الجمعة، 29 نوفمبر 2013

حدث في السادس والعشرين من المحرم


في السادس والعشرين من المحرم من سنة 291 ولد بالبصرة الوزير المهلبي، أبو محمد الحسن بن محمد الأزدي المهلبي، الذي يعود نسبه إلى المهلب بن أبي صُفرة، وكان وزير معز الدولة ابن بويه، ومن رجال العالم حزماً ودهاءً، وكرماً وشهامة، وأدباً وشعراً، أطلنا في ترجمته، وما استوفينا، ترويحاً من وطأة هذا الوقت الكالح، الولود بالمقابح، العقيم بمن يستحق المدائح. وقد ألف الرئيس أبو الحسين هلال بن المحسن بن إبراهيم بن هلال الصابئ كتاباً في أخباره، وحق له ذلك.
ولا تفيدنا المصادر كثيراً عن والده وعن نشأته وطلبه العلم والأدب، ولكنها تُجمع أنه في نشأ في فقر شديد وضيق عتيد، حتى إنه في نوبة من نوبات الفقر، وكان في سفر لقي فيه مشقة بالغة واشتهى اللحم فلم يقدر عليه فقال ارتجالاً:
ألا موت يباع فأشتريه ... فهذا العيش ما لا خير فيه
ألا موت لذيذ الطعم يأتي ... يخلصني من العيش الكريه
إذا أبصرت قبراً من بعيد ... وددت لو أنني مما يليه
ألا رحم المهيمن نفس حر ... تصدق بالوفاة على أخيه
وكان معه رفيق يقال له: أبو عبد الله الصوفي، فلما سمع الأبيات اشترى له بدرهم لحماً وطبخه وأطعمه، ثم تفارقا وتنقلت بالمهلبي الأحوال حتى تولى الوزارة، وبلغ ذلك أبا عبد الله الصوفي، وكان يعاني من الإقتار وضيق العيش، فقصد الوزير وكتب إليه:
ألا قل للوزير فدته نفسي ... مقالة مذكر ما قد نسيه
أتذكر إذ تقول لضنك عيش ... " ألا موت يباع فأشتريه "
فلما وقف الوزير على الأبيات تذكره وهزته أريحية الكرم، فأمر له في الحال بسبعمئة درهم ووقع في رقعته قوله تعالى في سورة البقرة ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾، ثم دعا به فخلع عليه وقلده عملاً يرتفق به.
وفي سنة 339، كان الوزير المهلبي في الثامنة والأربعين عندما جعله وزيره معز الدولة البويهي، أبو الحسين أحمد بن بويه، المولود سنة 303 والمتوفى سنة 355، وكان قبل ذلك قد أمضى قرابة 4 سنوات مع الخليفة العباسي المطيع لله، الفضل بن جعفر، المولود سنة 301 والمتوفى سنة 364، والذي تولى الخلافة سنة 334، يدبر أمر الوزارة له من غير تسمية بوزارة، وهو في ذات الوقت يعمل في ديوان معز الدولة نائباً لوزيره أبي جعفر محمد بن أحمد الصيمري، فعرف أحوال الدولة والدواوين، فلما توفي الصيمري استوزره معز الدولة، ولتعيينه قصة لطيفة يستحسن إبرادها.
تمرد عمران بن شاهين على معز الدولة في البطائح واستفحل أمره، فأرسل له في سنة 339 جيشاً بقيادة مع وزيره محمد بن أحمد الصيمري، فاستناب الصيمريُّ المهلبيَّ بحضور معز الدولة ، فرأى فيه ما يريده من الأمانة، والكفاية، والمعرفة بمصالح الدولة، وحسن السيرة، فقبِلَه معز الدولة ومال إليه، وبلغ الصيمري ذلك فثقل عليه، فتطلب للمهلبي الذنوب، وأطلق فيه لسانه بالوقيعة والتهدد، وبلغ ذلك المهلبي، فقلق واستشعر النكبة والهلكة، لأنه لم يطمع أن يحميه معز الدولة، وبينا المهلبي في ذلك إذ جاء الحمام الزاجل بوفاة الصيمري محموماً وهو في الحصار، فجلس المهلبي له في العزاء، وأظهر له الحزن الشديد ولزم منزله، فاستدعاه معز الدولة وكلفه بتسيير الأمور إلى أن يعين الوزير الجديد.
وترشح للوزارة جماعة، وبذلوا الهدايا، وضمنوا الأموال، ووسَّط أبو علي الحسن بن محمد الطبري في أمره والدة معز الدولة، فطلب منه معز الدولة بذل مئتي ألف درهمٍ عاجلةً على سبيل الهدية، فحمل منها مئة وثمانين ألف درهمٍ وقال: قد بقي بقية يسيرة إذا ظهر أمري حملتها، فقال معز الدولة: لا أفعل إلا بعد استيفاء المال، فعلم الطبري أنه خُدع، وندم على ما حمله.
واجتمعت الحاشية في مجلس معز الدولة في 27 من جمادى الأولى من سنة 339، وبينهم الخاطبون وكل منه يعتقد أنه المختار، ووقفوا كلٌ حسب مرتبته، ودخل المهلبي بعدهم وقام في أخرياتهم، فلما تكامل الناس أسر معز الدولة إلى أبي عليٍ الحسن بن إبراهيم الخازن قولاً لم يُسمع، فمشى إلى المهلبي وقبَّل يده، وخاطبه بالأستاذية، وحمله إلى الخزانة فخلع عليه القباء والسيف والمنطقة، ثم جُددت له الخلع من دار الخلافة بالسواد والسيف والمنطقة، فدبر الأمور للسلطان والخليفة أحسن تدبير ولقبوه ذا الوزارتين، ولما ولي الوزارة وانفرجت أمور معيشته قال:
رق الزمان لفاقتي ... ورثى لطول تحرقي
فأنالني ما أرتجيه ... وحاد عما أتقي
فلأصفحن عما أتا ... ه من الذنوب السبق
حتى جنايته بما ... صنع المشيب بمفرقي
وقبل أن نعيش مع الوزير في مسيرة حياته، ينبغي أن نشير أن نجم بني بويه بدأ في الصعود سنة 322 حين استقل علي بن بويه عن قائده مرداويج الديلمي، وهاجم محمدَ بن ياقوت أميرَ فارس وهزمه، فأقره الخليفة الراضي على ملك فارس، ثم استولى معز الدولة البويهي سنة 333 على واسط والبصرة والأهواز، ثم على بغداد سنة 334 وخلع الخليفة المستكفي بالله ونصب مكانه الفضل بن المقتدر ولقبوه المطيع بالله.
وكانت الخلافة العباسية في أضعف أيامها، فالقرامطة الذي مضى على حركتهم قرابة 50 سنة كانوا لا يزالون يصولون ويجولون في جنوبي العراق، والأمراء الأقوياء ينافسون بني بويه على العراق، فكان الحمدانيون في الشمال يطمعون أن يدحروا البويهون ويحكموا هم العراق، وناظر الأهواز أبو الحسين علي بن محمد البريدي في الجنوب يهاجم بغداد عسى أن يصبح ملك البلاد.
وهزم معز الدولة البريدي الذي أدركته المنية سنة 333، وتصالح سنة 335 مع بني حمدان في شمال العراق وسورية، فخلا له حكم العراق إلا من القرامطة، ومطامع صاحب عُمان يوسف بن وجيه في الاستيلاء على البصرة منذ هجومه عليها سنة 332 أيام كانت في يد البريدي الذي هزمه ودحره، وانتهز فرصة نزاع معز الدولة مع القرامطة، ودعاهم للتعاون معه في الاستيلاء عليها، وجاء في سنة 340 ليأخذها في مراكب كثيرة، وجاء لنصره القرامطة فأرسل معز الدولة الوزير المهلبي بالجيوش فصده عنها، وأسر جماعة من أصحابه وسبا سبيا كثيرا من مراكبه، فساقها معه في دجلة، ودخل بها إلى بغداد في أبهة عظيمة.
قال ابن المقفع: ما صاحب السلطان إلا كصاحب الحية التي في مبيته ومقيله، فلا يدري متى تهيج به. وهذا ما جرى للوزير المهلبي سنة 341، فقد أمر معز الدولة بضربه 150 عصاً، وأمره أن يلزم داره، وإن لم يعزله من وزارته، ثم رضي عنه. وكان سبب ذلك أن معز الدولة بنى قصراً بباب الشماسية خارج بغداد وألحق به إصطبلات وميداناً كبيراً، وقدر لذلك ألوف ألوف الدراهم، وزادت النفقة على التقدير أضعافاً، وكان يطالب وزيره أبا محمد المهلبي بتوجيه وجوه الأموال لذلك، مع قصور الدخل عن الخرج، فيلقى منه عنتاً، ثم كلَّفه تولي البناء بنفسه فكان يشرف عليه مع أعوانه.
فوسوس بعض أصحاب معز الدولة إليه أن أعوان الوزير يختلسوا من المال وينون بنفقة خفيفة، وأوقفه على موضع ضعيف الإحكام انقلعت منه لبنة وهو جيد، فاغتاظ معز الدولة وكان شديد الحدة، مع سلامة في الباطن، فإذا انقضت سورة غضبه، يندم على فعله، فأحضر الوزير، وواقفه على ما رآه، فأخذ يناقشه، فزاد غيظ معز الدولة وأمر به، فبطح وضرب، ثم قال: اخنقوه، فجعل في عنقه حبل، وأمسكه ركابيون فوق السور، ليشيلوه، فيخنق. وبادر القواد والأتراك وخواص معز الدولة، فقبلوا الأرض بين يديه، وسألوه الصفح عنه، فأنزله وأطلقه، ومضى الوزير إلى داره كالميت، وأظهر قلة احتفال بذلك، لئلا يشمت أعداؤه، ويطمعوا في صرفه، وتمثل لأصحابه فيما جرى بهذا البيت:
فإن أمير المؤمنين وفعله ... لكالدهر لا عارٌ بما صنع الدهر
وفي سنة 345 خرج أحد قادة الجيش ويدعى روزبهان الديلمي على معز الدولة، رغم أنه كان مقرباً له مكرماً لشأنه، فأرسل إليه جيشاً على رأسه الوزير المهلبي، فلما تقارب الجيشان انضم كثير من الديلم من جيش المهلبي إلى روزبهان، فانحاز الوزير بمن معه، وجاءه المدد بقيادة معز الدولة الذي قاتل روزبهان قتالاً عنيفاً منهكاً، وانتصر عليه بعد أن كان أدنى إلى الكسرة، وأسر روزبهان وقواده، وعاد بهم إلى بغداد ثم أمر بتغريق روزبهان. ولما ظهر من إخلاص الوزير المهلبي زاد معز الدولة في إقطاعه وعظم قدره عنده.
كان الوزير المهلبي على فضله ومروءته صارماً حازماً في الوقات التي تتطلب الشدة، وقد حدث في سنة 350 أن ثارت لسبب تافه فتنة في بغداد بين العلوية والعباسيين، ودخل العامة بين الفريقين، واتسع الأمر إلى ما احتيج معه إلى إقامة جنود الديلم في الأحياء لضبط الأمن، وأغلق العباسيون باب المسجد الجامع بالمدينة، ومنعوا من صلاة الجمعة، وزادوا في إشعال النائرة.
ودبر الوزير الأمر بأن قبض على جماعة من وجوه العباسيين وكثير من المستورين والعيارين، وأدخل فيهم عدة قضاة وشهود وصلحاء عباسيين، ثم جلس لهم وأحضرهم وناظرهم، وعرض عليهم أن يسموا له العيارين وحملة السكاكين ليقتصر على أخذهم، ويفرج عن الباقين، وأن يضمن أهلُ الصلاح منهم أهلَ الريبة، ويأخذوا على أيديهم أخذاً يحسم به مواد الفتنة.
