول القدس، فأجابه الكامل إلى ما طلبه، وسير في خدمته القاضي شمس الدين قاضي نابلس، المولود سنة 590 والمتوفى سنة 679، فسار معه إلى المسجد بالقدس، وطاف معه ما فيه من المزارات، وأُعجِبَ الأمبراطور بالمسجد الأقصى وبقبة الصخرة، وصعد درج المنبر، فرأى قسيساً بيده الإنجيل، وقد قصد دخول المسجد الأقصى، فزجره وأنكر مجيئه، وأقسم لئن عاد أحد من الفرنج يدخل هنا بغير إذن ليأخذن ما فيه عيناه، فإنما نحن هنا مماليك السلطان الملك الكامل وعبيده، وقد تصدق علينا وعليكم بهذه الكنائس، على سبيل الإنعام منه، فلا يتعدى أحد منكم طوره. فانصرف القس وهو يرعد خوفاً منه.
ونزل الملك في دار في القدس وأمر القاضي شمس الدين المؤذنين ألا يؤذنوا تلك الليلة، فلم يؤذنوا البتة، فلما أصبح الملك قال للقاضي: لم لم يؤذن المؤذنون على المناير؟ فقال له القاضي: منعهم المملوك إعظاماً للملك واحتراماً له. فقال له الإمبراطور: أخطأتم يا قاضي، تغيرون أنتم شعاركم وشرعكم ودينكم لأجلي، فلو كنتم عندي في بلادي هل أبطل ضرب الناقوس لأجلكم؟ الله الله لا تفعلوا، هذا أول ما تنقصون عندنا، والله إنه كان أكبر غرضي في المبيت بالقدس أن أسمع أذان المسلمين وتسبيحهم في الليل. ثم فرَّق في القُوَّام والمؤذنين والمجاورين جملة أعطى كل واحد عشرة دنانير، ولم يقم بالقدس سوى ليلتين، وعاد إلى يافا وخاف من الداوية فإنهم طلبوا قتله.
أما بين المسلمين فكان لتسليم القدس للصليبين رنة أسى عميقة في كل بلد، وقام سبط ابن الجوزي في الجامع الأموي بدمشق، فقال في وعظه: انقطعت عن بيت المقدس وفود الزائرين! يا وحشة للمجاورين! كم كانت لهم في تلك الأماكن ركعة! كم جرت لهم في تلك المساكن من دمعة! بالله لو صارت عيونهم عيوناً لما وفت، ولو انقطعت قلوبهم أسفاً لما اشتفت! أحسن الله عزاء المسلمين! يا خجلة ملوك المسلمين! لهذه الحادثة تسكب العبرات، ولمثلها تنقطع القلوب من الزفرات، لمثلها تعظم الحسرات. ثم أنشد قوله:   
أعيني لا ترقى من العبرات ... صلى بالبكا الآصال بالبكرات
وفي 20 ربيع الآخر سنة 626 توج فردريك نفسه ملكاً على القدس في كنيسة القبر المقدس، دون مشاركة بطرك القدس، فكانت هذه ذروة المجد له، وبدأ يتخيل نفسه المسيح المنتظر أو داود عليه السلام، بل قارن نفسه بالمسيح في أحد مراسيمه، ولكنه لم يُمتع بهذا المجد لأن قوات البابا هاجمت صقلية فاضطر فردريك للعودة على عجل وأخرجهم منها مدحورين، ولكنه كان عاقلاً فلم يهاجم الولايات البابوية، وتلقى ثوابه على ذلك عندما ألغى البابا مرسوم الحرمان في سنة 627، وكانت هذه أول وآخر مرة يطأ فيها فردريك الأرض المقدسة، فقد أمضى ما تبقى من حياته في صراع لا ينقطع مع البابوات، الذين حرموه 3 مرات أخرى، ومع الأمراء والملوك المنافسين أو المتمردين قبل أن يموت في أنبولية سنة 648.

