الجمعة، 25 أكتوبر 2013

حدث في التاسع عشر من ذي الحجة

 

في التاسع عشر من ذي الحجة من عام 35 بويع الإمام علي رضي الله عنه بالخلافة في المدينة المنورة، بعد مقتل عثمان رضي الله في اليوم السابق، فصار رابع الخلفاء الراشدين، وفيما يلي استعراض لما جرى عند بيعته وما بعدها.

قامت حركة التمرد في مصر والعراق على عثمان رضي الله عنه بأسباب واهية تافهة، وكان يمكن القضاء عليها قبل استفحالها لولا أن عثمان رضي الله عنه ما كان يحسب أن تغتاله الشائعات، وهو من هو في سابقته في الإسلام وقربه وقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسل المتمردون وفداً للمدينة قابل عثمان الذي بين لهم ما جهلوه وكشف لهم ما ظنوه، وأبدى لهم عذره فيما آخذوه، ولكنهم ومَن وراءهم أصروا على أن يترك الخلافة، ولكنه رضي الله عنه أبى أن يخلع قميصاً ألبسه الله إياه، وأبى كذلك أن يقاتل الصحابة من أهل المدينة المتمردين لئلا يسفك دم بسببه، ولعله ما كان يحسب أن تؤول الحال بهذه العصبة الفاجرة أن تعتدي عليه وتقتله في بيته في الثامن عشر من ذي الحجة من عام 35.
وتختلف الروايات اختلافاً كبيراً في تاريخ هذه الواقعة وملابساتها، فمنها من يؤرخها بالخامس والعشرين من ذي الحجة، وأنا أورد هنا ما جمعته من الروايات، وتمهيداً لذلك أقول أنه مما لا شك فيه أن طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام كانا في المدينة ولم يكونا يرغبان في بيعة علي رضي الله عنه، وأن ابن عباس وغيره نصحوا علياً بما يجب عليه فعله مع أمراء الأمصار فلم يأخذ برأيهم، إضافة إلى موقف معاوية وهو عامل عثمان على الشام.
ولأهمية مواقف هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم، ينبغي أن نتناول باختصار شيئاً عن حياة كل منهم، مشيرين إلى أعمارهم، لعلاقة ذلك بجانب من جوانب أهليتهم واستحقاقهم للولاية، وذلك لأن المجتمعات الإنسانية كانت إلى عهد قريب، معتادة على أن تقدِّم الكبير في الولاية والقيادة، وتنظر باستغراب لولاية الصغير:
ونبدأ بأكبرهم سناً وهو طلحة بن عبيد الله التيمي القرشي، المولود سنة 28 قبل الهجرة، وهو أحد الثمانية السابقين إلى الإسلام، وأحد العشرة المبشرين، وأحد الستة الذين اختارهم عمر رضي الله عنه ليكونوا أصحاب الشورى فيمن يليه. كان تاجراً ثرياً شديد الكرم، ولذا لقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مناسبات مختلفة بطلحة الجود، وطلحة الخير، ودعاه مرة الصبيح المليح الفصيح. شهد طلحة أُحدا وثبت مع رسول الله، وبايعه على الموت، فأصيب بجراح كثيرة، وسلم، فشهد الخندق وسائر المشاهد. وكان أهل الكوفة يناصرون طلحة ويودون لو أنه صار الخليفة بعد عثمان، رضي الله عن الجميع.
ويليه في السن الزبير بن العوام بن خويلد الأسدي، المولود سنة 28 قبل الهجرة، وهو ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم، أسلم وله 12 سنة، وهو أحد العشرة المبشرين، وأول من سل سيفه في الإسلام، وشهد بدرا وأُحدا وسائر المشاهد، وجعله عمر في من يصلح للخلافة بعده، وكان موسرا، كثير المتاجر، خلف أملاكا بيعت بنحو أربعين مليون درهم. وكان أهل البصرة يناصرون الزبير ويودون لو أنه صار الخليفة بعد عثمان رضي الله عن الجميع.
وقتل طلحة في معركة الجمل سنة 36، وقتل ابن الزبير عقبها غيلة بوادي السباع قرب البصرة.
وأما علي رضي الله عنه، فولد سنة 23 قبل الهجرة، وسابقته في الإسلام وسيرته مع رسول الله أشهر من أن تذكر هنا، ويكفي أن نذكر في قضية الخلافة ما رواه عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: كنت بين يدي أبي جالسا ذات يوم فجاءت طائفة من الكرخيين فذكروا خلافة أبي بكر، وخلافة عمر بن الخطاب، وخلافة عثمان بن عفان رضي الله عنهم فأكثروا، وذكروا خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وزادوا فطالوا، فرفع أبي رأسه إليهم فقال: يا هؤلاء قد أكثرتم القول في عليٍّ والخلافة، على أنَّ الخلافة لم تزين عليا بل عليٌ زيَّنها!
وأما معاوية فهو أصغرهم، فقد ولد في سنة 20 قبل الهجرة، وأسلم يوم الفتح سنة 8، وتعلم الكتابة والحساب، فجعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابه، وولاه أبو بكر قيادة جيش تحت إمرة أخيه يزيد بن أبى سفيان، فكان على مقدمته في فتح مدينة صيدا وعرقة وجبيل وبيروت، وجعله عمر واليا على الأردن، ثم ولاه دمشق بعد موت أميرها يزيد أخيه، وجاء عثمان فجمع له الديار الشامية كلها وجعل ولاة أمصارها تابعين له. وتوفي معاوية سنة 60 بعد أن صار خليفة المسلمين سنة 41.
نعود إلى بيعة علي رضي الله عنه، وأغلب ما نورده عماده ما أورده الإمام ابن جرير الطبري في تاريخه عمن شهدوا الواقعة ومنهم ابن الإمام علي محمد بن الحنفية.
لما قُتَل عثمانُ رضي الله عنه، أراد المتمردون ألا يولوا علياً ولا طلحة ولا الزبير، وكانوا مجتمعين على قتل عثمان مختلفين فيما سوى ذلك، فبعثوا إلى سعد بن أبي وقّاص وقالوا: إنك من أهل الشورى فرأينا فيك مجتمع، فاقدم نبايعك، فبعث إليهم: إني وابن عمر خرجنا منها فلا حاجة لي فيها على حال؛ وتمثّل:
لا تخلطنَّ خبيثات بطيِّبة ... واخلع ثيابك منها وانج عريانا
فقال أهل مصر لأهل المدينة: أنتم أهل الشورى، وأنتم تعقدون الإمامة، وأمركم عابر على الأمة، فانظروا رجلاً تنصّبونه، ونحن لكم تبع. وهدد المتمردون أهل المدينة: دونكم يا أهل المدينة فقد أجّلناكم يومين، فوالله لئن لم تفرغوا لنقتلنّ غداً عليّاً وطلحة والزّبير وأُناساً كثيراً. وذكر المتمردون هؤلاء لأنهم المرشحون لخلافة عثمان، وإن كان المعروف عن علي أنه عازف عن هذه الخلافة، وأن طلحة والزبير يتطلعان لها.
ذهب الناس إلى علي ليكون خليفة المسلمين واتّبعوه، فدخل بستان بني عمرو بن مبذول، وقال لصاحبه: أغلق الباب، فجاء الناس فقرعوا الباب ودخلوا، فقالوا: إنّ هذا الرّجل قد قُتِل، ولا بدّ الناس من إمام، ولا نجد اليوم أحداً أحقَّ بهذا الأمر منك؛ لا أقدم سابقة، ولا أقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلّم؛ يا أبا الحسن؛ هلمّ نبايعك، فقد ترى ما نزل بالإسلام؛ وما ابتلينا به من ذوي القربى. فقال: لا تفعلوا، دعوني والتمسوا غيري، فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وله ألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول، فإني أكون وزيراً خير من أن أكون أميراً؛ أنا معكم فمن اخترتم فقد رضيت به. فقالوا: ننشدك الله ألا ترى ما نرى! ألا ترى الإسلام! ألا ترى الفتنة! ألا تخاف الله! لا، والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك.
فقال علي رضي الله عنه: قد أجبتكم لما أرى، واعلموا إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، وإنّي قائل لكم قولاً إن قبلتموه قبلت أمركم، وإلاّ فلا حاجة لي فيه، وإن تركتموني فإنما أنا كأحدكم، إلاّ أني أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم. قالوا: ما قلت من شيء قبلناه إن شاء الله. قال: ففي المسجد، فإنّ بيعتي لا تكون خفية، ولا تكون إلاّ عن رضا المسلمين. وقد علق على ذلك عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: لقد كرهت أن يأتي المسجد مخافة أن يشغب عليه؛ وأبى هو إلا المسجد. ثمّ افترقوا على ذلك واتّعدوا الغد. وتشاور الناس فيما بينهم وقالوا: إن دخل طلحة والزبير فقد استقامت.
وخرج عليٌّ إلى المسجد وعليه إزار وطاق وعمامة خزّ، ونعلاه في يده، متوكئاً على قوس؛ فصعد المنبر فقال: ياأيها الناس، عن ملإ وإذن، إنّ هذا أمركم ليس لأحد فيه حقّ إلاّ من أمرّتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر، فإن شئتم قعدت لكم، وإلاّ فلا أجِدُ على أحد. فقالوا: نحن على ما فارقناك عليه بالأمس. فقال علي رضي الله عنه: إني قد كنت كارهاً لأمركم، فأبيتم إلاّ أن أكون عليكم؛ ألا وإنه ليس لي أمر دونكم، إلاّ أن مفاتيح ما لكم معي، ألا وإنه ليس لي أن آخذ منه درهماً دونكم، رضيتم؟ قالوا: نعم؛ قال: اللهمّ اشهد عليهم، ثمّ بايعهم على ذلك.
وتلكأ بعض كبار الصحابة في البيعة لعلي منهم الزبير وطلحة، ويبدو أن أنصار علي قد ذهبوا إلى هؤلاء فأحضروهم إذ تتحدث الروايات عن تلكؤ طلحة في المبايعة وأن مالك بن الأشتر سلَّ سيفه وقال: والله لتبايعنّ أو لأربنّ به ما بين عينيك، فقال طلحة: وأين المهرب عنه! فبايعه. وكان بطلحة شلل في كفه من غزوة أحد حين اتقى بها سهماً رمي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الناس رجل يتعاطى العيافة، فنظر من بعيد، فلما رأى طلحة أوّل من بايع قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! أوّل يدٍ بايعت أمير المؤمنين يدٌ شلاّء، لا يتمّ هذا الأمر!
