الجمعة، 31 مايو 2013

حدث في العشرين من رجب


في العشرين من رجب من عام 101 توفي، عن 38 عاماً، الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم، في دير سمعان قرب المعرة في سورية، بعد خلافة دامت ثلاثين شهراً، وعادت بالناس بعدلها وبساطتها  إلى أيام الإسلام الأولى وعهد الخلافة الراشدة، بعد أن اختفت معالمها تحت ركام كثيف من الإقبال على الدنيا وملذاتها، والإعراض عن العدل والإنصاف، ولذا عدَّه كثير من العلماء والمؤرخين يمثابة خامس الخلفاء الراشدين. قال سفيان الثوري رحمه الله: أئمة العدل خمسة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز. وسيرة عمر بن عبد العزيز قبل الخلافة وبعدها فيها جوانب كثيرة من الخير والعبرة، تضيق مقالة مثل هذه عن إيراد جملة منها بَلْهَ كلها، وقد ألفت الكتب والفصول الطوال في عدله وزهده وإدارته رحمه الله تعالى.

ولد عمر بن عبد العزيز في المدينة المنورة سنة 63، وكان جده مروان بن الحكم قد عين والده عبد العزيز، ويلقب أبا الأصبغ، وهو أكبر أولاده، والياً على مصرسنة 65، وبقي والياً عليها حتى وفاته سنة 85، وكان يقظا عارفا بسياسة البلاد، شجاعا جوادا، تنصب حول داره كل يوم ألف قصعة للآكلين، وتحمل مئة قصعة على العجل إلى قبائل مصر. وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، وقصة تزويج عمر لها لابنه عاصم  بسبب خشيتها الله عزوجل مشهورة معروفة.

وقد ذكر الأستاذ الزركلي في الأعلام أن ولادة عمر بن عبد العزيز كانت في المدينة، ثم أشار أن هناك خلافاً في مكان ولادته ، فمن المؤرخين من يقول إنه ولد بالمدينة، ومنهم، مثل ابن خلكان، من يقول إنه ولد بحلوان. ويبدو أن الصواب مع ما اختاره الزركلي، إذ لم يخرج والده إلى حلوان إلا بعد ولادته بسنوات، ويذكر الكندي في كتابه ولاة مصر: ووقع الطاعون بمصر في سنة 70، فخرج عبد العزيز منها إلى الشرقية متبدياً، فنزل حلوان فأعجبته، فاتخذها وسكنها، وبنى بحلوان الدور والمساجد وغيرها أحسن عمارة وأحكمها، وغرس كرمها ونخلها.

ولا خلاف في أنه نشأ بالمدينة وأخذ عن كبار علمائها، إذ أرسله والده إلى المدينة يتأدب بها، وأوكل أمر تأديبه إلى الفقيه المحدث صالح بن كيسان، المتوفى معمراً سنة 140، فكان يلزِمُه الصلوات؛ فأبطأ يوما عن الصلاة فقال: ما حبسك؟ قال: كانت مُرَجِّلتي تُسَكِّن شعري! فقال: بلغ منك حبك تسكين شعرك أن تؤثره على الصلاة؟ فكتب إلى عبد العزيز يذكر ذلك ، فبعث إليه عبد العزيز رسولا فلم يكلمه حتى حلق شعره.

وكان عمر يدرس على عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي، مفتي المدينة وأحد فقهائها السبعة، فبلغ عبيد الله أن عمر ينتقص علي بن أبي طالب، فأتاه عمر، فقام يصلي، وأرز عمر فلم يبرح حتى سلم من ركعتين، ثم أقبل على عمر بن عبد العزيز فقال: متى بلغك أن الله سخط على أهل بدر بعد أن رضي عنهم؟ فعرف عمر ما أراد؛ فقال: معذرة إلى الله وإليك، والله لا أعود. فما سُمِع عمر بن عبد العزيز، بعد ذلك ذاكرا عليا إلا بخير.

وعمر بن عبد العزيز تابعي التقى بعدد من الصحابة، وروى عنهم، روى عن أنس بن مالك وصلى أنس خلفه، وقال: ما رأيت أحدا أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى. وكان عمر يتم الركوع والسجود، ويخفف القيام والقعود. واستوهب من الصحابي سهل بن سعد الساعدي الخزرجي الأنصاري رضي الله عنه، المتوفى سنة 91 عن نحو 100 عام، قدحا شرب فيه النبي صلى الله عليه وسلم فوهبه له.

وبفضل هذه التنشئة صار عمر بن عبد العزيز عالماً بالحديث والفقه، روى عنه عديد من التابعين وغيرهم، قال الإمام مالك ابن أنس: كان عمر بن عبد العزيز بالمدينة قبل أن يستخلف وهو يُعنى بالعلم ويجالس أهله، ويصدر عن رأي سعيد ابن المسيب، وكان سعيد لا يأتي أحدا من الأمراء غير عمر، أرسل إليه عبدالملك فلم يأته، وأرسل إليه عمر فأتاه، وكان عمر يكتب إلى سعيد في علمه.

واختلط عمر بن عبد العزيز في هذه التنشئة بعامة الناس رغم انتسابه إلى طبقة الأمراء، واستفاد من ذلك  أن أصبح ذا دربة بالتعامل مع العامة والصبر عليهم، قيل ليحيى بن الحكم بن أبي العاص: ما بال عمر بن عبد العزيز ومولده مولده ومنشأه منشأه جاء على ما رأيت؟ قال: إن أباه أرسله وهو شاب إلى الحجاز سُوقة، فكان يُغضِبُ الناس ويُغضِبونه، ويمحِّصُهم ويمحِّصُونه، والله لقد كان الحجاج وما عربيٌ أحسن منه أدبا، فطالت ولايته فكان لا يَسمع إلا ما يحب، فمات وإنه لأحمق سئ الادب.