فأخذ القاضي أبو الحسن محمد بن صالح الهاشمي يقول قولاً سديداً لطيفاً في دفع ذلك واستعطاف أبي محمد المهلبي وترقيقه، والرفق به وتسكينه، واعترض الخطاب أبو بكر محمد بن الحسن بن عبد العزيز الهاشمي، وكان معروفاً بالوقاحة والجرأة على السلطان، وقال قولاً فيه بعض الجفاء والغلظة، فقال له أبو محمد: يا ماص كذا وكذا، ما تدع جهلك وتبسطك، ولا تخرج هذه الخيوط من رأسك، كأني لا أعرفك قديماً وحديثاً؟! أعرف حمقك وحمق أبيك وتدرعك في مجالس الوزراء وإيثارك أن تقول: قال الوزير وقلت! ولعلك تقدِّر أن المقتدر بالله على السرير، وأنني أحد وزرائه، ليس ذاك كذلك، السلطان اليوم الأمير معز الدولة الذي يرى سفك دمك قربة إلى الله تعالى وينزلك منزلة الكلب! يا غلمان برجله. فجُرَّ برجله وأخرج من المجلس، ثم قال: طبقوا عليه زورقاً وانفوه إلى عمان. فقبّلت الجماعة يده وسألته الصفح عنه، وراسله الخليفة المطيع لله في أمره عدة مرات حتى رضي أن يتركه، وألزمه بيته، وأخذ خطوط العباسيين بجميع ما كان سامهم إياه وامتنعوا منه، وقبض من بعد على جماعة كثيرة من أحداث العباسيين وأهل العيارة والدعارة منهم ومن العامة، وجعلهم في زواريق مطبقة مسمرة، فزالت الفتنة وانحسمت.
كان بنو بويه يتشيعون، وكان الوزير المهلبي وزير دولتهم الأول، ولكن تشيع تلك الفترة لم يكن كتشيع اليوم، وقد كانت سياسة بني بويه ألا يثيروا أهل السنة عليهم مع ميلهم إلى الشيعة، ولذا كانت يد الوزير غير مقيدة في التصرف بما فيه مصلحة الدولة حتى في هذه الأمور، وفي سنة 340 رُفع إلى الوزير أن رجلاً يعرف بالبصري مات ببغداد، وهو مقدم القراقرية، الذين يقولون بالتناسخ، يدعي أن روح أبي جعفر محمد بن علي بن أبي القراقر قد حلت فيه، وأنه خلف مالاً كثيراً كان يجيبه من هذه الطائفة، وأن له أصحاباً يعتقدون ربوبيته، وأن أرواح الأنبياء والصديقين حلت فيهم، فأمر بالختم على التركة، والقبض على أصحابه، والذي قام بأمرهم بعده، فلم يجد إلا مالاً يسيراً، ورأى دفاتر فيها أشياء من مذاهبهم.
وكان فيهم غلام شاب يدعي أن روح علي بن أبي طالب حلت فيه، وامرأة يقال لها فاطمة تدعي أن روح فاطمة حلت فيها، وخادم لبني بسطام يدعي أنه ميكائيل، فأمر بهم المهلبي فضربوا ونالهم مكروه، ثم إنهم لما أدركوا الهلاك ادعوا أنهم من الشيعة، وخاف المهلبي إن هو قتلهم أن ينسب إلى معاداة الشيعة، فسكت عنهم، ولكنه صادر اموالهم وسماها أموال الزنادقة.
وفي سنة 351 قامت جماعة من الشيعة في بغداد وكتبوا على أبواب المساجد: لعنَ معاوية، ولعنَ من غصب فاطمة حقّها من فدك، ولعنَ من أخرج العباس من الشورى، ولعنَ من نفى أبا ذر، فمحاه  أهل السنة في الليل، فاشتكى الشيعة إلى معز الدولة، فأمر بإعادته، فأشار عليه الوزير المهلَّبي، أن يكتب: ألا لعنة الله على الظالمين لآل محمد، ولعنَ معاوية فقط. فأخذ بمشورته واقتصر على ذلك.
وفي جانب محاسن الوزير المهلبي تذكر بعض المصادر أنه كان على صلة بأبي حيان التوحيدي، علي بن محمد، المولود سنة والمتوفى بعد سنة 400، وأنه لما تبين له سوء عقيدته وزندقته وتستره بالنفاق طلبه الوزير ليعاقبه، فهرب منه ومات في الاستتار. وهذا أمر مستبعد لأن أبا حيان توفي بعد وفاة الوزير بقرابة خمسين سنة، فكيف يبقى في الاستتار كل هذه السنين؟ ولعل الأصح أنه نفاه عن بغداد كما ورد في بعض المصادر.
كان الوزير المهلبي أديباً من الطراز الأول ووزيراً حكيماً مدبراً، وسرياً واسع الصدر كامل المروءة، واجتمع في مجلسه ثلة من كبار أدباء العصر وشعراءه، يلقون منه كل رفد وإكرام، وكثيرٌ منهم لهم رواتب راتبة من الوزير، فكان حوله من الشعراء السري الرّفاء، السري بن أحمد، المتوفى بعد 360، وأبو عثمان الخالدي، سعيد بن هاشم الموصلي، والطاهر الجزري، شداد بن إبراهيم، ومن الأدباء أبو الفرج الأصبهاني، علي بن الحسين المولود سنة 284 والمتوفى سنة 356، ومن النحاة أبو سعيد السيرافي.
وفي مجلس الوزير المهلبي التقى أبو الطيب المتنبي مع أبي علي الحاتمي، محمد بن الحسن المتوفى سنة 388، في مناظرة نقدية أدبية، كان الحاتمي فيها بالمرصاد للمتنبي، أبان فيها عن كثير من عوار شعره، وسقطات لسانه، ووصلتنا في كتابه العظيم: الموْضِحة في إظهار سرقات المتنبي وعيوب شعره وحمقه وتيهه!
وكان المؤرخ الحكيم مسكويه، أحمد بن محمد، المولود سنة 330 والمتوفى سنة 421، قد اتصل بالوزير سنة 348 وبقي في خدمته، مقرباً إليه، بمثابة كاتم لأسراره، وأحد ندمائه وسماره، حتى وفاته فعاد إلى الريّ، وكان أبو إسحاق الصابي، إبراهيم بن هلال الحراني، المولود سنة 313 والمتوفى سنة 384، ينوب عنه في ديوان الإنشاء وأمور الوزارة، وكان المهلبي لا يرى إلا به الدنيا، ويحن إلى براعته، ويصطنعه لنفسه، ويستدعيه في أوقات أنسه، ولما توفي والده هلال، جاءه الوزير معزياً، وهو مستغرب لاختلاف المرتبة واختلاف الدين، وقال لأبي إسحاق: ما مات من كنت له خَلَفاً، ولا فُقِدَ من كنت منه عِوَضاً، ولقد قررت عين أبيك بك في حياته، وسكنت مضاجعه إلى مكانك بعد وفاته.
وكان للوزير المهلبي مجموعة صغيرة من الندماء من كبار السن من علية القوم، يجتمعون عنده ليلتين في الأسبوع فيخلعون ثوب الوقار ويتباسطون ويتمازحون، فإذا أصبحوا عادوا لعادتهم في التوقر والتحفظ بأبهة القضاة، وحشمة المشايخ والكبراء، منهم القاضي التنوخي، علي بن محمد المولود بأنطاكية سنة 278 والمتوفى ببغداد سنة 342، وهو والد القاضي المحسن صاحب كتابي الفرج بعد الشدة ونشوار المحاضرة، المولود سنة 327 والمتوفى سنة 384، وهو في كتابيه هذين يروى كثيراً من أخبار الوزير التي سمعها والتي شاهدها، ومنهم القاضي الظرفاء، ابن قريعة، محمد بن عبد الرحمن، قاضي السندية ببغداد والمتوفى سنة 367، وكان إِحدى عجائب الدنيا في سرعة البديهة بالجواب عن جميع ما يسأل عنه، في أفصح لفظ وأملح سجَع،  وكان الوزير المهلبي يغري به جماعة يضعون له الأسئلة الهزلية ليجيب عنها، فيكتب الجواب من غير توقف، سؤل مرة في مجلس الوزير: ما حدود القفا؟ فأجاب في الوقت: ما داعبك فيه إخوانك، وشرطك فيه حجامك، وأدبَّك فيه سلطانك، واشتمل عليه جُرُبَّانك. فقيل: ما حد الصفع؟ قال: الرفع والوضع للضر والنفع. الجربان: كلمة فارسية تعني الخرقة العريضة التي فوق القب تستر القفا.
ومن مداعبات الوزير مع أهل الأدب أن  أبا الحسن العلاف الشاعر، كان أكولاً نهماً، فدخل يوما على الوزير، فأنفذ الوزير من أخذ حماره الذي كان يركبه من غلامه، وأدخل المطبخ وذبح وطبخ لحمه بماء وملح، وقدم بين يديه، فأكله كله وهو يظن أنه لحم بقر، فلما خرج طلب الحمار، قيل له: قد أكلته! وعوّضه الوزير عنه ووصله. قال إبراهيم بن هلال: كان أبو محمد المهلبي يناصف العِشرة أوقات خلوته، ويبسطنا في المزح إلى أبعد غايةٍ، فإذا جلس للعمل كان امرأ وقوراً، ومهيباً ومحذوراً، آخذاً في الجد الذي لا يتخونه نقص، ولا يتداخله ضعف.
قال عمر بن سورين: آخر من شاهدنا ممن عرف الاصطناع، واستحلى الصنائع، وارتاح للذكر الطيب، واهتز للمديح، وطرب على نغمة السائل، واغتنم خلة المحتاج، وانتهب الكرم انتهاباً، والتهب في عشق الثناء التهاباً، أبو محمد المهلبي، فإنه قدم قوماً ونوه بهم، ونبه على فضلهم وأحوج الناظرين في أمر الملك إليهم، وإلى كفايتهم، وكان يقول: والله لأكونن في دولة الديلم، أول من يذكر، إن فاتني أن كنت في دولة بني العباس آخر من يذكر.
وجرت لأبي الفرج الأصبهاني صاحب كتاب الأغاني، قصة مع الوزير تدل على أخلاق كل منهما، كان للوزير مائدة عامرة يأكل عليها هو ومن جاءه من العامة والخاصة، وكان الوزير  إذا باشر الطعام وقف إلى جانبه الأيمن غلام، معه نحو ثلاثين ملعقة من الزجاج، فيأخذ الملعقة من الغلام الذي على يمينه، ويأكل بها لقمة واحدة، ويدفعها إلى الذي على يساره؛ لئلا يعيد الملعقة إلى فيه مرتين. وكان أبو الفرج الأصبهاني وسخاً في ثوبه ونفسه وفعله؛ فكان يوماً يأكل على مائدة الوزير فوافقت من أبي الفرج سعلة، فبدرت من فمه قطعة بلغم، سقطت في وسط الصحن، فقال الوزير: ارفعوا هذا، وهاتوا من هذا اللون في غير هذا الصحن. ولم يبن في وجهه انكار، ولا داخل أبا الفرج حياءٌ ولا انقباضٌ، ثم لما كثر على الوزير استمرار ما يجري من أبي الفرج جعل له مائدتين إحداهما كبيرة عامة، والأخرى لطيفة خاصة، يؤاكله عليها من يدعوه إليها. وقد مدح أبو الفرج الوزير فقال:
ولما انتجعنا لائذين بظله ... أعان وما عنَّى، ومَنَّ وما مَنَّى
وردنا عليه مُقتِرين فرَاشَنا ... ورِدْنا نداه مجدبين فأخصبَنا
وأنفذ مرة رساله إلى الشاعر الطاهر الجزري يدعوه إليه، فاتفق أن كان الطاهر قد غسل ثيابه، فاعتذر إليه فلم يقبل، وألح في استدعائه، فكتب إليه الطاهر:
عبدك تحت الحبل عُريان ... كأنه - لا كان - شيطان
يغسل أثواباً كأن البِلى ... فيها خليطٌ وهي أوطان
أرقَّ من ديني وإن كان لي ... دينٌ كما للناس أديان
كأنها حالي من قبل أن ... يصبح عندي لك إحسان
يقول من يبصرني معرضاً ... فيها وللأقوال برهان
هذا الذي قد نَسجَت فوقه ... عناكبُ الحيطان: إنسان
فأنفذ إليه جبةً وقميصاً وعمامةً وسراويل وخمسمئة درهم، وقال: أنفذت إليك ما تلبسه، ولا تدفعه إلى الخياط، فإن كنت غسلت التكة واللالِكة؛ عرفني لأنفذ لك عوضهما.