ونذكر استطراداً أن العلاقات بين حكام مصر وبين أسرة فردريك الثاني في أنبولية دامت علاقات ودية لفترة من الزمن، فنجد أن الظاهر بيبرس أرسل في سنة 659 رسولاً إلى مانفرد ابن فردريك الثاني، وكان هو القاضي العلامة جمال الدين محمد بن سالم بن واصل، قاضي القضاة الشافعي بحماة، المولود سنة 604 والمتوفى سنة 697، مؤلف مفرج الكروب في أخبار بني أيوب، فأكرمه الإمبراطور منفريد المذكور واجتمع به مراراً، ووجده القاضي متميزاً ومحباً للعلوم العقلية، يحفظ عشر مقالات من كتاب إقليدس، وألف له ابن واصل كتاب الأنبرورية في المنطق.
تابع الكامل توسعه بعد تسليم بيت المقدس فأخذ في سنة 629 آمد، وهي اليوم ديار بكر في جنوبي تركية، وكانت العلاقات بين الملك الكامل وبين أخيه الملك الأشرف ممتازة إلى أن دبت الوحشة بينهما، وخرج الأشرف عن طاعة الكامل، وتعاهد هو وصاحب الروم وصاحب حلب وصاحب حماة وصاحب حمص وأصحاب الشرق، على الخروج على الملك الكامل، وبينما هم في تدبير أمورهم إذ مرض الملك الأشرف ثم توفي في أول سنة 635، عن 57 سنة، وبعد وفاته أخذ الملك الكامل دمشق من خليفته، ثم لم تلبث المنية أن أدركته فتوفي في دمشق في رجب من سنة 635.
ولم يمض على تسليم بيت المقدس 11 سنة حتى انتزعه منهم في سنة 637 صاحب الكرك الملك الناصر داود ابن الملك المعظم، ثم عاد مع عمه إسماعيل فسلماه للفرنج سنة 641 ليكونوا عوناً لهما على الصالح نجم الدين أيوب صاحب مصر،  ولم يفلح ذلك لأن الصالح نجم الدين أيوب اقتلعه من أيدي الصليبين في سنة 642، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
 

 

الجمعة، 17 يناير 2014

حدث في السادس عشر من ربيع الأول

 
في السادس عشر من ربيع الأول من سنة 1245، الموافق 14 أيلول/سبتمبر 1829، وقعت روسية والدولة العثمانية معاهدة أدرنة، التي أنهت الحرب الروسية- العثمانية التي دامت سنة، وقوّت نفوذ روسية في جنوبها في أوربا الشرقية على حساب الدولة العثمانية، وكانت إرهاصاً ببداية الضعف في جسم الدولة العثمانية.
ومنذ آماد طويلة لم تكن علاقات الدولة العثمانية طيبة مع جارتها الكبيرة في الشمال، وذلك لأسباب متعددة منها أنهما إمبراطوريتان كبيرتان تمتعتا بمصادر بشرية وطبيعية كبيرة، وقامتا على التوسع وإخضاع الشعوب المختلفة لسلطانهما المركزي، مع تباين بينها في طرق الاستعمار، ومنها أن روسيا كانت تعتز بكنسيتها الأرثوذكسية ويستمد القيصر شرعيته منها، ويعتبر خدمتها ونصرة أتباعها من صلب واجباته الدينية، فيما كان العثمانيون يعتبرون السلطان خليفة المسلمين وقوام الدين، لا يبدأ جنودهم القتال إلا بالتكبير، وترتفع مآذنهم السامقات في كل أرض ألقوا فيها رحالهم ورفرفت عليها راياتهم، وأخيراً هما دولتان مركزيتان تأتمران بأمر الفرد، قيصراً كان أم سلطاناً، مع شورى لا تتجاوز رجال البلاط، والعاصمة هي محل القرار.
ولم تكن الحرب التي انتهت بمعاهدة أدرنة أول حرب خاضها البلدان، فقد سبقتها حروب في سنين 1676-1681، وسنة 1687، وسنين 1695-1696، وسنين 1710-1712، وسنين 1735-1739، وسنين 1768-1774، وسنين 1787-1791، وسنين 1806-1812، وستعقب هذه الحرب حروب أخرى في سنين 1853-1856 وسنين 1877-1878.