ثم بعث إليه عمه الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان عند وفاة أبيه، فخلطه بولده وقدَّمه على كثير منهم، وجعله على الحج  من سنة 87، وزوجه بابنته فاطمة، وهي التي يقول فيها الشاعر:

بنت الخليفة، والخليفة جدها ... أخت الخلائف، والخليفة زوجها

فلم تكن امرأة تستحق هذا البيت إلى يومنا هذا غيرها.                                                                                                                                                       

وولي عمر بن عبد العزيز المدينة سنة 87 في زمن الوليد بن عبد الملك، فأول ما جاءها دعا عشرة نفر من فقهاء البلد: عروة بن الزبير، وعبيدالله بن عبدالله بن عتبة، وأبا بكر بن عبد الرحمان بن الحارث، وأبا بكر بن سليمان بن أبي خيثمة، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وخارجة بن زيد بن ثابت، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: إني أدعوكم لأمر تؤجرون عليه وتكونون فيه أعوانا على الحق، ما أريد أن أقطع أمرا إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحدا يتعدى أو بلغكم عن عامل ظلامة فأحرج بالله على أحد بلغه ذلك إلا أبلغني.  ثم  عزله الوليد سنة 93 بدسيسة من الحجاج إذ كان عمر قد طالبه بعزله عن العراق، فاضغنها له الحجاج.واستقضى عمر بن عبد العزيز في ولايته على المدينة أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، ثم جعله أمير المدينة حين آلت إليه الخلافة، قال الإمام مالك: كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن يكتب له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند ضمرة بنت عبد الرحمن والقاسم بن محمد، فكتبها له. قال مالك: فسألت ابنه عبد الله بن أبي بكر عن تلك الكتب؟ فقال: ضاعت.

وكان عمر بن عبد العزيز بفضل توفيق الله وبفضل دراسته العلم على يد الصحابة وأعلام التابعين، موفقاً مسدداً في أقضيته وقرارته، قال قادم البربري: ذاكرت ربيعة الرأي، ربيعة بن فروخ المتوفى سنة 136، شيئاً من قضاء عمر بن عبد العزيز إذ كان بالمدينة، فقال ربيعة: كأنك تقول إنه أخطأ، والذي نفسي بيده ما أخطأ قط. وهذا أمر اعترف به لعمر بن عبد العزيز كبار علماء عصره، قال الإمام المفسر مجاهد بن جبر المولود سنة 21 والمتوفى سنة 104: أتيناه نعلِّمه، فما برِحنا حتى تعلمنا منه. وقال ميمون بن مهران عالم الجزيرة الفراتية ومحدثها، المتوفى سنة 117: كانت العلماء عند عمر تلامذة.

ولما أدرك الموت سليمان بن عبد الملك سنة 99 استخلف ابن عمه عمر عبد العزيز بنصيحة جليسه العالم الصالح رجاء بن حيوة بن جرول الكندي، المتوفى سنة 112، قال عبد الرحمن بن حسان الكناني: لما مرض سليمان بن عبد الملك المرض الذي توفي فيه، وكان مرضه بدابق، ومعه رجاء بن حيوة؛ فقال لرجاء بن حيوة: يا رجاء من لهذا الأمر من بعدي؟ أستخلف ابني؟ قال: ابنك غائب. قال: فالآخر؟ قال: ذاك صغير. قال: فمن ترى؟ قال: أرى أن تستخلف عمر بن عبد العزيز. قال: أتخوف من بني عبد الملك ألا يرضوا. قال: فول عمر بن عبد العزيز ومن بعده يزيد بن عبد الملك، وتكتب كتابا وتختم عليه وتدعوهم إلى بيعته مختوما عليها. قال: لقد رأيت، ائتني بقرطاس.

قال: فدعا بقرطاس فكتب فيه العهد لعمر بن عبد العزيز ومن بعده يزيد بن عبد الملك، ثم ختمه، ثم دفعه إلى رجاء، قال: اخرج إلى الناس فمرهم فليبايعوا على ما في هذا الكتاب مختوما. قال: فخرج إليهم رجاء فجمعهم، وقال: إن أمير المؤمنين يأمركم أن تبايعوا لمن في هذا الكتاب من بعده. قالوا: ومن فيه؟ قال: مختوم، لا تُخبرون بمن فيه حتى يموت. قالوا: لا نبايع حتى نعلم من فيه. قال: فرجع رجاء إلى سليمان؛ فقال له: انطلق إلى أصحاب الشرط والحرس، وناد: الصلاة جامعة، ومر الناس فليجتمعوا، ومرهم بالبيعة على ما في هذا الكتاب، فمن أبى أن يبايع منهم فاضرب عنقه. قال: ففعل، فبايعوا على ما فيه.

قال رجاء: فلما خرجوا خرجت إلى منزلي، فبينا أنا أسير في الطريق إذ سمعت جلبة موكب، فالتفت فإذا هشام، فقال لي: يا رجاء، قد علمت موقعك منا، وإن أمير المؤمنين قد صنع شيئا لا أدري ما هو، وأنا أتخوف أن يكون قد أزالها عني، فإن يكن عدلها عني فأعلمني ما دام في الأمر نَفَس، حتى أنظر في هذا الأمر قبل أن يموت. قال: قلت: سبحان الله، يستكتمني أمير المؤمنين أمرا أطلعك عليه! لا يكون ذاك أبدا؛ فأدارني وألاصني، فأبيت عليه. قال: فانصرف.

فبينا أنا أسير إذ سمعت جلبة خلفي فإذا عمر بن عبد العزيز، فقال لي: يا رجاء، إنه قد وقع في نفسي أمر كثير من هذا الرجل، أتخوف أن يكون قد جعلها إلي، ولست أقوم بهذا الشأن، فأعلمني ما دام في الأمر نفس لعلي أتخلص منه ما دام حيا. قلت: سبحان الله، يستكتمني أمير المؤمنين أمرا أطلعك عليه!؛ فأدارني وألاصني، فأبيت عليه.

قال رجاء: وثقل سليمان، وحجب الناس عنه حتى مات؛ فلما مات أجلسته وأسندته وهيأته، وخرجت إلى الناس، فقالوا: كيف أصبح أمير المؤمنين؟ فقلت: إن أمير المؤمنين أصبح ساكنا؛ وقد أحب أن تسلموا عليه، وتبايعوا على ما في هذا الكتاب، والكتاب بين يديه. قال: فأذنت للناس فدخلوا وأنا قائم عنده؛ فلما دنوا قلت: إن أميركم يأمركم بالوقوف؛ ثم أخذت الكتاب من عنده ثم تقدمت إليهم فقلت: إن أمير المؤمنين يأمركم أن تبايعوا على ما في هذا الكتاب. قال: فبايعوا، وبسطوا أيديهم؛ فلما بايعتهم على ما فيه أجمعين وفرغت من بيعتهم قلت لهم: آجركم الله في أمير المؤمنين. قالوا: فمن؟ فافتتح الكتاب فإذا فيه العهد لعمر بن عبد العزيز، فلما نظرت بنو عبد الملك تغيرت وجوههم، فلما قرؤوا من بعده يزيد بن عبد الملك كأنهم تراجعوا؛ فقالوا: أين عمر بن عبد العزيز؟ فطلبوه فلم يوجد في القوم. قال: فنظروا فإذا هو في مؤخر المسجد. قال: فأتوه، فسلموا عليه بالخلافة، فعقر فلم يستطع النهوض حتى أخذوا بضبعيه، فرَقَوا به المنبر، فلم يقدر على الصعود حتى أصعدوه، فجلس طويلا لايتكلم، فلما رآهم رجاء جلوسا قال: ألا تقومون إلى أمير المؤمنين فتبايعونه؟ قال: فنهض القوم إليه فبايعوه رجلا رجلا. قال: فمد يده إليهم. قال: فصعد إليه هشام فلما مد يده إليه قال هشام: إنا لله وإنا إليه راجعون! فقال عمر: نعم، إنا لله وإنا إليه راجعون! حين صار يلي هذا الأمر أنا و أنت.