وكان الوزير المهلبي رحمه الله، من بقايا الكرام، وكان يقول: كرم الكريم يستر عليه ما تكشفه النوائب من سوءاته. وقال ابن سمعون عنه: إبراهيمي الجود، وإسماعيلي الصدق، شعيبي التوفيق، محمدي الخلق. ولا يتسع المجال لإيراد قصص جوده الذي شمل القريب والبعيد والعامة والخاصة، ونورد منها قصة مع العامة حدث بها القاضي أبو بكر بن عند الرحمن بن خزيمة قال: كنت مع الوزير المهلبي بالأهواز، فاتفق أن حضرت عنده في يومٍ من شهر رمضان، والزمان صائف والحر شديد، ونحن في خيشٍ بارد، فسمع صوت رجلٍ ينادي على الناطف فقال: أما تسمع أيها القاضي صوت هذا البائس في مثل هذا الوقت، والشمس على رأسه، وحرها تحت قدميه، ونحن نقاسي في مكاننا هذا البارد ما نقاسيه من الحر؟ وأمر بإحضاره فأحضر، فرآه شيخاً ضعيفاً عليه قميص رث وهو بغير سراويل وفي رجله تاسومة مخلقة، وعلى رأسه مئزر، ومعه نبيخة فيها ناطف لا تساوي خمسة دراهم، فقال له: ألم يكن لك أيها الشيخ في طرفي النهار مندوحة عن مثل هذا الوقت؟ فتنفس الرجل وقال: ما أهون على الراقد سهر الساهد! وقال:
ما كنت بائع ناطفٍ فيما مضى ... لكن قضت لي ذاك أسباب القضا
وإذا المعيل تعذرت طلباته ... رام المعاش ولو على جمر الغضا
فقال له الوزير: أراك متأدباً، فمن أين لك ذلك؟ فقال: إني أيها الوزير من أهل بيت لم يكن فيهم من صناعته ما ترى. وأسرَّ إليه أنه من ولد معن بن زائدة، فأعطاه مئة دينارٍ وخمسة أثوابٍ، وجعل ذلك رسماً له في كل سنة.
أما كرمه مع الخاصة، فننقل قصته عند وفاة ابن حاجب النعمان، أبو الحسن عبد العزيز بن إبراهيم، وكان من كبار كتاب ذلك الزمان، وإليه ينسب كتاب ذخيرة الكُتّاب، الذي هو بمثابة دليل للوزراء في إدارة أمورهم، وتوفي إثر سقوط شرفة في بيت الوزير، قال القاضي التنوخي في نشوار المحاضرة: ولقد شاهدت له مجلساً كأنه من مجالس البرامكة، ما شهدت مثله قط قبله ولا بعده، وذلك إن كاتبه على ديوان السواد، أبو الحسن ابن حاجب النعمان، سقط من روشن في دار الوزير على دجلة، فمات في اليوم الثامن من ذلك.
فجزع عليه أبو محمد، وجاء من غد إلى أولاده، لأنهم كانوا دفنوه عشياً، وكنت معه وحضر، وقد أعدوا له دَستاً يجلس فيه، فلما دخل عدل عنه ولم يجلس فيه، فعزاهم بأعذب لسان، وأحسن بيان، ووعدهم الإحسان، وقال: أنا أبوكم، وما فقدتم من ماضيكم غير شخصه.
ثم قال لابنه الأكبر: قد وليتك موضع أبيك، ووردت إليك عمله، ووليت أخاك الحسين، وكان هذا صبياً سنه إذ ذاك عشر سنين أو نحوها كتبة حضرة ابني أبي الغنائم، وأجريت عليه كذا وكذا - رزقاً كثيراً، وقد ذهب عني - فليلزمه، فإن سنيهما متقاربة، ليتعلم بتعلمه، وينشأ بنشأته، فيجب حقه عليه.
ثم قال لأبي العلاء صاعد بن ثابت، خليفته على الوزارة: اكتب عهداً لأبي عبد الله، واستدع كل من كان أبو الحسين رحمه الله، مستأجِراً منه شيئاً، فخاطبه في تجديد الإجارة للورثة، فإن أكثر نعمته، إنما كانت دخالات وإجارات ومزارعات، وقد انحلت الآن بموته، ومن امتنع فزده من مالي، واسأله، ولا تقنع إلا بتجديد العقد كيفما جرت الحال.
ثم قال لأبي المكارم بن ورقاء، وكان سلف الميت: إن ذيل أبي الحسن طويل، وقد كنت أعلم إنه يجري على أخواته وأولادهن وأقاربه شيئاً كثيراً في كل شهر، وهؤلاء الآن يهلكون بموته، ولا حصة لهم في إرثه، فقم إلى ابنة أبي محمد المادرائي - يعني زوجة المتوفى - فعزِّها عني، واكتب عنها جريدة بأسماء جميع النساء اللواتي كان أبو الحسن يجري عليهم وعلى غيرهن، من الرجال وضعفاء حاشيته.
وقال لأبي العلاء: إذا جاءك بالجريدة، فأطلقها عاجلاً لشهر، وتقدم بإطلاقها على الإدرار، فبلغت الجريدة ثلاثة آلاف وكسراً في الشهر، وعُملت في المجلس وأطلق مالها وامتثل جميع ما رسم به أبو محمد.
فلم يبق أحد إلا بكى رقة واستحساناً لذلك، ولقد رأيت أبا عبد الله محمد بن الحسن الداعي العلوي رحمه الله، ذلك اليوم، وكان حاضراً المجلس، وقد أُجهِش بالبكاء، وأسرف في شكر أبي محمد وتقريظه، على سوء رأيه في أبي محمد، ولكن الفضل بهره، فلم يمنعه ما بينهما، أن نطق بالحق. ثم نهض أبو محمد رحمه الله، فارتفعت الضجة من النساء والرجال، وأهل الدار والشارع، بالدعاء له والشكر.
كان الوزير المهلبي أديباً مترسلاً بليغاً وشاعراً مُجيداً، رقيق الشعر مبتكر المعاني،  ومن شعره :
أراني الله وجهك كل يوم ... صباحا للتيمن والسرور
وأمتع ناظري بصفحتيه ... لأقرا الحسن من تلك السطور
ومن شعره الرقيق قوله:
قال لي من أحب والبين قد جدَّ وفي مهجتي لهيب الحريق
ما الذي في الطريق تصنع بعدي؟ ... قلت: أبكي عليك طول الطريق
كلما سرتُ في فراقكَ ميلاً ... مالَ من مهجتي إليكَ فريقُ
وكان لمعز الدولة مملوك تركي في غاية الجمال، يدعى تكين الجامدار، وكان شديد المحبة له، فبعث سرية لمحاربة بعض بني حمدان وجعل تكين مقدمها، فقال الوزير المهلبي:
طفل يرق الماء في ... وجناته ويرف عوده
ويكاد من شبه العذارى فيه أن تبدو نهوده
ناطوا بمعقد خصره ... سيفاً ومنطقة تؤوده
جعلوه قائد عسكر ... ضاع الرعيل ومن يقوده!
وكذلك كان، فإن الكرة كانت عليهم، وعادوا مهزومين مكسورين.
ومن محاسن قوله في الزهد:
يا من يُسرُّ بلذة الدنيا ... ويظنها خُلقت لما يهوى
لا تكذبن فإنما خُلِقت ... لينال زاهدُها بها الأخرى
وما كان نثر الوزير المهلبي بأقل من شعره، وكان ترسله لآلئ مسموطة، ودرراً مصقولة، تغلب عليه الحكمة والتأسي بجوامع الكلم، ومن أقواله: من تعرَّض للمصاعب، تثبت للمصائب. القلب لا يُملك بالمخاتلة، ولا يُدرك بالمجادلة. لا تُبدِ وجهَ المطابق الموافق، وتخفي نظر المسارق المنافق.
ومن أقواله التي تقارن بين الوظيفة وبين تركها: التصرف أسنى وأعلى، والتعطل أعفى وأصفى. ومن أقواله التي تظهر حرصه على الشورى: لو لم يكن في تهجين الرأي المفرد، وتبين عجز التدبير الأوحد، إلا أن الاستلقاح وهو أصل كل شيء لا يكون إلا بين اثنين، وأكثرُ الطيبات أقسامٌ تجمع، وأصنافٌ تؤلف، لكفى بذلك ناهياً عن الاستبداد، وآمراً بالاستمداد.
وكان أبو عثمان الخالدي، سعيد بن هاشم الموصلي، قد أقام في بغداد مدة منقطعاً للوزير ينادمه، فلما توفي رجع إلى الموصل، وأرسل له الخالدي مرة قصيدة، فكتب إليه الوزير: وصلت القصيدة وأعجبتني براعة حسنها، مع قِصَرِ رَوِيِّها، فإن الوزن القصير على الهاجس أضيق من المجال الضنك على الفارس.
وفي سنة 351 لهج معز الدولة بذكر عُمان، وحدث نفسه بأخذها، وأغراه أحد أمرائه الأصاغر، فأمر الوزير المهلبي بالخروج إليها فدافعه ووضع عليه من يزهده فيها فلم يزدد إلا لجاجاً، فانحدر في منتصف سنة 352، وتمادت أيامه بالبصرة للتأهب والاستعداد، وامتنع الجنود من ركوب البحر، فبلغ معز الدولة ذلك، فاتهمه بأنه بعث العسكر على الشغب، فكاتبه بالجد والإنكار عليه في توقفه وإلزام المسير، ووجد أعداؤه طريقاً للطعن عليه، واغتنموا تنكر معز الدولة عليه، وأقاموا في نفسه أنه انحدر من مدينة السلام وهو لا يعتقد العود إليها، وأنه سيغلب على البصرة، وأن العسكر الذي معه والعشائر هناك على طاعة له، وعظّموا عنده أحواله، فتدوخ معز الدولة بأقاويلهم، وأجمع مستشارو السوء بنصح معز الدولة بالقبض عليه ومصادرة أمواله، فمال إلى قولهم وكتب إلى الوزير، يعفيه من الإتمام إلى عمان، ويرسم له العودة إلى بغداد، ولكن العلة كانت أسبق إلى الوزير، وتردد بين إفاقة ونكسة إلى أن وردت الكتب باليأس منه، وأنه محمول في محفةٍ كبيرةٍ مملوءةٍ بالفرش الوثيرة، ومعه فيها من يخدمه ويعلله، ويتناوب في حملها جماعة من الحمالين، حتى قضى نحبه في 27 شعبان من سنة 352 وقرب واسط بين البصرة وبين بغداد.
وأرسلت رسالة على جنح الحمام الزاجل إلى بغداد بوفاته، فقام معز الدولة على الفور بوضع يده على أملاك الوزير وتوقيف أولاده وحشمه وأعوانه، قال القاضي التنوخي الابن: كنت في دار أبي الغنائم الفضل بن الوزير أبي محمد المهلبي لأهنئه بأول رمضان عند توجه أبيه إلى عمان، والناس يرجفون بوفاته، وخليفته إذ ذاك على الوزارة ببغداد: أبو الفضل العباس بن الحسين بن عبد الله، وأبو الفرج محمد بن العباس بن الحسين، فجئنا إلى أبي الغنائم، ودخلنا إليه وهو جالس في عرضي داره التي كانت لأبيه على دجلة عند شباك على دجلة، وهو في دَست كبير عالٍ جالس وبين يديه الناس على طبقاتهم، فهنأناه بالشهر وجلسنا، وهو إذا ذاك صبي غير بالغ إلا أنه محصل، فلم يلبث أن جاءه أبو الفضل وأبو الفرج فدخلا إليه وهنآه بالشهر، فأجلس أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره على طرف دسته في الموضع الذي فيه فضلة المخاد إلى الدست، ما تحرك لأحدهما ولا انزعج ولا شاركاه في الدست، وأخذا معه في الحديث، وزادت مطاولتهما، وأبو الفضل يستدعي خادم الحرم فيساره فيمضي ويعود ويخاطبه سراً، إلى أن جاءه بعد ساعة فساره فنهض، فقال له أبو الفرج: إلى أين يا سيدي؟ فقال: أهنئ من يجب تهنئته واعود إليك، فكن مكانك. وكان أبو الفضل زوج زينة ابنة أخت أبي الغنائم من أبيه وأمه تجني، ولكنه لم يكن مثل أبي زوجته في المروءة والكرم، بل كان شديد الوطأة ظالمماً عسوفاً.