وقد تناول هذا الأمر القاضي ابن العربي في العواصم من القواصم فقال رحمه الله: إن قيل: بايعا مكرهين. قلنا: حاشا لله أن يكرها، لهما ولمن بايعهما . ولو كانا مكرهين ما أثرَّ ذلك، لأن واحدًا أو اثنين تنعقد البيعة بهما وتتم، ومن بايع بعد ذلك فهو لازم له، وهو مكره على ذلك شرعاً. ولو لم يبايعا ما أثر ذلك فيهما، ولا في بيعة الإمام. وأما قولهم: يد شلاّء.. فإن يدا شُلَّت في وقاية رسول الله صلى الله عليه وسلم يتم لها كل أمر، ويتوقى بها من كل مكروه.
وكان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه منهم، وهو في سن علي إذ ولد سنة 23 قبل الهجرة، فلما جاءوا به قال عليّ: بايع، قال: لا أبايع حتى يبايع الناس، والله ما عليك مني بأس؛ قال: خلّوا سبيله. وجاءوا كذلك بعبد الله بن عمر، المولود سنة 10 قبل الهجرة، فقال له عليٌّ: بايع، قال: لا أبايع حتى يبايع الناس، قال: ائتني بكفيل، قال: لا أرى كفيلاً، قال الأشتر: خلِّ عنّي أضرب عنقه، قال عليّ: دعوه، أنا كفيله.
ودعا عليٌ أسامة بن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة، فقال: أنت أحب الناس إلي وآثرهم عندي، ولو كنت بين لحيي أسد لأحببت أن أكون معك، ولكني عاهدت الله أن لا أقاتل رجلاً يقول: لا إله إلا الله.
وتخلف كذلك نفر يسير من الأنصار عن بيعة علي رضي الله عنه، منهم حسّان بن ثابت، وكعب بن مالك، ومسلمة بن مخلَّد، وأبو سعيد الخدريّ، ومحمد بن مسلمة، والنعمان بن بشير، وزيد بن ثابت، ورافع بن خديج، وفضالة بن عبيد، وكعب بن عجرة. وقد سئل علي رضي الله عنه عن هؤلاء وأمثالهم، ممن لم يبايعوه ولم يطعنوا في إمامته، فقال: أولئك قوم قعدوا عن الحق ولم يقوموا مع الباطل.
ورجع على إلى بيته، فجاءه طلحة والزبير في عدد من الصحابة، فقالوا: يا عليّ، إنا قد اشترطنا إقامة الحدود، وإن هؤلاء القوم قد اشتركوا في قتل هذا الرجل. فقال: يا إخوتاه، إني لست أجهل ما تعلمون، ولكن كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم؟ ها هم هؤلاء قد ثارت معهم عُبدانُكم، وثابَتْ إليهم أعرابُكم، وهم خلالكم يسومونكم ما شاءوا، فهل ترون موضعاً لقدرة على شيء مما تريدون؟ قالوا: لا. قال: فلا والله لا أرى إلا رأيا ترونه أبداً إلا أن يشاء الله، إن هذا الأمر أمر جاهلية، وإن لهؤلاء القوم مادة، إن الناس من هذا الأمر - إن حُرِّك - على أمور: فرقة ترى ما ترون، وفرقة ترى ما لا ترون، وفرقةٌ لا ترى هذا ولا هذا حتى يهدأ الناس، وتقع القلوب مواقعها، وتؤخذ الحقوق. فاهدءوا عني، وانظروا ماذا يأتيكم، ثم عودوا .
وكان من استطاع من بني بني أميّة أن يغادر المدينة قد هرب خشية أن يقتله المتمردون، وبخاصة أنهم كانوا ينقمون على عثمان رضي الله عنه استعماله لبني أمية وإكرامه لهم، وكان أول من هرب إلى مكة الوليد بن عقبة، أخو عثمان لأمه، وسعيد بن العاص، وكانا والييه من قبل على الكوفة، وتبعهم مروان بن الحكم وكان كاتب عثمان، وتتابع على ذلك من تتابع، وأخذ النعمان بن بشير قميص عثمان الذي قتل فيه وأصابع امرأته نائلة، وسار بهم إلى الشام.
وخشي علي رضي الله عنه أن يؤدي هذا إلى تشكيل بؤرة تمرد جديدة أو تعضيدها، فاشتد على قريش، ومنعهم من مغادرة المدينة، فأدى هذا لتذمر عدد منهم، وبدا لهم ضعف موقفه.
ومثله مثل كل حاكم جديد، جاء الناصحون علياً رضي الله عنه من البعيدين والأقرباء، فقد جاءه المغيرة بن شعبة، أحد دهاة العرب، المولود سنة 20 قبل الهجرة والمتوفى سنة 50، وكان قد ولي الكوفة لعثمان، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن لك حق الطاعة والنصيحة، وأنت بقية الناس، وإن الرأي اليوم يحرز به ما في غدٍ، وإن الضَياع اليوم يضيع به ما في غدٍ، وإن لك عندي نصيحةٌ، قال: وما هي؟ قال: إن أردت أن يستقيم لك الأمر فاستعمل طلحة على الكوفة، والزبير على البصرة، وابعث إلى معاوية بعهده على الشام حتى تلزمه طاعتك، ، ولك حجةٌ في إثباته، فإن عمر بن الخطاب كان قد ولاه الشام، وأقرِرْ عمال عثمان على أعمالهم، فإذا بايعوا لك، واستقرت لك الخلافة وسكن الناس، عزلت من أحببت وأقررت من أحببت.
فقال علي: أما طلحة والزبير فسأرى رأيي فيهما، وأما معاوية فلا يراني الله مستعملاً له ولا مستعيناً به ما دام على حاله، ولكني أدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه الناس، فإن أبى حاكمته إلى الله تعالى. فانصرف عنه المغيرة مغضباً لما لم يقبل منه نصيحته.. فلما كان الغد أتاه فقال: يا أمير المؤمنين، نظرت فيما قلت بالأمس وما جاوبتني به، فرأيت أنك قد وفقت للخير وطلبت الحق. ثم خرج عنه، فلقيه الحسن وهو خارجٌ، فقال لأبيه: ما قال هذا الأعور؟ يعني المغيرة، وكان المغيرة قد أصيبت عينه يوم اليرموك، قال: أتاني أمس بكذا وأتاني اليوم بكذا. قال: نصحك والله أمس وخدعك اليوم. فقال له علي: إن أقررتُ معاوية على ما في يده كنت متخذ المضلين عضدا.
وقال المغيرة في ذلك:
نصحت عليا في ابن هند نصيحةً ... فردّ فلا يسمع الدهر لها ثانيه
وقلت له: أرسل إليك بعهده ... على الشام حتى يستقرّ معاويه
ويعلم أهل الشام أن قد ملكته ... فأمّ ابن هندٍ بعد ذلك هاويه
وتحكم فيه ما تريد فإنّه ... لداهيةٌ فارفق به وابن داهيه
فلم يقبل النّصح الذي جئته به ... وكانت له تلك النصيحة كافيه
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما  نحو هذا الخبر، وأن ابن عباس قال لعلي: وأنا أشير عليك أن تثبت معاوية، فإن بايع لك فعلي أن أقلعه من منزله. فلما رفض علي هذا الرأي، قال له ابن عباس: يا أمير المؤمنين، أنت رجل شجاع، لستَ صاحب رأيٍ في الحرب، أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الحرب خدعة؟ فقال: بلى. فقلت: أما والله لئن أطعتني لأصدِرنَّهم بعد ورود، ولأنظرنهم ينظرون في دُبر الأمور لا يعرفون ما كان وجهها، في غير نقصان عليك ولا إثمٍ لك. فقال: يا ابن عباس، لست من هنياتك ولا من هنيات معاوية في شيء، فقلت له: أطعني، والحق بمالك بينبع، وأغلق بابك عليك، فإن العرب تجول جولةً وتضطرب ولا تجد غيرك، فإنك والله لئن نهضت مع هؤلاء اليوم ليحملنَّك الناس دم عثمان غدا! فأبى علي، وقال: تشيرُ علي، وأرى، فإذا عصيتك فأطعني. فقال: أفعل، إن أيسر مالك عندى الطاعة. فقال له علي: تسير إلى الشام فقد وليتكها. فقال ابن عباس: ما هذا برأي، معاوية رجلٌ من بني أمية، وهو ابن عم عثمان، وعامله، ولست آمن أن يضرب عنقي بعثمان، وإن أدنى ما هو صانع أن يحبسني فيتحكم علي لقرابتي منك. وإن كل ما حُمِل عليّ حُمِل عليك، ولكن اكتب إلى معاوية فمَنِّه وعِدْه . فقال: لا والله لا كان هذا أبدا!
وأرسل علي رضي الله عنه المسور بن مخرمة الزهري إلى معاوية لأخذ البيعة عليه؛ وكتب إليه معه: إن الناس قد قتلوا عثمان عن غير مشورة مني، وبايعوا لي، فبايع رحمك الله موفقاً، وفِدْ إليّ في أشراف أهل الشام. ولم يذكر له ولاية، فلما ورد الكتاب عليه؛ أبى البيعة لعلي واستعصى، ووجه رجلاً معه صحيفة بيضاء؛ لا كتابة فيها، وعنوانها: من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب. فلما رآها علي قال: ويلك ما وراؤك ؟ قال: أخاف أن تقتلني. قال: ولم أقتلك وأنت رسول ! فقال: إني أتيتك من قِبل قوم يزعمون انك قتلت عثمان وليسوا براضين دون أن يقتلوك به. فقال علي: يا أهل المدينة والله لتقاتلن أو ليأتينكم من يقاتلكم.
وما لبث طلحة والزبير أن خرجا من المدينة ولحقا بمكة المكرمة وكانت فيها عائشة رضي الله عنها، وأخذا من هناك يطالبان علياً بالقصاص من قتلة عثمان، وهو أمر ما كان في مقدوره، وقد أبدى لهم عذره فيه من قبل، واتسعت الفتنة، وحركتها الغوغاء وهوام الناس، حتى كانت موقعة الجمل ثم صفين، وهي معالم شديدة السواد في تاريخ الإسلام، بها بدأت الفرقة والخُلف، وعاد المسلمون كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعض، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ.
إن سنن الله في الكون لا تستثني ولا تحابي فرداً أو مجتمعاً أو جماعة، إلا الأنبياءَ المرسلين في معجزاتهم وعصمة الله لهم، أما كبارُ الصحابة رضوان الله عليهم فهم بشرٌ يخطئون ويصيبون، ويتفقون ويختلفون، ولكن ما يدفعهم إلى ذلك هو بحثهم عما أهو أصلح للأمة وأنفع للبلاد، فهم فيما شجر بينهم لم يتنافسوا على عرض الدنيا، ومنهم الأثرياء الأسخياء، والمضحون الأولياء، بل هم مجتهدون في آرائهم وتصرفاتهم، وإنما اختلفوا على ما رأوا فيه مصلحة الأمة، فهم في هذا الاجتهاد مأجورون، وحسبنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإن حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر. ولا نقول إلا ما علمنا الله عز وجل في القرآن الكريم: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ.

