الاثنين، 15 يوليو 2013

حدث في السادس من رمضان

في السادس من رمضان من سنة 253 توفي في بغداد السَرَي السَّقَطي أبو الحسن سَريّ بن المُغَلِس السقطي، من كبار المتصوفة، وأول من تكلم في بغداد بلسان التوحيد وأحوال الصوفية، وكان إمام البغداديين وشيخهم في وقته. و السقطي هو ما تطلقه العامة على السقاط: بائع سَقَط المتاع، وهو أرذله.

 تتلمذ السري على يدي معروف الكرخي، يقال: إنه كان في دكانه، فجاءه معروف يوماً ومعه صبي يتيم، فقال له: اكس هذا اليتيم، قال سري: فكسوته، ففرح به معروف، وقال: أغنى الله قلبك، وبغّض إليك الدنيا، وأراحك مما أنت فيه. فقمت من الدكان وليس شيء أبغض إلي من الدنيا، وكلُّ ما أنا فيه من بركات معروف.

والسري خال الـجُنيد بن محمد البغدادي وأستاذه، وتوفي الجنيد سنة 297، قال الجنيد: ما رأيت أعبد من السري، أتت عليه ثمان وتسعون سنة ما رؤي مضطجعا إلا في علة الموت.

قال الجنيد دعا لي خالي فقال: جعلك اللّه صاحب حديث صوفياً، ولا جعلك صوفياً صاحب حديث. يعني أنك إذا ابتدأت بعلم الحديث والأثر ومعرفة الأصول والسنن، ثم تزهدت وتعبدت تقدمت في علم الصوفية، وكنت صوفياً عارفاً، وإذا ابتدأت بالتعبد والتقوى والحال شُغِلتَ به عن العلم والسنن، فخرجت إما شاطحاً أو غالطاً لجهلك بالأصول والسنن، فأحسنُ أحوالك أن ترجع إلى العلم الظاهر وكتب الحديث، لأنه هو الأصل الذي تفرع عليه العبادة والعلم، وأنت قد بدأت بالفرع قبل الأصل، وقد قيل: إنما حرموا الوصول بتضييع الأصول!

وخرج السري للرباط والجهاد بطرسوس فترة من الزمن كما كان شأن العلماء والعبّاد والزهاد في عصره، قال الجنيد: قال لي السري: اعتللت بطرسوس علة تمنعني القيام، فعادني ناس من الغرباء فأطالوا الجلوس، فقلت: ابسطوا أيديكم حتى ندعو، فبسطوا وبسطت فقلت: اللهم علمنا كيف نعود المرضى، ومسحت يدي على وجهي، قال: فعلموا أنهم قد أطالوا فقاموا.

وقال الجنيد: دخلت على السري وهو يجود بنفسه، فقلت: أوصني. قال: لا تصحب الأشرار، ولا تشتغلن عن الله بمجالسة الأخيار.

وكان الإمام أحمد بن حنبل يقول إذا ذكر السري: ذاك الشيخ الذي يعرف بطيب الريح ونظافة الثوب وشدة الورع.

وأهدى السري السقطي إلى الإمام أحمد ابن حنبل شيئاً فرده فقال له السري: يا أحمد، احذر آفة الردّ فإنها أشدّ من آفة الأخذ، فقال له أحمد: أَعِدْ عليّ ما قلت فأعاده، فقال أحمد: ما رددت عليك إلاّ لأن عندي قوت شهر فاحبسه لي عندك، فإذا كان بعد شهر فأنفذه إلىّ.

من أقوال السري رحمه الله:

رأيت طاعة الرحمن بأرخص الأثمان مع راحة الأبدان، ورأيت معصية الرحمن بأغلى الأثمان مع تعب الأبدان.

 عملٌ قليل في سُنّةٍ خيرٌ من كثير في بدعة، كيف يقل عملٌ مع التقوى؟

من لم يعلم قَدْرَ النِعَم سُلِبَها من حيث لا يعلم.

من مرض فلم يتب، فهو كمن عولج فلم يبرأ.

من عجز عن أدب نفسه كان عن أدب غيره أعجز.

إن اغتممت لما ينقص من مالك، فابك على ما ينقص من عمرك.

احذر أن تكون ثناء منشوراً و عيباً مستوراً.

 وسئل عن التصوف فقال: الإعراض عن الخلق، وترك الاعتراض على الحق.

وقال السري السقطي: من ادعى باطن علم ينقض ظاهر حكم فهو غالط.

وقال: لا تركن إلى الدنيا فينقطع من الله حبلك، ولا تمش في الأرض مرحاً فإنها عن قليل قبرك.

وقال السري السقطي: ثلاث من أخلاق الأبرار: القيام بالفرائض، واجتناب المحارم، وترك الغفلة. وثلاث من أخلاق الأبرار يبلغن بالعبد رضوان الله: كثرة الاستغفار، وخفض الجناح، وكثرة الصدقات. وثلاث من أبواب سخط الله: اللعب، والمزاح، والغيبة، والعاشر من هذه الثلاث عمود الدين وذروته وسنامه حسن الظن بالله.

وقال السري السقطي: لا يصبر على ترك الشبهات إلاّ من ترك الشهوات.
 

الأحد، 14 يوليو 2013

حدث في الخامس من رمضان


في الخامس من رمضان من سنة 223 وصلت طلائع جيش المعتصم إلى عمورية، وفيما يلي عرض لمقدمات المعركة ونهايتها، أغلبه مأخوذ من ابن كثير رحمه الله في كتابه البداية والنهاية:

وفي هذه السنة أوقع ملك الروم توفيل بن ميخائيل Theophilus بأهل مَلَطْية من المسلمين وما والاها ملحمة عظيمة، قتل فيها خلقاً كثيراً من المسلمين، وأسر ما لا يُحصون كثرة، وكان من جملة من أسر ألف امرأة من المسلمات، ومثّل بمن وقع في أسره من المسلمين، فقطع آذانهم وأنوفهم، وسمل أعينهم، قبحه الله.

وكان سبب ذلك أن بابك الخرمي لما أُحيط به في مدينة البَذّ واستوسقت الجيوش حوله، كتب إلى ملك الروم يقول له: إن ملك العرب قد جهز إليَّ جمهور جيشه، ولم يبق في أطراف بلاده من يحفظها، فإن كنت تريد الغنيمة فانهض سريعا إلى ما حولك من بلاده فخذها فإنك لا تجد أحداً يمانعك عنها.

فركب توفيل بمئة ألف، وانضاف إليه المُجَمِّرة - قومٌ يصبرون لقتال من قاتلهم لا يحالفون أَحداً ولا ينضمون إِلى أَحد - الذين كانوا قد خرجوا في الجبال وقاتلهم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فلم يقدر عليهم لأنهم تحصنوا بتلك الجبال، فلما قدم ملك الروم صاروا معه على المسلمين، فبلغ زِبَطْرة فقتل من بها من الرجال، وسبى الذرية والنساء، وأغار على أهل ملطية وغيرها من حصون المسلمين، وسبى المسلمات، ومثّل بمن صار في يده من المسلمين وسمل أعينهم، وقطع أنوفهم وآذانهم، فضج الناس في الأمصار واستغاثوا في المساجد والديار، ودخل إبراهيم بن المهدي على المعتصم فأنشده قصيدة طويلة منها:

يا غيرة الله قد عاينت فانتقمي ... تلك النساء وما منهن يرتكب
هَبِ الرجالُ على إجرامها قُتلت ... ما بال أطفالها بالذبح تنُتهب

فانزعج المعتصم لذلك جداً،  وبلغه أن امرأة هاشمية صاحت وهي في أيدي الروم: وامعتصماه!! فأجابها - وهو على سريره - لبيك لبيك، وصرخ في قصره بالنفير، ثم نهض من فوره وأمر بتعبئة الجيوش، واستدعى القاضي والشهود فأشهدهم أن ما يملكه من الضياع ثلثه صدقة وثلثه لولده وثلثه لمواليه.