فحين دخل واطمأن قليلاً وقع الصراخ وتبادر الخدم والغلمان، ودُعيَ الصبيُّ، وكان يتوقع أن يرد عليه خبر موت أبيه، لأنه كان عالماً بشدة علته، فقام فأمسكه أبو الفرج وقال: اجلس. وقبض عليه، وخرج أبو الفضل وقد قبض على تجني أم الصبي ووكل بها خدماً، وختم الأبواب، ثم قال للصبي: قم يا أبا الغنائم إلى مولانا معز الدولة فقد طلبك، وقد مات أبوك! فبكى الصبي وسعى إليه وعلق بدراعته وقال: يا عم، الله الله فيَّ! يكررها، فضمه أبو الفضل إليه واستعبر وقال: ليس عليك بأس ولا خوف، وانحدروا إلى زوارقهم متجهين إلى معز الدولة بقصره بباب الشماسية.
قال أحد كبار الكتاب ممن شاهد الواقعة: ما رأيت مثل هذا قط ولا سمعت، لعن الله الدنيا، أليس الساعة كان هذا الغلام في الصدر معظماً وخليفتا أبيه بين يديه، وما افترقا حتى صار بين أيديهما ذليلاً حقيراً، ثم جرى من المصادرات على أهله وحاشيته ما لم يجر على أحد.
وقبض معز الدولة أموال الوزير المهلبي وذخائره وكل ما كان له، وأخذ أهله وأصحابه وحواشيه، حتى ملاَّحه، ومن خدمه يوماً واحداً، فقبض عليهم وحبسهم، فاستعظم الناس ذلك واستقبحوه، ولم يظهر للوزير المهلبي مال صامت ولا ذخيرة باطنة، رغم السرف في الاستقصاء على من حوله، وبان لمعز الدولة صدقه في النصيحة، وبطلان ما افتروا عليه.
ومن القصص النوادر في هذه المصادرة أن الوزير المهلبي كان قد اصطنع أبا العلاء، عيسى بن الحسين بن أبرونا النصراني الكاتب، واستكتبه على خاصته، وأطلعه على أموال وذخائر دفنها، فأُخِذ أبو العلاء في جملة المأخوذين، وعوقب أشد عقوبة، وضرب أبرح ضرب، وهو لا يقر بشيء، ولا يعترف بذخيرة، فعدل المسؤولين عن المصادرة إلى زوجة الوزير تجنّي وهي أم ولده أبي الغنائم الفضل، وأمرا بضرب ابنها أبي الغنائم بين يديها، فبكى من عَرَفها من الذي يتم عليها، وقالت لهم: أحضروني أبا العلاء بن أبرونا، فأحضروه، وحُمِلَ في سَبَنَّية بين أربع فراشين، فطرح بين يديها. فجعلت تسأله عن شيء شيء، وهو يخبرها بمكانه، حتى كان في جملة ذلك ثلاثون ألف دينار. فقال له من حضر: ويلك، ألست من الآدميين؟! تضرب هذا الضرب، ويفضي حالك إلى التلف، وأنت لا تعترف! فقال: يا سبحان الله، أكون ابن أبرونا الطبيب الفصّاد على الطريق، بدانق ونصف دانق، يأخذني الوزير أبو محمد، ويصطنعني، ويجعلني كاتب سره، وأُعرف بخدمته، وأُطلِعُ الناس على ذخيرة ذخرها لولده؟ والله ما كنت لأفعل هذا ولو هلكت. فاستحسِن فعلُه، وكان ذلك سبباً لإطلاقه، وتقدم بذلك عندرجال الدولة.
وللوزير المهلبي وكأنه يرى ما سيجري بعد موته:
قضيت نحبي فسُرَّ قوم ... حمقى لهم غفلةٌ ونومُ
كأن يومي علىَّ حتم ... وليس للشامتين يوم
ولما مات الوزير المهلبي رثاه ابن سكرة، محمد بن عبد الله بن محمد الهاشمي، المتوفى سنة 385، فقال:
لا عذب الله ميتاً كان ينعشني ... فقد لقيت بضُري مثل ما لاقى
طواه موتٌ طوى مني مكارمه ... فذُقت من بعده بالموت ما ذاقا
ورثاه أبو عبد الله الحسين بن الحجاج الشاعر المشهور، فقال:
يا معشر الشعراء دعوة موجع ... لا يُرتجى فرجُ السلو لديه
عزوا القوافي بالوزير فإنها ... تبكي دماً بعد الدموع عليه
مات الذي أمسى الثناء وراءه ... والعفو عفو الله بين يديه
هدم الزمان بموته الحصن الذي ... كنا نفر من الزمان إليه
فليعلمن بنو بويه أنه ... فُجِعت به أيام آل بويه
 

الجمعة، 22 نوفمبر 2013

حدث في التاسع عشر من المحرم


في التاسع عشر من المحرم من عام 1157 ورد إلى دمشق أمر من السلطنة العثمانية إلى رسولها الخاص في دمشق بالتفتيش الشديد ومصادرة أموال والي دمشق سليمان باشا العظم الذي كان قد توفي في طبرية قبل 6 أشهر أثناء قتاله لظاهر العمر الزيداني الذي تمرد على الدولة العثمانية.
وجاءت في الخط الشريف التعليمات إلى هذا الرسول، ويسمى قبجي، أن يجمع أعيان البلد ويقرأ عليهم الفِرمان، ومضمونه بأن يفتش ويفحص على أموال الباشا، وأن يعذِّب الرجال والنساء بلا معارض حتى يقروا بالمال. ففعل ذلك وقرأ الفرمان عليهم فأجابوا بالسمع والطاعة، فأول من أتى به، ابن عم الباشا المتوفى محمد العظم وهدده، فحلف بالطلاق، بأن ما عنده علم، وقيل ضربه، فأقرّ على مكان، وقال: احفروا هنا، فحفروا في دار الباشا حول المدفئة، فبان عن أربع خوابي ذهب، فيهم 16.000 فرنك ذهبي.
ثم ضربوا الطواشي، فأقرّ بأنه مودع عند رجل يقال له حسن الطرابلسي، مخلاة ملآنة ريالات، فساروا إليه فأخرج المال إليهم، ووجدوا داخل المخلاة بين المال جوهرة نفيسة لا تقدر لها قيمة، ورأوا المال ناقصاً عن ما قال الطواشي، فأمر القبجي بحبس الذي خرج من عنده المال وحبس أولاده ومن يلوذ به.
وكان القبجي من قبل قد أخرج نساء الباشا وحريمه من الدار بشدة وغلظة، ووضعهم في الإقامة الجبرية، وتسمى آنذاك الترسيم، فأمر بإحضارهم فأحضروهم وصار يقررهم فأنكروا وجحدوا، فأمر بحبسهم، فحبسوا في باب البريد وشدد عليهم.
وكان لسليمان باشا سُرِّية مقدمة على جميع محاظيه تسمى زهراء، من أجمل النساء، وكان قد تركها القبجي عند سليمان بيك وكيل سليمان باشا على أملاكه، فلما جاءه الفرمان بعقوبة الرجال والنساء أمر بإحضارها، وسألها عن المال، فأنكرت وادَّعت أنها ما رأت شيئاً ولم تعرف شيئاً، فأمر بضربها، فضربت على وجهها ويديها وأجنابها، حتى غابت عن الوعي فلم تقرّ بشيء، وهي تحلف أن ليس لها علم ولا خير ولا أطلعها سيدها سليمان باشا على أمر، فتركها تحت الترسيم.
ثم بعد ذلك جمع القبجي جميع حريم الباشا من جواري وأحرار في جملة واحدة، وأخذ جميع ما معهم وما عندهم من ذهب وفضة ومتاع وحلي وألبسة وجميع ما تقتنيه النساء، وذلك بعد العذاب والإهانة والضرب الشديد.
وكان سليمان باشا قد تزوج من ابنة الشيخ ياسين الكيلاني نسباً القادري طريقةً، فلما رأت ما حلّ بصحيباتها من الإهانة وسألها القبجي عن مال زوجها الباشا، وهددها بالعذاب، خافت وأعطت له مبلغاً  من الذهب يساوي عشرة أكياس، أي عشرة آلاف، وأعطته سندات كانت على بعض التجار بنحو مئة وخمسين كيساً، وكان جميع ذلك المال إرثاً عن أبيها الشيخ ياسين القادري، فافتدت نفسها من أشد الإهانة بمبلغ 160.000 فرنك ذهبي.
وكانت الدولة العثمانية بعد وفاة سليمان باشا العظم قد عينت ابن أخيه أسعد باشا بن إسماعيل العظم والياً على دمشق، وأميراً للحج الشامي، وكانت هذه المصادرات تجري وهو في الحج، فلما عاد عقد اجتماعاً مع القبجي حضره أركان الولاية وأبرز القبجي الخط الشريف القاضي بتفويضه أن يفعل ما يشاء من تعذيب وقتل وحبس، وألا يعترضه أحد، فلم يحرك أسعد باشا ساكناً، وكانت الناس تترقب عودته من الحج وتقدر أن يقوم ويقعد لما حصل، ولكن ما عساه أن يفعل إزاء فرمان السلطنة العثمانية.
ولا شك أن آل العظم سعوا في دوائر السلطنة لاستصدار عفو فلم يلبث بعد مدة أن جاء فِرمان بالعفو، فشكلوا لجنة فيها مدير أملاك المتوفى سليمان باشا العظم وابن أخ له يدعى محمد، وقامت اللجنة برفع الحظر على ما تبقى من الأموال والأملاك والأمتعة والأسلحة، واشتراها منها الوالي أسعد باشا بأربع مئة كيس.
وقبل أن نتناول سيرة الوالي سليمان باشا العظم، نشير إلى أن آل العظم من الأسر العريقة في حماة ودمشق، ويذكر الأستاذ الزركلي أن أصلهم من قونية وكان جدهم إسماعيل العظم المتوفى سنة 1144=1731، أول من تولى الشام من هذه الأسرة سنة 1132=1720، وسكنها إلى أن توفي فيها، وأعقب ثلاثة أولاد: سعد الدين باشا، وأسعد باشا، ومن نسلهما آل العظم في دمشق وحماة، وإبراهيم باشا وسلالته في معرة النعمان، وكان من هذه الأسرة حكامٌ وموظفون كبار اعتمدت عليهم الدولة العثمانية اعتماداً وثيقاً لأنهم لأنهم أخلصوا لها كل الإخلاص، ولم تبدر منهم أي بادرة تمرد أو استقلال، فوسدت إليهم الأحكام في الشام، وأعطتهم من حرية التصرف ما لم تعط غيرهم، وأقصى ما فعلته بأحدهم أن نقلته من بلد لآخر، وكان ذلك في زمن أعمار الولاية فيه جد قصيرة، والتقلبات بالحكام لا تكاد تتوقف، ويكفي أن نشير أن السلطان محمود الأول، سلطان الفترة، قد غيَّر 17 صدراً أعظماً في فترة حكمه التي دامت 22 عاماً.
ومن آل العظم في العهد القريب أدباء وشعراء ومربون، من أبرزهم رفيق بن محمود العظم، المولود سنة 1282=1867 والمتوفى بالقاهرة سنة 1343=1925، صاحب المؤلفات القيمة، ومنها كتاب أشهر مشاهير الإسلام في الحرب والسياسة، وكتاب تنبيه الأفهام إلى مطالب الحياة الاجتماعية في الإسلام، وأهدى المجمع العلمي العربي بدمشق خزانة كتبه وهي نحو ألف مجلد.