الخميس، 17 أكتوبر 2013

حدث في الثاني عشر من ذي الحجة

في الثاني عشر من ذي الحجة في السنة الأولى قبل الهجرة، والثانية عشرة للبعثة، بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين رجلاً وامرأتين من الأنصار في مكة المكرمة، وهي بيعة العقبة التي أرست أساس الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، والتي ذكرها الله في سورة التوبة: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض الإسلام على من أتى من القبائل إلى مكة أيام موسم الحج، وقبل سنتين لقي رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا، فلما لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم من أنتم؟ قالوا : نفر من الخزرج، قال أمن موالي يهود؟ - أي حلفائهم - قالوا : نعم، قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى. فجلسوا معه فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن، وكان يهود معهم في بلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكان الأنصار أهل شرك وأصحاب أوثان، وكانوا قد عزوهم ببلادهم فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم: إن نبيا مبعوث الآن قد أظل زمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم.
فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ودعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض: يا قوم تعلموا والله إنه للنبي الذي توَّعدُكم به يهود فلا تسبقنكم إليه. فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام وقالوا : إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدِم عليهم فندعوهم إلى أمرك، وتعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك.
والخزرجيون التقوا بالرسول عند العقبة هم: أبو أمامة أسعد بن زُرارة، وعوف بن الحارث، ورافع بن مالك،  وعقبة بن عامر، وقُطبة بن عامر، وجابر بن عبد الله بن رِئاب، فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم فلم يبق دار من دور الأنصار إلا ودخلها الإسلام.
ونذكر هنا نبذة عن كل واحد من هؤلاء الذين كان لهم شرف السبق الأول رضوان الله عليهم، أما أسعد بن زرارة بن عدس، من بني النجار، فكان أحد الشجعان الأشراف في الجاهلية والإسلام، ومات قبل بدر، فدفن في البقيع. وأما عوف بن الحارث فقُتِل يوم بدر شهيداً، قتله أبو جهل. وأما رافع بن مالك فكان من الكَمَلَة، وكان الكامل في الجاهلية الذي يكتب ويحسن العوم والرمي، ولم يشهد رافع بن مالك بدرا وشهدها ابناه رفاعة وخلاد، ولكنه قد شهد أحدا وقتل فيها شهيدا.
وعقبة بن عامر شهد بدراً وأٌحدا وأعلَمَ يومئذ بعصابة خضراء في مِغفره، وشهد الخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد يوم اليمامة في حروب الردة في خلافة أبي بكر الصديق، وقتل فيه شهيدا سنة 12. وأما قطبة بن عامر، فكان قطبة من الرماة المذكورين من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وشهد بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ورمى قطبة يوم بدر بحجر بين الصفين، ثم قال: لا أفر حتى يفر هذا الحجر! وتوفي في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه.  وأما جابر بن عبد الله بن رئاب، فشهد بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد روى عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم أحاديث، وتوفي وليس له عقب.
وجاء منهم في السنة القادمة اثنا عشر رجلا منهم بعض الستة، فاجتمعوا به عند العقبة وبايعوه، وتسمى بيعة العقبة الأولى، على ألا يشركوا بالله شيئا، ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يقتلوا أولادهم، ولا يأتون ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم، ولا يعصونه في معروف، فإن وفوا فلهم الجنة، وإن غشوا من ذلك شيئا فأمرهم إلى الله، إن شاء عذب وإن شاء غفر. وتسمى هذه البيعة كذلك بيعة النساء لخلوها من ذكر القتال.
فلما رجعوا إلى المدينة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف، وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلمهم الاسلام ويفقههم في الدين، فنزل مصعب على أسعد بن زرارة، فكان يسمى بالمدينة المقرئ، وكان يصلى بالأوس والخزرج، وأسلم على يده فوج جديد منهم أُسيد بن حضير وسعد بن معاذ رضي الله عنهم، وكان لإسلامهم أثر كبير في إسلام كثير من أتباعهم من أهل المدينة.
ثم جاء منهم في العام القادم سبعون رجلاً وامرأتان مع حجاج الأوس والخزرج، فانطلق منهم البراء بن معرور وكعب بن مالك لترتيب الاجتماع برسول الله، وهما لا يعرفان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال كعب بن مالك: فخرجنا نسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا لا نعرفه ولم نره قبل ذلك، فلقينا رجلا من أهل مكة، فسألناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هل تعرفانه؟ فقلنا: لا، قال: فهل تعرفان العباس بن عبد المطلب عمه؟ قلنا: نعم. وقد كنا نعرف العباس؛ كان لا يزال يقدم علينا تاجرا، قال: فإذا دخلتما المسجد فهو الرجل الجالس مع العباس، فدخلنا المسجد فإذا العباس جالس ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس معه فسلمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل؟ قال: نعم هذا البراء بن معرور، سيد قومه، وهذا كعب بن مالك. قال كعب: فوالله ما أنسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشاعر؟ فأجاب العباس: نعم.
وواعدوا رسول الله على الاجتماع به ثاني أيام التشريق،  قال كعب بن مالك: فلما كانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر، أخبرناه، وكنا نكتم عمن معنا من المشركين من قومنا أمرنا، فكلمناه، وقلنا له: يا أبا جابر إنك سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطباً للنار غداً، ودعوناه إلى الإسلام فأسلم، وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد معنا العقبة، وكان نقيبا.
فبتنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلل مستخفين تسلل القطا، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن سبعون رجلا ومعنا امرأتان من نسائنا أم عمارة نسيبة بنت كعب من بني النجار، و أم منيع أسماء بنت عمرو بن عدي من بني سلمة، فاجتمعنا بالشَعْب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا ومعه عمه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه، ويتوثق له، فلما جلسنا كان أول من تكلم العباس بن عبد المطلب، فقال: يا معشر الخزرج - وكانت العرب يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج؛ خزرجها وأوسها - إن محمدا صلى الله عليه وسلم منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا، وهو في عز من قومه ومَنَعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانقطاع إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم، فمن الآن فدعوه فإنه في عز ومَنَعة.
وهنا نتوقف لبعض الملاحظات والفوائد، وأولها أن البيعة كما هو مفهوم من كلام العباس رضي الله عنه كانت بهدف أن ينتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يثرب ويؤسس دولته وينشر دعوته، ويتضح الأمر تماماً في رواية أخرى لجابر بن عبد الله الذي حضر البيعق، يقول في روايته: فائتمرنا واجتمعنا وقلنا : حتى متى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكة ويخاف؟!  وثانيها أن أغلب السبعين كانوا من الشباب، تحدوهم همة الفتوة ومضاؤها، فقد جاء في رواية جابر بن عبد الله: فقال له عمه العباس: يا ابن أخي ما أدري ما هؤلاء القوم الذين جاءوك، إني ذو معرفة بأهل يثرب. فاجتمعنا عنده من رجل ورجلين، فلما نظر العباس في وجوهنا قال: هؤلاء قوم لا نعرفهم هؤلاء أحداث! فقلنا للعباس: قد سمعنا ما قلت.
نعود إلى رواية كعب بن مالك رضي الله عنه، قال فقلنا للعباس: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت. فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغب في الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم. فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق نبياً لنمنعنك مما نمنع منه أُزرنا فبايِعْنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحروب وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر! فاعترض القول والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو الهيثم بن التيهان، فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالا، وإنا قاطعوها - يعني اليهود - فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: بل الدَّمَ الدَّمَ، والهدمَ الهدمَ، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم. الهدم : العفو عن الدماء أو هدرها، والمراد أن من طلب دمكم فقد طلب دمي.
ونأخذ بقية ما حدث من رواية جابر بن عبد الله الأسلمي، وكان أصغر من حضر، قال: قلنا: يا رسول الله علام نبايعك؟ قال: تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة. فقمنا إليه نبايعه، فأخذ بيده أسعد بن زرارة وهو أصغر السبعين إلا أنا، فقال: رويدا يا أهل يثرب، فإنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وإن إخراجه اليوم مناوأة للعرب كافة وقتل خياركم وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك، فخذوه وأجركم على الله، وأما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه، فهو أعذر لكم عند الله. فقالوا: أمِطْ عنا يا أسعد، فو الله لا ندع هذه البيعة ولا نستقيلها أبدا. قال: فقمنا إليه رجلاً رجلاً فبايعناه، يأخذ علينا شرطه ويعطينا على ذلك الجنة.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخرِجوا إليَّ منكم اثني عشر نقيبا، ليكونوا على قومهم بما فيهم. فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا، تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس.