وخرج من بغداد وقد تعمم بعمامة الغُزَاة فعسكر غربي دجلة يوم الاثنين لليلتين خلتا من جمادى الاولى ووجه بين يديه عجيفاً وطائفة من الأمراء ومعهم خلق من الجيش إعانة لأهل زبطرة، فأسرعوا السير فوجدوا ملك الروم قد فعل ما فعل وانشمر راجعا إلى بلاده، وتفارط الحال ولم يمكن الاستدراك فيه، فرجعوا إلى الخليفة لإعلامه بما وقع من الأمر، فقال للأمراء: أي بلاد الروم أمنع؟ قالوا: عمورية لم يعرض لها أحد منذ كان الإسلام، وهي أشرف عندهم من القسطنطينية. وعمورية اليوم هي حصاركوي Hisarkoy قرب بلدة إميرداغ Emirdag في محافظة Afionkarahisar.

ولما تفرغ المعتصم من بابك وقتله وأخذ بلاده استدعى بالجيوش إلى بين يديه وتجهز جَهازاً لم يجهزه أحد كان قبله من الخلفاء، وأخذ معه من آلات الحرب والأحمال والجمال والقرب والدواب والنفط والخيل والبغال شيئا لم يسمع بمثله، وسار إلى عمورية في جحافل أمثال الجبال، وبعث الأفشين حيدر بن كاوس من ناحية سَرُوج، وعبأ جيوشه تعبئة لم يسمع بمثلها، وقدم بين يديه الأمراء المعروفين بالحرب، فانتهى في سيره إلى نهر اللمس وهو قريب من طرسوس، وذلك في رجب من سنة 223.

وقد ركب ملك الروم في جيشه فقصد نحو المعتصم فتقاربا حتى كان بين الجيشين نحو من أربعة فراسخ، ودخل الأفشين بلاد الروم من ناحية أخرى، فجاؤوا في أثره وضاق ذرعه فهو إن هو ناجز الخليفة جاءه الأفشين من خلفه فالتقيا عليه فيهلك، وإن اشتغل بأحدهما وترك الآخر أخذه من خلفه.

وفرق المعتصم جيشه ثلاث فرق فالميمنة عليها الافشين، والميسرة عليها أشناس، والمعتصم في القلب، وبين كل عسكرين فرسخان، وأمر كل أمير من الأفشين وأشناس أن يجعل لجيشه ميمنة وميسرة وقلبا ومقدمة وساقة، وأنهم مهما مروا عليه من القرى حرقوه وخربوه وأسروا وغنموا، وسار بهم كذلك قاصدا إلى عمورية، وكان بينها وبين مدينة أنقرة سبع مراحل، فأول من وصل إليها من الجيش أشناس أمير الميسرة ضحوة يوم الخميس لخمس خلون من رمضان من هذه السنة، فدار حولها دورة ثم نزل على ميلين منها، ثم قدم المعتصم صبيحة يوم الجمعة بعده، فدار حولها دورة ثم نزل قريبا منها، وقد تحصن أهلها تحصناً شديداً وملأوا أبراجها بالرجال والسلاح، وهي مدينة عظيمة كبيرة جدا ذات سور منيع وأبراج عالية كبار كثيرة، وأميرها مناطس نائب الملك.

وقسم المعتصم الأبراج على الأمراء، فنزل كل أمير تجاه الموضع الذي أقطعه وعينه له، ونزل المعتصم قبالة مكان هناك أرشده إليه بعض من كان فيها من المسلمين، وكان قد تنصر عندهم وتزوج منهم، فلما رأى أمير المؤمنين والمسلمين رجع إلى الإسلام، وخرج إلى الخليفة فأسلم وأعلمه بمكان في السور كان قد هدمه السيل وبني بناء ضعيفاً بلا أساس، فنصب المعتصم المجانيق حول عمورية فكان أول موضع انهدم من سورها ذلك الموضع الذي دلهم عليه ذلك الأسير، فبادر أهل البلد فسدوه بالخشب الكبار المتلاصقة فألح عليها المنجنيق فجعلوا فوقها البرادع ليردوا حدة الحجر فلم تغن شيئا، وانهدم السور من ذلك الجانب وتفسخ، فضاقت الروم ذرعا بذلك، وألح عليهم المسلمون في الحصار، وقد زاد المعتصم في المجانيق والدبابات وغير ذلك من آلات الحرب.

ولما رأى المعتصم عمق خندقها وارتفاع سورها، أعمل المجانيق في مقاومة السور، وكان قد غنم في الطريق غَنَما كثيراً جداً ففرقها في الناس وأمر أن يأكل كل رجل رأساً ويجئ بملء جلده ترابا فيطرحه في الخندق، ففعل الناس ذلك فتساوى الخندق بوجه الأرض من كثرة ما طُرح فيه من الأغنام ثم أمر بالتراب فوضع فوق ذلك حتى صار طريقا ممهدا، وأمر بالدبابات أن توضع فوقه فلم يحوج الله إلى ذلك.

وبينما الناس في الجسر المردوم، إذ هدم المنجنيق ذلك الموضع المعيب، فلما سقط ما بين البرجين سمع الناس هدة عظيمة، فظنها من لم يرها أن الروم قد خرجوا على المسلمين بغتة، فبعث المعتصم من نادى في الناس: إنما ذلك سقوط السور. ففرح المسلمون بذلك فرحا شديدا، لكن لم يكن ما هدم يسع الخيل والرجال إذا دخلوا.

وقوي الحصار وقد وكّلت الرومُ بكل برج من أبراج السور أميرا يحفظه، فضعف ذلك الأمير الذي هدمت ناحيته من السور عن مقاومة ما يلقاه من الحصار، فذهب إلى مناطس فسأله نجدة، فامتنع أحدٌ من الروم أن ينجده وقالوا: لا نترك ما نحن موكلون في حفظه.

فلما يئس منهم خرج إلى المعتصم ليجتمع به، فلما وصل إليه أمَرَ المعتصمُ المسلمين أن يدخلوا البلد من تلك الثُغرة التي قد خلت من المقاتلة، فركب المسلمون نحوها فجعلت الروم يشيرون إليهم ولا يقدرون على دفاعهم، فلم يلتفت إليهم المسلمون، ثم تكاثروا عليهم ودخلوا البلد قهراً وتتابع المسلمون إليها يكبرون، وتفرقت الروم عن أماكنها، فجعل المسلمون يقتلونهم في كل مكان حيث وجدوهم، ولم يبق فيها موضع محصن سوى المكان الذي فيه مناطس في حصن منيع، فركب المعتصم فرسه وجاء حتى وقف بحذاء الحصن، فناداه المنادي: ويحك يا مناطس! هذا أمير المؤمنين واقف تجاهك. فقالوا: ليس بمناطس ههنا، مرتين. فغضب المعتصم من ذلك وولى، فنادى مناطس: هذا مناطس! هذا مناطس! فرجع الخليفة ونصب السلالم على الحصن وطلعت الرسل إليه فقالوا له: ويحك انزل على حكم أمير المؤمنين، فتمنع ثم نزل متقلدا سيفاً فوضع السيف في عنقه، ثم جئ به حتى أوقف بين يدي المعتصم، فضربه بالسوط على رأسه، ثم أمر به أن يمشي إلى مضرب الخليفة مهاناً إلى الوطاق الذي فيه الخليفة نازل، فأوثق هناك، وأخذه المعتصم معه أسيراً فاعتقله بسامراء حتى مات سنة 224.

وأخذ المسلمون من عمورية أموالاً لا تحد ولا توصف، فحملوا منها ما أمكن حمله، وأمر المعتصم بإحراق ما بقي من ذلك، وبإحراق ما هنالك من المنجانيقات والدبابات وآلات الحرب لئلا يتقوى بها الروم على شئ من حرب المسلمين، ثم انصرف المعتصم راجعا إلى ناحية طرسوس في آخر شوال من هذه السنة، وكانت إقامته على عمورية خمسة وعشرين يوماً، وكان على باب مدينتها باب عظيم الحجم  له مصراعان من الحديد مفرطا الطول والعرض، فأحضره إلى بغداد، وهو الآن على أحد أبواب دار الخلافة يسمى باب العامة، وكان قد صحبه أبو تمام الطائي فمدحه بقصيدته البائية التي أولها:

السيف أصدق أنباءً من الكتب... في حده الحد بين الجد واللعب

وفيها يقول للمعتصم، وكان عمره يومها 45 عاماً وتوفي بعدها بثلاث سنين:

خليفة الله! جازى الله سعيك عن... جرثومة الدين والإسلام والحسب
بصُرتَ بالراحةِ الكبرى فلم ترها... تنال إلا على جسرٍ من التعب
 

السبت، 13 يوليو 2013

حدث في الرابع من رمضان



في الرابع من رمضان من سنة 666 هجرية الموافقة 1268 ميلادية فتح الملك الظاهر بيبرس البندقداري أنطاكية بعد أن بقيت مع الصليبين قرابة 170 عاماً، وذلك في حملة مباغتة اتسمت باتباع سياسة الأرض المحروقة وإلقاء الذعر في قلوب العدو مقاتليه ومدنييه، ولعله تأثر في ذلك بالمغول الذي انتصر عليهم قبل بضعة سنوات، من ما يلي  مستخلص من الروايات التاريخية عن ذلك:

لما رحل السلطان الملك الظاهر بيبرس عن طرابلس لم يطلع أحدا على الجهة التي يقصدها، فتوجه إلى حمص في سابع وعشرين شعبان، وأمر ببناء مسجد بحمص، ولما وصل إلى حماة رتب العساكر ثلاث فرق: فرقة صحبة الأمير بدر الدين الخزندار، وفرقة مع الأمير عز الدين إيغان، وفرقة صحبة الركاب السلطاني.