نعود إلى سيرة سليمان باشا العظم، ولاتفيدنا المصادر كثيراً فيما يتعلق بمكان أو تاريخ ولادته، ومن المرجح أن تكون معرة النعمان حيث كانت إقامة والده إبراهيم باشا العظم، وأول منصب تولاه سليمان باشا كان ولاية طرابلس، وكانت من الولايات الثانوية التابعة لدمشق الشام، ثم عهدت إليه السلطنة العثمانية بولاية صيدا، وكان أخوه إسماعيل قد عين والياً على دمشق سنة 1138، وكان ذلك يشمل إمارة الحج فجعله مسؤولاً عنها ويسمى جرداوياً في اصطلاح ذلك الوقت،فكان يحج في كل سنة مع الحاج الشامي والتركي، ولما توفي أخوه سنة 1145 والياً على جزيرة كريت، صدر أمر الدولة سنة 1146=1733 بتعيينه والياً على دمشق مع إمارة الحج، وكانت البلاد آنذاك تعاني من مجاعة كبيرة أدت بحبل الأمن أن ينفرط وهاجم السكان الجائعون مخازن الحبوب بما فيها مخازن الولاية فقام على الفور بشنق أربعة من المتورطين، واتخذ إجراءات من شأنها توفير الطعام في البلد، وقد استاء الرأي العام في دمشق من إعدام هؤلاء المساكين، واعتبره سليمان باشا قسوة وظلماً من الوالي، ولكن أهل دمشق ما لبثوا أن مالوا إليه بسبب تركيزه على تشجيع الاقتصاد، وإبطاله مظالم كثيرة وضرائب كانت تفرض على الحِرف والصنائع والحارات في الشام.
واستمر سليمان باشا في ولاية دمشق حتى سنة 1151=1737حين عزله السلطان واستبدل به حسين باشا بستنجي، وجاء عزله بعد أن بنى في دمشق داراً بديعة كبيرة، ولم يرد في خطاب العزل تعيين جديد فخرج من دمشق بأهله وأولاده إلى حماة.
ثم جعله السلطان والياً على مصر سنة 1152 فبقي فيها إلى سنة 1154=1741، حين صدر الأمر بإعادته والياً على دمشق، فبقي والياً عليها حتى موته سنة 1156=1743، وقد حاول أثناء ولايته على مصر أن يقضي على كبار المماليك بواسطة التآمر مع بعضهم، فلم ينجح، ولما انتقل إلى دمشق أرسل المصريون شكاية عليه حملها الشيخ إبراهيم بن مصطفى الحلبي المداري القاهري، المولود بحلب والمتوفى في إستانبول سنة 1190، فلم يكن للشكاية قبول في أوساط البلاط العثماني.
وكان سليمان باشا العظم حازماً أعاد إلى الشام الاستقرار، فعندما جرى تعيينه لآخر مرة سنة 1154 أرسل أحد رجاله للشام ليتسلم إدارتها ثم جاء بعد ذلك بشهرين ونزل على البقاع، وأعلن أنه يريد محاصرة جبل الدروز، الذي كان من حين لآخر يستعصي على الدولة، ويقوم بعض أفراده بالاعتداء على القوافل ما بين دمشق وبيروت، فجاء إليه زعماء الدروز وصالحوه بمال عظيم حتى أرضوه، فتركهم ودخل الشام، وبعد ثلاثة أيام من دخوله صلب ثلاثة مجرمين من البدو، ولكنه بعد ذلك أبقى كل شيء على حاله ولم يحرك ساكناً.
وكانت التقاليد أن يصدر مرسوم تعيين الوالي لسنة واحدة، فما أن يقترب الحول حتى تبدأ الرعية والوالي في الترقب لخطاب التجديد، وقد حدث في سنة 1155 تأخر مجيء الفرمان الذي يجدد ولاية سليمان باشا العظم فصار ذلك مادة للشائعات والتخرصات، وبدأ بعض الزعران بالتجرؤ على الفساد والمنكرات، اعتقاداً منهم أن الوالي في موقع ضعف، ثم جاء الفرمان، وجاء معه أمر آخر بالقضاء على ما تبقى من الإنكشارية في دمشق، وكانوا شوكة في جنب الوالي لما يبدونه من جبروت وعصيان، ولما يقومون به من أعمال تزرع الرعب في قلوب الناس، قال المؤرخ البديري في الكتاب المسمى حادث دمشق اليومية: عقد سليمان باشا العظم اجتماعاً في ديوانه دعى إليه الأفندية والأغاوات، وأخرج خطاً شريفاً بإقامة العدل ومعاقبة المفسدين في دمشق من الإنكشارية، وطلب رؤساء الميدان وهم الأغاوات للحضور، فأبوا وأرسلوا له يسألونه ما يريد، فأرسل يطلب منهم ستة عشر رجلاً من الأشقياء الذين يسمونهم باصطلاحهم زرباوات، فأرسلوا له يقولون له: نحن لا نقدر على إلقاء القبض عليهم فدونك وإياهم. فبالحال أعلن تسريحهم من مناصبهم، وعيَّن غيرهم فيها، وأعطى أسماءهم للدلاّل، وأمره أن ينادي في شوارع الشام أن هؤلاء الستة عشر دمهم مهدور ولا جُناح على من قتلهم، وغيرهم في أمن وأمان من سليمان باشا. ففرحت الناس أجمعين، لأنهم كانوا من أعظم المفسدين.
وحدث في اليوم الثاني أن قتل أحد الجنود من فرقة القابيقول إنكشارياً غير الذين أهدر الوالي دمهم، فهربت الناس وأُغلِقت الأسواق،  فسأل الباشا عن ذلك، فقيل له إن بعض القابيقول، وأصلهم من الموصل وبغداد يريدون أن يثيروا فتنة في البلد، فأمر منادياً ينادي أن لا يبقى في البلد أحد من هؤلاء بعد ثلاثة أيام، وكل من بقي منهم يصلب وماله ينهب. والقابيقول لفظة تركية تعني عبيد الباب أي السلطان، ولعله في الأصل يعني قوات السلطان الخاصة.
وفي منتصف 1155 صدر الأمر لسليمان باشا العظم أن يتوجه لإخماد تمرد قام به ظاهر العمر الزيداني، المولود سنة 1106 والمتوفى سنة 1196، وكان قد أعلن العصيان على الدولة وتحصن في قلعة طبرية، فخرج على رأس قوة كبيرة أكثرها من الدالاتية، ولعلهم أشبه بالقوات الخاصة اليوم، واصطحب معه مختصين بالمدفعية والألغام كانوا قد جاؤوه من إستانبول بطلب منه، وانضم إليه في الحصار الدروز وقوان من نابلس والقدس وعرب بني صخر، واستمرفي حصار القلعة مدة وهو يضرب عليها بالمدافع ، ولكنها كانت من الحصانة بحيث لم نؤثر فيها مدفعيته وألغامه، واستغرب سليمان باشا صمود القلعة مع تضييقه الحصار عليها، ثم أخبره بعض أهل طبرية أن مؤن المحصورين بالقلعة كثيرة، وإن تزويدهم بالطعام والذخيرة مستمر رغم الحصار، فشدد الرقابة وبث العيون، فألقى رجل من عسكره القبض على رجل وجدوا  معه بعد تفتيشه كتاباً موضوعاً في نعله، وإذا بالكتاب من أخي ظاهر العمر يخبر أخاه أنه أرسل باروداً وغيره من الذخائر مع بعض الأشخاص، فأخذ الباشا الكتاب وقرأه، وقرّر الرسول فأقر بالنجدة والذخيرة المرسلة لأخي الظاهر عمر، فأمر بقتله فوراً، وأرسل جماعة للقوم الذين معهم الذخيرة فأُخذت منهم، وقتلوا غالبهم، وقطعت رؤوسهم، وأرسلها سليمان باشا إلى إستانبول، وشدّد الحصار، وأرسل لأخي ظاهر عمر يقول له: إذا فرغنا من أخيك جئنا إن شاء الله إليك.
وما لبثت القلعة أن استسلمت بعد إحكام الحصار عليها، وذلك لأن سليمان باشا العظم بدأ في حفر نفق بغرض وضع لغم يفجر سور القلعة تمهيداً لاقتحامها، فزاد قلق المحصورين، وكان من حسن حظهم أن مر في المنطقة في طريقه إلى إستانبول عمر بك وهو مسؤول مالي كبير في حكومة مصر يقوم بنقل أموال الجبايات والضرائب من مصر للخزانة العثمانية في إستانبول، فأرسل إليه ظاهر العمر راجياً إياه التوسط بالصلح بينه وبين سليمان باشا، وكان عمر بك يعرف سليمان باشا من أيام ولايته على مصر، وكان عمر بك رجلاً وقوراً كبير السن،فدخل على سليمان باشا العظم قال له: إن ظاهر العمر عبد نعمتكم ودولتكم، والصفح من شيم الكرام، وأنتم الكرام لا سواكم. فوعده سليمان باشا خيراً.
ثم انتهز أهل طبرية حلول عيد الفطر فطلبوا أن يدخل إليهم علي آغا الترجمان من حاشية الوالي، فدخل إليهم، فوقعوا على قدميه وصاروا يبكون حواليه، وقدموا له 10.000 فرنك ذهبي، ليدخل بينهم وبين سليمان باشا بالصلح، ثم خرجت النساء والأطفال والشيوخ يبكون وينتحبون، فرقّ لهم وسار إلى سليمان باشا وقبل قدميه، وذكر له فضائل محاسن الأخلاق والصفح الجميل، فرقّ قلبه وصفح عنهم، فخرجت النساء والرجال والأطفال، وفي رقابهم المحارم وعليهم الذل رافعين أكفّ الضراعة بالمسكنة، وضاجّين بالأدعية له وللسلطان الأعظم، ودفعوا لسليمان باشا العظم 200.000 فرنك ذهبي، وعاد هو إلى دمشق ومعه ابن ظاهر العمر رهينة، وقرر هدم القلعة وتسويتها بالأرض، وأرسل جماعة قاموا بذلك.
وكان مما جعل سليمان باشا يميل للصفح اقتراب موسم الحج في شوال، وعليه أن يكون على رأس ركب الحجيج الشامي الذي يضم كذلك حجاج الأناضول، وتحسباً من أن تتدهور الأوضاع مع الإنكشارية الذين أهدر دمهم، عقد سليمان باشا اجتماعاً في 20 شوال قبل أن يخرج مع الجردة، ودعا إليه الأعيان، وأظهر الفرمان الذي فيه قتل المفسدين من الإنكشارية، وقال لمن حضر: هذا الفرمان الذي أمره مفوض لنا قد ألغيناه وعفونا عنهم. وعُدّ ذلك من حسناته.
وكان الوزير يذهب بتكليف من الدولة العثمانية للحج كل سنة على رأس قوة تتولى حماية الحجيج من اعتداء البدو في هذه الرحلة الطويلة من دمشق إلى المدينة المنورة، وكانت قافلة الحجيج تضم حجاج حلب ومن ينضم إليهم من حجاج الأناضول بل والعجم أحياناً، وكانت القافلة تخرج من دمشق في منتصف شوال وتعود بعد أكثر من 3 أشهر في أواخر المحرم من العام التالي، وفي عودة الحاج لسنة 1156 جاءت السيول في طريقهم في منطقة القطرانة شمالي معان في الأردن، وذهب على ما قيل مقدار نصف الحاج، من خيل وجمال وبغال، ونساء ورجال وأموال وأحمال، وقد غرق لأحد التجار سبعة عشر حمل، كل حمل لا يقام بثمن، فاستغاثوا بسليمان باشا العظم، وقالوا: نحن نهب لك مالنا وخذه أنت ولا تتركه للعرب. فحالاً نهض وأخذ معه جماعة، وذهب نحو مرحلة، وقد خاطر هو وجماعته، ثم غاب يوماً وليلة بعدما جدّوا في طلبه، وإذا هو قادم ومعه الأحمال بعينها، وسلمها إلى أصحابهم، وعُدّت هذه من مناقبه.
وفي منتصف سنة 1156 عاد ظاهر العمر وشق عصا الطاعة في طبرية وسواحل فلسطين، فجاء فرمان من الباب العالي إلى سليمان باشا العظم أن ينهض إلى قمعه واستئصاله، وأن يخرج معه والي صيدا ووالي طرابلس والقدس وغزة والرملة وإربد، فخرج سليمان باشا العظم ، واستصحب معه نحو 500 جندي، والتحق به من جبل الدروز عدد كبير، ثم ما لبث أن طلب أن يلتحق به 300 إنكشاري، وأن يرسل ما بقي من العسكر للحفاظ على الأمن في قرى حوران، وأن يخرج من كل قرية من قرى الشام عشرة أنفار ينضمون لقوة الإنكشارية المكلفة بحفظ الأمن.