ويضيق المقام عن ذكر أسماء كل من بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة، فنجتزئ بأسماء النقباء، والامرأتين، ونبذة عن كل واحد منهم:
أبو أمامة أسعد بن زرارة:  سبق ذكره
سعد بن الربيع بن عمرو: كان يكتب في الجاهلية، وكانت الكتابة في العرب قليلة، وبعد الهجرة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الرحمن بن عوف، وشهد سعد بدرا وأحدا وقتل يوم أحد شهيدا من جراحاته،  وبعد انتهاء معركة أحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يأتيني بخبر سعد بن الربيع؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله. فذهب الرجل يطوف بين القتلى فعثر على سعد بن الربيع وفيه رمق، فقال له سعد: أقرئ رسول الله مني السلام، وأخبره أني قد طعنت اثنتي عشرة طعنة، وأن قد أنفذتُ مُقاتلي، وأخبر قومك أنه لا عذر لهم عند الله إن قتل رسول الله وأحد منهم حي. وجاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد، قتل أبوهما يوم أحد شهيدا، وإن عمهما أخذ مالهما فاستفاءه، فلم يدع لهما مالا، والله لا تُنكحان إلا ولهما مال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقضي الله في ذلك. فأنزل الله عليه آية الميراث فدعا عمهما فقال: أعط ابنتي سعد الثلثين، وأعط أمهما الثمن، ولك ما بقي.
عبد الله بن رواحة بن ثعلبة: كان عبد الله بن رواحة يكتب في الجاهلية ومن الشعراء، وشهد بدرا وأحدا والخندق والحديبية وخيبر، واستخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة في إحدى الغزوات، ولما طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت في عمرة القضاء سنة 7، كان معه عبد الله بن رواحة آخذ بزمام ناقته، واستشهد سنة 8 في غزوة مؤتة بعد استشهاد جعفر بن أبي طالب.
رافع بن مالك بن العجلان: سبق ذكره
البراء بن معرور: كان البراء بن معرور أول من مات من النقباء، توفي قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة بشهر، وأوصى بثلث ماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يضعه حيث يشاء، وقالت زوجته أم بشر: يا رسول الله هذا قبر البراء،  فصف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وصلى عليه، وقال: اللهم اغفر له، وارحمه، وارض عنه. وقد فعلت.
عبد الله بن عمرو بن حرام: والد الصحابي الجليل جابر بن عبد الله، شهد بدرا وأُحدا وقتل يومئذ شهيدا، وهو أول قتيل قتل من المسلمين يوم أحد، قال ابنه جابر بن عبد الله: لما قتل أبي يوم أحد جعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي، وجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهونني، والنبي صلى الله عليه وسلم لا ينهاني، وجعلت عمتي فاطمة بنت عمرو تبكي عليه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بكيه أو لا تبكيه، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه.  وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادفنوا عبد الله بن عمرو وعمرو بن الجموح في قبر واحد. لما كان بينهما من الصفاء وقال: ادفنوا هذين المتحابين في الدنيا في قبر واحد.
عبادة بن الصامت بن قيس: كان عبادة يوم العقبة في السابعة والعشرين من عمره، وشهد بدرا وأُحدا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفي بالرملة في فلسطين سنة 34 وهو ابن 72 سنة.
سعد بن عبادة: كان سعد في الجاهلية يكتب بالعربية، وكان يحسن العوم والرمي وكان من أحسن ذلك يسمى الكامل، ولم يشهد بدرا لإصابته، ولكنه قد شهد أحدا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ثرياً كريماً يطعم الناس، وكان يدعو اللهم هب لي حمدا، وهب لي مجدا، لا مجد إلا بفعال، ولا فعال إلا بمال، اللهم لا يصلحني القليل، ولا أصلح عليه. وكان سعد لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث إليه كل يوم جفنة فيها ثريد، فكانت جفنة سعد تدور مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيوت أزواجه، وكانت أمه عمرة بنت مسعود ممن بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتوفيت في السنة الخامسة والرسول غائب في غزوة دومة الجندل، وكان معه سعد بن عبادة، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قال له سعد: إن أم سعد ماتت، وإني أحب أن تصلي عليها. فصلى عليها وقد أتى لها شهر. توفي سعد بن عبادة بحوران من أرض الشام في سنة 15.
المنذر بن عمرو بن خُنيس: كان المنذر يكتب بالعربية قبل الإسلام، وشهد بدرا وأحدا، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة الرابعة من الهجرة إلى بني عامر بن صعصعة، فاستنجد عامر بن الطفيل عليه عصية وذكوان ورعل، فقتلوه وأصحابه أميرا على بئر معونة فقتل، فحزن الرسول لمقتلهم حزناً شديداً، ودعا على قاتليهم شهراً في قنوت الفجر، وقال عن المنذر: أعنق ليموت. والإعناق: المشي السريع الفسيح.
أُسيد بن حُضير: أسلم أسيد على يد مصعب بن عمير بالمدينة، وشهد أحداً وما بعدها من المشاهد، وشهد مع عمر فتح البيت المقدس، وكان من أحسن الناس صوتاً بالقرآن، وكان أحد العقلاء الكملة أهل الرأي، وله في بيعة أبي بكر أثر عظيم، وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يكرمه ولا يقدم عليه واحداً، ويقول: إنه لا خلاف عنده. روى عنه أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: إنكم سترون بعدي أثرة، قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: اصبروا حتى تلقوني على الحوض. توفى أسيد بن حضير سنة 20، وحمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه النعش حتى وضعه بالبقيع؛ وصلى عليه.
سعد بن خيثمة: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت سعد بن خيثمة عندما قدم المدينة، ثم انتقل إلى بني النجار، فنزل في بيت أبي أيوب النصاري، وقُتِل سعد شهيداً في غزوة بدر، ولما أرادوا الخروج إلى بدر قال له أبوه خيثمة: لا بد لأحدنا أن يقيم، فآثرني بالخروج، وأقم أنت مع نسائنا. فأبى سعد، وقال: لو كان غير الجنة لآثرتك به، إني أرجو الشهادة في وجهي هذا. فاستَهَما فخرج سهم سعد، فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم إلى بدر، فقتل.
رفاعة بن عبد المنذر: شهد بدرا وأحدا وقتل يوم أحد شهيدا.
وشهدت بيعة العقبة امرأتان هما أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية من بني مازن بن النجار، وأسماء بنت عمرو من بني سلمة .
أما نسيبة بنت كعب، فقد شهدت أحدا والحديبية وخيبر وعمرة القضاء وحنينا، وكانت تخرج إلى القتال، فتسقي الجرحى وتقاتل، وأبلت يوم أحد بلاءا حسنا، وجرحت اثني عشر جرحا، بين طعنة رمح وضربة سيف، وكانت ممن ثبت مع رسول الله حين تراجع الناس، وكان رسول الله إذا حدث عن يوم أحد وذكر أم عمارة يقول: ما التفت يمينا ولا شمالا إلا رأيتها تقاتل دوني. وحضرت حرب اليمامة، فقاتلت وقُطِعت يدها وجرحت، فكان أبو بكر وهو خليفة يعودها في المدينة ويسأل عن حالها، وتوفيت في نحو سنة 13.
وأما أسماء بنت عمرو فتكنى أم منيع، وهي ابنة عمة مُعاذ بن جبل، فقد شهدت فتح خيبر مع زوجها خديج بن سلامة.
فلما تمت هذه البيعة استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينتقموا من الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلنوا الجهاد، ويميلوا على أهل منى بأسيافهم، فلم يأذن لهم في ذلك.
ونادى الشيطان في قريش بخبر اجتماع رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهل يثرب، وبيعتهم له على المنعة والقتال، فجاءت جُلَّة قريش وأشرافهم في اليوم التالي إلى الأنصار فقالوا : يا معشر الخزرج إنه بلغنا أنكم لقيتم صاحبنا البارحة وواعدتموه أن تبايعوه على حربنا، وأيمُ الله ما حيٌّ من العرب أبغض إلينا من أن ينشب بيننا وبينه الحرب منكم! فانبعث من كان هناك من الخزرج من المشركين يحلفون لهم بالله ما كان هذا وما علمنا، وجعل عبد الله بن أبي ابن سلول  يقول: هذا باطل، وما كان هذا وما كان قومي ليفتاتوا علي مثل هذا، لو كنتُ بيثرب ما صنع قومي هذا حتى يؤامروني!
فرجعت قريش من عندهم ورحل البراء بن معرور فتقدم إلى بطن يأجج، وتلاحق أصحابه من المسلمين، وتأكدت قريش من الخبر فخرجوا في طلب القوم، فأدركوا سعد بن عبادة فربطوا يديه إلى عنقه بنسع رحله، وجعلوا يضربونه ويجرونه ويجذبونه بجمته حتى أدخلوه مكة، فجاء المُطعِمُ بن عدي والحارث بن حرب بن أمية فخلصاه من أيديهم، وتشاورت الأنصار حين فقدوه أن يكرّوا إليه، فإذا سعد قد طلع عليهم فوصل القوم جميعا إلى المدينة.
وبعد بيعة العقبة الثانية، أذِن رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالهجرة إلى المدينة، فبادر الناس إلى ذلك، ثم لحق بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر، وتأسست دولة الإسلام في المدينة المنورة، وفاز الأنصار بفخر الدهر، ونزلت فيهم الآية الكريمة من سورة التوبة: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾.
 