فتوجه الأمير بدر الدين الخزندار إلى السويدية، وتوجه الأمير عز الدين إيغان إلى درب بساك، فقتلوا وأسروا، وتوافوا جميعهم بأنطاكية، ونزل السلطان أفامية، ومنها إلى جسر تحت الشغر وبكاس، وأصبح مغيراً على أنطاكية وذلك في مستهل شهر رمضان.

وارتحلنا إلى أنطاكية فنزلنا من غربيها على سفح الجبل، وتواصلت العساكر إليها، ونزل السلطان عليها بكرة يوم الجمعة ثالث شهر رمضان سنة 666، وخرج منها جماعة فيهم كُنْد اصطبل Constable of Antioch عمّ صاحب سيس، وكانت عاصمة الأرمن حينها، وتسمى اليوم قوزان جنوبي أضنة، فالتقوا مع الجاليش - مقدمة قلب الجيش - فاستظهر الجاليش عليهم، وأسر الكندَّ جنديٌّ من أجناد الأمير الأَجلِّ شمس الدين آقسنقر الفارقانيّ، يسمّى المظفري، وأحضره إلى السلطان، فأمنّه السلطان وأحسن إليه،  وأعطى المظفري عشرة طواشّية، وأمره بحمل رنك - أي شارة النبالة - كند اصطبل، فحمل رنكه على سنجقه إلى أن مات.

ولما حضر كند اصطبل إلى السلطان رآه رجلا عاقلا، فسأل أنه يدخل إلى أنطاكية ويتحدّث مع أهلها ويحذرهم وينذرهم، فجرى السلطان على عادته في الإنذار قبل المهاجمة، فسير كند اصطبل من أحضر ولده رهينة، ودخل البلد وتحدث، وخرج مع جماعة من القسيسين والرهبان، وأقاموا يترددون ثلاثة أيام فظهر منهم قوة نفس وخوف من صاحبهم البرنس، ولم يقبلوا التسليم.

فزحف عليها السلطان وقاتل أهلها قتالا شديدا، وتسور المسلمون الأسوار من جهة الجبل بالقرب من القلعة، ونزلوا المدينة ففر أهلها إلى القلعة، ووقع النهب والقتل والأسر في المدينة، فلم يرفع السيف عن أحد من الرجال وكان بها فوق المئة ألف، وأحاط الأمراء بأبواب المدينة حتى لا يفر منها أحد، واجتمع بالقلعة من المقاتلة ثمانية آلاف سوي النساء والأولاد، فبعثوا يطلبون الأمان فأمنوا، وصعد السلطان إليهم ومعه الحبال، فكتفوا وفرقوا على الأمراء، والكُتَّاب بين يدي السلطان ينزلون الأسماء، وكان بها طائفة من الأسرى فخلصهم الله.

وكانت أنطاكية للبرنس بيموند Bohemond VI بن بيموند، وله معها طرابلس، وهو مقيم بطرابلس وكتبت البشائر بالفتح إلى الأقطار الشامية والمصرية والفرنجية، وأمر السلطان الظاهر بيبرس بإرسال رسالة إلى صاحب أنطاكية وهو يومئذ مقيم بطرابلس، كتبه القاضي محيي الدين ابن عبد الظاهر رحمه الله تعالى، والرسالة مليئة بالتهكم والتقريع، وهي أشبه برسائل المغول، ومما جاء فيها:

قد علم القومص الجليل المبجل، المغزز الهمام، الأسد الضرغام بيمند، ألهمه الله رشده، وقرن بالخير قصده، وجعل النصيحة محفوظة عنده، ما كان من قصدنا طرابلس وغزونا له في عقر الدار، وما شاهده بعد رحيلنا من إخراب العمائر وهدم الأعمار، وكيف كنست تلك الكنائس من على بساط الأرض ودارت الدوائر على كل دائر، وكيف جعلت تلك الجزائر من الأجساد على ساحل البحر كالجزائر، وكيف قتلت الرجال واستخدمت الأولاد وتملكت الحرائر، وكيف قطعت الأشجار ولم يترك إلا ما يصلح للأعواد والمنجنيق والستائر، وكيف نهبت لك ولرعيتك الأموال والحريم والأولاد والحواشي، وكيف استغنى الفقير وتأهل العازب واستخدم الخديم وركب الماشي، هذا وأنت تنظر نظر المغشي عليه من الموت، وإذا سمعت صوتاً قلت فزعا: عليَّ هذا الصوت!

وكيف رحلنا عنك رحيل من يعود، وأخرناك وما كان تأخيرك إلا لأجل معدود، وكيف فارقنا بلادك، وما بقيت فيها ماشية إلا وهي لدينا ماشية، ولا جارية، إلا وهي في ملكنا جارية، ولا سارية، وهي بين أيدي المعاول سارية، ولا زرع إلا وهو محصود، ولا موجود لك إلا وهو منك مفقود، ولا منعت تلك المغاير التي هي في رؤوس الجبال الشاهقة، ولا تلك الأودية التي هي في التخوم مخترقة، وللعقول خارقة، وكيف سقنا عنك ولم يسبقنا إلى مدينتك أنطاكية خبر، وكيف وصلنا إليها وأنت لا تصدق أننا نبعد عنك، وإن بعدنا فسنعود على الأثر، وها نحن نعلمك بما تم، ونفهمك بالبلاء الذي عمّ:

كان رحيلنا عنك عن طرابلس يوم الأربعاء الرابع والعشرين من شعبان، ونزولنا أنطاكية في مستهل شهر رمضان، وفي حالة النزول خرجت عساكرك للمبارزة فكسروا، وتناصروا فما نصروا، وأسر من بينهم كند اصطبل، فسأل في مراجعة أصحابك، فدخل إلى المدينة، فخرج هو وجماعة من رهبانك، وأعيان أعوانك، فتحدثوا معنا، فرأيناهم على رأيك من إتلاف النفوس بالغرض الفاسد، وإن رأيهم في الخير مختلف، وقولهم في الشر واحد، فلما رأيناهم قد فات فيهم الفوت، وأنهم قد قدر الله عليهم الموت، رددناهم وقلنا: نحن الساعة لكم نحاصر، وهذا هو الأول في الإنذار والآخر، فرجعوا متشبهين بفعلك، ومعتقدين أنك تدركهم بخيلك ورجلك

ففي بعض ساعة مرّ شأن المرء شان، وداخل الرهب الرهبان، ولان للبلاء القسطلان، وجاءهم الموت من كل مكان، وفتحناها بالسيف في الساعة الرابعة من يوم السبت رابع شهر رمضان، وقتلنا كل من اخترته لحفظها والمحاماة عنها، وما كان أحد منهم إلا وعنده شئ من الدنيا، فما بقي أحد منا إلا وعنده شئ منهم ومنها، فلو رأيت خيّالنك وهم صرعى تحت أرجل الخيول، وديارك والنّهابة فيها تصول، والكسّابة فيها تجول، وأموالك وهي توزن بالقنطار، وداماتك وكل أربع منهنّ تباع، فتشترى من مالك بدينار، ولو شاهدت النيران وهي في قصورك تحترق، والقتلى بنار الدنيا قبل نار الآخرة تخترق، وقصورك وأحوالها قد حالت، وكنيسة بولص وكنيسة القسيان وقد تركت كل منهما وزالت، لكنت تقول: يا ليتني كنت تراباً ويا ليتني لم أوت بهذا الخبر كتابا، ولكانت نفسك تذهب من حسرتك، ولكنت تطفئ تلك النيران من ماء عبرتك، ولو رأيت مغانيك وقد أقفرت من مغانيك، ومراكبك وقد أخذت في السويدية بمراكبك، فصارت شوانيك من شوانيك، لتيقنت أن الإله الذي أنطاك أنطاكية منك استرجعها، والربّ الذي أعطاك قلعتها منك قلعها، ومن الأرض اقتلعها.