وكانت آخر حرب قبل حرب 1828 قد بدأت في عام 1806 عندما عزل السلطان سليم الثالث واليي مولدافيا ووالاشيا اللذان كانا يميلان ميلاً شديداً للروس، ولكن الحرب استمرت بوتيرة هادئة متباطئة،  فقد كرهت روسية أن تحشد قوات كبيرة تجاه تركية بسبب علاقاتها المضطربة جداً مع فرنسا النابليونية، وكانت الدولة العثمانية تعاني من اضطراب شديد من جراء رغبة السلطان في تغيير النظام العسكري من الإنكشارية إلى التنظيمات الحديثة، وهو الأمر الذي تمرد بسببه الإنكشاريون إذ كان يهدد وجودهم، وساندهم المفتي إذ اعتبره تقليداً للكفار وأصدر فتواه أن كل سلطان يدخل نظام الأفرنج وعاداتهم ويجبر الرعية على اتباعها لا يكون صالحا للملك، وأطاح هذا بالسلطان سليم الثالث ثم بخلفه مصطفى الرابع، وجاء إلى سدة الملك السلطان محمود الثاني في منتصف سنة 1223=1808، وشهد عصره هزيمة الجيش العثماني أمام الجيش الصربي الروسي وانسحاب الجيوش العثمانية من صربيا.
وفي عام 1226=1811 صارت حرب روسية مع فرنسا حتمية قريبة، فقررت روسية أن تحيّد الخطر الرابض على حدودها الجنوبية، وقام المارشال ميخائيل كوتوزف، أحد أقدر عسكريي تلك الحقبة، بقيادة الحملة الروسية التي ألحقت بالعثمانيين خسائر متتالية، واستولت على المناطق الواقعة شمال نهر الدون، ثم عجلت تستبق هجوم نابليون وطلبت التفاوض مع استانبول الذي انتهى باتفاقية بوخارست الذي وقعه البلدان في سنة 1227=1812، ويقضي بأن تتنازل الدولة العثمانية عن إقليم بساربيا مقابل أن ترفع روسية يدها عن دعم الصرب واليونان في طموحهم للاستقلال عن الدولة العثمانية، وكانت روسية تعتبرهم امتداداً لنفوذها لكونهم يتبعون الكنيسة الأرثوذكسية، ومكنت اتفاقية بوخارست السلطان من أن يهاجم صربيا ويستولي عليها ويكبد المتمردين خسائر قصمت ظهرهم ولو إلى حين.
وكانت هذه المعاهدة في صالح  روسية إذ منحتها كل الشواطئ الشمالية للبحر الأسود، ومكنتها من تهيئة جيوشها لمقاومة الهجوم الفرنسي الذي نجح في الوصول إلى موسكو، أما تنازل روسية عن دعم الصرب واليونان فقد كان أمراً رمزياً إلى حد كبير، ذلك إن بلاد البلقان كان مستقلة في واقع الحال لا سلطة للعثمانيين إلا في النواحي القريبة من قلاعهم ومراكزهم، وأما اليونان فكانت الحركة الاستقلالية فيها تلقى تأييد الدول الأوربية الأخرى مثل فرنسة وبريطانية، التي عز عليها أن يكون مهد الحضارة الغربية بيد العثمانيين المسلمين، وتشكلت في أوربا عدة جمعيات دعيت بجمعيات محبي اليونان، وجمعت كثيرا من المال أرسلت به إلى الثائرين كميات وافرة من الاسلحة والذخائر، وتطوع كثير من اعضائها في عداد المحاربين، ومن ضمنهم كثير من مشاهير أوربا وأمريكا منهم اللورد بيرون الشاعر الإنكليزي، ويوجين دلاكروا الشاعر الفرنسي، وصاموئيل جريدلي هاو الأمريكي.
وفي سنة 1821 تمرد السكان اليونانيون في إقليم المورة الجبلي على العثمانيين، ولجأوا أولا إلى إسلوب حرب العصابات الذي أنهك القوات العثمانية، ثم امتدت الثورة حتى سيطرت على شبه الجزيرة باستثناء ميناء واحد، فاستعان السلطان محمود بمحمد على باشا الكبير حاكم مصر، وأصدر أمره في سنة 1239=1824 بتعيينه والياً على جزيرة كريت وإقليم المورة، فأرسل ابنه إبراهيم باشا على رأس أسطول يحمل 17000 جندي مصري، وابتدأت حملة إبراهيم باشا في سنة 1240=1825، وخلال سنة ونصف كان قد وصل إلى أثينا واحتلها هازماً القوات اليونانية التي قاتلت بقيادة الأدميرال توماس كوشران دندونالد، وهو بريطاني اختاره اليونانيون إذ لم يتفقوا على واحد منهم!