الجمعة، 11 أكتوبر 2013

حدث في الخامس من ذي الحجة

 
في الخامس من ذي الحجة من عام 874 توفي بالقاهرة، عن 61 عاماً، المؤرخ الكبير ابن تغري بردي، جمال الدين أبو المحاسن، يوسف بن تغري بردي بن عبد الله الظاهري، المؤرخ البحاثة، وصاحب التواريخ العظيمة. قال الأستاذ الزركلي في الأعلام: وتغري بردي: كلمة مغولية بمعنى "عطاء الله" أو "الله أعطى"، كان يكتبها الأتراك "تكري ويردي" ويلفظون الكاف نونا، والواو أقرب إلى ال V بحركة بين الفتح والكسر. وهناك عدد من الأمراء في هذه الفترة يحملون هذا الاسم ويميز بينهم بذكر مالكهم الأول فيقال في تغري بردي هذا: تغري بردي من خواجا بشبغا.
ويخمن ابن تغري بردي أنه ولد بعد سنة 811، وهو أصغر إخوته، وكان والده الملقب سيف الدين، والمولود تقديراً سنة 760، من كبار أمراء المماليك، أتي به مملوكاً من الروم، أي الأناضول، وترقى في مماليك الملك الظاهر برقوق حتى ولاه حلب، ثم صار أتابك العسكر، ثم نائب السلطنة بدمشق، وتوفي بدمشق سنة 815 ، وكان جميلاً حسن الصورة جداً، كثير الحياء والسكون، حليماً عاقلا، مشارا بالتعظيم في الدول، وقد ترجمت له في أحداث السادس عشر من المحرم. ولم يكن للأب تأثير كبير على ولده إذ توفي وابنه في حدود الرابعة من عمره. وكانت أمه أم ولد ويبدو أنها توفيت وهو صغير لأنه يقول عنها إنها مجهولة العرق. 
نشأ ابن تغري بردي وإخوته العشرة فقراء رغم أن والدهم كان من أغنى الأمراء، وكان عدد مماليكه بدمشق 970 مملوكاً، وخلف رحمه الله من الأموال والخيول والسلاح شيئاً كثيراً، ولكن استولى عليه كله الملك الناصر فرج الذي انهزم حينها إلى دمشق أمام الأميرين المتمردين شيخ ونوروز، فكانت موجودات الأمير تغري بردي حياة جديدة للملك المتعثر. قال ابن تغري بردي: وتركنا فقراء من فقراء المسلمين، فلم يضيعنا الله سبحانه وتعالى، وأنشأنا على أجمل وجه من غير مال ولا عقار، ولله الحمد.
وهنا ينبغي أن نورد قصة يذكرها ابن تغري بردي أن الملك الناصر جاء يعود والده في مرض موته، وكان شاباً في الرابعة والعشرين من عمره، قال ابن تغري بردي: طلبنا الملك الناصر أنا وإخوتي فأحضرونا بين يديه، وكنا ستة ذكور، فقبلنا يده - وأنا أصغر الجميع - فسأل عن أسمائنا، فقيل له ذلك. ثم تكلم الأتابك دمرداش المحمدي عن لسان الوالد بالوصية علينا، فقال السلطان: هؤلاء أولادي وأصهاري وإخوتي، ما هذه الوصية في حقهم! كل ذلك والوالد ساكت قد أسنده مماليكه لا يتكلم. فلما قام الملك الناصر قال الوالد: أودعت أولادي إلى الله تعالى، واستعنت به في أمرهم، فنفعنا ذلك غاية النفع ولله الحمد.
ونشأ في حجر أخته وزوجها ناصر الدين ابن العديم، ثم في بيت أخته لأمه هاجر، وكان زوجها قاضي القضاة جلال الدين البلقيني الشافعي، عبد الرحمن بن عمر، المولود سنة 762 والمتوفى سنة 824، والذي كان إماماً بارعاً في الفقه والأصول والتفسير والنحو، وقد قرأ عليه ابن تغري بردي غالب القرآن الكريم، وقال في ترجمته: وما نشأت إلا عنده، وقرأت عليه غالب القرآن الكريم، وهو أنه لما كان يتوجه إلى منزه يأخذني صحبته إلى حيث سار، فإذا أقمنا بالمكان المذكور يطلبني ويقول لي: اقرأ الماضي من محفوظك، فأقرأ عليه ما شاء الله أن أقرأه، ثم يقول لي بعد الفراغ: الذي فاتك اليوم من الكتاب أخذته من درس الماضي. ولكن أول من قرأ عليه القرآن ابن تغري بردي هو الفقيه الحنفي الكبير سراج الدين، عمر بن علي، المعروف بقارئ الهداية، والمتوفى سنة 829 وقد تجاوز الثمانين، قال عنه ابن تغري بردي: ، وهو أول من أقرأني القرآن بعد موت الوالد، وهو أحد من أدركنا من الأفراد الذين مشوا على طريق فقهاء السلف رحمه الله تعالى، وكان مقتصراً في ملبسه ومركبه، يتعاطى حوائجه من الأسواق بنفسه، مع جميل السيرة وعظم المهابة في النفوس، يهابه حتى السلطان، مع عدم التفاته لأهل الدولة بالكلية، حتى لعلي لم أنظره دخل لأحد منهم في عمره، وهو مع ذلك لا يزداد إلا عظمة ومهابة.
وكان ابن تغري بردي على علاقة وثيقة بعلية القوم ومتنفذيهم، وكان يمت لعدد منهم بصلة القرابة، فابنة عم والده شيرين هي أم الملك الناصر فرج ابن الملك الظاهر برقوق، وأخته خوند فاطمة تزوجها الملك الناصر فرج، ولما قتل سنة 816 تزوجها بعده الأمير إينال النوروزي أمير مجلس السلطان، وأخته عائشة شقراء كانت زوجة الأمير أقبغا نائب السلطان في دمشق ومات عنها، وتزوجت بعده بالأمير خليل بن الملك الناصر فرج، وكان لها ابنة تولى تربيتها ابن تغري بردي تزوجها الأمير محمد بن السلطان الملك الظاهر جقمق.
وتزوج الخليفة المعتضد بالله، داود بن محمد، المتوفى سنة 845، بزوجة تغري بردي وتوفي عنها، وقال ابن تغري بردي في ترجمته: وكان يحب اللطافة والدقة الأدبية، وكان له مشاركة وفضيلة. هذا مع الدين المتين، والأوراد الهائلة في كل يوم، جالسته غير مرة، فلم أر عليه ما أكره، وكنت أدخل إلى حرمه، لأن زوجته بنت الأمير دمرداش كانت قبله تحت والدي رحمه الله.
ودخل ابن تغري بردي مرة وهو صغير في الخامسة على الملك المؤيد شيخ، فعلمه قبل دخوله بعض من كان معه أن يطلب من السلطان خبزاً، وهو مصطلح يعني آنذاك الراتب، قال ابن تغري بردي: فلما جلست عنده وكلمني سألته في ذلك، فغمز من كان واقفاً بين يديه وأنا لا أدري، فأتاه برغيف كبير من الخبز السلطاني، فأخذه بيده وناولنيه وقال: خذ، هذا خبز كبير مليح، فأخذته من يده وألقيته إلى الأرض، وقلت: أعط هذا للفقراء، أنا ما أريد إلا خبزاً بفلاحين يأتونني بالغنم والأوز والدجاج! فضحك حتى كاد أن يغشى عليه، وأعجبه مني ذلك إلى الغاية، وأمر لي بثلاثمئة دينار، ووعدني بما طلبته وزيادة.
وعلى صلته الحسنة بهذه الطبقة، لم يكن راضياً عنهم أو معجباً بهم، ولذا نجده في ترجمته للأمير ركن الدين بيبرس الخطائي الدويدار، المتوفى سنة 725 وهو في الثمانين، يقول: وكان فاضلاً، وافر الحرمة، مهاباً. وكان الملك الناصر محمد بن قلاوون يجله، ويقوم له لما يدخل عليه، ويأذن له بالجلوس. قلت: كان يستحق هذا وأكثر؛ لما احتوى عليه من العلم، والفضل، والعقل، والكرم، والسياسة؛ فهؤلاء كانوا هم الأمراء، لا مثل أمراء عصرنا هذا؛ البقر العاجزة!
تعلم ابن تغري بردي فن القتال بالرمح على يد الأمير المعلم سيف الدين جوبان بن عبد الله الظاهري، نسبة إلى معتقه الملك الظاهر برقوق، والمتوفى بعد سنة 330.
تتلمذ ابن تغري بردي على الشيخ تقي الدين المقريزي، أحمد بن عبد القادر المقريزي، المولود سنة 766 والمتوفى سنة 845 ، وهو المؤرخ الجامع المتفنن، وصاحب الكتب التي لا تبلى جدتها مثل كتاب اتعاظ الحنفاء بأخبار الخلفاء، شمل به تاريخ مصر حتى زوال الدولة الفاطمية، وكتاب السلوك لمعرفة دول الملوك، شمل به تاريخ مصر بعد زوال الدولة الفاطمية إلى سنة 844، وكتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار ، وقد ذكر فيه أصقاع مصر ومعالمها، وغيرها من الكتب. قال التلميذ عن أستاذه: كان له محاسن شتى، ومحاضرة جيدة إلى الغاية لا سيما في ذكر السلف من العلماء والملوك وغير ذلك ... وقرأت عليه كثيراً من مصنفاته، وكان يرجع إلى قولي فيما أذكره له من الصواب، ويغير ما كتبه أولاً في مصنفاته، وأجاز لي جميع ما يجوز له وعنه روايته من إجازة وتصنيف وغير ذلك.
درس ابن تغري بردي العلوم الشرعية والنحو واللغة والأدب، ومن أبرز من درس عليهم العلامة الشيخ تقي الدين الشُّمُنيّ، أحمد بن محمد، المولود سنة 801 والمتوفى سنة 872، الإسكندري المولد، المصري المنشأ والدار، وكان بارعاً فِي عدة علوم كالفقه والأصول والعربية والمعاني والبيان والمنطق والطب والهيئة والهندسة والميقات والحساب والفرائض والتفسير والحديث، قال ابن تغري بردي: وهو شيخي وعليه قرأت، وحضرت دروسه، وبه انتفعت، ولي منه إجازة بما يجوز له وعنه روايته.
وقد أخذ ابن تغري بردي عن شيخ الإسلام قاضي القضاة شهاب الدين ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي، المولود سنة 773 والمتوفى سنة 852، قال ابن تغري بردي: ولي منه سماع وإجازة بجميع ما يجوز له وعنه روايته من تصانيفه ونظمه ونثره.
حج ابن تغري بردي مرات عديدة والتقى بعدد من علماء مكة وأدبائها وأخذ عنهم وذاكرهم، وترجم لهم في كتبه، ومنهم قاضي القضاة جمال الدين محمد بن عبد الله بن ظهيرة، ويبدو أن ذلك كان هاجسه لأنه كان يسألهم سؤال من يريد أن يذكرهم في كتبه، فيسأل عن مولدهم ومكانه ومشايخهم وطلابهم، وما إلى ذلك.
ومن معاصريه العلامة ابن عرب شاه الدمشقي، أحمد بن محمد المولود سنة 791 والمتوفى سنة 854، قال عنه ابن تغري بردي: كان إمام عصره في المنظوم والمنثور، تردد إلى القاهرة غير مرة، وصحبني في بعض قدومه إلى القاهرة، وانتسج بيننا صحبة أكيدة ومودة،. ثم أورد ابن تغري بردي نص إجازة كتبها له ابن عرب شاه سنة 853 ووصفه فيها بأنه: أمير الفقهاء، وفقيه الأمراء، وظريف الأدباء، وأديب الظرفاء.
وقد اتجه ابن تغري بردي لكتابة التاريخ واشتُهِر به، واعترف له بالتقدم فيه علماء عصره، وهو يذكر في ترجمة قاضي القضاة بدر الدين العيني، محمود بن أحمد، المولود بعينتاب سنة 762 والمتوفى سنة 855، وكان فقيهاً مؤرخاً شرح صحيح البخاري، وله ميل للتاريخ: ، ولما انتهينا من الصلاة على قاضي القضاة بدر الدين، قال لي قاضي القضاة بدر الدين محمد بن عبد المنعم البغدادي الحنبلي: خلا لك البر فبِضْ وأصفِرْ ! فلم أرد عليه؛ وأرسلت إليه بعد عودي إلى منزلي ورقة بخط العيني يسألني فيه عن شيء في التاريخ، ويعتذر عن الإجابة بكبر سنه وتشتت ذهنه، إلى أن قال: وقد صار المعول عليك الآن في هذا الشأن، وأنت فارس ميدانه، وأستاذ زمانه، فاشكر الله على ذلك.
كان ابن تغري بردي موسراً كما يتضح هذا من حديثه عن نفسه وأهل بيته في ثنايا كنبه، ولكنني لم أستطع معرفة إن كانت له وظيفة محددة في الدولة، أو عمل يترفق به، إلا أنه في سنة 836 شارك في حملة عسكرية شنها الملك الأشرف برسباي على المناطق الواقعة شمالي سورية، وكان في عداد طلبة العلم آنذاك لأنه ذكر في ترجمته للحافظ برهان الدين الحلبي، إبراهيم بن محمد المعروف بسبط ابن العجمي، المولود سنة 753 والمتوفى سنة 841، قال: ورأيته أنا أيضا بحلب في سنة ست وثلاثين وثمانمائة، ولم يتفق لي أن أروي عنه شيئا، ولكن اجتمعت بغالب طلبته، وممن تخرج به، والجميع يثنون على علمه وفضله وحفظه.
صنف ابن تغري بردي مصنفات جليلة منها كتاب مورد اللطافة في من ولي السلطنة والخلافة، وكتاب البشارة في تكميل الإشارة للذهبي، وكتاب حلية الصفات في الأسماء والصناعات، وكتاب الدليل الشافي على المنهل الصافي، في التراجم، وكتاب السكر الفاضح والعطر الفائح، في الأدب، وكتاب نزهة الزاي، في التاريخ، وكتاب سكب الأدب شرح لامية العرب.