قال: ثم قام عمر فحمد الله و أثنى عليه، وقال: أيها الناس إني لست بقاض ولكني منفذ، ولست بمبتدع ولكني متبع، وإن حولكم من الأمصار و المدن فإن هم أطاعوا كما أطعتم فأنا واليكم، وإن هم نقموا فلست لكم بوال، إن الرجل الهارب من الإمام الظالم ليس بظالم، ألا وإن الإمام الظالم هو العاصي، ألا لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق.

ثم نزل يمشي؛ فأتاه صاحب المراكب، فقال: ما هذا؟ قال: مركب للخليفة. قال: لا حاجة لي فيه، إيتوني بدابتي. فأتوه بدابته فركبها ثم خرج يسير، وخرجوا معه، فمالوا إلى طريق؛ قال: إلى أين؟ قالوا: إلى البيت الذي يهيأ للخليفة. قال: لا حاجة لي فيه، انطلقوا بي إلى منزلي. قال رجاء: فأتى منزله، فنزل عن دابته ثم دعا بداوة وقرطاس، وجعل يكتب بيده إلى العمال في الأمصار، ويمل على نفسه. قال رجاء: فلقد كنت أظن سيضعف، فلما رأيت صنيعه في الكتاب علمت أنه سيقوى بهذا ونحوه.

وقال مولى لعمر بن عبد العزيز له حين رجع من جنازة سليمان: ما لي أراك مغتما؟ فقال عمر: لمثل ما أنا فيه يُغتَمّ؛ ليس أحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في شرق ولا غرب إلا وأنا أريد أن أودي إليه حقه غير كاتب ولا طالبه مني.

وكان عمر رحمه الله يبايع الناس في بساطة متناهية، بايعه رجل، فمد يده إليه، ثم قال: بايعني بلا عهد ولا ميثاق؛ تطيعني ما أطعتُ الله، فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليك. فبايعه.

وكانت أول خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز أن حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، من صحبنا فليصحبنا بخمس وإلا فلا يقربنا؛ يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها، ويعيننا على الخير بجهده، ويدلنا من الخير على ما لا نهتدي إليه، ولا يغتابن عندنا الرعية، ولا يعترض فيما لا يعنيه. فانقشع عنه الشعراء والخطباء، وثبت الفقهاء والزهاد؛ وقالوا: ما يسعنا أن نفارق هذا الرجل حتى يخالف فعله قوله.

وحدث بعض خاصة عمر بن عبد العزيز إنه حين أفضت إليه الخلافة سمعوا في منزله بكاء عاليا؛ فسأل عن البكاء، فقيل له: إن عمر بن عبد العزيز خيَّر جواريه، فقال: إنه قد نزل بي أمر شغلني عنكن، فمن أحب أن أعتقه عتقته، ومن أراد أن أمسكه أمسكته، لم يكن مني إليها شيء؛ فبكين إياسا منه.

وكانت مدة خلافة عمر قريباً من 30 شهراً، وهي مدة زمنية قصيرة لإحداث هذا التأثير الكبير الذي بقيت الناس تتحدث به أجيالاً، ولكننا لا نستغرب هذا لو تبينا منهج عمر في الحكم والإنفاق على صعيد الخليفة ومن يليه من بني أمية، فهو لما ولي الخلافة بدأ بلُحمته و أهل بيته، فأخذ ما بأيديهم وسمى أموالهم مظالم، ففزعت بنو أمية إلى فاطمة بنت مروان عمته، فأرسلت إليه: إنه قد عناني أمر لا بد من لقائك فيه؛ فأتته ليلا؛ فأنزلها عن دابتها. فلما أخذت مجلسها قال: يا عمة، أنت أولى بالكلام فتكلمي لأن الحاجة لك. قالت: تكلم يا أمير المؤمنين. قال: إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة ولم يبعثه عذابا إلى الناس كافة، ثم اختار له ما عنده فقبضه الله وترك لهم نهرا شُربهم سواء، ثم قام أبو بكر فترك النهر على حاله، ثم ولي عمر فعمل علي أمر صاحبه، ثم لم يزل النهر يشتقُّ منه يزيد ومروان وعبد الملك وسليمان حتى أفضى الأمر إليَّ وقد يبس النهر الأعظم، ولن يروى أصحاب النهر الأعظم حتى يعود النهر إلى ما كان عليه.

فقالت: حسبك، قد أردت كلامك ومذاكرتك، فأما إذا كانت مقالتك هذه فلست بذاكرة لك شيئا أبدا؛ فرجعت إليهم فأبلغتهم كلامه.

قال عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب: إنما ولي عمر بن عبد العزيز سنتين ونصفا، ثلاثين شهرا، لا والله ما مات عمر حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون للفقراء، فما يبرح حتى يرجع بماله يتذكر من يضعه فيهم فلا يجده، فيرجع بماله؛ قد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس.

وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن وهو بالعراق: أن أخرج للناس أعطياتهم. فكتب إليه عبد الحميد: إني قد أخرجت للناس أعطياتهم وقد بقي في بيت المال مال. فكتب إليه: انظر كل من أدان من غير سفه ولا سرف فاقض عنه. فكتب إليه: إني قد قضيت عنهم وبقي في بيت مال المسلمين مال. فكتب إليه: أن انظر كل بِكر ليس له مال، فشاء أن تزوجه فزوجه وأصدِق عنه. فكتب إليه: إني قد زوجت كل من وجدت ، وقد بقي في بيت مال المسلمين مال. فكتب إليه بعد مخرج هذا: أن انظر من كانت عليه جزية، فضعف عن أرضه فأسلفه ما يقوى به على عمل أرضه، فإنا لا نريدهم لعام ولا لعامين.