ولتعلم أنا قد أخذنا بحمد الله منك كنت قد أخذته من حصون الإسلام، وهو دركوش، وشقيف كفردبين وجميع ما كان لك في بلاد أنطاكية، واستنزلنا أصحابك من الصيّاصي، وأخذناهم بالنواصي، وفرقناهم في الداني والقاصي،ولم يبقى شئ يطلق عليه اسم العصيان إلا النهر، فلو استطاع لما تسمى بالعاصي، وقد أجرى دموعه ندما، وكان يذرفها عبرة صافية، فها هو أجراها بما سفكناه فيه دما.

وكتابنا هذا يتضمن بالبشرى لك بما وهبك الله من السلامة وطول العمر بكونك لم يكن لك في أنطاكية في هذه المدة إقامة، وكونك ما كنت فيها فتكون إما قتيلا وإما أسيرا، وإما جريحا وإما كسيرا، وسلامة النفس هي التي تفرح الحيّ إذا شاهد الأموات، ولعل الله ما أخّرك إلا لأن تستدرك من الطاعة والخدمة ما فات، ولما لم يسلم أحد يخبرك بما جرى خبّرناك، ولما لم يقدر أحد أن يباشرك بالبشرى وسلامة نفسك وهلاك ما سواها باشرناك بهذه المفاوضة وبشرناك، لتتحقق الأمر على ما جرى، وبعد هذه المكاتبة لا ينبغي لك أن تكذّب لنا خبرا، كما أن بعد هذه المخاطبة يجب أن لا تسأل غيرنا مخبرا.

وسلم السلطان القلعة إلى الأمير بدر الدين بيليك الخازندار والأمير بدر الدين بيسري الشمسي، وأمر بإحضار المغانم لتقتسم، وركب وأبعد عن الخيام وحمل ما غنمه وما غنمته مماليكه وخواصه، وقال: والله ما خبأت شيئا مما حُمِلَ إليّ ولا خليت مماليكي يخبئون شيئا، ولقد بلغني أن غلاماً لأحد مماليكي خبأ شيئاً لا قيمة له فأدبته الأدب البالغ، ويتبقى لكل أحد منكم أن يخلص ذمته، وأنا أحلّف الأمراء والمقدمين، وهم يحلّفون أجنادهم ومضافيهم، فأحضر الناس الأموال والمصاغ الذهب والفضة حتى صارت تلّاً بها، وقسمت في الناس، وأقام السلطان يومين وهو يباشر القسمة بنفسه، وقصر الناس في إحضار الغنائم فعاد السلطان مغضبا، فلم تزل الأمراء به يلتزمون بالاجتهاد والاحتراز ويعتذرون إليه، حتى وقف على فرسه وما ترك شيئا حتى قسمه.

وأمر السلطان بإحراق قلعة أنطاكية فأحرقت، وأما ما خصه من الغنائم فإنه أفرده وأرصده لعمارة الجامع الذي أمر بإنشائه بالحسينية، فصرف عليه.

وأما كند اصطبل فإن السلطان أطلقه، وأطلق أهله وأقاربه، وفسح له في التوجه إلى سيس.

وهذه أنطاكية هي هي قاعدة العواصم وذكرها الله في القرآن الكريم بقوله: واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون وبانيها أنطياخس وإليه تنسب، وهي مدينةٌ عظيمة، مسافة سورها اثنا عشر ميلاً، وعدد أبراجها مئة وستةٌ وثلاثون برجاً، وشرفاتها أربعٌ وعشرون ألفاً،وفي داخلها جبلٌ وأشجار ووحوش، وماء تجري، وفواكه مختلفة، وقد فتحت في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبقيت في أيدي المسلمين إلى أن مَلكتها الأفرنج في سنة 491 من واليها ياغِيسيان السلجوقي بخيانة تمت عليه بعد حصار تسعة اشهر، وقتلوا فيها ما يزيد على مئة ألف نفس.
 

الجمعة، 12 يوليو 2013

حدث في الثالث من رمضان

في الثالث من رمضان من سنة 371 توفي في شيراز، عن 95 عاماً، أبو عبد الله الضبي، محمد بن خفيف الشيرازي الصوفي الشافعي شيخ إقليم فارس. كان من أولاد الأمراء ثم تزهد وتصوف وسافر في سياحات كثيرة، وصنف كتباً.

حدث عن حماد بن مدرك وهو آخر أصحابه، وعن محمد بن جعفر التمار، والحسين المحاملي، وجماعة. وتفقه على أبي العباس بن سريج.

وحدث عنه: أبو الفضل الخزاعي، والحسن بن حفص الاندلسي، وإبراهيم بن الخضر الشياح، والقاضي أبو بكر بن الباقلاني، ومحمد بن عبد الله بن باكويه.

جمع بين العلم والعمل، وعلو السند، والتمسك بالسنن، ومتع بطول العمر في الطاعة، وصار شيخ المشايخ في وقته، مقصوداً من الآفاق، مباركاً على كل من يقصده، بلغ في العلم والجاه عند الخاص والعام ما لم يبلغه أحد، وصنف من الكتب ما لم يصنفه أحد، وانتفع به جماعة حتى صاروا أئمة يقتدى بهم، وعُمِّر حتى عم نفعه البلدان

قال: أولُ من لقيت من المشايخ أبو العباس أحمد بن يحيى، وعلى يده تُبتُ.

وأولُ ما أمرني به كَتابةُ الحديث، وقال لي: اختلف إلى أحمد بن أبان الراوي وإلى عبد الله بن جعفر الأزركاني، وكان من كبار مشايخ شيراز  في الديانة والرواية، ثم دعاهما بعد ذلك وأوصاهما، فربما كنت أدخل إلى أبي عبد الله الأزركاني فيقول لي: يا أبا عبد الله هل لك ان تجعل يومنا للصلاة؟ فأقول: ما يأمرُ الشيخ، وكان يقوم في ناحية من البيت، وأقوم في ناحية نصلي العصر، ثم أقرأ عليه شيئاً من الحديث، وأخرج من عنده فيسألني أحمد بن يحيى عن معاملته معي ويقول لي: لا تحب أن يكون لك في ليلك ونهارك وقت ضائع، فقبلت ما قال لي.

ثم أخذ بعد ذلك في رياضتي، فأولها أنه حملني إلى السوق، وجلس على باب مسجد، حتى عبر قصاب، فاشترى قطعة لحم، وقال: احملها بيدك إلى المنزل وارجع، فأخذتها واستحييت من الناس، فدخلت مسجداً، وتركتها بين يدي، أفكر بين حملها، وأن أعطيها إلى الحمال، فاستخرت الله، وقلت: لا أخالف الشيخ. فحملتها، والناس يقولون: أيشُ هذا؟! وأنا أخجل وأسكت، حتى صرت بها إلى منزله. ورجعت إليه، وأنا عَرِقٌ مستحٍ، فقال: يا بني، كيف كانت نفسك في حمل هذا اللحم، بعد أن كان الناس ينظرون إليك بعين التعظيم، وأنك من أولاد الملوك؟ فحدثته فتبسم وقال: يا بني قد حمدتُ فعلك، وسترى بركته!

نظر يوماً إلى جماعة يكتبون شيئا، فقال: ما هذا؟ قالوا: نكتب كذا وكذا، قال: اشتغلوا بتعلم شيء، ولا يغرنكم كلام الصوفية، فإني كنت أخبئ محبرتي في جيب مُرَّقعتي، والورق في حُجزة سراويلي، وأذهب في الخِفية إلى أهل العلم، فإذا علموا بي خاصموني، وقالوا: لا يفلح، ثم احتاجوا إلي.

قال: ما سمعت شيئاً من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا واستعملته حتى الصلاة على أطراف الأصابع، وإنها لصعبة.

وقال أحد معاصريه: ما رأيت الشيخ قط فاتته تكبيرة الإحرام في جميع صلواته منذ رأيته.