وقوة ابن تغري بردي في كتبه التأريخية، وأهم كتبه: النجوم الزاهرة في أخبار مصر والقاهرة، وقد تناول فيه تاريخ مصر من الفتح الإسلامي إلى سنة 857، أي من دخول الفاطميين مصر إلى سقوط القسطنطينية، وله مختصر للمؤلف نفسه أسماه الكواكب الباهرة من النجوم الزاهرة، وقال إنه اختصره حذراً من أن يختصره غيره!
ولما فتح السلطان العثماني سليم الديار المصرية وجد كتاب النجوم الزاهرة واستحسنه، فأمر على الفور بترجمته إلى التركية، فترجمه القاضي شمس الدين أحمد بن سليمان بن كمال باشا المتوفى سنة 940،  ثم عرضه على السلطان في الطريق فأعجبه.
وكتابه الكبير الثاني هو: حوادث الدهور في مدى الأيام والشهور، وهو ذيل على كتاب أستاذه المقريزي المسمى السلوك في تاريخ الملوك، قال في مقدمته: فلما كان شيخنا الإمام الأستاذ العالم العلامة المفنن رأس المحدثين وعمدة المؤرخين، تقي الدين أحمد بن علي المقريزي الشافعي، أيقنَ من حرر تاريخ الزمان وأضبطَ من ألف في هذا الشأن، وأجلُ تحفة استفرعها، وعمدة ابتدعها كتابه المسمى بالسلوك في معرفة دول الملوك ... ولم يكن من بعده من يعول عليه في هذا الفن ... أحببت أن أحيى هذه السنة بكتابة تاريخ يعقب موت الشيخ تقي الدين المقريزي وجعلته كالذيل على كتاب السلوك المذكور، وسميته حوادث الدهور في مدى الأيام والشهور، ورتبته على السنين والشهور والأيام...
وكتابه الكبير الثالث: المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي، في التراجم من سنة 556 إلى زمانه، وهو بمثابة ذيل على كتاب ابن أيبك، صلاح الدين  الصفدي، المسمى الوافي بالوفيات، قال ابن تغري بردي في ترجمته: وتاريخه المسمى: الوافي بالوفيات، في غاية الحسن، وقفت عليه وانتقيته ونقلت منه أشياء كثيرة في هذا المؤلف وفي غيره... وتسميتي للتاريخ المذكور والمستوفى بعد الوافي، إشارة لتاريخ الشيخ صلاح الدين، لأنه سمى تاريخه: الوافي بالوفيات، إشارة على تاريخ ابن خلكان أنه يوفي بما أخل به ابن خلكان، فلم يحصل له ذلك، وسكت هو أيضاً عن خلائق، فخشيت أنا أيضاً أن أقول: والمستوفى على الوافي، فيقع لي كما وقع له، فقلت: والمستوفى بعد الوافي. وذكر ابن تغري بردي في مقدمة كتابه هذا أنه ألفه: ، غير مُستدعى إلى ذلك من أحد من أعيان الزمان، ولا مطالب به من الأصدقاء والأخوان، ولا مكلف لتأليفه وترصيفه من أمير ولا سلطان، بل اصطفيته لنفسي، وجعلت حديقته مختصة بباسقات غرسي، ليكون في الوحدة لي جليسا، وبين الجلساء مسامراً وانيساً.
ومنهجه في كتبه هو تحليل الأمور التي ينقلها، ولا يتردد أن يبدي رأيه في الحوادث والأشخاص، وبخاصة فيما رآه أو عرفه، وهو إلى حد كبير محايد يبتغي الحقيقة، ولا يحابي قريباً أو كبيراً، فهو يقول في ترجمة زوج أخته الأمير الأتابك آقبغا التمراي نائب الشام: وكان عارفاً بأنواع الفروسية كلعب الرمح وضرب الكوة وسوق المحمل والبرجاس، رأساً في ذلك جميعه، إمام عصره في ركوب الخيل ومعرفة تقليبها في أنواع الملاعيب المذكورة، مع دين وعفة عن المنكرات والفروج، وقيام ليل وزيارة الصالحين دواماً؛ غير أنه كان مسيكاً، وعنده حدة مزاج، ولم تكن شجاعته في الحروب بقدر معرفته لأنواع الملاعيب والفروسية، رحمه الله تعالى.
ويقول في ترجمة زوج أخته الأمير سيف الدين إينال بن عبد الله النوروزي، المتوفى سنة 729: وكان أميراً جليلاً، مهاباً، عظيماً في الدولة، ذا حرمة وافرة، وجبروت، وله سطوة على خدمه وحواشيه، وكان ظالماً سفيهاً شرس الخلق، وعنده حدة وبادرة...
ويقول في ترجمته للأمير سيف الدين طوخ الجكمي المتوفى سنة 868 الذي أحيل على التقاعد القسري: واستمر طوخ المذكور ملازماً لداره بالذل والقهر والصغار، قلت: وهو مستحق لذلك، فإنه متجاهر بالمعاصي، مدمن للخمر، بلغ من السن ما بلغه وطالت أيامه في الإمرة هذه المدة الطويلة وهو إلى الآن لم يحج ولا قضى الفرض، هذا على ما اشتمل عليه من الكبر والجبن والبخل وعدم معرفته لأنواع الفروسية ولا أعرف فيه من المحاسن غير أنه جركسي الجنس من جنس القوم لا غير، وهو عندهم في الغاية القصوى لا سيما الشريه منهم فإنه إمامهم والمقتدى في هذا المعنى.
وينتقد ابن تغري بردي في أكثر من مكان شيخه وأستاذه المقريزي، ويكون انتقاده خفيفاً حيناً وشديداً قاسياً حيناً آخر،  فهو يقول في ترجمة الملك الأشرف برسباي: وعلى كل حال إن هذا ... أحسن مما قاله المقريزي في حق الملك الأشرف برسباي بعد وفاته في تاريخه السلوك، وقد رأيت أن السُكات عن ذكر ما قاله في حقه أليق، والإضراب عنه أجمل، لما وصفه به من الألفاظ الشنيعة القبيحة التي يستحى من ذكرها في حق كائن من كان.
ونجد كذلك في كتبه النظرات التعميمية التي يتسم بها ذلك الزمان تجاه بعض البلدان والطوائف، فنجده في ترجمة الشيخ شهاب الدين الأشموني الحنفي النحوي، أحمد بن محمد، المولود سنة 749 والمتوفى سنة 809، ينقل قول المقريزي: وكان قد مال إلى مذهب أهل الظاهر ثم انحرف عنهم وأكثر من الوقيعة فيهم. ثم يعلق ابن تغري بردي: ختم له بخير لأنه اقتدى برجل هو أعرف بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الأوباش الظاهرية الذين ينظرون الحديث فلا يفهمون معناه.
وقال ابن تغري بردي في ترجمة صاحب تونس أبي يحيى زكريا بن أحمد اللحياني، المولود سنة 640 والمتوفى سنة 727: وكان فاضلاً، بارعاً، إلا أنه كان بخيلاً، ولا ينكر هذا على مغربي؛ فإن البخل في طبعهم، والعجب الكرم منهم!
وفي ترجمة الأمير فخر الدين ابن أبي الفرج، عبد الغني بن عبد الرزاق ابن نقولا، الأرمني الأصل، المولود سنة 784 والمتوفى سنة 821، ينقل ابن تغري بردي عن المقريزي قوله:  وكان جباراً قاسياً، شديداً، عبوساً، قتل من عباد الله ما لا يحصى، وخرب إقليم مصر بكماله، وأفقر أهله ظلماً وعتواً وفساداً في الأرض ليرضي سلطانه، فأخذه الله أخذاً وبيلاً. ثم يعلق ابن تغري بردي: لا ينكر عليه ما كان يفعله من الظلم والجور، فإنه كان من بيت ظلم وعسف، وكان عنده جبروت الأرمن، ودهاء النصارى، وشيطتة الأقباط، وظلم المُكَسة، فإن أصله من الأرمن، وربي مع النصارى وتدرب بالأقباط، ونشأ مع المكسة بقطيا، فاجتمع فيه من قلة الدين وخصائل السوء ما لا يوصف كثرة، ولعمري هو أحق بقول القائل:
مساوئ لو قسمن على الغواني ... لما أمهرن إلا بالطلاق
وابن تغري بردي يستدرك في تواريخه على من سبقه من المؤرخين وبخاصة ما رآه أو عرفه وعزب عن معرفتهم، أو بفضل من معرفته للغة التركية، ومن ذلك قوله في اسم السلطان برقوق، وهل هو اسمه الأصلي أم سمي به فيما بعد: قال المقريزي رحمه الله: وكان اسمه ألطنبغا فغيره أستاذه يلبغا لما اشتراه وسماه برقوقاً لنتوء في عينه، وقال القاضي علاء الدين علي ابن خطيب الناصرية: كان اسمه سودون، نقلاً عن قاضي القضاة ولي الدين أبي زرعة العراقي، عن التاجر برهان الدين المحلي، عن خواجا عثمان بن مسافر. والقولان ليسا بشيء، وإن كان النقلة لهذا الخبر ثقات في أنفسهم فإنهم ضعفاء في الأتراك وأسمائهم وما يتعلق بهم، لا يُرجع إلى قولهم فيها. والأصح أنه من يوم ولد اسمه برقوق كما سنبينه في هذا المحل من وجوه عديدة... وقد أوضحنا هذا وغيره في مصنف على حِدَتِه في تحريف أولاد العرب للأسماء التركية والعجمية وفي شهرتهم إلى بلادهم في مثل جانبك وتنبك وشيخون، ومثل من نسب إلى فيروز باد واستراباد من زيادة ألفاظ وترقيق ألفاظ يتغير منها معناها، حتى إن بعض الأتراك أو الأعاجم إذا سمعها لا يفهمها إلا بعد جهد كبير.
ولا يتردد ابن تغري بردي في ذكر جوانب شخصية عندما يتناول الحوادث التي يؤرخها، وإن لم تكن لها كبير علاقة بالحدث المذكور، ولكنها تفيدنا كثيراً في إاقاء الضوء على شخصيته وأحواله، ونرى ذلك في تناوله للطاعون الذي ضرب مصر سنة 833 ، وفتك بسكانها فتكاً ذريعاً، وقد وصفه ابن تغري بردي وذكر بعض الأرقام الدالة على كثرة ضحاياه، وأورد بعض القصص والمفارقات التي جرت معه، في هذا الصدد.
وقد وقعت لابن تغري بردي قصة مع شيخ الإسلام ابن حجر رحمه الله، فقد نسب الملك الأشرف برسباي بأنه عتيق المير دقماق، قال ابن تغري بردي: وليس الأمر على ما نقله، وهو معذور فيما نقله لبعده عن معرفة اللغة التركية ومداخلة الأتراك، وقد اشتهر أيضاً بالدقماقي فظن أنه عتيق دقماق، ولم يعلم أن نسبته بالدقماقي، كما أن نسبة الوالد رحمه الله بالبشبغاوي، وغيرهم إنما هي من باب نسبتهم إلى مالكيهم وليس إلى معتقيهم.
وقد وقفت على هذه المقالة في حياته على خطه، ولم أعلم أن الخط خطه، فإنه كان رحمه الله يكتب ألواناً، وكتبت على حاشية الكتاب وبينت خطأه، وأنا أظن أن الخط خط ابن قاضي شهبة، وعاد الكتاب إلى أن وقع في يد قاضي القضاة ابن حجر، فنظر إلى خطي وعرفه، واعترف بأنه وهم في ذلك، وكان صاحبنا الحافظ قطب الدين محمد الخيضري حاضراً، فذكر لي ما وقع، فركبت في الحال، وهو معي، وتوجهنا إلى السيفي طوغان الدقماقي، وهو من أكابر مماليك دقماق، وسألته عن الملك الأشرف سؤال استفهام، فقال: هو عتيق الملك الظاهر برقوق وقدمه أستاذنا إليه، ثم حكى له ما حكيته، ثم أرسلت أيضاً خلف جماعة من مماليك دقماق، لأن أغلبهم كان خدم عند الوالد بعد موت دقماق، فالجميع قالوا مثل قول طوغان الدقماقي،. فتوجه قطب الدين إلى ابن حجر وعرفه هذا كله، فأنصف غاية الإنصاف، وأصلح ما عنده.
ختاماً لا بد أن نشير أن الإمام شمس الدين السخاوي، محمد بن عبد الرحمن، المولود سنة 831 والمتوفى بالمدينة سنة 902، قد استفاد كثيراً من ابن تغري بردي في تاريخه المسمى الضوء اللامع في أعيان القرن السابع، ولكنه ينال منه بين الحين والآخر إلى حد يتجاوز التعقيب إلى التجريح والتشويه، وهذه سمة بارزة في ثنايا تاريخه لا تكاد تنجو منه شخصية من شخصيات ذلك الزمان، قال السخاوي: وبالجملة فقد كان حسن العشرة، تام العقل والسكون، - إلا في دعواه فهو حمق - لطيف المذاكرة، حافظاً لأشياء من النظم ونحوه، بارعاً حسبما كنت أتوهمه في أحوال الترك ومناصبهم وغالب أحوالهم، منفرداً بذلك، لا عهد له بمن عداهم، ولذلك تكثر فيه أوهامه، وتختلط ألفاظه وأقلامه، مع سلوك أغراضه وتحاشيه عن مجاهرة من أدبر عنه بإعراضه، وما عسى أن يصل إليه تركي؟!
ولكن ابن تغري بردي يبقى في تاريخه متميزاً نبيهاً، ولذا قال فيه شمس الدين النواجي، محمد بن حسن المولود بعد 785 والمتوفى سنة 859، وكان شاعر تلك الفترة:
لك الله المهيمن كم أبانت ... حلاكَ اليوسفية عن معالي
وسقتَ حديث فضلك عن يراع ... تسلسل عنه أخبار العوالي
 