ومما فعله عمر بن عبد العزيز في خلافته أنه ردَّ أرض فَدَك في أولاد فاطمة رضي الله عنها، وفدك قرية بينها وبين المدينة يومان أفاءها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم في سنة 7 صلحاً، فهي مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فكانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يضعها حيث يشاء، وبعد وفاته قالت فاطمة رضي الله عنها لأبي بكر: إن رسول اللَه صلى الله عليه وسلم نحلنيها، فقال أبو بكر رضي الله عنه أريد لذلك شهوداً ولهذا قصة ليس هاهنا موضعها، ثم أدى اجتهاد عمر بن الخطاب لما ولي الخلافة وفتحت الفتوح واتسعت على المسلمين أن يردها إلى ورثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه والعباس بن عبد المطلب يتنازعان فيها فكان علي يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم جعلها في حياته لفاطمة وكان العباس يأبى ذلك ويقول: هي ملك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا وارثه. فكانا يتخاصمان إلى عمر رضي الله عنه فيأبى أن يحكم بينهما ويقول: أنتما أعرفُ بشأنكما أما أنا فقد سلمتها إليكما، فاقتصدا، فما يؤتى واحد منكما من قلة معرفة.

فلما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة قال لقريش ووجوه الناس: إن فدك كانت بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يضعها حيث أراه الله، ثم وليها أبو بكر ففعل مثل ذلك، ثم وليها عمر ففعل مثل ذلك، ثم إن مروان أقطعها فوهبها لمن لا يرثه من بني بنيه، فكنت أحدهم، ثم ولي الوليد فوهب لي نصيبه، ثم ولي سليمان فوهب لي نصيبه، ثم لم يكن من مالي شيء أرد علي منها؛ ألا وإني قد رددتها موضعها. قال: فانقطعت ظهور الناس، ويئسوا من المظالم.

وكانت خلفاء بنو أمية قد أمرت بسب على رضي الله عنه على المنابر يوم الجمعة، وكانوا يقولون: لعن الله أبا تراب. فكتب عمر بن عبد العزيز إلى ولاته بإيقاف ذلك، وأبدل بالسب في الخطبة قوله تعالى في سورة الحشر: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾.

وكان عمر رضي الله عنه يراعي ما اعتاده الناس وساروا عليه، ويحملهم على الحق والعدل بالرفق والتدرج، متأسياً بما رواه مسلم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة: يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه. وذكر ميمون بن مهران، قال: سمعت عمر بن عبد العزيز قال: لو أقمت فيكم خمسين عاما ما استكملت العدل، و إني لأريد الأمر من أمر العامة أن أعمل به فأخاف أن لا تحمله قلوبهم، فأخرج معه طمعا من طمع الدنيا، فإن أنكرت قلوبهم هذا سكنت لهذا.

وكان عمر بن عبد العزيز يكتب إلى ولاته: إنما أهلك من كان قبلكم من الولاة أنهم كانوا يحبسون الخير حتى يُشترى منهم، ويبذلون الشر حتى يفتدى منهم. وكان يقول: إن الوالي بمنزلة السوق يُجلَب إليها ما ينفُقُ فيها، فإن كان بَرا أتوه ببرهم، وإن كان فاجراً أتوه بفجورهم.

وقال عمر بن عبد العزيز لزوجته فاطمة بنت عبد الملك: إني نظرت إلي فوجدتني قد وليت هذه الأمة صغيرها وكبيرها، وأسودها وأحمرها، ثم ذكرت الغريب الضائع، والفقير المحتاج، والأسير المفقود، وأشباههم، في أقاصي البلاد و أطراف الأرض فعلمت أن الله سائلي عنهم، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم حجيجي فيهم، فخفت أن لا يثبت لي عند الله عذر ولا يقوم لي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة، فخفت على نفسي خوفا دمع له عيني، ووجل له قلبي؛ فأنا كلما ازددت لهذا ذكرا ازددت منه وَجَلا.

وكان عمر بن عبد العزيز عابداً متبتلاً ملك عليه خوف الله نفسه، ولكنه فهم تقوى الله فهماً يليق بما منحه الله إياه من السلطان، قال رحمه الله: ليس تقوى الله بصيام النهار وقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك، ولكن تقوى الله ترك ما حرم الله وأداء ما افترض الله، فمن رزق بعد ذلك خيرا فهو خير إلى خير. ولا يعني هذا إهمال العبادات والحرص على الحسنات، فقد ورد أنه كان لا يدع النظر في المصحف كل يوم ولكن لا يُكثِرْ، وذلك لإن في وقته حقاً للأمة التي امتدت حدودها من أفغانستان إلى الأندلس.

ومن إنجازات عمر بن عبد العزيز في ولايته على المدينة توسعة المسجد النبوي بإشرافه، وكذلك الحفاظ على محمياتها الطبيعية التي حماها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لا يؤتي بأحد قطع من الحمى شيئاً، وإن كان عوداً واحداً، إلا ضربه ضرباً وجيعا. ومن إنجازاته في خلافته أن جعل الأندلس ولاية مستقلة بعد أن كانت تتبع أفريقية، وأمر ببناء الجسر الأعظم على نهر قرطبة، وقام عامله على العراق عدي بن أرطاة الفزاري بفتق نهر من بثق نهر شيرين في البصرة، ولما فرغ عدي منه كتب إلى عمر بن عبد العزيز إني احتفرت لأهل البصرة نهراً عذُبَ به مشربهم، وجادت عليه أموالهم، فلم أر لهم على ذلك شكراً، فإن أذنت لي قسمت عليهم ما أنفقته عليه. فكتب إليه عمر: إني لا أحسب أهل البصرة عند حفرك هذا النهر خلوا من رجل يشرب منه، يقول الحمد لله، وإن الله عز وجل قد رضي بها شكراً  من جنته، فارض بها شكراً من حفر نهرك.