وكان به قديماً وجع الخاصرة، فكان إذا أخذه أقعده عن الحركة، فكان إذا أقيمت الصلاة يُحمَل على الظَهر إلى المسجد ليصلي، فقيل له: لو خففت على نفسك؛ كان لك سعة! فقال: إذا سمعتم: حيّ على الصلاة، ولم تروني في الصف، فاطلبوني في المقابر.

ومات لأبي عبد الله بن خفيف ابن يقال له عبد السلام، فما بقي بشيراز من الخاص والعام والجند والأمراء أحد إلا حضروا جنازته، فلم يجسر أحد أن يعزيه لما كان في نفوسهم أن مثله لا يعزى.

وسُئل عن القُرب من الله فقال: قربك منه بملازمة الموافقات، وقربه منه بدوام التوفيق.

وقال: حقيقة القناعة: ترك التطلع إلى المفقود، والاستغناء بالموجود.

وقال: ليس شيء أضر بالمريد من مسامحة النفس في ركوب الرخص، وقبول التأويلات.

وقيل لأبي عبد الله بن خفيف: إن فلاناً يتكلم في التصوف بكلام عالي، فقال: إنه قام عليه التصوف رخيصاً فهو يبيعه رخيصاً.

وقال: الأكل مع الفقراء قُرْبةٌ إلى الله.

وسئل عن إقبال الحق على العبد، فقال: علامته إدبار الدنيا عن العبد.

دخل عليه يوماً متصوفٌ فقال: بي وسوسة! فقال له: عهدي بالصوفية يسخرون بالشيطان، فالآن الشيطان يسخر بهم.

وكان يقول: عليك بمن يعظك بلسان فعله، ولا يعظك بلسان قوله.
 

الأربعاء، 10 يوليو 2013

حدث في الأول من رمضان


في يوم السبت الأول من رمضان عام 245 باشرت أم البنين فاطمة بنت محمد بن عبد الله الفهرية القيروانية، المتوفاة حوالي سنة 265، في تأسيس جامع القَرويين بفاس، فشرعت في حفر أساسه، وحفرت فيه بئراً لا تزال إلى الآن.

وكان طول المسجد من حائطه الغربي إلى الحائط الشرقي 150 شبرا - نحو 35 مترا - ثم إنه زيد في بنائه فيما بعد على أيدي الملوك المتعاقبين، وبني المسجد في عهد الملك يحيى الإدريسي، يحيى بن محمد بن إدريس بن إدريس الحسني المتوفى سنة 250، وكان محبا للعمران، بنى بفاس حمامات وفنادق وأقبل أهلها على البناء في عهده، وقصدت من الأندلس وإفريقية وسائر بلاد المغرب، فضاقت بسكانها، فبنيت الأرباض - الضواحي - بخارجها.

وكانت فاطمة رحمها الله قد انتقلت قبل سنوات إلى فاس في المغرب من القيروان في تونس، وسكنت مع أبيها وأخوات لها في عُدْوة القرويين، قرب أرض بيضاء كان يصنع بها الجص، ثم ورثت من أبيها أو من زوجها وأخت لها مالاً، فاشترت هذه الأرض لبناء مسجد عليها،  وظلت صائمة طول المدة التي قضتها في بناء الجامع.

ونُقلت إلى القرويين الخطبة من جامع إدريس لضيق محلته، وتعاقبت أعمال التوسعة والتجديد على الجامع، فاختط بعد ذلك أمير فاس أحمد بن سعيد بن أبى بكر اليَفْرني صومعته سنة 345 على رأس مئة سنة من اختطاط الجامع، حسبما هو منقوش في الحجارة بالركن الشرقي منها، ثم أوسع في خطته أمير الأندلس المنصور بن أبى عامر وجلب إليه الماء وأعد له سقاية متقنة البناء ملاصقة له، ماؤها من الوادي، وجلب لها ماء عين هو في أيام الحر في نهاية البرد، وفي أيام البرد فيه بعض الحرارة، وكذلك صنع بجوفيّ جامع القرويين سقاية متقنة البناء ومياه جارية مع عتبة الباب الجوفي، ونافورة مرتفعة نصف قامة داخل الصحن، وبقيت ملوك المغرب تتعهد الجامع بالتوسعة والخدمة إلى يومنا هذا.

وكانت للجامع في القرن الثامن ثُريا تحتوي على نحو ألف كاس من زجاج، وكان الشيخ عبد الرحمن بن حسن القروي الفاسي مع أبي القاسم الزياني بجامع القرويين ليلة سبع وعشرين من رمضان، فدخل عليهم ابن عبدون المكناسي، فتلقاه الزياني وتأيَّده، وتوجهوا إلى الثريا بالقرويين وقد أوقدت، وهي تحتوي على نحو ألف كاس من الزجاج، فأنشد الزياني:

أنظر إلى نارية نورها             يصدع بالألإ حجب الغسق
فقال ابن عبدون:
كأنها في شكلها زهرة           انتظم النور بها فاتسق
وحُكِيت القصةُ للأديب الشهير أبي الحكم مالك بن المرحل، فقال: لو حضرت أنا لقلت:
أعيذها من شر ما يتقى                       من فجأة العين برب الفلق

ويعد جامع القرويّين من أقدم الجامعات في العالم، وله تقاليد عريقة في قبول الطلبة وترقية المدرسين، وتخرج منه آلاف مؤلفة من علماء وفضلاء المغرب، وظلت هذه الجامعة تقوم بدورها التعليمي منذ إنشائها إلى زماننا هذا، وهي من أهم محاضن الفقه المالكي، وتحتوي على مكتبة ثرية من المخطوطات القيمة النادرة وقفها عليها ملوك المغرب ومحسنيه، بل جلبوا بعضها من الأندلس، كما فعل المولى إسماعيل الذي أرسل وزيره محمد بن عبد الوهاب الغساني الأندلسي الفاسي سنة 1102 في سفارة إلى ملك إسبانية كارلوس الثاني لغايتين: تخليص الأسرى المسلمين الذين كانوا لدى الأسبان، وجلب ما بقي في الأندلس من الكتب العربية، وأقام الغساني ثمانية أشهر وضع على أثرها كتابه رحلة الوزير في افتكاك الأسير. وفي خزانة جامع القرويين بمدينة فاس مجموعة ثمينة من المخطوطات العربية الإسلامية.

وللقرويين تاريخ مشرف في إرساء التقاليد الإسلامية في المغرب وفي مقاومة الاستعمار الفرنسي، ومن خريجيها محمد بن عبد الكريم الريفي الخطابي زعيم الثورة الريفية المعروفة باسمه في شمالي المغرب، وانطلقت منها سنة 1934 م أكبر التظاهرات ضد مخططات فرنسا لفصل البربر عن الإسلام من خلال الظهير البربري، الذي نصّ على أن يتقاضوا وفقاً لتقاليدهم بدلاً عن الشريعة الإسلامية.

أما مدينة فاس فبُنيت سنة 192 في ولاية المولى إدريس بن إدريس، المتوفى سنة 213 عن 38 عاماً، عندما اختط عدوةَ الأندلسيين في شرقها وأنزل بها من هاجر من قرطبة من العلماء وأهل هرباً من تنكيل الحكم بن هشام الأموي الأندلسي، ثم اختط في العام التالي عدوة القرويين في الغرب لإقامته مع مهاجرين من أهل القيروان، سموا بالقَرويين ميلاً للتخفيف.

اتخذ إدريس فاس عاصمة له، وازدهرت في عهد حفيده يحيى الإدريسي (234- 250) وكان محباً للعمران، فبنى بفاس حمامات وفنادق للتجار، وأقبل أهلها على البناء في عهده، وقُصدت من الأندلس وإفريقية وسائر بلاد المغرب، فضاقت بسكانها، فبنيت الأرباض (الضواحي) بخارجها، وبقيت فاس عاصمة المغرب وأجل مُدُنه حتى احتل الفرنسيون المغرب في عام 1912م، وهي اليوم ثالث مدن المغرب.