وبينما إبراهيم باشا يستعد لإخضاع ما بقي من بلاد اليونان في أيدي الثوار إذ تدخلت الدول الأوربية بحجة حماية اليونانيين، وكان القيصر الروسي إسكندر الأول قد توفي في سنة 1241=1825 وتولى بعده نقولا الأول الذي تابع دعم اليونان وبدأ في التقارب مع بريطانية لتضغط على الدولة العثمانية للوصول إلى اتفاق سياسي آخر تقايض فيه  روسية على اليونان مقابل مكاسب سياسية وجغرافية إضافية، وكانت نتيجة هذه الضغوط معاهدة آق كرمان التي وقعها الطرفان في 28 صفر سنة 1242= آواخر 1826، والتي منحت روسية حق الملاحة في البحر الأسود والمرور من مضائق بحر مرمرة دون أن يكون للدولة العثمانية الحق في تفتيش سفنها، وأن ينتخب أمراء الولايات البلقانية من سيحكمهم مع عدم جواز عزله إلا بموافقة روسية، وأن تكون ولاية الصرب مستقلة تقريبا لا يحتل منها الجيش العثماني إلا قلعة بلغراد وثلاث قلاع اخرى. وبشكل مستقل أعلنت روسية وبريطانية أنهما ستبذلان كل نفوذهما لوقف الحرب في اليونان وانضمت لهذا الإعلان النمسة وبروسية وفرنسة.
وبعد ذلك ببضعة شهور، في رجب 1242، عرضت بريطانية رسميا على الدولة العثمانية أن تتوسط بينها وبين اليونانيين، فدرس العثمانيون الأمر دراسة متروية وأجابوا بعد قرابة 3 أشهر، في ذي القعدة، بأن الدولة العثمانية لا ترغب ولم تسمح ولن تسمح مطلقا بأن يتدخل أحد بينها وبين مواطنيها اليونانيين، ولم يعجب هذا الجواب الدول الأوربية وأعلنت فرنسا وبريطانية وروسية بعد شهر تعهدها أن تلزم الدولة العثمانية منح اليونان استقلالها الاداري ولو بالقوة، وفقاً لحدود يتفق عليها الفريقان فيما بعد، ومقابل أن يدفع اليونانيون جزية معينة يتفق على مقدارها فيما بعد، وأمهلت هذه الدول الباب العالي شهراً لإيقاف الأعمال الحربية ضد اليونان، وإلا فتجد هذه الدول أنفسها مضطرة لتحقيق ذلك بكل الطرق الممكنة.
ولما بلغت أنباء هذا الاتفاق استانبول لم يحفل بها البلاط العثماني، معتداً بقوته، وبعد انقضاء مهلة الشهر أصدرت روسية وفرنسة وبريطانية أوامرها إلى قواد أساطيلها بالتوجه لسواحل اليونان، وطلبت بعد ذلك من إبراهيم باشا الكف فورا عن القتال، فأجابهم أنه لا يتلقى أوامره إلا من سلطانه أو أبيه، ومع ذلك فإنه أعلن إيقاف القتال مدة عشرين يوما ريثما تأتيه تعليمات جديدة، وتربص هو وجنوده على أهبة القتال، وحاصرت سفن الدول الثلاث ميناء نافارين لمنع الأسطولين التركي والمصري من الخروج منه، ووضع الأسطول تحت قيادة الأدميرال البريطاني كودرنجتون، لكونه الأقدم بين الضباط، واندلعت المعركة في 29 ربيع الأول 1243، الموافق 20 تشرين الأول/أكتوبر 1827، وسلطت جميع السفن الاوروبية مدافعها على المراكب التركية والمصرية فأغرقتها وأعطبتها بالكامل في غضون بضع ساعات، دون أن تغرق لها سفيتة، وقصمت هذه المعركة ظهر الأسطول العثماني فلم تقم له قائمة بعدها.