وكانت آخر خطبة خطبها عمر بن عبد العزيزأن حمد الله و أثنى عليه، ثم قال: أيها الناس؛ أما بعد؛ فإنكم لم تخلقوا عبثا ولن تتركوا سدى، وإن لكم معادا ينزل الله فيه للحكم فيكم والفصل بينكم؛ فخاب وخسر من خرج من رحمة الله، وحُرِم جنة عرضها السموات والأرض؛ ألم تعلموا أنه لا يأمن غدا إلا من حذر اليوم وخافه، وباع نافدا بباق وقليلا بكثير وخوفا بأمان؛ ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وستكون من بعدكم للباقين، كذلك حتى يرد إلى خير الوارثين؛ ثم إنكم في كل يوم تشيعون غاديا ورائحا إلى الله عز وجل، قد قضى نحبه حتى تغيبوه في صدع من الأرض، في بطن صدع، غير موسد ولا ممهد، قد فارق الأحباب وباشر التراب وواجه الحساب، فهو مرتهن بعمله، غني عما ترك، فقير إلى ما قدم؛ فاتقوا الله قبل انقضاء مراقبته ونزول الموت بكم؛ أما إني لأقول هذا وما أعلم أن عند أحد من الذنوب أكثر مما عندي، فأستغفر الله. ثم رفع طرف رداءه على وجهه فبكى وأبكى من حوله.

ولما رأى مسلمة بن عبد الملك، وكان مجاهداً صالحاً من بني أمية، أن عمر بن عبد العزيز اشتد وجعه، وظن أنه ميت، قال: يا أمير المؤمنين، إنك قد تركت بنيك عالة لاشيء لهم، ولابد لهم مما لابد لهم منه، فلو أوصيت بهم إلي وإلى ضربائي من قومك فكفوك مؤونتهم. فقال: أجلسوني؛ فأجلسوه؛ فقال: أما ما ذكرت من فاقة ولدي وحاجتهم، فوالله ما منعتهم حقا هو لهم، وما كنت لأعطيهم حق غيرهم، وأما ما ذكرت من استخلافك ونظرائك عليهم لتكفوني مؤونتهم فإن خليفتي عليهم الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين؛ ادعهم لي. فدعاهم وهم اثنا عشر، فاغرورقت عينا عمر، فقال: بأبي فتية تركتهم عالة، وإنما هم أحد رجلين: إما رجل يتقي الله ويراقبه فسيرزقه الله؛ وإما رجل وقع في غير ذلك فلست أحب أن أكون قويته على خلاف أمر الله؛ وقد تركتكم بخير؛ لن تلقوا أحدا من المسلمين ولا أهل الذمة إلا سيرى لكم حقا. انصرفوا، عصمكم الله وأحسن الخلافة عليكم.

و لما بدء المرض بعمر بن عبد العزيز وأحس بدنو أجله أراد أن يشتري قبراً فأرسل إلى نصراني من أهل دير سمعان ليشتريه منه، فقال له النصراني: والله يا أمير المؤمنين إني لأتبرك بقربك وبجوارك، فقد حللتك. فأبى ذلك عليه إلا أن يبيعه، فباعه إياه بثلاثين دينارا، ثم دعا بالدنانير فوضعها في يده.

ورثاه جرير فقال:
ينعى النعاة أمير المؤمنين لنا ... يا خير من حج بيت الله واعتمرا
حملت أمرا عظيما فاضطلعت به ... وسرت فيه بأمر الله يا عمرا
الشمس كاسفة ليست بطالعة ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا

ونختم هذه السيرة العطرة بقول مالك بن دينار: يقولون: مالك زاهد؛ أيُّ زهد عند مالك وله جبة وكساء؟! إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز، أتته الدنيا فاغرة فاها فتركها.

الجمعة، 24 مايو 2013

حدث في الثالث عشر من رجب


في الثالث عشر من رجب من سنة 1315 توفي في القاهرة، عن 72 عاماً، مفتى مصر وشيخ الجامع الأزهر الإمام محمد العباسي المهدي بن الشيخ محمد أمين ابن الشيخ محمد المهدي، وتعطينا سيرته صورة عن طبقة من العلماء في ذلك العصر، كانت تجمع بين العلم والعمل والإخلاص، وترعى الله عزوجل أينما اتجهت، ونورد ترجمته مأخوذة جلِّها مما أورده العلامة أحمد تيمور باشا رحمه الله في كتابه تراجم أعيان القرن الثالث عشر.

وكان جد الإمام العباسي وسميه محمد قد ولد لأسرة قبطية، وأسلم هو صغيراً دون البلوغ على يد الشيخ محمد بن سالم الحفني، المولود سنة 1101 والمتوفى سنة 1181، وحلت عليه أنظاره، وأشرقت عليه أنواره، وفارق أهله،  وحضنه الشيخ ورباه وأحبه، واستمر بمنزله مع أولاده، واعتنى بشأنه، وقرأ القرآن ولما ترعرع اشتغل بطلب العلم، ولازم دروس المشايخ واجتهد في التحصيل، حتى تصدر للتدريس في سنة 1190 بعد وفاة الشيخ الحفني، ولما توفي الشيخ محمد الهلباوي سنة 1192 جلس مكانه بالأزهر يدرس النحو، وكان فصيحاً حَسَن البيان والتفهيم وسلس التعبير واضح العبارات، مع حسن السمت ووجاهة الطلعة وجمال الهيئة وبشاشة الوجه وطلاقة اللسان وسرعة الجواب، وصار من كبار العلماء، وترشح لرياسة الأزهر بعد الشيخ الشرقاوي ولكنها لم تتم له،ولما توفي صلي عليه بالأزهر في مشهد حافل جداً ودفن عند شيخه الشيخ الحنفي.

وكان والده الشيخ محمد أمين عالماً حنفياً تولى الفتوى بمصر زمناً، وتوفي سنة 1247، وخلف ولدين هما محمد عبد اللطيف وهو الأكبر وكان ابن خمس سنين، أما الشيخ محمد المهدي فولد بالإسكندرية سنة 1243، وتوفي والده وهو في الثالثة، وبعد أن حفظ بعض القرآن في الإسكندرية سافر إلى القاهرة سنة 1255 فأتم حفظه، واشتغل بالعلم سنة 1256 فقرأ على الشيخ إبراهيم السقاء الشافعي، والشيخ خليل الرشيدي الحنفي، والشيخ البلتاني وغيرهم، ثم صدر أمر إبراهيم باشا بن محمد علي بتوليته إفتاء الديار المصرية في منتصف شهر ذي القعدة من سنة 1264 وهو في نحو الحادية والعشرين من سنيه، لم يتأهل بعد لمثل هذا المنصب الكبير!