وسار سليمان باشا العظم بتلك القوات إلى المناطق الشيعية في جنوبي لبنان، وانضم إليه الأمير ملحم ومعه مئتا خيَّال، ولكن سرعان ما تنازع الشيعة والدروز واقتتلوا، وكانت الدائرة أولاً على الشيعة الذين قتل الدروز منهم أكثر من 1000 شخص وحرقوا بلادهم ونهبوا أموالهم، ثم صال الشيعة على الدروز فقتلوا منهم نحو 500 منهم أمير دير القمر، واستاء سليمان باشا مما حدث، وردَّ الدروز ولم يقبل منهم مساعدة، وضم إليه حوالي 400 من الشيعة ليهاجم لقلعة التي تحصن فيها أخو ظاهر العمر.
وأرسل ظاهر العمر كتاباً إلى سليمان الباشا العظم، يطلب فيه الصلح فأبى، وقال: لا يمكن إلا برأسك! فأرسل يستغيث به، ويقول خذ من الأموال ما تشاء، ودع سفك الدماء والقتال، وارحم النساء والأطفال. فلم يقبل سليمان باشا أن يلدغ من ذلك الجحر مرتين.
وبعد شهر من خروجه جاء الخبر إلى دمشق في السابع من رجب أن سليمان باشا العظم قد توفي وهو في حصار ظاهر العمر في عكة، ثم ما لبث جثمانه أن وصل دمشق في اليوم التالي فصلوا عليه ثم دفنوه في مدفن آل العظم في مقبرة باب الصغير، بجوار ولده إبراهيم الذي توفي قبله، وفقاً لوصيته.
ولأن وفاته تمت في هذه الظروف، فمن الطبيعي أن تحوم الشائعات أنه مات مسموماً، وأن ظاهر العمر دفع مالاً لبعض خدمه ليدس له السم، والثابت أن دخل إلى حمام عكة، وخرج منه محموماً، وأدرك أنه الأجل المحتوم، فأوصى أن يرحل به إلى الشام ويدفن عند ولده.
وكان من الممكن أن يؤدي موت سليمان باشا لهجوم من المعسكر المعادي، ولكن أمراء الجيش كتموا موته، وأظهروا أنه عائد إلى دمشق، وقاموا بكل مراسم التعظيم المعتادة في سفر الوالي من اصطفاف الجند وإطلاق المدافع، وبلغهم لما وصلوا هضبة الجولان أن 5000 من الشيعة يكمنون لهم، فجدّوا في السير من أول الليل حتى دخلوا دمشق مع طلوع الفجر.
ويبدو أن تعليمات أو تقاليد الدولة العثمانية كانت تقضي بإجراء الحجز الاحتياطي والتوقيف في مثل هذه الحالة، لأن دفتردار دمشق، فتحي جلبي بن الفلاقنسي، ختم على دور سليمان باش العظم وخزائنه وأملاكه، وأقام عليها حرساً بالليل والنهار، وأمر بسجن سلحداره وخزنداره، وكذلك ابن عمه محمد بيك، ومحمد آغا الديري مدير أعمال سليمان باشا، وكتب بذلك عرضاً، وأرسله لإستانبول وأقام ينظر الجواب.
وجاء قبجي من إستانبول لضبط مال سليمان باشا، فضبط 2050 كيساً تحوي 1.025.000 قرش، واشترى فتحي الدفتردار غالب متاعه والغلال التي في مستودعاته فبلغت كميتها 500 غِرارة، والغرارة كيس كبير لعله يسع قرابة 50 كيلو، وهو أمر يلفت النظر لأن دمشق كانت تعاني من شح في القمح وغلاء شديد في أسعار الغذاء.
ولكن هذه المصادرة لم تكف، فجاء مبعوث سلطاني آخر في آخر شوال، ومعه أمر بتحصيل أموال سليمان باشا العظم، وقدرَّها باثني عشر ألف كيس أو 12.000.000 فرنك ذهبي! قال البديري عن هذا المفتش: ودخل الشام مثل شعلة النيران، وأخرج حرم سليمان باشا من ديارهم إخراجاً شنيعاً، وصاروا يفتشونهم واحدة واحدة، مع التفتيش في جيابهم وأعبابهم، وختم على جميع مخادع الدار، وأمر بالقبض على ابن عم المرحوم سليمان باشا، وهو السيد محمد، وعلى جماعة أخرى معه، وأمر بالترسيم الشديد عليهم، وسأل عن محمد آغا الديري، وكيل خرج سليمان باشا، فأخبروه أنه ذهب مع أسعد باشا إلى الحج، فأمر بجلبه، فجاؤوا به، وأمر بالترسيم عليه.
ثم أحضر المندوب القاضي والأعيان، واستجلب حرم سليمان الباشا، وأحضر الجلاد وآلة العذاب، وشدّد على الحريم بالطلب، وأن يعلموه عن المال أين مخبأ، فلما رأوا التشديد خافوا من العذاب وأقروا له عن بعض مخابئ تحت الأرض، فأرسل خلف المعمارية الذين عمروا السرايا، وكانوا نصارى، وكان المعلم نصرانياً يقال له ابن سياج، فأمر القبجي بتعذيبهم، وقطع رؤوسهم وأيديهم، فلما تحققوا عذابهم قالوا: نحن ندلك على كل ما عمل ثم أنهم حفروا له تحت الدرج، فبان عن سرداب، فرفعوا عنه التراب، ونزلوا في درج، فظهر مكان واسع وفيه صندوق مقفول، فأخرجوه وفتحوه، فرأوه ملآن من الدراهم والريالات، ثم أخرجهم النصراني إلى مخدع، فحفر في دوائره، فإذا فيه سبع خوابي مملوءة من الذهب المحبوب السلطاني، فلما رأى الحاضرون ذلك الحال زاغت منهم الأبصار، ثم عدوه وضبطوه، فوجدوه 850 كيساً. فلما بلغ الناس ما خرج عنده من هذا المال، وكان في أيام شدة الغلاء، مع سوء الحال، لهجوا بالذم والنكال، وقالوا قد جوّع النساء والرجال والبهائم والأطفال حتى جمع هذا المال من أصحاب العيال، ولم يراقب الله ذا الجلال.
ذكرنا في البداية أن المصادرات والتحقيقات تمت وأسعد باشا العظم ابن أخي سليمان باشا هو الوالي على دمشق، فلم يفعل شيئاً لدفع الضر عن قرابته، ولكنه، وهو المتمرس بالسياسة، ترَّقب الفرصة المواتية للانتقام من فتحى أفندي الدفتردار، وحانت هذه الفرصة سنة 1160، ولا ندري إن كان ذلك بسعي منه أم من جراء سياسة الدولة العثمانية في تغيير المتنفذين من الموظفين واستصفاء أموالهم.
قال البديري: وفي نهار الأحد بعد العصر خامس عشر جمادى الثانية من هذه السنة ضربت مدافع، فسأل الناس عن الخبر، فقيل: إن سعد الدين باشا أخا أسعد باشا جاءته رتبة وزارة، فهُرِعت أكابر الشام لتهنئة أخيه أسعد باشا، وكان أسبقهم لتهنئة الباشا فتحي أفندي دفتردار الشام، فلما رآه الباشا قام ودخل لدهليز الخزنة، فتبعه وجلس عنده، فأخرج أسعد باشا صورة عرض وأراه إياه، فأخذه فتحي أفندي وقرأه، وإذا فيه الأمر بقتله. وقال له الباشا: ما تقول في هذا؟ فقال: سمعاً وطاعة، لكن أنا في جيرتك فخذ من المال ما أردت وأطلقني. فقال له الباشا: ويلك يا خائن، أنا لم أنس ما فعلت في نساء عمي! ثم أمر برفع شاشه وقطع رأسه، فوضع في رقبته حبل، وسحب إلى خارج السرايا وقطع رأسه، وأرسل للدولة. ثم أمر الباشا أن تطاف بجثته في سائر شوارع الشام وطرقها وأزقتها ثلاثة أيام، ففعل به ذلك، وطيف به عرياناً مكشوف البدن وتركوه للكلاب، ثم دفنت جثته في تربة الشيخ رسلان، وأمر الباشا بالإحاطة على داره وعلى ماله والقبض على أعوانه، فألقوا القبض على خزنداره عثمان وعلى ولده فأمر بحبسهما، ثم أتوا بأكبر أعوانه وكان يلقب بالعفصا فقطع رأسه حالاً. وزادوا على أعوانه بالتفتيش، فقتل بعض أعوانه وخدامه، ثم ضبط الوزير تركته وأموال أتباعه جميعاً للدولة العلية، فبلغت شيئاً كثيراً، وتفرق الباقون أيدي سبا، كأن لم يكونوا وانقضت دولته كأنها طيف خيال.
ترك سليمان باشا العظم عدداً من الآثار العمرانية في دمشق، من أبرزها خان العظم، الواقع في منتصف سوق مدحت باشا، وقد بناه سليمان باشا سنة 1145، وهو كما يقول الباحث عماد الأرمشي: ثاني أكبر خانات دمشق بعد خان أسعد باشا العظم، ويتألف من طابقين يضم الدور الأول محلات تجارية، ويضم الدور الثاني 30 غرفة خاصة لنزلاء الخان، ومستودعات وباحة كبيرة كانت مغطاة بقبتين كبيرتين زالتا ومازالت آثارهما باقية. وإضافة للخان بنى سليمان باشا سنة 1148 حمامين في دمشق كانا من محاسن البنيان.
ولئن كان هذا مشروعاً ربحياً فإن لسليمان باشا العظم آثاراً عمرانية ذات نفع عام، منها إصلاحه شبكة المياه التي تشرب منها دمشق والمسماة بالقنوات لاعتمادها على منظومة متكاملة من الأقنية مختلفة السعة والتي تدخل كل حي وبيت.
قال البديري: وفي يوم الأحد غرة جمادى الأولى من سنة 1156، شرع حضرة سليمان باشا ابن العظم، في تعمير وترميم نهر القنوات، وجعل جميع المصارف من ماله جزاه الله خيراً، واشتغل بها من الفعلة مئتا فاعل، فأمر بقطع بعض الصخر من طريقها، وبتشييد أركانها وإصلاح ما فسد منها، ورفع جدرانها، وبضبطها ضبطاً جيداً وبإصلاح فروض مستحقيها على الوجه الحق، وأن يأخذ كل ذي حق حقه. فكانت هذه العمارة والضبط ما سبقه إليه أحد من عهد إصلاحها من أيام تيمور لما أصلحت بعده، وقد تمت عمارته في برهة خمسة عشر يوماً، ولما تم أمر بإطلاق النهر، فكان إطلاقه على أهل دمشق فرجة من أبهج الفرج، ويوم مثل يوم الزحام. وقد أرّخ هذه العمارة شيخ الأدب في الشام الشيخ عبد الرحمن البهلول، مادحاً حضرة الوزير سليمان باشا ومشيراً لتاريخ تتميم البناء، فقال:
جزى المولى أميرَ الشام خيرا ... سليمانَ الزمان ودام دهرا
بما قد جدد القنوات صدقا ... بإخلاص زكا سرا وجهرا
فيا طوبى له إذ نال أجرا ... على مرّ الليالي مستمرا
له في كل مكرمة أياد ... بإحسان علت وهلم جرا
فكم صنعت يداه وجوه بر ... بها أرخ سبيل الخير أجرا
ولم تقتصر آثار سليمان باشا العمرانية على دمشق، بل عهدت إليه الدولة ببناء قلعة في تلبيسة بين حمص وحماة لحفظ الأمن على الطرقات، فقام بذلك خير قيام.
كذلك بنى سليمان باشا العظم سنة 1150 مدرسة قرب داره عند باب البريد بدمشق، ووقف الأوقاف لمدرسيها، ووقف بها خزانة كتب نفيسة دخلت في خزانة دار الكتب الظاهرية عند إنشائها سنة 1296، وكان له مائدة دائمة للفقراء كل يوم لا تخلو من اللحم، ولما احتفل بختان ابنه أول سنة 1156 أقام حفلاً شارك فيه عامة الناس وأمر بختان أولاد الفقراء وغيرهم ممن أراد، فأقبل الناس بأولادهم، وأمر بمنح كل ولد بذلة وفرنكين ذهبيين.