قال الجغرافيون العرب عن فاس:
فاس مختطة بين ثنيتين عظيمتين، وهي مدينتان مفترقتان مسورتان: عدوة القَرويين وعدوة الأندلسيين، بينهما نهر كبير يسمى وادي فاس، يأتي من عيون تسمى عيون صنهاجة، وفي كل زقاق ساقية يجرونها متى شاءوا، وفي كل دار صغيرة كانت أو كبيرة ساقية ماء، وبالمدينتين اكثر من ثلاثمئة رحىً وبها نحو عشرين حماماً وهي أكثر بلاد المغرب يهوداً يختلفون منها إلى جميع الآفاق، ويسكن حولها قبائل من البربر، لكنهم يتكلمون بالعربية، وإليها تشد الركائب وتقصد القوافل، وتجلب إلى حضرتها كل غريبة من الثياب والبضائع والأمتعة، وأهلها مياسير ولها من كل شيء حسن أوفر حظ.
 

الجمعة، 5 يوليو 2013

حدث في الرابع والعشرين من شعبان



في الرابع والعشرين من شعبان من عام 1143 توفي في دمشق، عن 93 سنة ، الشيخ عبد الغني النابلسي، عبد الغني بن إسماعيل بن عبد الغني بن إسماعيل بن أحمد بن إبراهيم المعروف بالنابلسي الحنفي الدمشقي النقشبندي القادري، إمام الشام وكبير المتصوفة في عصره، والفقيه الكبير والمؤلف الغزير والشاعر الناظم.

وأسرة الشيخ النابلسي أسرة دمشقية عريقة استوطنت دمشق منذ أجيال، وتوارثت العلم كابراً عن كابر، فجده إسماعيل كان شيخ مشايخ الشام وكبيرها وعالمها ومرجعها، وجده عبد الغنى المتوفى سنة 1032 كان يدَّرس الفقه في جامع الدرويشية، ووالده إسماعيل المولود سنة 1017 والمتوفى سنة 1062، كان أفضل أهل وقته في الفقه وأعرفهم وصنف كتباً كثيرة أجلها وأحكمها كتابه الأحكام شرح الدرر في 12 مجلدا. ويعود أصل الأسرة إلى أسرة علمية عريقة هي أسرة بني قدامة المقدسية، وجاءها اسم النابلسي حين أطلق على جده الرابع بسبب سكناه في نابلس قبل أن يستوطن دمشق بعدها.

ولد الشيخ النابلسي سنة 1050 في دمشق، ووالدته زينب بنت الشيخ محمد الدويكي، وكان من المتاجرين مع الهند وتوفي فيها، وكان والد النابلسي قد سافر إلى مقر الخلافة العثمانية في الأناضول، وأمه حامل به في دمشق، فبشرها رجل صالح أن حملها ولدٌ وقال لها سميه عبد الغني، وولد النابلسي قبل عودة والده إلى دمشق.

وشغله والده بقراءة القرآن ثم بطلب العلم وحضور مجالسه، فحضر دروس مصطلح الحديث لنجم الدين الغزي، محمد بن محمد بن محمد، المتوفى سنة 1061، ودخل في عموم إجازته، وتوفي والده في سنة 1062، فلم يغير اليتم من طلبه للعلم، واهتمت به والدته التي توفيت سنة 1104 رحمها الله، وكانت شديدة الحنو عليه، وأشار إلى ذلك في أحد أشعاره داعياً لها فقال: 

وإن لي أماً فكن عونها ... تحنو عليَّ حيث ما لي أب‏

وتابع النابلسي التحصيل بعد وفاة والده فقرأ الفقه وأصوله على أستاذه الشيخ أحمد ين محمد القلعي الحنفي، والنحو والمعاني والتبيان والصرف على الشيخ المعمر محمود الكردي نزيل دمشق، والمتوفى سنة 1074، وأخذ الحديث ومصطلحه على مفتي الحنابلة بدمشق الشيخ المحدث محمد بن عبد الباقي الحنبلي البعلي الدمشقي، المولود سنة 1044والمتوفى سنة 1126، وقرأ أيضاً وأخذ على الشيخ الصالح الورع محمد بن أحمد الأسطواني، المتوفى سنة 1072، ودرس على الشيخ إبراهيم بن منصور الفتال المتوفى سنة 1098، وغيرهم من علماء الشام في تلك الأيام.

بانت على الشيخ النابلسي معالم النبوغ و التفوق منذ يفاعته، فقد رثى أباه وهو في الثانية عشرة من عمره، وابتدأ التدريس في الجامع الأموي وهو في العشرين من عمره، فدرَّس الجامع الصغير والأربعين النووية والأذكار للنووي، وكلها في الحديث كما نرى، وفي سن الخامسة والعشرين نظم بديعيته التي سماها  نفحات الأزهار على نسمات الأسحار في مدح النبي المختار، وهي تشمل كافة أنواع البديع اللغوي في حلة مدح المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولجودتها وسعة مواضيعها استبعد بعض أهل الأدب والعلم أن تكون من نظمه، فاقترح عليه أن يشرحها، فشرحها سنة 1079 في مدة شهر شرحاً لطيفاً في مجلد، فبان فضله لكل ذي عينين.

وسلك الشيخ عبد الغني النابلسي طريق التصوف فانتسب للطريقة القادرية سنة 1075 والنقشبندية سنة 1087، وأقبل على مطالعة كتب الشيخ محي الدين ابن العربي وكُتُبِ من نهج نهجه من الصوفية مثل ابن سبعين، عبد الحق بن إبراهيم، المولود بالأندلس سنة 613 والمتوفى سنة 669، والعفيف التلمساني، سليمان بن علي، المولد في المغرب سنة 610 والمتوفى بدمشق سنة 690، وكلهم ممن يقول بوحدة الوجود، وممن يتهمون في عقيدتهم ودينهم، وكان النابلسي يقرئ في الجامع الأموي كتاب الفصوص لابن العربي.

ويبدو أن الشيخ النابلسي دخل في أزمة فكرية عاتية بسبب هذه القضية دامت معه سبع سنوات من سنة 1091 إلى سنة 1098، اعتزل فيها الناس، وأهمل الاعتناء بنفسه ومظهره، وهو أمر أشبه بما نتعارف عليه اليوم بالاكتئاب، إذ يقول معاصره محمد أمين المحبي في كتابه خلاصة الأثر في تراجم أعيان القرن الحادي عشر: إنه صار له في أول أمره أحوال غريبة وأطوار عجيبة، وبقي في داره بقرب الجامع الأموي في سوق العنبرانيين مدة سبع سنوات لم يخرج منها، وأسدل شعره، ولم يقلم أظفاره، وبقي في حالة عجيبة، وصارت تعتريه السودا في أوقاته، وصارت الحساد تتكلم إنه يترك الصلوات الخمس وإنه يهجو الناس بشعره، وقام عليه أهل دمشق، حتى إنه هجاهم وتكلم بما فعلوه معه، ولعل من ذلك ما أورده له الطبيب صلاح الدين القاسمي، أخو جمال الدين، في مقالة في مجلة المقتبس الدمشقية:

يا من تكلم فينا بالذي فيه ... وقعت في كف ضرغام وفي فيه

دُمْ في ظنونك مفتونا فسوف ترى ... مَن الذي منه قبح الفعل يرديه

ولا تقل أي جاه للضعيف يرى ... فإن للبيت ربا سوف يحميه

يا مستبيحين أعراضا محرمة ... بسوء ظن وتلبيس وتمويه

أهكذا ملة الإسلام تأمركم؟ ... أم قد سلكتم عن الإسلام في تيه؟

تبا لكم ولمن قد عاد يتبعكم ... والعبد مولاه في الأعداء يكفيه

ثم أنجاه الله من تلك الأزمة الممتدة بفضل توجهه إلى كتاب الله الكريم والتأمل في معانيه وحكمه الظاهرة والباطنة، فتحولت العزلة إلى خلوة وخرج منها بعد أن نظم على قافية التاء كتابه في التفسير الذي أسماه بواطن القرآن ومواطن الفرقان، ووصل فيه إلى سورة براءة، في قرابة 5000 بيت، وعاد للتعليم والتدريس، وشرع في إلقاء الدروس بالجامع الأموي وغيره من مساجد دمشق، ودرس الأربعين النووية ثم الأذكار النووية وغيرها.