ويقال إن السبب في ذلك أن عارف بك الذي تولى القضاء بمصر، كانت له صلة بوالد الشيخ العباسي، فلما ذهب إبراهيم باشا إلى القسطنطينية ليتسلم من السلطان مرسوم ولايته على مصر قابله عارف بك، وكان إذ ذاك شيخاً للإسلام وأوصاه خيراً بذرية الشيخ المهدي، وأن يولي منهم من يصلح لمنصب أبيه، فكان همه السؤال عنهم عودته لمصر، وطلب المترجم لحضرته فصادفوه في درس الشيخ السقاء يحضر مقدمة مختصر السعد، فركب إليه وهو بين الخوف والرجاء، ولما قابله أثنى عليه لاشتغاله بالعلم، ثم أنباه بأنه ولاه منصب الفتوى بمصر، وعزل عنه الشيخ أحمد التميمي الخليلي وخلع عليه خلعة هذا المنصب، ثم عقد له مجلساً بالقلعة حضره حسن باشا المنسترلي والشيخ مصطفى العروسي وغيرهما، فأقروا على إقامة أمينٍ للفتوى يقوم بشؤونها حتى يتأهل صاحبها لها ويباشرها بنفسه، واختاروا له أستاذه الشيخ خليل الرشيدي الحنفي بدل الشيخ علي البقلي أمين فتوى التميمي، ونزل المترجم من القلعة بموكب كبير من العلماء والأمراء ووفد الناس على داره للتهنئة، ومدحه الشعراء.

وكان مفتي مصر المعزول الشيخ أحمد التميمي من مدينة الخليل في فلسطين، جاء به كذلك إبراهيم باشا في حروبه في بلاد الشام، وروى ابنه  محمد التميمي في ترجمة جمعها لأبيه أن سبب عزله عن الإفتاء أحقاد قديمة كانت في صدر إبراهيم باشا منه بسبب معارضته له في أمور تخالف الشرع كان يريدها ويعارضه الشيخ فيها، فلا يجد بداً من الإذعان بسبب إقبال أبيه محمد علي بك الكبير على الشيخ، فلما تخلى محمد علي عن ولاية مصر وتولاها إبنه  إبراهيم كان أكبر همه عزله عن الإفتاء.

وأكب العباسي على الاشتغال بالعلم خصوصاً الفقه حتى نال منه حظاً وفيراً، وجلس للتدريس بالأزهر لإقراء الدر المختار فقرأ منه إلى كتاب الطلاق وأكمل قراءته في داره، وقرأ الأشباه والنظائر في داره أيضاً، ولحداثة سنه أيضا لاقى من أهل العلم ترقباً واستغراباً جعلاه يمعن في التحري والتحذر ويباشر أمور الفتوى بعفة وأمانة وتدقيق وتحقيق، واشتُهِر بين الناس بالحزم والعزم وعدم ممالأة الحكام، وحسبك وقوفه في وجه عباس باشا الأول وتعريضه نفسه للتهلكة صيانة لما استودع من أمانة العلم، وسبب ذلك ان هذا الوالي أراد أن يمتلك جميع ما بيد ذرية جده محمد على مدعياً انه ورد مصر لا يمتلك شيئاً، فكل ما خلفه لذريته إنما هو من مال الأمة يجب رده إليها، ووضعه بيد أمينها المتولي شؤونها، واستفتى المترجم فلم يوافقه وأصر على الامتناع، ولم يحفل بوعيده وتهديده، حتى طلبه فجأة إلى بنها فسافر إليها وهو موقن بالهلاك، وكان معه عند طلبه الشيخ أبو العلاء الخلفاوي، فسافر معه لمؤانسته ومواساته، فلما وصلا قصر بنها روجع المترجم في الفتوى فأصر على قوله الأول، فأُمر بهما فانزلا إلى سفينة بخارية سافرت بهما ليلاً لنفي المترجم إلى أبى قير؛ واعتراه لشدة وجله زحير كاد يودي به وهو مع ذلك مُصِرٌّ على قوله، والشيخ أبو العلاء يهوُن عليه الأمر ويؤانسه بالكلام إلى أن صدر الأمر بإرجاع السفينة، وأُنزلا منها وأُمرا بالسفر إلى القاهرة وسلَّم الله. فكانت هذه الحادثة سبباً لعلو المترجم في النفوس وأعظام الولاة فمن دونهم لشأنه؛ وتسبب منها إقباله على الشيخ أبي العلاء المذكور وسعيه له في المناصب التي تولاها وعظم بها أمره بعد ذلك.

وفي سنة 1287 استاء الخديوي إسماعيل باشا من الشيخ مصطفى العروسي شيخ الأزهر، فأراد عزله ولكنه خشي الفتنة، لأنه شيء لم يقع من قبل لأحد من مشايخ الأزهر، فأخذ في جس نبض العلماء وسبر غورهم في ذلك، فهون عليه الشيخ حسن العدوى الأمر، وأوضح له انه وكيل الخليفة أن يعزل من يشاء، والوكيل له ما للأصيل، فسر الخديو وبادر إلى عزل الشيخ العروسي في أواخر السنة المذكورة، وكان العدوى يطمع فيها، وما قال ما قال إلا توطئة لنفسه فأخلف الله ظنه، وصدر أمر الخديو في منتصف شوال بتولية الشيخ العباسي والجمع له بين منتصب الإفتاء ومنصب الأزهر، فاستدعاه وخلع عليه وأنزله من عنده بالموكب المعتاد. فباشر شؤون منصبه بحزم وعزم وتؤدة وتعقل، وكان أول ما صدر منه سعيه لدى الخديو بإعادة ما كان لأهل الأزهر من المرتبات التي أبطلت زمن عباس باشا، فوافقه على ذلك وأعيدت المرتبات الشهرية والسنوية.

ولما أصبح الشيخ محمد العباسي المهدي شيخاً للأزهر لم يجد به نظاماً يتبع في إعطاء إجازة التدريس ولا دفتراً يضم أسماء العلماء بالأزهر، بل كان من آنس في نفسه قوة وأهلية للتدريس أعد نفسه لتدريس أحد الكتب ودعا الطلبة والعلماء لحضور ابتداء درسه، فإذا أداه حق الأداء وأجاب على كل الأسئلة التي وجهت إليه والاعتراضات التي اصطدم بها من الطلبة والعلماء عد عالماً، وذلك بتهنئة العلماء إياه وثنائهم عليه، وعليه بعد ذلك أن يدعو جلة العلماء والفضلاء إلى مأدبة يعملها لهم شكراً على نجاحه وفلاحه، أما إذا لم يسدد إلى سداد، ولم يوفق في درسه إلى صواب، فإن العلماء ينصرفون عنه دون تهنئته، وحينئذ يتبين الجمهور أنه أخفق ولم يوفق.