ولم تكن لفرنسة ولابريطانية مصلحة فيما جرى، فقد قدمتا لروسية النصر على طبق من ذهب، وخرجت هي الرابح الأكبر في المعركة، وخلا لها وجه البحرين الأسود والأبيض من منافسها العثماني اللدود، وكانت فرنسة قد دخلت الميدان وهدفها استرجاع سمعتها بعد هزيمتها في حروب نابليون وإرجاعِها إلى حدودها الأصلية سنة 1815، وتدخلت بريطانية خوفا من استئثار فرنسا بالنفوذ في الشرق، وكان من الممكن أن يكون للمفاوضات دور في إنهاء الموقف سلمياً، ولكن حماقة أحد الجنود الأتراك أشعلت لهيب المعركة، ذلك إن إحدى السفن العثمانية اقتربت كثيراً وهي في مناوراتها من إحدى البوارج البريطانية، فأرسل قبطانها ضابطا في زورق ليستعلم عن سبب اقترابها، فأطلق عليه أحد الجنود الأتراك رصاصة قتلته، وعند ذلك اقتتلت السفينتان وامتد لهيب الحرب إلى باقي السفن، ووقعت الواقعة! وجدير بالذكر أن هذه المعركة هي آخر المعارك الكبيرة التي خاضتها السفن الشراعية الخشبية.
وبقيت الحكومة العثمانية متمسكة بأوهامها، وأرسلت احتجاجاً شديد اللهجة إلى سفراء الدول الثلاثة ضد هذا العدوان المخالف للقوانين الدولية التي تسير عليها الدول المتمدنة، والتي تقتضي إعلان الحرب قبل الأعمال العدائية، وطالب هذه الدول أن تمتنع  عن التدخل في شؤون السلطنة العثمانية، وأن تدفع تعويضات عن الخسائر التي نجمت من تدمير السفن العثمانية، فلم يجب السفراء على هذا الاحتجاج بل قطعوا العلاقات الدبلوماسية مع الدولة العثمانية وغادروا استانبول في آخر سنة 1827.
وأصدر السلطان منشورا عاما في أنحاء السلطنة أعلن أن هذه الدول تكن السوء للدولة العثمانية، وأن عداء روسية بخاصة دافعه ديني بحت، وختمه بإعلان الجهاد وحض المسلمين على القتال دفاعا عن الدين والملة والوطن، ومقابل ذلك أعلنت روسية الحرب على الدولة العثمانية في 11 شوال سنة 1243، الموافق  26 ابريل سنة 1828. أما إبراهيم باشا فقد عاد إلى مصر بموجب اتفاق أبرمه والده مع بريطانية في أول سنة 1244، وقامت فرنسة بانتهاز الفرصة كعادتها فأرسلت جيشاً إلى اليونان بدأ يحلُّ محل القوات المصرية المنسحبة.
وتحركت الجيوش الروسية فور إعلان الحرب، واحتلت بوخارست ثم فارنا التي استطاع القواد الأتراك إدخال المدد إليها في ظروف صعبة، وصمدوا صموداً عجيباً أمام حصار شارك فيه القيصر الروسي نيقولا،  قبل أن تسقط في أول ربيع الثاني سنة 1244، الموافق 11 تشرين الأول/أكتوبر 1827 نتيجة خيانة أحد القادة العثمانيين، واستطاع الروس تحقيق انتصارات في الجبهة الآسيوية حيث احتلوا قارص ، ثم توقف القتال بسبب اشتداد البرد وتراكم الثلوج.
ولما جاء فصل الربيع تابعت الجيوش الروسية انتصاراتها فاجتازت نهر الدون ثم اخترقت جبال البلقان حتى وصلت إلى مدينة أدرنه واحتلتها عنوة، وأصبح الطريق مفتوحاً أمامها للاستيلاء على استانبول التي تبعد 70 كيلومتراً، لولا رغبة بريطانية في الحد من التوسع الروسي بعد أن أضعفت الدولة العثمانية، فأعلمت روسية بمعارضتها الصارمة لاحتلال استانبول.