 

الجمعة، 15 نوفمبر 2013

حدث في الثاني عشر من المحرم


في الثاني عشر من المحرم من عام 1252، الموافق 29/4/1836، ولد في بغداد السيد خير الدين نعمان بن محمود بن عبد الله الحسيني الآلوسي، العلامة القاضي الفقيه، وأحد أعلام الأسرة الآلوسية في العراق. ونسبة الأسرة الآلوسية إلى جزيرة آلوس في وسط نهر الفرات، على خمس مراحل من بغداد، فر إليها جد هذه الأسرة من وجه هولاكو المغولي عندما دهم بغداد، وأقام بها، ثم رجعت أحفاده إلى بغداد في القرن العاشر فنسبوا إليها. وقد نبغ من هذا البيت رجال فضلاء، جمعوا بين الدين والأدب، والفقه والفصاحة، والقضاء والتدريس، فخدموا العلوم الشرعية والآداب العربية، ونشروا مندثرها وأحيوا أمواتها، وكانوا على رأس نهضة العراق الحديثة في العلم والشرع.
ولد خير الدين نعمان لأشهر علم من أعلام هذه الأسرة العريقة، فقد كان والده شهاب الدين أبو الثناء محمود، المولود ببغداد 1217=1802 والمتوفى بها 1270=1854، من كبار علماء العراق وتولى الإفتاء سنة 1248 ثم عُزِلَ فانقطع للعلم، وكان مفسراً محدثاً مجدداً، أديباً شاعراً، سلفي الاعتقاد، مجتهدا. له مؤلفات قيمة منها تفسير روح المعاني، وكتاب غرائب الاغتراب، ضمنه تراجم الذين لقيهم، وأبحاثا ومناظرات، وكتاب كشف الطرة عن الغرة، شرح به درة الغواص للحريري، ومقامات في التصوف والأخلاق، عارض بها مقامات الزمخشري، وغيرها من الكتب.
وكان أخواه الكبيران بهاء الدين عبد الله وسعد الدين عبد الباقي، والد محمود شكري، من رجال العلم والفقه والقضاء.
درس خير الدين على والده النحو والمنطق، ودرس على تلميذ والده السيد محمد أمين الواعظ، محمد أمين بن محمد الأدهمي الحسيني المشهور بالواعظ، المولود سنة 1223=1808 والمتوفى سنة 1273=1857، وكان متضلعاً في الفقه الحنفي والأصول، مع تمكن من الأدب واللغة، ودرس الفقه الحنفي على الشيخ عبد الرزاق بن محمد أمين البغدادي، وهو قد أخذه عن العلامة محمد أمين عابدين الدمشقي، ودرس علي صديق والده الشيخ صفاء الدين البَنْدَنيجي النقشبندي، عيسى بن عبد الله، المتوفى سنة 1283=1866، وكان الوزير داود باشا قد أقامه مدرساً في مدرسته التي أنشأها في بغداد، كما تعلم خير الدين الخط وامتاز بخط بارع، ولما أنهى دراسته وأصبح أهلاً لمتابعة طريق والده، دخل في سلك القضاء وتولى قضاء الحلة، ولعله كونه قاضياً هو ما جعل مطبوعات ذلك الوقت تدعوه باسم نعمان أفندي الآلوسي.
وقد ذكر الأستاذ محمد بهجة الأثري، المولود سنة 1322=1904 والمتوفى سنة 1416=1996، في ترجمة مختصرة له لخير الدين الآلوسي نشرتها مجلة لغة العرب العراقية سنة 1345=1927، أن الآلوسي سافر للحج في سنة 1295، وكان سفره عن طريق الشام فالقاهرة فالحجاز، وكان غرضه أن يطبع في مصر تفسير والده المسمى روح المعاني، ولما كان في القاهرة اطلع على تفسير فتح البيان، الذي ألفه الأمير الهندي صِدِّيق حسن خان، زوج ملكة بوبال، والذي كان قد طبع في القاهرة، فأعجبه ما تضمنه من الآراء الإصلاحية والمباحث العلمية، وتطلع للتعارف والاتصال به، فلما كان في مكة سأل عنه فتوصل إلى الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى الشرفي النجدي، المولود سنة 1253 والمتوفى سنة 1329، وهو صديق حميم لصديق حسن خان، فحدثه عنه بما زاده إعجاباً على إعجاب، وأرسل له بواسطة الشيخ أحمد رسالة كانت بداية علاقة وثيقة دامت بينهما أعواماً مديدة.
وأنا أقدر أن الآلوسي التقى بصديق حسن خان في مكة المكرمة، لأنه يصفه في كتابه جلاء العينين فيقول: وهو أبيض، ربعة من القوم، قليل الشيب لهذا العهد، شعره إلى شحمة أذنيه.  أما صديق حسن خان فيذكر في كتابه أبجد العلوم أنه أجازه سنة 1297، فهي على الأغلب إجازة مواجهة لا مراسلة، والآلوسي يذكره في كتبه باسم شيخنا، مع تقارب السن، إذ ولد صديق حسن خان سنة 1248، وتوفي سنة 1307.
وسواء كان لقاء أم مراسلة، فقد كان أول ثمار هذه العلاقة أن نشرت ملكة بوبال بمساعي صديق حسن خان كتاباً كبيراً وهاماً ألفه الآلوسي، وهو جلاء العينين في محاكمة الأحمدين، فقد أتمه الآلوسي في شهر ربيع الآخر سنة 1297، وأرسله إلى الأمير في الهند، ورغب إليه في نشره، فحقق له أمنية كل عالم في نشر كتابه دون اعتبار للتكاليف التي تقصر عنها يده، وطبع الكتاب وبهامشه كتابان أحدهما من تأليف صديق حسن خان، قد أشار إلى ذلك الآلوسي في الكتاب وترجم للأمير صديق حسن ترجمة طيبة، وقال عنه: شيخنا الإمام الكبير، السيد العلامة الأمير، البدر المنير، البحر الحبر. وأشار إليه بضع مرات في ثنايا الكتاب.
وكان ذلك بداية رعاية من الأمير للآلوسي تجلت في طبع عدد من مؤلفاته ومؤلفات والده، وذلك لتقارب المشارب في تجديد أمر الدين وفتح باب الاجتهاد الفقهي، وكتاب جلاء العينين، كتاب جعل فيه الآلوسي نفسه حكماً بين ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم، المولود سنة 661 والمتوفى سنة 728، وبين ابن حجر الهيتمي، أحمد بن محمد، المولود سنة 909 والمتوفى سنة 974، وذلك إن ابن حجر هاجم ابن تيمية هجوماً شديداً في آرائه المتعلقة بالعقيدة والصفات، ووصفه بأنه: عبدٌ خذله الله تعالى وأضله، وأعماه وأصمه وأذله! فأراد الآلوسي أن يعيد الأمور إلى نصابها الصحيح، وينتصف لابن تيمية من تعنت ابن حجر الهيتمي، فصنف هذا الكتاب في أدب وإنصاف واحترام كبير لابن حجر رحمه الله.
وفي شارع الرشيد من الشورجة في من بغداد جامع شيده أحد موالي السلطان المغولى أويس بن حسن، وهو أمين الدين مرجان بن عبد الله، المتوفى سنة 775، وهو مدفون فيه ويعرف المسجد باسمه: جامع مرجان، وقد شرط واقفه رحمه الله أن يتولى أوقاف هذا الجامع أعلم أهل بغداد، ولذا صارت لهذا الجامع مكانة خاصة في البلد إضافة إلى الراتب الذي خصصه الواقف للناظر، وكان والد خير الدين قد نال هذه المنزلة سنة 1249 حين عينه والي بغداد علي رضا في هذا المنصب، وهو ما يفضي إلى أن يكون الناظر مفتي الحنفية في بغداد، ولكن حسد الحاسدين ومكايدهم أدت إلى أن نزع هذا المنصب من الوالد في سنة 1263، ومرت به سنون عصيبة صبر عليها صبر الكرام، ثم رحل إلى الآستانة سنة 1267 والتقى بشيخ الإسلام عارف حكمة الذي أعجب بالأب وعلمه، وأعاده إلى منصبه معززاً مكرماً، وكان من ثمرات هذه المحنة والرحلة أن كتب الأب كتابه الماتع: غرائب الاغتراب، ولم يتهنأ بالمنصب طويلاً، فقد توفى سنة 1270.
وتكرر الأمر مع خير الدين حيث تسنم النظر في أوقاف المسجد ثم نزع منه، فسافر إلى إستانبول سنة 1300، عن طريق دمشق حيث التقى بعلمائها وأدبائها، وفي إستانبول اجتمع خير الدين الآلوسي بشيخ الإسلام وغيره من أهل الحل والعقد في هذه الأمور، وقضى فيها سنتين لقي فيها التكريم والترحيب، وأنعم عليه السلطان عبد الحميد بمراتب عالية، وأصدر أمره بإعادة المدرسة إلى نظره، فعاد إلى بغداد وباشر التدريس فيها والنظر في مصالحها من الصباح إلى المساء، وقد هنأه الشاعر شهاب الموصلي بقصيدة منها:
وافى وعرفانه والعلم عرَّفه ... إلى رجال ذوي علم وعرفان
موظفا قد أتى لكن بمدرسة ... قديمة العهد من إنشاء مرجان
وظيفةٌ قبله كانت لوالده ... بموجب الشرط شرط الواقف العاني
واليوم قد عاد مقبول الجناب إلى ... بغداد باليمن مشمولا بإحسان
وتذكر صفحة على الشبكة أنه في سنة 1365=1946 هدم المدرسةَ معولُ التخطيط الحديث واقتطع منها جزءاً كبيراً أضيف إلى شارع الرشيد، وشُيِّد على ما تبقى منه مسجد جامع، ولم يبق من أصل المدرسة سوى بابها الأثري القديم.
ودرَّس الآلوسي في إستانبول بعضاً من حاشية ابن عابدين في الفقه الحنفي، وكان ممن درس عليه الأديب أبو النصر السَّلاوي، يحيى بن عبد الغني المغربي الأصل المصري الولادة، وقد ناله من إكرام الآلوسي وتواضعه، وهو موظف عادي من موظفي دائرة المعارف العمومية لا يرجى نفعه ولا يخشى ضر، ما يدل عى كرم ومرؤوة الآلوسي، وصدقه في بث العلم، قال السلاوي: حضرت بين يديه في خلال أوقات متفرقة شيئا من حاشية رد المحتار على الدر المختار لمؤلفها ابن عابدين، وكان بودي أن أتلقى عنه كثيرا من الفنون والعلوم لولا ما شُغلت به من عوارض الغربة والهموم، ولكن سماحة نفسه الكريمة وأخلاقه المشهورة، أخلفتني خيرا مما فرط مني ... وكان يتنازل لتشريفي، ويتعهدني بالزيارة في منزلي مرة بعد أخرى، ويملي عليَّ من معقوله ومنقوله.
ودرس على الآلوسي كثير من نوابغ العراق وعلمائه، ومن أبرزهم ابن أخيه محمود شكري، المولود سنة 1273 والمتوفى سنة 1342، وللآلوسي إجازات في الحديث الشريف مجيزاً ومجازاً، ولكنه لا يعد من المحدِّثين، بل هي إجازات معتادة بين علماء ذلك العصر، لا تخرج عن كونها تقليداً لعلماء الحديث وتبركاً برواية حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ذكر الأستاذ محمد بهجة الأثري في ترجمته لخير الدين الآلوسي أنه كان واعظاً من الطراز الأول تقبل على درسه العامة قبل الخاصة، وشبهه بابن الجوزي أشهر واعظ عرفته بغداد، وذكر أنه واجه مشكلة كبيرة في بغداد في درسه تغلب عليها بجرأته دون تنازل عما يعتقد أنه الحق، قال الأثري: وقد كان رحمه الله جوزيَّ زمانه في الوعظ، وقد بلغ في حسن التذكير والإرشاد النهاية، فكان في كل سنة يجلس في شهر رمضان للوعظ في أحد المساجد الواسعة فيُقصَد من أطراف البلد حتى يغص المكان بالمستمعين، فاتفق له في شهر رمضان سنة 1305هـ أن استطرد في أحد مجالسه فناقش بحث إن كان الموتى يسمعون كلام الأحياء، فذكر ما قاله علماء الحنفية من عدم سماع الموتى كلام الأحياء، وأن من حلف لا يكلم زيدا مثلا فكلمه وهو ميت لا يحنث، وعليه فتوى العلماء.