فعزم الشيخ العباسي المهدي على أن يسجل أسماء العلماء الذين يدرسون في الأزهر لذلك العهد وألا يدخل في زمرتهم أحد بعد ذلك إلا إذا اجتاز امتحاناً يعقد لذلك، وعين 11 علماً على الطالب أن يمر فيها بنجاح في ذلك الامتحان، واستصدر أمراً من الخديو بوضع قانون للتدريس يشمل هذه الإصلاحات سمي بقانون الامتحان.

ولم يزل العباسي سائراً في طريقه المحمود، ملحوظاً بعين التبجيل من الحكام، ومن الخاص والعام، حتى قامت الثورة العرابية المشهورة، ورأى فيه العرابيون أنه ليس بالرجل الذي يوافقهم ويساعدهم في مطالبهم، فكان من جملة ما طلبه عرابي باشا من الخديو لما زحف بالجيش على قصر عابدين عزل المترجم من الأزهر، فعزل عنه في المحرم سنة 1299، وتولى عليه بدله الشيخ محمد الانبابي، وانفرد هو بالافتاء، ثم تجسمت الفتنة وجاهر العرابيون بطلب عزل الخديو، وكتبوا قراراً بذلك أجبروا العلماء والوجهاء على التوقيع عليه، فامتنع المترجم من موافقتهم على ذلك، وقال لحامل القرار: أنا لا أوقع بيدي، فإذا كان في الأمر غصب فإن خاتمي معه، خذوه ووقعوا انتم بأيديكم كما تشاءون.

فانحرف عنه العرابيون وضايقوه وبثوا عليه العيون حتى احتجب في داره التي على الخليج بالقرب من مدرسة الفخري المشهورة بجامع البنات، وتحامى الناس زيارته، وصار لا يخرج منها إلا لصلاة الجمعة في أقرب مسجد إليه؛ ومرت عليه أيام وليال قضاها في انتظار حتفه في كل ساعة تمر به، حتى كانت الهزيمة الكبرى على العرابيين، وتشتت شملهم، وعود الخديو إلى مقر ملكه في 12 ذي القعدة من تلك السنة، فذهب المترجم فيمن ذهب للسلام عليه وتهنئته بالظفر، ودخل مع العلماء فخصه الخديو بترحيب ورعاية زيادة عمن معه من العلماء تقديرا لحسن بلائه في الإخلاص له مدة الفتنة؛ ولحظ الشيخ الأنبابي شيخ الأزهر إغماضا عنه من الخديو، وخشي أن يعزله ليعيد العباسي، فقال بيدي لا بيد عمرو، واستقال بعد أيام؛ فأصدر الخديو أمره يوم الأحد 18 منه بإعادة العباسي إلى الأزهر، علاوة على منصب الإفتاء الذي بيده، ونصه موجها لرئيس النظار، وهو ما يعادل في عصرنا رئيس الوزراء:

إنه بناء على استعفاء حضرة الأستاذ الشيخ محمد الأنبابي من وظيفة مشيخة الجامع الأزهر، ووثوقنا بفضائل وعالمية حضرة الأستاذ الشيخ محمد العباسي المهدي، قد اقتضت إرادتنا توجيه هذه الوظيفة لعهدته كما كانت قبلا، علاوة على وظيفة إفتاء السادة الحنفية المتحلي بها من السابق، وصدر امرنا للمومى إليه بذلك في تاريخه، ولزم إصدار هذا لدولتكم إشعارا بما ذكر في 2 أكتوبر سنة 1882 الموافق 18 ذي القعدة سنة 1199.

فتمت للعباسي رياسة الأزهر على رغم أنف كثيرين، فإن بعض علماء الأزهر سعوا لتنصيب الشيخ عبد الهادي نجا الأبياري، وكتبوا كتابة بذلك وأخذوا يوقعون عليها، ويطوفون بها على العلماء، فلم يشعروا إلا وقد فاجأهم الأمر بإعادة العباسي، وذهب سعيهم وتعبهم أدراج الرياح.

واستمر العباسي جامعاً للمنصبين قائماً بشؤونهما أتم قيام، حتى كانت سنة 1304 وفيها بلغ الخديو أن جماعة من الأعيان والتجار مثل محمد باشا السيوفي، وأخيه أحمد باشا يجتمعون للسمر بدار العباسي في أغلب الليالي، فيتكلمون في الأمور السياسية ويظهرون أسفهم من وجود الإنجليز بمصر، وموافقة الحكومة لهم فيما يحاولون، وغير ذلك من هذه الشؤون، فحنق الخديو وأرسل لمحمد باشا السيوفي بالحضور فلم يجدوه، بل وجدوا أخاه أحمد باشا، فحضر إلى القصر وقابل الخديو، فوبخه توبيخاً شديدا وقال له: يخيل إليً أنكم تريدون إعادة الثورة العرابية، فتبرأ من ذاك وحلف أن اجتماعهم لم يكن إلا بقصد السمر والائتناس، ثم قابل الخديو الشيخ العباسي في إحدى المقابلات الاعتيادية فلم يهش له كعادته، بل قال له وقت الانصراف: يا حضرة الأستاذ، الأجدر بالإنسان أن يشتغل بأمور نفسه، ولا يتدخل فيما لا يعنيه ويجمع الجمعيات بداره. فلم يجبه المترجم إلا بقوله: أطال الله عمر أفندينا وأدام عليه العافية؛ إنني ضعفت عن حمل أثقال الأزهر، فأساله أن يعفيني منه. ولم يكن الخديو يتوقع منه هذا الكلام، بل كان يظنه يجيب بجواب يصرف المسألة بسلام، فغضب وقال مستفهما: ومن الإفتاء أيضاً؟ فقال له: نعم يا أفندينا ومن الإفتاء أيضاً، ثم انصرف.