الجمعة، 4 أكتوبر 2013

حدث في السابع والعشرين من ذي القعدة

 
في السابع والعشرين من ذي القعدة من عام 1277 =  6/6/1861 انسحبت القوات الفرنسية من لبنان بعد أن مكثت فيه قرابة  10 أشهر في إطار اتفاق بين الدولة العثمانية والدول الأوربية الكبرى لإقرار الأمن في لبنان بعد مذابح وقعت بين المارونيين وبين الدروز في جبل لبنان، ونتج عنها مقتل آلاف من المارونيين، وبضع مئات من الدروز.
ويعيد المؤرخون جذور هذه المآسي إلى حملة إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا الكبير، والي مصر، والتي انطلقت من مصر واستولت على بلاد الشام بأكملها وجزء من الأناضول، وكادت تهدد الدولة العثمانية في قعر دارها، قبل أن تقوم القوى الإستعمارية الأوربية بتوجيه إنذار لمحمد علي باشا بالانسحاب مقابل منحه رسمياً حق حكم مصر هو وسلالته.
وكان الدروز والموارنة يعيشون منذ قرون في جبل لبنان في قرى متجاورة ومختلطة، يتزعمها الدروز في الغالب، وكانت العلاقات هادئة على دخن لتسلط الدروز وهم ملاك الأراضي على الموارنة الذين كان أغلبهم يعملون لديهم في الزراعة، ومنذ أن ارتبط الموارنة بالكنيسة الكاثوليكية في أواخر القرن السادس عشر الميلادي صاروا يدينون بالولاء للجناح الكاثوليكي في أوربا وزعيمه الروحي البابا وزعيمه السياسي الدولة الفرنسية، وفي المقابل كانت البعثات التنصيرية البروتستانية من بريطانية وأمريكا وفرنسة تطمع في إيجاد كنائس محلية من نصارى لبنان أو غيرهم من الطوائف، وبخاصة الدروز الزعماء التقليديين لجبل لبنان، وكانت بريطانيا العظمى تعضد الدروز في إطار تنافسها مع فرنسا في إيجاد مناطق نفوذ في المشرق العربي.
وكان لبنان هادئاً أيام استيلاء إبراهيم باشا عليه من سنة 1830 إلى سنة 1841، وذلك لوجود صاحب القرار قريباً منه، ولشدة سطوة إبراهيم باشا وبطشه، وقبل ذلك كله لأن إبراهيم باشا اتبع سياسة عدل وإنصاف مع سكان الشام بغض النظر عن أديانهم وطوائفهم، وبخاصة في جباية الضرائب، فانزاح عن كاهل ضعفاء الموارنة حملٌ ثقيل طالما اشتكوا منه، وكان النظام العثماني جائراً يعتمد في جباية الضرائب على إقطاع المناطق لمن يتعهد بتأدية مبلغ مخصوص عنها ويستوفيه هو من الأهالي أضعافاً مضاعفة بالجور والقهر، ووقف الأمير بشير الشهابي مع إبراهيم باشا وتعاون معه تعاوناً وثيقاً، وعندما أراد إبراهيم باشا تجنيد الدروز إجبارياً في جيشه، هدد هؤلاء بالتمرد، فقام الأمير بشير بتسليح 4000 ماروني لقمع التمرد الوليد، وكان هذا أول صدام للسلطة في لبنان مع إحدى الطوائف التي تعيش في لبنان، فقد كانت الدولة العثمانية حريصة ألا تثير القلاقل في لبنان مع طوائف الأقليات.
كانت بريطانية حريصة أشد الحرص على إخراج إبراهيم باشا من لبنان، في إطار التنافس بينها وبين فرنسة على طرق التجارة الدولية، ولحسن علاقاتها مع السلطنة العثمانية في مواجهة المطامع الروسية في المتوسط، ولذلك قادت مسعى دولياً تكلل بالنجاح، فانسحب إبراهيم باشا في أواخر سنة 1256= 1840، وبعد انسحاب القوات المصرية قامت الحكومة العثمانية بتعيين الأمير قاسم شهاب بدلاً من بشير الذي ذهب إلى المنفى في مالطة، اتباعاً لتقليد عريق وهو أن يكون متصرف جبل لبنان من أهله ومراعاة لاتفاقية عمرها 300 سنة تجعل من فرنسة حامية للمسيحيين في الإمبراطورية العثمانية، وكانت الحكومة العثمانية تتطلع لأن تتخلص من كل هذه الترتيبات ليتم حكم لبنان مثل غيره من المناطق في الدولة العثمانية.
وكان الدروز حانقين من تنامي القوة المارونية والنزعة الاستقلالية التي ظهرت إبان حكم إبراهيم باشا، وفي سنة 1257= 1842 هاجم الدروز الموارنة واستولوا على بلدة دير القمر، وهي معقل أمراء الموارنة، وارتكبوا فيها فظائع منكرة، ثم زحف 8000 درزي على زحلة أكبر حاضرة مارونية لاحتلالها، فدافع عنها أهلها ومعهم أهل بعلبك، وهزموا الدروز موقعين بهم خسائر فادحة، وتدخلت الحامية العثمانية وأوقفت القتال ولولا ذلك لامتدت الفتنة إلى بقاع أخرى من جبل لبنان.
وقامت الدولة العثمانية إزاء هذه الاضطرابات المتعاقبة فأبطلت جميع امتيازات سكان الجبل الممنوحة لهم قديما، وما منح لهم أخيرا باتفاق الدول عقب جلاء العسكر المصري، وكانت الدولة العثمانية قد قررت أن وجود هذه العناصر المختلفة تحت حكم وال واحد لا ينتمي إلى إحداها سيزيل كثيراً من الروح التنافسية ويخفف من الضغائن الدينية بين الموارنة وبين الدروز، ونصبت عمر باشا النمساوي والياً على الجبل.
ولم تقبل الدول الأوربية ذلك، فاضطرت الدولة العثمانية في سنة 1258 = 1842 أن تعيد للجبل بعض امتيازاته، واتفقت مع سفراء الدول على ان يكون للوالي العثماني نائبان، يدعى واحدهما قائم مقام، أحدهما ماروني والآخر درزي يتولى كل منهما النظر في شؤون ابناء طائفته، ويتبعان حاكم صيدا، واعتبر طريق بيروت -  دمشق الخط الفاصل بين هاتين المقاطعتين.
وقامت الدولة العثمانية بفصل إقليم الجبل الشمالي الآهل بالموارنة وضمه إلى ولاية طرابلس بلا امتيازات، فعارض البطريرك الماروني هذا الإجراء، وأرسل إلى جميع قناصل الدول الأوربية يحتج ضد هذا العمل المنافي للاتفاق الأخير، مدعيا أن الدولة لم ترد بذلك إلا إضعاف العنصر الماروني وتقوية العنصر الدرزي. ولم تقبل الدول الأوربية بهذا القرار التي سيحرمها من وسيلة للتدخل في المشرق العربي، وبعد مباحثات استقر الاتفاق في سنة 1259= 1843 على أن يعين في القرى المختلطة وكيلان أحدهما درزي والآخر ماروني ويكون كل منهما تابعا للقائم مقام الذي على مذهبه، ولكن الدروز لم يقبلوا إلا أن تكون لهم السيادة على الموارنة في القرى المختلطة، وآثر الموارنة أن يفقدوا امتيازاتهم وأن يكونوا جزءاً من ولاية عثمانية عادية ولا أن يكونوا تحت سيادة الدروز أعدائهم التقليديين.
وانتقاماً من هذا الموقف هجم الدروز على النصارى في سنة 1261 = 1845 وقتلوا المسيحيين وتعدوا على قسس الكاثوليك الفرنسيين، وقتلوا رئيس أحد الأديرة واسمه شارل دي لوريت واثنين من رهبان الدير، وحرقوا جثثهم ثم أضرموا النار في الدير حتى صار قاعا صفصفا، بعد أن نهبوا كل ما به من المنقولات والأمتعة. ولاحظ المراقبون أن الدروز لم يتعرضوا لمقرات أو أشخاص المرسلين البروتستانت الأمريكان والبريطانيين، واعتبروا ذلك دلالة قوية على أن هذه المذابح لا تخلو من تأثيرهم حتى يثبتوا للموارنة الكاثوليك أنهم لو اعتنقوا المذهب البروتستانتي فسيصيرون في مأمن من تعدي الدروز.
وأرسلت الدولة العثمانية جيوشها واحتلت البلاد سهلا وجبلا بصفة عسكرية وأجرت فيها الأحكام العرفية، وجرت مباحثات طويلة بينها وبين الدول الأوربية حول الترتيبات التي تضمن السلم الدائم، وانجلت عن الاتفاق على أن يبقى في القرى المختلفة وكيلان؛ درزي وماروني، ويعين لكل من قائم مقام مجلسٌ إدارة برئاسته، ويتشكل هذا المجلس من عشرة أعضاء: خمسة قضاة، وخمسة مستشارين، اثنان منهما من الدروز، واثنان من الموارنة، واثنان من المسلمين، واثنان من المدنيين، واثنان من مذهب الروم الأرثوذكس، ويكون من اختصاص المجلس تقرير الضرائب الموضوعة على السكان بالعدل والمساواة دون نظر إلى اختلاف دين أو مذهب، وإن اعترض مندوب أي طائفة على الضرائب الموضوعة بدعوى انها مجحفة بحقوق ابناء طائفته، فإن الأمر يرفع للوالي العثماني فيحكم فيه نهائياً. وقبل الدروز هذه التسوية بتشجيع من بريطانية التي أوحت إليهم أن يعتبروها خطوة على طريق أن تكون لهم مع الوقت السيادة على كافة الطوائف الساكنة بلبنان.
وفي سنة 1274 = 1858 اندلعت انتفاضة مسلحة في المناطق المارونية قادها طانيوس شاهين استهدفت إقطاعيي الموارنة فنهبت أراضيهم وحرقت منازلهم وطردتهم من المنطقة، وسيطر الفلاحون الموارنة على معظم أراضي كسروان، وكان من الطبيعي أن يبدأ الفلاحون الموارنة، بدعم من جانب رجال الدين، بالتحضير لانتفاضة على الإقطاعيين الدروز، الذبن استشعروا الخطر وبدأوا بتسليح رعاياهم من الدروز، وذلك بدعم من الوالي العثماني خورشيد باشا، واستنجدوا كذلك بأبناء عمومتهم من الدروز في حوران.
وكانت القوى الخارجية تغذي هذه الصراعات، فالفرنسيون على سبيل المثال، دعموا المسيحيين، في حين أيد البريطانيون الدروز، وغذى العثمانيون الصراع لزيادة سيطرتهم على الولاية المقسمة، واغتر البطريرك الماروني بما تحقق من انتصارات وبالدعم الفرنسي، فهدد بطرد الدروز من لبنان متوعداً إياهم بتشكيل جيش من 300000 مقاتل، ورد الدروز على ذلك بهجوم شراذم منهم على قرية بيت مري في لبنان في أوائل سنة 1276 =  1859 فهُزموا بعد أن أحرقوا ثلاثة قرى مسيحية وقتلوا بعض رجالها.
وبعدها بستة أشهر في ذي القعدة من سنة 1276= 1860 اندلعت الشرارة التي أشعلت القتال وكانت نزاعاً بين طفل درزي وبين طفل ماروني من دير القمر، فتدخلت عائلتيهما ومن ثم طائفتيهما، واندلعت على إثرها سلسلة من  الهجمات الدرزية على القرى المسيحية، وشارك فيها دروز جبل لبنان ودروز حوران، ودمرت خلالها 60 قرية بالقرب من بيروت في ثلاثة أيام، وبعدها بأيام امتدت الاضطرابات إلى الأحياء "المختلطة" من جنوب لبنان، وجبال لبنان الشرقية، وحتى صيدا وحاصبيا وراشيا ودير القمر وزحلة، وحاصر الدروز الأديرة الكاثوليكية والبعثات وحرقوها وقتلوا رهبانها، ووقفت الحامية العثمانية موقف المتفرج في أغلب الأحيان والمساعد المؤيد أو المشارك في بعض الأحيان.
ولجأ عدد كبير من المسيحيين إلى بيروت وفتح مسلموها وفي مقدمتهم عمر بيهم أعظم تجار تلك المدينة بيوتهم للاجئين إليهم، وأخذوا يوزعون عليهم الأطعمة وحالوا بحكمتهم دون تدخل الرعاع من أبناء طائفتهم في الأمر فخففوا من غلوائهم.
وبعد ذلك انتقلت الفتنة إلى دمشق حيث قام الدروز والغوغاء من المسلمين بالهجوم على الأحياء المسيحية فيها وقتل أهلها ونهب مساكنهم، إضافة إلى حرق الكنائس والمدارس النصرانية،  وانجلت المجازر التي دامت ثلاثة أيام عن مقتل ألوف من النصارى، وتدمير كامل لحارة النصارى في دمشق القديمة والتي كان يسكنها الكاثوليك، بينما نجا الأرثوذكس الذي كانوا يسكنون في حي الميدان خارج سور المدينة، بسبب حماية جيرانهم المسلمين لهم.
كيف انتقلت المجازر إلى دمشق مدينة التسامح واللطف؟ وكيف قام رعاع المسلمين بمعاونة الدروز في الهجوم على النصارى الذين عاشوا معهم 13 قرناً في صفاء وهناء؟
لا شك أن دروز حوران كانت يتطلعون للإيقاع بالنصارى امتداداً لما أوقعه بهم أبناء عمومتهم في جبل لبنان وشارك فيه عدد كبير منهم، وكان للدروز تجمع كبير في دمشق واتصال مستمر مع جماعاتهم في حوران يمكنهم من حشد المسلحين ليقوموا بهذه المجازر البغيضة.