ومما يلفت النظر أنه رحمه الله قد ألف في هذه المرحلة رسالة إيضاح المقصود من معنى وحدة الوجود، وألفها في مجلسين في شعبان سنة  1091، كما هو مذكور في مخطوطتها المحفوظة بجامعة الملك سعود بالرياض، والبالغة 19 صفحة، ولعله ألفها قبل اعتزاله، ولكن المؤلف الأهم الذي يتعلق بهذه المرحلة هو كتابه في الفقه الحنفي الذي أسماه رشحات الأقلام شرح كفاية الغلام، وألفه سنة  1095، وهو شرح لمنظومته هو في الفقه الحنفي، وهو ما يلقي ظلالاً من الشك على ما أورده المحبي عن الاعتزال ومدته وشدته.

وكنت قد ذكرت في ترجمة الإمام المناوي تبايناً بين شخصيته الصوفية وشخصيته العلمية، ويبرز هذا كذلك في  الشيخ النابلسي، حيث يذكر في إجازة صوفية أعطاها لأحد أقرب تلاميذه، أنه تلقى الطريقة النقشبندية من طريقين: من طريق الباطن ومن طريق الظاهر، فأما طريق الباطن وهو طريق الروحانية فقد اتصل عهدنا ومبايعتنا واقتداؤنا في واقعة رأيناها ومطارحة روحانية وجدناها من روحانية الإمام الجليل والشيخ الكامل صاحب التكميل الخوجة علاء الدين عطّار قدس الله روحه ونور ضريحه.‏

وقد خلف الشيخ النابلسي آثاراً لطيفة حول ما قام به من رحلات، وكان أول أسفاره رحلة إلى الروم في شبابه سنة 1075، ولم يؤلف حول هذه الرحلة كتاباً، وإن كان أشار إليها في معرض حديثه عن شيخه النقشبندي الشيخ عبد الرزاق بن شرف الدين الكيلاني الحموي الذي التقى به في هذه الرحلة، وأخذ عنه الطريقة. وبعد خروجه من العزلة أو الخلوة، قام النابلسي في سنة 1100 برحلة إلى بعلبك والبقاع، وكتب فيها كتاباً أسماه حلة الذهب الإبريز في رحلة بعلبك والبقاع العزيز، ثم رحل في السنة التاليه إلى القدس ودوّن رحلته في كتاب أسماه الحضرة الإنسية في الرحلة القدسية، وفي سنة 1105 قام بأطول رحلاته التي شملت سورية ولبنان ومصر ومنها إلى الحجاز حيث أدى فريضة الحج، واستغرقت قرابة 13 شهراً، ودوّن ذكرياته عن الرحلة في كتاب أسماه الحقائق والمجاز في رحلة بلاد الشام ومصر والحجاز، وفي سنة 1112 قام برحلة إلى طرابلس الشام وكتب عنها كتاب التحفة النابلسية في الرحلة الطرابلسية.

وهذه الكتب فريدة في طبيعتها، فهي ليست على قاعدة كتب الرحلات والجغرافية، وإن كانت تصف وصفاً انتقائياً ومتفاوتاً بعض المدن والمعالم والأطلال التي مر بها النابلسي، بل هي أقرب إلى كتب الأدب والسيرة الذاتية، وتصف كثيراً من جوانب الحياة العلمية والأدبية والاجتماعية في المناطق التي مر أو نزل بها النابلسي، بل وتمنحنا في طياتها بعض تفاصيل الحياة العائلية والشخصية للشيخ النابلسي وأسرته، مما لا نجده في مكان آخر، وتتبين لها فيها شخصية الشيخ النابلسي وطريقة حياته على نمط كان معروفاً مألوفاً في دمشق الشام إلى عهد قريب، فهو مولع بالطبيعة والنزهات، يجمع بين الترويح في "السيران" والدرس والمذاكرة، في علم متين وتوجيه رصين، وقرب من العامة، وصحبة للخاصة، يتمتع باحترام الجميع وتبجيلهم، وهو مرجعهم الفرد وكلمته بينهم لا تُرد.

كان الشيخ النابلسي سيال القلم غزير التأليف، بلغ عدد مؤلفاته ما يزيد على 330 مؤلفاً، ما بين كتاب ذي مجلدات أو رسالة ذات صفحات، وأود أن أشير إلى أن استعراض تواريخ تأليفها بظهر أن قدراً كبيراً منها قد صنفه الشيخ في كهولته، ويضيق المقام عن تعدادها بَلْهَ استعراضها، ولكنني أتناول بعض ما أراه مناسباً منها لتجلية جوانب شخصية هذا الإمام الكبير، وتعدد معارفه وسعة علومه.

ومن أول كتبه وأشهرها بين العامة كتاب تعطير الأنام في تعبير المنام، فقد ألفه أوائل سنة 1069، ورتبه على حروف المعجم، على الحرف الأول من الكلمة، وقدم له بمقدمة في علم التعبير، وشروط الخوض فيه، وأخلاق المعبرين، وقواعد التعبير، وما ورد في القرأن والآثار من ذلك.

وهناك كتاب يوانع الرطب في بدائع الخطب الذي ألفه سنة 1085، وهو كتاب يتضمن 51 خطبة تشمل أسابيع السنة كلها، أعدها رحمه الله لتكون مرجعاً لخطباء الجوامع، وكثير منها لا يزال غض الكلام يانع الجنى، ويدل تأليفه لها على شخصية إصلاحية ذات نظرة عملية شمولية.

ومنها كتابه مناجاة الحكيم ومناغاة القديم، وهو كتاب غير مألوف يتضمن نجاوى بين النابلسي وبين الله عزوجل، يتبين فيها استحضاره الدائم لعظمة وغنى الخالق وضعف وفقر المخلوق.

ومنها كتابه إيضاح الدلالات في سماع الآلات، الذي ألفه سنة  1088، والذي يرى فيه بعد مقدمة أصولية فقهية طويلة إباحة السماع على طريقة الصوفية، وكيف لا يرى الشيخ إباحة السماع وجُلُّ قصائده في مدح النبي صلى الله عليه وسلم مما ألفه لهذه المجالس وكثير منها يُتغنى به إلى يومنا هذا.

ومنها رسالته إيضاح المقصود من معنى وحدة الوجود، وتناول فيها هذه القضية بتخريج فقهي فحواه أن القائلين يمصطلح وحدة الوجود ما قصدوا إلا أن الله عزوجل خالق الأشياء وموجدها، ولولاه ما كان لها وجود، وهو تخلص لطيف لو طاوعته عبارات القائلين بذلك.

ومنها كتاب كنز الحق المبين في أحاديث سيد المرسلين، والذي صنفه سنة 1097، وهو اختصار لكتاب كنز الحقائق في حديث خير الخلائق والذي صنفه الإمام عبد الرؤوف المناوي، والذي ضم 10.000 حديث، فاختصرها النابلسي إلى 3830 حديث.

ومنها كتابه الصلح بين الاخوان في حكم اباحة الدخان، ذلك إن تدخين التبغ انتشر في تلك الفترة، وانقسم العلماء بين تحريمه وتحليله، فكتب النابلسي رسالته في إباحته، وكان هو ممن يدخنون كما يتبين من ثنايا كتب رحلاته، وكان هذا طبعاً قبل اكتشاف أضراره التدخين الشديدة على الصحة.

بل صنف رحمه الله كتاباً في الزراعة وهو مثال لاتساع مواضيع مصنفاته ومثال من طرف آخر للمختصرات الشائعة في تلك العصور، وأصل الكتاب: جامعُ فرائد المَلاحة، في جوامع فوائد الفلاحة، الذي ألفه الرضي الغزي، محمد بن محمد المولود بدمشق سنة 862 والمتوفى بها سنة 935، وسمى النابلسي مختصره علم الملاحة في علم الفلاحة.

ولعل من آخر ما كتبه النابلسي أرجوزة في خلفاء بني عثمان، نظمها بعد ربيع الأول من عام 1143، وهي بمثابة ذيل على أرجوزة تحفة الظرفاء التي نظمها شمس الدين الباعوني الدمشقي، محمد بن أحمد المتوفى سنة 870، وبين النابلسي سبب نظمه لها في أولها فقال:

حتى إلى الغوريِّ في الملوكِ ... أوصلهم مُسَيِّر السلوكِ

فرمت أن أفوز بالتذييل ... لما أتوا به بلا تطويلِ

وأنظم الملوك بالترتيب ... مع اختصار اللفظ والتهذيبِ

وتدل كتبه رحمه  الله على اطلاع موسوعي، وحنكة في اختيار المواضيع، وموهبة في استحضار جوانب الموضوع الذي هو بصدده، ومهارة في تخريج القضايا ومقايساتها لا تتأتى إلا لكبار الفقهاء، وكل ذلك في لغة سلسلة سهلة، لا تقعر فيها أو إغراب.