فقام عليه المخالفون وقعدوا لها وأنكروا عليه هذا العزو، وأثاروا أفراد جهلة العوام والمرجفين في مدينة السلام، وكادت تقع فتنة، ولكنه بدهائه وحلمه سكن ثائرتهم، فجمع في اليوم الثاني كل ما لديه من كتب فقهاء المذاهب الأربعة، وصعد كرسي الوعظ وقد احتشدت الجموع، فأعاد البحث وصدع بالبيان ثم أخذ يتناول كتابا كتابا فيتلو نصوص العلماء ثم يرمي بها إلى المستمعين ويصرخ: هؤلاء هم علماؤكم فإن كنتم في ريب منهم فدونكموهم وناقشوهم الحساب! حتى إذا فرغ نهض واخترق الجموع غير وجل ولا هياب، فأقبلوا عليه يقبلون يديه ويعتذرون إليه من قيامهم بتحريك المرجفين من فريق المقلدة والجامدين. ثم ألف رسالة لطيفة جمع فيها ما آراء الفقهاء في هذا الباب واسماها: الآيات البينات في عدم سماع الأموات عند الحنفية السادات، ونشرها سنة 1305.
وحج الآلوسي مرة أخرى في سنة 1311، وكان قد اشتهر وعلا ذكره، فاجتمع به العلماء للمذاكرة والأخذ عنه، ومنهم العلامة المحدث شمس الحق العظيم آبادي، محمد بن علي الصديقي، المولود بالهند سنة 1273=1856 والمتوفى سنة 1329=1911.
صنف خير الدين الآلوسي عدداً من الكتب نورد أسماءها مع نبذه عن كل واحد منها حسب تاريخ تأليفها، وأولها ما سبق الحديث عنه وهو جلاء العينين الذي طبع سنة 1298، وكتاب غالية المواعظ، ومصباح المتعظ وقبس الواعظ، طُبع في بولاق سنة 1301، ويتألف من 50 باباً، ولعله على عدد أسابيع العام، وقد لخصه من كتب ابن الجوزي وغيره، ورتبه ترتيبا حسنا سهل فيه مسالك الوعظ، وصار عليه عليه اعتماد أغلب الواعظين في الديار العراقية، وكتاب الآيات البينات المطبوع سنة 1305، وسبق الحديث عنه، وكتاب الجواب الفسيح لما لفّقه عبد المسيح، وهو ردٌّ على رسالة منسوبة لعبد المسيح بن اسحق الكندي التي أجاب بها في زمن المأمون رسالة عبد الله بن إسماعيل الهاشمي حينما دعاه فيها إلى الإسلام، وكلاهما فيما يظهر مزور، وكانت المنصرون قد طبعوا الرسالتين في ليدن بهولندة سنة 1880م، ثم في غيرها من بلاد العرب، فتصدى رحمه الله وألف هذا الكتاب في سنة 1306 وطُبع في المطبعة الإسلامية بلاهور في الهند آنذاك، ورسالة شقائق النعمان في رد شقاشق ابن سليمان، طُبع في مصر سنة 1313، وابن سليمان هذا كان من متصوفة بغداد اسمه داود ألف رسالة دعا بها العوام إلى الغلو في أهل القبور، فردَّ عليه بهذه الرسالة، وكتاب الأجوبة العقلية لأشرفية الشريعة المحمدية، وهو رد على طائفة القاديانية والأحمدية وتأكيد أن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وأن شريعته نسخت سائر الشرائع، وطبع سنة 1314 في مومباي، وله مؤلّف أسماه الإصابة في منع النساء من الكتابة، طبع سنة 1314، وهو جواب سؤال ورده من الهند، قال فيه: فأما تعليم النساء القراءة والكتابة فأعوذ بالله منه، إذ لا أرى شيئاً أضر منه بهن. فإنهن لما كُنَّ مجبولات على الغدر، كان حصولهن على المَلكة من أعظم وسائل الشر والفساد... فاللبيب من الرجال هو من ترك زوجته في حالة من الجهل والعمى، فهو أصلح لهن وأنفع!
وهناك كتب أخرى لم تنشر، وكتب نشرت بعد وفاته، منها كتاب صغير اسمه سلس الغانيات في ذوات الطرفين من الكلمات، طبع في بيروت سنة 1318، وهو كتاب لغوي في الأسماء التي تقرأ طردا وعكسا مثل: قلق وسدس وليل، وكتاب الطارف والتالد في إكمال حاشية الوالد، وهو في النحو يتمم حاشية والده على كتاب قطر الندى لابن هشام، وطُبع سنة 1320، ورسالة الحباء في الإيصاء، وهي في أحكام الوصية والإيصاء، استقاها من رد المحتار على الدر المختار للعلامة الفقيه ابن عابدين الحنفي، وطبعها ابنه علي علاء الدين في إستانبول سنة 1328.
قال الأستاذ الأثري في ترجمته لخير الدين الآلوسي: هذا وقد نشر رحمه الله عدا كتب أبيه كتاب الألفاظ الكتابية لعبد الرحمن ابن عيسى الكاتب، وقد دعاه كتاب الأشباه والنظائر، ونسبه سهوا إلى عبد الرحمن الأنباري. والكتاب المشار إليه طبع في إستانبول سنة 1302، ومشحون بالأخطاء، وقد أوضح الأب أنستاس ماري الكرملي في مقالة له في مجلة لغة العرب البغدادية ملابسة تتعلق بالكتاب استحسنت إيرادها لأن مصدرها هو الآلوسي دون ريب، قال الكرملي: كنا قد قلنا إن النسخة التي نشرت في الآستانة باسم كتاب ألفاظ الأشباه والنظائر كان قد سعى في تعميم فوائدها بالطبع السيد نعمان الآلوسي. وقد اتضح لنا الآن ما يخالف هذا القول فأسرعنا إلى تصحيحه. والحقيقة هي أن الطابع وهو أبو ضياء استعار النسخة الآلوسية من السيد المذكور لكي يطبعها على نفقته وهي نسخة قديمة الخط محفوظة إلى الآن في خزانة كتب جامع مرجان التي أوقفها السيد على الجامع المذكور تعميماً لفوائد العلم على ما هو مشهور عن الأسرة الآلوسية، وكان السيد نعمان في ذلك الحين موجوداً في الآستانة فصحح الملزمة الأولى فقط من الكتاب، ثم عاد إلى وطنه لأمور أوجبت رجوعه إلى مسقط رأسه، وبعد أن تم طبعها أرسلت إليه نسخة منها، فلما رآها وجد الطابع نسب تصحيحها إليه ترويجاً لمقصده، وهو بيعها بأقرب مدة فأسف لذلك.
نظم الآلوسي الشعر ليس عن موهبة وصنعة بل استكمالا لشخصيته العلمية، وقد قال الأثري عنه: كان عقله أكبر من علمه، وعلمه أبلغ من إنشائه، وإنشاؤه أمتن من نظمه. ولذا كان شعر مثال شعر الفقهاء، ومن شعره ما أورده في أول كتابه غالية المواعظ في مديح السلطان العثماني عبد الحميد الثاني:
بمولانا أمير المؤمنينا ... لقد سرت قلوب العالمينا
وفي ظل الإله همُ أقاموا ... وظل الله يؤوي القائلينا
أنامَ الكلَّ في ظل ظليل ... فكان لجمعهم كهفاً أمينا
وأصناف الرعية قد تراءت ... بأنواع المعارف عارفينا
مليك ليس يشبهه مليك ... فلا تطلب له ملكاً قرينا
ملاذ الخلق في الدنيا جميعاً ... وسيدنا إمام المسلمينا
أدام الله دولته علينا ... وأيدنا به دنيا ودينا
وملَّكه أقاصي الأرض طُراً ... شمائلَها البعيدة واليمينا
وأيد جنده الباري بنصر ... وفتح كائن حيناً فحينا
كان خير الدين يصرف كل وقته في القراءة والتحقيق، وينفق كل ماله في جمع الكتب، فجمع خزانة كبيرة كانت من أغنى خزائن كتب بغداد وأحفلها بالمخطوطات النادرة، ووقفها على مدرسة جامع مرجان، ثم أصبحت ضمن مكتبة الأوقاف العامة عندما ضمت الدولة العراقية سنة 1345=1926 المكتبات الوقفية في مكتبة واحدة.
وقد ذكر الشيخ زاهد الكوثري في مقالاته أن خير الدين نعمان قد تصرف في تفسير والده المسمى روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني، تصرفاً ينسجم مع نزعته السلفية، وأثار هذه القضية الأخ الأستاذ المحقق محمد بن عبد الله آل رشيد، واستشهد على صحتها بإفادة الأستاذ الباحث أحمد بن عبد الكريم العاني، رغم نفي الأثري والدكتور محسن عبد الحميد لها نفياً قاطعاً، وبقي السجال معلقاً في انتظار أن تحسمه مخطوطة مكتبة راغب باشا بإستانبول التي كان المؤلف والد خير الدين قد أهداها إلى السلطان عبد المجيد خان.
كان الآلوسي ربعة نحيفا، أبيض اللون يميل إلى الصفرة،  جوادا معطاء؛ نقيا تقيا، ورعا زاهدا، يأخذ ما صفا ويدع ما كدر، حفيا بالأهل وذوي القربى، منشطا لأهل العلم، مستقيما في العمل، حلو المفاكهة، لطيف المحاضرة، بشوش الوجه. أثنى عليه كثير من معاصريه، وقرَّظ كتبه عدد من مشايخ العصر، وقد قرَّظ كتابه غالية المواعظ أبو الهدى الصيادي، محمد بن حسن، المولود سنة 1266=1849 والمتوفى سنة 1328= 1909، وكان من كبار متصوفة الوقت، وكان شيخ المشايخ عند السلطان عبد الحميد، وهو مما يستدعي مزيداً من البحث والدراسة لمسار التطور العلمي والفكري لدى الآلوسي الذي اشتهر بكونه من المدرسة السلفية الإحيائية التي أرادت تجديد أمر الدين من خلال العودة إلى المصادر والمبادئ الأصلية، وهي تختلف عن المدرسة السلفية المعاصرة، باحترامها وإجلالها واغترافها من التراث الفقهي للمذاهب الأربعة، فهي تأسس على ما أنجزه علماء هذه المدارس وتقدرإنجازاتهم، وتراجعها وتنتقدها في اعتدال وتواضع ومحبة، كما رأينا في كتاب جلاء العينين.
توفي خير الدين الآلوسي، عن 65 عاماً، بعد مرض استمر عدة أشهر، في 7 من المحرم من عام 1317 ودفن في مدرسته في جوار قبر مرجان رحمهم الله جميعاً.
تزوج الآلوسي السيدة آسية بنت درويش أفندي المفتي، وله منها 4 بنين اشتغلوا كذلك بالعلم، وأشهرهم علاء الدين علي، ولد سنة 1277=1860 وتوفي سنة 1341=1922، أرسله والده إلى الهند للأمير صديق حسن خان في أمور تتتعلق بطباعة كتبه وكتب والده، وانتظم في سلك مدرسة القضاة، وقام مقام أبيه بعد وفاته، وتولى تدريس مدرسة مرجان وصار قاضياً لبغداد وانتخب في مجلس النواب العثماني نائباً عنها، وصنف في التراجم كتاب الدر المنتثر في رجال القرن الثاني عشر والثالث عشر ولم يوفق لإتمامه، ونظم الأجرومية في علم النحو، وله ديوان شعر.
أما ولده الأكبر ثابت الدين محمد، المولود سنة 1275=1858 والمتوفى سنة 1329=1911، فكان أميل للشعر، وتولع بحب الخيل والبادية، وتولى آخر حياته نيابة لواء السليمانية فحمدت سيرته.
 

 
log analyzer