وفي 8 جمادى الأولى سنة 1244، الموافق 16 نوفمبر سنة 1828، عقدت الدول الثلاث مؤتمرا في لندن لتقرير مصير اليونان ودعت إليه الدولة العثمانية، فأبت إرسال مندوب من طرفها، حتى لا يعد ذلك إقرارا منها على ما يتفق عليه وما فعلوه من مساعدة اليونان على الاستقلال، ولم تعبأ الدول بموقف العثمانيين بل عقدت اجتماعاتها، وأعلنت اتفاقها على استقلال إقليم المورة والجزر اليونانية، وأن تكون لها حكومة مستقلة يحكمها أمير مسيحي تنتخبه الدول الثلاث ويكون تحت حمايتها،وأن تدفع هذه الحكومة لاستانبول جزية سنوية قدرها خمسمئة ألف قرش. ورغم وضعها العسير لم تقبل الدولة العثمانية بهذا القرار واعتبرته تدخلاً بينها وبين مواطنيها وصادراً عمن لا يعنيه الأمر.
ودارت مفاوضات بين روسية والباب العالي في استانبول برعاية الإمبراطورية البروسية، وتمخضت عن معاهدة أدرنة التي وقعها الطرفان في مدينة ادرنة في 16 ربيع الأول من سنة 1245، الموافق 14 أيلول/سبتمبر سنة 1829.
وتضمنت المعاهدة إيقاف العمليات العدائية، وأن يخلفها الصلح الأبدي والمحبة وحسن الموافقة بين جلالة إمبراطور جميع الروسيا وبين عظمة إمبراطور العثمانيين، وأن يعيد الروس للأتراك السيادة الإسمية على جزء كبير من إقليم البلقان، مع اتفاق ملحق يؤكد تمتع دولتيه بالحرية الدينية وبالأمن، وإدارة ذاتية مستقلة، وأن ينسحب الروس من المناطق التي احتلوها في تركية الأوربية، وأن يكون نهر الدانوب هو الحد الفاصل بين الدولتين، وأن تصبح للروس السيادة على جورجيا مقابل إعادة ما احتلوه من أراضي الدولة الآسيوية وعلى رأسها قارص.
وحققت المعاهدة إنجازاً كبيراً للتجارة الروسية وصادراتها من الحبوب والأنعام والأخشاب التي تنطلق من موانيء البحر الأسود، إذ نصت على ضمان حرية التجارة للرعايا الروس، وألا تتعرض السفن التجارية أو البضائع الروسية لأي تفتيش من طرف الدولة العثمانية، وأن الباب العالي يعترف ويعلن بأن المرور في قناة القسطنطينية وبوغاز الدردنيل يكون بحرية تامة وأنهما مفتوحان للسفن الروسية التجارية، فمهما كانت كبيرة ومهما كان قدرها لا تكون معرضة لأدنى مانع... و إذا حصل لا سمح الله مخالفة لبعض الاشتراطات التي اشتمل عليها البند الحالي دون أن تنال طلبات وزير الروسية بهذا الشأن الترضية التامة في أسرع وقت، فالباب العالي يعترف مقدما لحكومة الروسيا الامبراطورية بأن لها الحق في أن تعتبر هذا كعمل عدائي وأن لها الحق في ان تقابل الدولة العثمانية بمثله.
وتضمنت المعاهدة تعويضات تدفعها الحكومة العثمانية لروسية لما قد حصل لها من خسائر جسيمة بخصوص الملاحة في البوسفور: مبلغ مليون وخمسمئة الف دوقة هولاندية بحيث أن تسديد هذا المبلغ يمنع كل طلب أو ادعاء صادر من إحدى الدولتين المتعاقدتين ضد الأخرى.
أما بخصوص اليونان فتضمنت المعاهدة موافقة السلطان على إعلان لندن لعام 1828 الذي اشتركت فيه فرنسة وبريطانية وروسية، وأنه سيعين بعد اتمام الصلح مندوبا للاتفاق مع مندوبي الدول الثلاث على حدود هذه المملكة اليونانية الجديدة، وبعد بضعة شهور أعلن الباب العالي تصديقه على شروط اتفاق لندن وأصبح الطريق مفتوحاً لاستقلال اليونان الذي تم في سنة 1830.