أما تلاميذه فهم أكثر من أن يحصيهم العدد، فقد أمد الله في عمره فمرت عليه أجيال من طلبة العمر، إلى جانب رحلاته في البلاد والتقائه بعدد  كبير من أهل العلم وطلبته.

وللأستاذ محمد مطيع الحافظ دراسة لترجمة مخطوطة للشيخ النابلسي صنفها سبطه محمد كمال الدين الغزي  بدمشق، وينقل عنه فيها أنه تولى إفتاء السادة الحنفية في دمشق سنة 1113، ولكنني أستبعد ذلك لأن المرادي لم يذكر ذلك في سلك الدرر في ترجمته للنابلسي أو في ترجمته للمفتي السابق الشيخ إسماعيل الحايك، إسماعيل بن علي، المولود سنة 1046، بل يورد أن من تولى الإفتاء بعد الشيخ الحايك هو الشيخ أبو الصفا بن أحمد العدوي، وأنه بقي فيه إلى حين وفاته سنة 1120. كذلك يورد المرادي في ترجمة خليل بن أسعد الصدِّيقي الدمشقين المولود سنة 1098، أنه لما توفي مفتى الحنفية محمد بن إبراهيم العمادي في سنة 1135، انعقد إجماع أهالي دمشق على أن يصيروا مفتياً الأستاذ الشيخ عبد الغني النابلسي فذهبوا لعنده وأبرموا عليه في ذلك فلم يرضى وأبى، فلم يزالوا يلحون عليه ويبرمون جميعهم إلى أن قبلها، فكتبوا العروض للدولة العلية بذلك وصار الأستاذ النابلسي يكتب على الأسئلة الفقهية، ولكن الأخبار رجعت بورود الفتيا للصدِّيقي، الذي ندم على فعله مع الشيخ النابلسي، لكونهم محبتهم معه قديمة وكان الأستاذ مرة فدى والد المترجم بعينه لأمر أوقع فيه بالهلاك، وصار الاستاذ بعين واحدة إلى أن مات.

وفي سنة 1115 أُسند إلى الشيخ النابلسي تدريس تكية السلطان سليم المعروفة بالسليمية، فدرّس فيها تفسير البيضاوي مدة 28 سنة إلى وفاته، وصنف شرحاً عليه أسماه التحرير الحاوي بشرح تفسير البيضاوي، في ثلاث مجلدات وصل فيها إلى ثلث سورة البقرة.

وفي سنة 1125 جرى عزل النابلسي عن التدريس في السليمية لمدة أيام ثم أعيد إليه، وكان سبب ذلك أن شيخ الإسلام في السلطنة محمد عطاء الله أفندي كان من قبل قاضياً في دمشق وأنكر على النابلسي إباحته للدخان وشربه له، وجرت بينه وبين النابلسي مباحثة طويلة في الموضوع، ألف النابلسي على إثرها رسالة أسماها السيف الماضي في عنق عطاء الله القاضي، فانتهز فرصة شكاية وصلته من آل المحاسني وعزل النابلسي، ثم عُزِلَ شيخ الإسلام نفسُه .

كانت دار آل النابلسي في سوق العنبرانيين قبلي الجامع الأموي، ثم خرج من المنطقة إلى الصالحية في سفح جبل قاسيون وبنى بها داراً في سنة 1119، ثم بنى بها قبة سنة 1126 ليدفن فيها عند عند وفاته، ثم بنى حفيده الشيخ مصطفى بن إسماعيل إلى جانب ضريحه مسجداً جامعاً فخماً بمقياس ذلك الزمان، لا يزال قائماً معروفاً إلى يومنا هذا.

ومن طريف ما أورده الأستاذ الحافظ في دراسته نقلاً عن سبطه الغزي أن الشيخ النابلسي كان لديه قصرٌ جميعه من الخشب؛ يشتمل على شبابيك وكتبية، وتحته إيوان مرتفع على الأرض، وله عزابات من الحديد تشده، ركب بعضه على بعض، فيفك وينقل من مكان إلى مكان من البساتين وغيرها، وقد كان اصطناعه للأستاذ في سنة 1139، وقد جعل له الأستاذ تاريخاً من نظمه:‏

قد قيل لي إن القصور جميعها‏  ... مبنية بحجارة تستثقل‏

أيكون قصر في البيوت وتارة‏ ... ‏تلقاه يحوي ذاك روض مبقل؟‏

والكل من خشب يشد حديده‏ ... ‏أجزاءه فهو المخف المثقل‏

فأجبت لا عجب وفي التاريخ ها‏ ... قصر يفك كما يشاء وينقل‏

واتخذ لذلك القصر بعض المحبين للأستاذ بغالاً عشرة؛ تحمله إذا أراد السير إلى مكان من منتزهات دمشق وغيرها.‏

كان الشيخ عبد الغني النابلسي ينظم الشعر بديهة، ومن أول ما نظمه قصيدة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، المعروفة بالبديعية، ولجودتها استبعد بعض أهل الأدب والعلم أن تكون من نظمه، فاقترح عليه أن يشرحها، فشرحها في مدة شهر شرحاً لطيفاً في مجلد، وأشعاره كثيرة مجموعة في ديوانه ومنثورة في كثير من الكتب، ومن طريف أشعاره ما قاله حين خرج أهل دمشق إلى صلاة الاستسقاء يستسقون فلم يسقوا، وجرت الصلاة في يوم أضاف فيه السلطان مظلمة سلطانية إلى ما سبق له من أمثالها، فقال في ذلك:

خرجوا ليستسقوا الغداة فأُمطٍروا ... سحبُ الجرائم من سما الحكام

ودَعَوا فحين تصعدت أنفاسهم ... رُدَّت منكسة من الآثام

ولو استقاموا في الأمور تتابعت ... نِعَمُ الإله ومنة الإسلام

إن السهام إذا تعوج نصلها ... عادت فأثر عودها بالرامي

ويأخذ الشعر حيزاً هاماً في مؤلفاته، مفرداً في دواوينه ومدائحه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ثنايا كتبه في مواضيع مختلفة، ومن مراثيه ما قاله في أخيه يوسف الذي كان معه في رحلة الحجاز فأدركه الموت فدفنه قرب رابغ في آخر ذي الحجة من عام 1105، قال:

بكيت على مفارقة الشقيق ... بدمع أحمر مثل الشقيق

أخ قد كان بي برّاً شفيقاً ... فوا أسفي على البرّ الشفيق

يرى ما لا أرى في شأن عيشي ... ويتعب نفسه في دفع ضيقي

شقيقي يا أخي أنت ابن أمي ... رعاك اللّه من خل صديق

عاش الشيخ عبد الغني النابلسي 93 سنة حافلة بالتعلم والتعليم والتأليف والرحلة، ومتعه الله بقوته وعقله فكان يصلي النافلة من قيام ويصلي التراويح في داره إماماً بالناس إلى أن مات، ومتعه الله ببصره حتى بعد أن جاوز التسعين، فكان يقرأ الخط الدقيق ويكتب بيده تصانيفه كشرح البيضاوي وغيره.

توفي الشيخ عبد الغني النابلسي رحمه الله بعد مرض لم يمهله طويلاً، وكانت له جنازة حافلة، وغسله بيده وكفنه وآواه التراب بوصية منه الشيخ علي الواعظ البرادعي، علي بن أحمد البعلي ثم الدمشقي، المولود ببعلبك سنة 1092،  والمتوفى بدمشق سنة 1155، وكان النابلسي يحبه ويسر للقائه، ودفن بقبة كان قد أنشأها في أواخر سنة 1126، ثم بنى حفيده الشيخ مصطفى بن إسماعيل إلى جانب ضريحه مسجداً جامعاً فخماً بمقياس ذلك الزمان، ولا يزال المسجد قائماً عامراً بفضل الله.

ومن أبرز ابناء الشيخ ابنه الأكبر إسماعيل الذي ولد سنة 1085 وتوفي سنة 1162 ودفن بجوار والده، ومن أحفاد الشيخ فضيلة الداعية الدكتور محمد راتب النابلسي، وإذ عرفت الأصل الباسق فقد تبين لك فضل الفرع الزاهر، أمد الله في عمره ونفع به.
 

 
log analyzer