ويجمع المؤرخون أن الأسباب التي أثارت الغوغاء من المسلمين للمشاركة في المجازر لا علاقة لها بحوادث جبل لبنان، وإنما تعود إلى حرب القرم التي خاضتها الدولة العثمانية مع روسية في سنوات 1270- 1272= 1853- 1856!
نشبت هذه الحرب بين روسية في جهة وفي الجهة الأخرى الدولة العثمانية مع بريطانية وفرنسة، وكان سببها الأول مطالبة الروس أن يكون لهم حق حماية النصارى الأرثوذكس من الرعايا العثمانيين، أسوة بفرنسة مع الكاثوليك، وسببها الثاني النزاع بين روسية وفرنسة حول الامتيازات التي تتمتع بها الكنيستان الأرثوذكسية والكاثوليكية في الأماكن المسيحية المقدسة في فلسطين، وانتهت الحرب بهزيمة روسية.
وكان من نتائج هذه الحرب أن أصدرت الدولة العثمانية إعلاناً سلطانياً أعلنت فيه المساواة بين كافة الرعايا العثمانيين، وكذلك أصدرت قراراً أعفت فيه النصارى من الخدمة العسكرية مقابل دفع بدل نقدي، وأثار ذلك تذمر المسلمين اللذين كان مبدأ المساواة غير مقبول لديهم، واستاءوا لوقوع عبء الخدمة العسكرية عليهم وحدهم، واعتبروه محاباة للنصارى على حساب المسلمين، وجاهر بعضهم بخلع دولة الأتراك والانضمام إلى دولة مصر.
ولم يرضى المسيحيون عن القرار الذي ألزمهم بدفع البدل النقدي، فقد كان كثير منهم يتطلع أن يعفى من الخدمة تماماً، وقام النصارى في دمشق بالتجمهر لدى مطران الكاثوليك والاحتجاح لديه على حيف البدل النقدي، وطلب المطران من الوالي ردع المتجمهرين وإيقاع العقوبة بهم.
وبدا لوالي دمشق أن يتخذ بعض التراتيب الرادعة للغوغاء من كل الطوائف، فنصب المدافع على أبواب الجامع الأموي تخويفاً للمسلمين، وأمر في 20 ذي الحجة من عام 1276 بإخراج الرعاع المسجونين من المسلمين بقصد تطوافهم في الشوارع وهم مكبلون بالقيود إرهابا للثوار من المسلمين والدروز معا، فلما وصلوا إلى باب البريد هجم بضعة من المسلمين على الحراس وبطشوا بهم وخلصوا رفاقهم ونادوا بالجهاد، فهجم الأوباش على المسيحيين في بيوتهم ومحلاتهم ووضعوا السيف فيهم، وراحوا بالعروض والأموال، وقتلوا بعض الرهبان الفرنسيسكانيين.
وقد علل سبب فتنة دمشق نائبُ القنصل الأمريكي بدمشق ميخائيل مشاقة، المولود سنة 1214=1800 والمتوفى سنة 1305=1888، في كتابه مشهد العيان بحوادث سورية ولبنان فقال: إنه لم يكن لها تعلق بحادثة لبنان بل نشأت عن تصرفات جهلة النصارى عندما عجز عقلاؤهم عن ردعهم، فلما وضعت الدولة قوانين المساواة بين رعاياها من أي مذهب كانوا، توسع جهلة النصارى في تأويل هذه المساواة بأن معناها أنه لا يجب على الصغير الخضوع للكبير، ولا للوضيع أن يحترم الرفيع، وتوهموا أن أدنياء النصارى هم بمنزلة عظماء المسلمين، ولم يريدوا أن يفهموا أن المساواة هي في الحقوق الشرعية والنظامية، وأن من الواجب حفظ اعتبار أهل الاعتبار بالدرجة اللائقة بهم من أية طائفة كانوا، خصوصا النصارى نحو المسلمين، وعليهم أن يعرفوا بأن كبراء البلاد ومعتبريها هم منهم، والسلطنة مع وزرائها وعسكرها وجميع عظمائها من المسلمين، وأن النصارى في سورية هم الجزء الأصغر والأضعف في كل شيء.
وتتباين التقديرات في عدد ضحايا هذه المجازر من 5000 إلى 20000 قتيل، ولكن المؤرخين متفقون أن ما حدث ما كان برضا أو تخطيط من الدولة العثمانية، رغم أن أصابع الاتهام أشارت إلى فائمقام حاصبيا أو والي دمشق وبعض قواد الحامية العثمانية المرابطة في جبل لبنان، وقد تأثر السلطان عبد المجيد الأول كثيراً لهذه الأحداث والضحايا، واتخذ إجراءات فورية ورادعة للقصاص من المتسببين في المجازر، وأرسل واحداً من أكفأ رجال الدولة العثمانية هو فؤاد باشا حاكماً على الشام بصلاحيات مطلقة، فوصل إلى بيروت ودخان الفتنة لا يزال يتصاعد، وشكل مجلساً حربياً وأجرى تحقيقاته وقبض على كثير من رؤساء الفتنة، وأعدم رمياً بالرصاص 111 شخصاُ، وشنق 57 آخرين، وحكم بالأشغال الشاقة على 325 شخصاً، ونفي 145 شخصاً، وكان على رأس من أعدم والي دمشق المشير أحمد باشا وعدد من كبار موظفي الدولة في الشام.
ولما وقعت الفتنة في دمشق برز دور عدد من المشايخ والوجهاء في إيواء المسيحيين وحمايتهم، كما يقضي بذلك الشرع الحنيف وأخلاق الإسلام، ويذكر المؤرخون في هذا الصدد الشيخ عبد الغني الميداني الغنيمي، ومحمود أفندي حمزة، وأسعد أفندي حمزة، والشيخ سليم العطار، وسعيد آغا النوري، وعمر آغا العابد، وصالح آغا المهايني، إلى جانب عشرات غيرهم من أهل العلم والفضل في دمشق ممن فتحوا بيوتهم لإيواء مواطنيهم المنكوبين، وخطب الشيخ عبد الرزاق البيطار، المولود سنة 1237 والمتوفى سنة 1335، خطبة في جامع كريم الدين في الميدان بحرمة هذه الأفعال، وأنه لا يجوز التعرض للنصارى بحال، وأن لهم ما لنا وعليهم ما علينا، ومن تعرض لهم بسوء فقد باء بالخزي والنكال، فانكف أهل الميدان واجتلبوا ما قدروا على اجتلابه من الرجال والنساء، لحمايتهم من الأشقياء، وقال الشيخ السيد محمود حمزة، مفتي دمشق سنة 1284، قصيدة في تقبيح ما صدر من رعاع الدمشقيين من أفعال القتل والنهب منها:
يا وحوشا صادفت في غابها ... آمنا فاستقبلته بالسهام
إلى أن قال:
بئس مصر قد خلت من حاكم ... جور سلطان ولا عدل العوام
ويبرز هنا بشكل خاص الأمير عبد القادر الجزائري، المولود سنة 1222 والمتوفى سنة 1300، وكان قد جاهد الفرنسيين في الجزائر 15 عاماً قبل أن يستسلم سنة 1263 = 1874، فنفوه إلى فرنسا ثم استقر في دمشق سنة 1271، وقد قام الأمير عبد القادر وأعوانه ومن انضم إليهم من أهل دمشق بالتسلح لردع الغوغاء وحماية 16000 مسيحي لجأوا إليهم، وقد كافأته فرنسة على عمله هذا فمنحته وسام جوقة الشرف، وأرسلت له الملكة فيكتوريا ملكة إنكلترا وإمبراطورة الهند خطاباً شكرت فيه صنيعه وقالت: إنها عرفت من سلوك سموه الفرق بين المسلم ذي العقل الراجح، والجبناء المتظاهرين بالتدين الذين عملوا بإثارتهم التعصب على إبادة كثيرين من النصارى العزل.
قامت الدول الأوربية بالاحتجاج لدى الدولة العثمانية على هذه المجازر، وطلبت فرنسا أن ترسل قوات لمساعدة القوات العثمانية أو الحلول محلها إن فشلت، فوافقت الدولة العثمانية في أول عام 1277 على إرسال قوة أوربية من 12.000 جندي، فقامت فرنسا على الفور بإرسال قوة من 6.000 جندي على أن ترسل الدول الأخرى قوات إضافية في حالة الحاجة إليها.
وصلت القوة الفرنسية بقيادة الجنرال بوفورت دو هاوتبول Beaufort d'Hautpoul والذي كان قبل قرابة 30 سنة رئيس أركان جيش إبراهيم باشا أثناء حملته على سورية الجنوبية، وكان وصولها بعد أن استقرت الأوضاع وهدأت النفوس، بناء على معالجة فؤاد باشا للأمور بسرعة وحزم، وكان الاتفاق أن تبقى القوة 6 أشهر، ولكنها بقيت أكثر، وجاءت مغادرتها لاعتراض الحكومة البريطانية التي قالت إن الوضع هادئ وينبغي أن يترك للسلطات العثمانية.
وبعد ذلك بشهرين اجتمعت لجنة دولية مؤلفة من فرنسة وبريطانية والنمسة وبروسية والدولة العثمانية للتحقيق في أسباب أحداث 1860، والتوصية بنظام إداري وقضائي جديد للبنان يحول دون تكرارها، ورأت اللجنة أن تقسيم إمارة لبنان في 1842 بين الدروز وبين المسيحيين كان السبب الرئيس وراء المجازر، وقررت اللجنة في عام 1861 تعويض المسيحيين بمبلغ 75 مليون قرش، وأوصت بفصل لبنان عن سورية، وتوحيده على هيئة متصرفية يديرها وال مسيحي يعينه السلطان العثماني بموافقة القوى الأوروبية، ومقره بلدة دير القمر، ويعاونه مجلس إداري مكون من اثني عشر عضوا من مختلف الطوائف الدينية في لبنان، وهكذا شهد لبنان قبل انسحاب القوات الفرنسية بيوم واحد أول وال مسيحي له هو داود باشا الذي كان أرمنياً من استانبول.
قال المندوب البريطاني في سورية اللورد دوفرين: لم يبق أدنى ريب أن المذابح الأخيرة وجميع الحروب والاضطرابات والمنازعات التي انتابت لبنان في مدى الخمس عشرة سنة الأخيرة تعود إلى استياء الحكومة العثمانية من الاستقلال النوعي الممنوح للجبل، فجعلت غرض سياستها أن تبرهن على أنه يتعذر العمل بطريقة الحكم التي منحتها الدول لبنان في سنة 1845، ولهذا كان الأتراك يغتنمون الفرصة لإثارة دفائن الأحقاد القديمة بين الدروز والموارنة، ولما ازداد تعجرف المسيحيين وتعصبهم بقوة المساعدات الأجنبية التي فازوا بها، ثقل على الأتراك احتمال وطأة استقلالهم، فعقدوا العزم على اتخاذ الدروز آلة ليوقعوا بهم ويضربوهم ضربة أشد إيلاما مما تقدمها، بيد أن ما حدث في حاصبيا وراشيا ودير القمر قد تعدى ما كان مخططاً له لعدم توفر شروط اللباقة في خورشيد باشا وأعوانه لإنفاذ سياسة دهاء كهذه، فأفرطوا فيها بحيث افتضح سر سياستهم وكان له دوي هائل في الأندية الأوربية.
وقال أيضا: لما زرت هذه الأصقاع لبنان قبل استيقاظ الفتنة ببضعة أشهر شاهدت أماراتها بادية في عواطف الفريقين، فالدروز كانوا مستعدين للقتال، والموارنة كانوا يعتقدون أن قد دنت ساعة فوزهم، كما أن سجلات الجمارك أظهرت أنه قد دخل إلى لبنان من كانون الثاني 1857 إلى ربيع 1860 أكثر من 120.000 بندقية و20.000 مسدس، وكان من المشتهر انصراف المطران طوبيا وشركائه إلى إيقاظ الفتنة... فمن العبث وصف النصارى بأنهم شهداء قديسون فهم يضاهون جيرانهم الدروز في حروبهم همجية وظمأ إلى الدماء، وكثيرا ما كانوا يقتتلون بعضهم مع بعض ... وعليه فمن الخطأ وصف القتال الذي جرى بين الدروز والموارنة بمثابة اعتداء وثنيين برابرة على أتباع دين المسيح الودعاء، بل هو نتيجة تباغض طائفتين متساويتين في الهمجية، أنزل الفائزون في أعدائهم البلية التي كانوا مهددين بها فيما لو تغلب هؤلاء، وإذا كان الدروز ارتكبوا في هذه الحروب فظائع أكثر بربرية من المعتاد فالسبب فيه تدخل الأتراك وشدة حنقهم على النصارى وقد أثاروه بتهديدهم وعجرفتهم.
وبعد خروج القوة الفرنسية من بيروت بعشرين يوما توفي السلطان عبد المجيد خان، وقد تجاوز 40 سنة، ودام حكمه سنة ونصف اتسمت بالاضطراب والقلاقل كما رأينا في مجازر جبل لبنان، وتلاه السلطان عبد العزيز.
قال الأستاذ محمد كرد علي في كتابه خطط الشام في ختام حديثه عن هذه المجازر: والذنب كل الذنب على الحكومة وعمالها أولا لما أبدوه من الضعف، ثم على الأقرب فالأقرب من الأعيان والمشايخ والخاصة، ثم على العامة، ولو قام كل واحد من الأعيان والمشايخ بواجبه لخف الشر كثيرا في دمشق، وربما امتنع عامة الأشقياء عن أعمالهم على الرغم من تحريض الحكومة لهم سرا أو من إبدائها تساهلا ظنوا معه أنها تدعوهم إلى عمل ما عملوا.

 

 
log analyzer