ولم تكن هذه العواقب الوحيدة لهذه الحرب، فقد كان السلطان محمود قد عين محمد علي باشا الكبير والي مصر والياً على سورية مقابل معونته في حرب اليونان، فلما انتهت الحرب طالب بنيل هذه المنحة في عام 1247=1831، ولما رفض ذلك السلطان قامت قوات محمد علي يقودها ابنه إبراهيم باشا بغزو سورية والاستيلاء عليها وهزمت الجيش العثماني في قونية، فلجأ السلطان إلى طلب المساعدة البريطانية، فقد كانت فرنسة تدعم محمد علي، فرفضت بريطانية فاتجه لروسية التي أرسلت أسطولها إلى البسفور ووقعت معاهدة دفاع مشترك مع الدولة العثمانية، وبات سقوط الدولة العثمانية وشيكاً بعد معركة نصيبين عام 1255، لولا أن تدخلت الدول الأوربية خشية أن تكون لمحمد علي باشا دولة كبيرة فتية تخلف الدولة العثمانية المترهلة.
أما على الصعيد الداخلي فلعل أهم نتائج هذه الحرب هي القضاء على الإنكشارية قضاءاً مبرماً، بعد أصبح السلاطين على أتم قناعة بوجوب النظام العسكري من الإنكشارية إلى التنظيمات الحديثة، وقد ذكرنا أن محاولاتهم أطاحت بالسلطان سليم الثالث ثم بخلفه مصطفى الرابع، وأتت بالسلطان محمود الثاني في منتصف سنة 1223=1808.
وكان محمود قد حاول هذا في مطلع تسلمه للملك سنة 1223، ولكن الإنكشارية ثاروا عليه وقتلوا رئيس وزرائه فاضطر لتأجيل الأمر إلى فرصة أخرى، ولما برز تفوق الجيش المصري في حروب اليونان، وأن سببه تنظيمه وفق القواعد العسكرية الحديثة،  دعا السلطان محمود في سنة 1241= 1826إلى اجتماع لأهل الحل والعقد من مدنيين وعسكريين، و خطب فيهم الصدر الأعظم سليم محمد باشا مظهرا ما وصلت اليه حالة الإنكشارية من الضعة والانحطاط وعدم الانقياد حتى صارت من أكبر دواعي تأخر الدولة، بإزاء تقدم الدول الأوربية المستمر، بعد أن كانت هذه الفئة من أكبر عوامل تقدم الدولة وامتداد فتوحاتها، ثم أبان لهم ضرورة إدخال النظام العسكري إذ لا يمكن للإنكشارية بحالتها الحالية الوقوف أمام الجيوش الأوربية المنتظمة، وأخذ موافقة الجميع على هذا القرار، وبدأ بعده في إعداد سلك الضباط تحت يد مدربين من الأفرنج.
وبعد ذلك بشهور بدرت بادرة عصيان من الإنكشارية استغلها السلطان وخرج بنفسه لمواجهة العاصين في ميدان تجمعهم، وأطلقت عليهم مدفعيته حممها فهربوا إلى ثكناتهم فسلط عليها المدافع حتى أحالها قاعاً صفصافا وأصدر أمره في اليوم التالي بحل هذه القوات وإبطال ملابسها واصطلاحاتها واسمها، وأحل محلها جيشاً نظامياً تحت قيادته الشخصية قام بتدريبه مدربون ألمان.
وبرز أثر النظام الجديد في الحرب مع روسية، فرغم الهزائم التي وقعت بالعثمانيين إلا أن جنودهم أبدوا مهارة فائقة في فنون الحرب الحديثة، وقاتلوا بثبات وانتظام مكبدين الروس خسائر فادحة، حتى إن السفير الروسي في باريس أشاد بذلك في إحدى مذكراته، وقال لو أن روسية تأخرت في إعلان الحرب سنة أخرى لما استطاعت أن تحقق ما توصلت إليه من انتصارات.
 
 
 
 
 

 
log analyzer