ولم يكن الشيخ ممن يعزب عنهم أن مثل هذا السبب لا يدعو إلى الاستقالة، وخصوصاً أن الخديو صرفه بالحسنى مع من اتهم معه، ولكن كان هناك سبب أقوى أغضبَ رئيس النظار نوبار باشا الأرمني، وذلك لحادثة رفعت عنها دعوى أمام المحاكم الأهلية، واستدعى الأمر طلب كشف وجه إحدى النساء المخدرات للتحقق منها فامتنعت عن الإسفار محتجة بعدم جوازه في الشريعة، واستفتي المترجم في النازلة، فأفتى بعدم الجواز وشدد في المسألة؛ فشكا رئيس النظار للخديو وأوضح له أن الشيخ أصبح عقبة أمام القضاة معارضاً لأحكام القضاء؛ ويقال إنه طلب منه إما أن يقيله من الوزارة، أو يعزل العباسي. فلما قال الخديو للشيخ ما قال تيقن أن المراد عزله فاستقال. فأمر الخديو يوم الثلاثاء 3 ربيع الثاني من السنة المذكورة بإعادة الشيخ محمد الأنبابى للأزهر، وإقامة الشيخ محمد البناء للإفتاء.

وبقى العباسي بداره التي على الخليج واشتغل بإصلاح قسم منها تشعث فأعاده إلى رونقه الأول، وصبغ حيطانه بالأصباغ، وهو القسم المطل على الخليج، وصار يمضي وقته بالنظر في شؤونه الخاصة والاشتغال بالعلم، إلى أن أعيد إلى الإفتاء قبيل وفاته فبقى به إلى وفاته، وأصيب في آخر أيامه بفالج وهو يتوضأ لصلاة الجمعة أبطل حركته، ثم تعافى قليلاً وصار يخرج في عجلته للتنزه بدون فرجية بل بعباءة بيضاء من الصوف، وأشير عليه بالإقامة بحلوان لجفافها، فانتقل إليها وأقام بها برهة لم يستفد فيها شيئاً، فعاد لداره بالقاهرة، ووافته منيته في الساعة الخامسة من ليلة الأربعاء 13 رجب سنة 1315 عن اثنتين وسبعين سنة، بعد أن لازمه المرض نحو أربع سنوات، فأذن له على المآذن، وحزن الناس لموته حزناً شديداً، وتكاثرت الجموع على داره لتشييع جنازته، فقيل إن عدد المشيعين بلغ نحو أربعين ألفاً، والمصلين عليه نحو خمسة آلاف، ثم دفن بقرافة المجاورين في زاوية الأستاذ الحفني جنب أبيه وجده، ورثاه كثير من الشعراء.

وكان العباسي رحمه الله ربعة إلى الطول، مليح الوجه، منور الشيبة، معتدل القامة، ذا هيبة ووقار، مات عن ثروة طائلة وولدين هما الشيخ عبد الخالق المهدي والشيخ أمين، ماتا بعده الواحد تلو الآخر. ولم يؤلف من التآليف سوى مجموع فتاواه الذي سماه الفتاوى المهدية في الوقائع المصرية، وطبع بمصر بين سنوات 1301 إلى 1304 في ثمانية أجزاء كبار، مرتبة على المواضيع.

عاش العباسي في عز وتبجيل مدة حياته، وتولى الإفتاء مدة إبراهيم باشا وعباس باشا الأول وسعيد باشا وإسماعيل باشا وتوفيق باشا، أي أربعين سنة من سنة 1264 إلى سنة 1304 لم يعزل فيها، فلم تحفظ عليه بادرة خطأ أو مخالفة للشرع، وسبب ذلك انه تولاه وهو صغير والعيون شاخصة إليه، فكان لا يفتي فتوى إلا بعد المراجعة والتدقيق والتعب الكثير، فحصلت له بذلك مَلَكة فيه حتى صار معدوم النظير، لا يجاريه مجار في هذا المضمار وأضيف إلى ذلك ما كان عليه من التقوى والتشدد في أمر الدين، حتى كانت مواقفه أمام الولاة لا تزيده إلا رفعة في عيونهم لعلمهم أنه لا يريد إلا نصرة الحق، فأحبوه وأغدقوا عليه بالإنعام.

ومن مواقفه غير ما ذكرناه أن الخديو إسماعيل باشا أراد مره ان يستولي على الأوقاف الأهلية ويعوض عنها أهلها ما يقوم بمعاشهم، فاستفتاه في ذلك فتوقف، وأفتاه بعضهم بالجواز، فتكدر منه وجمع بينه وبين مخالفيه، فناظرهم وفاز عليهم بعدما ألفوا رسائل في الحادثة وأكثروا من الجلبة.

ولم يقتصر الولاة على مشاورته في الأمور الدينية المختصة بمنصبه، بل كانوا يستشيرونه في غيرها من معضلات الأمور لما عرفوه فيه من سعة المدارك وجودة الرأي، حتى أن إسماعيل باشا لما عزل عن مصر قال لولده توفيق باشا فيما أوصاه به: احتفظ يا بني بالشيخ المهدي فأنه رجل لا نظير له.

وبالجملة فمحاسن المترجم كثيرة، ولم يكن فيها ما يشينه، سوى ما كان يرميه به بعض شانئيه من الإمساك والتقتير، ويضعون عليه النوادر الخارجة عن حد المعقول، والمعروف عنه المشاهد للقاصي والداني أن داره كانت مفتوحة للصادر والوارد، لا تخلو مائدته يوماً عنهم، وحسبنا أنه كان يخرج زكاة أمواله كل سنة ويفرقها على المستحقين رحمه الله رحمة واسعة وأكثر في الأمة من أمثاله.

وكان حائزاً لكسوة التشريف من الدرجة الأولى، ومنحه الخديو عباس باشا الثاني الوسام العثماني الأول في 21 صفر سنة 1310 هو وشيخ الأزهر الشيخ محمد الأنبابي، وقاضي القضاة جمال الدين افندي، وسبب ذلك ان السيد توفيقاً البكري نقيب الأشراف سافر في هذه السنة إلى دار السلطنة، وبرتبة قضاء عسكر الأناضول، وبرتبة قضاء عسكر الأناضول، فلما بلغ مسامع الخديو أحب أن لا يكون ممتازاً من كبار الشيوخ وهم القاضي والمفتي وشيخ الأزهر، فأنعم عليهم بهذا الوسام، وأرسل إلى السلطان ملتمساً الإنعام على المفتي وشيخ الأزهر برتبة قضاء عسكر الأناضول، وعلى القاضي برتبة قضاة عسكر الرومللي، لأنه كان حائزاً لرتبة الأناضول، لكن طلبه لم يصادف قبولاً.

أحيل على الشيخ العباسي قديماً أمر انتقال القضاة الشرعيين والمفتين الذين يقامون في ولايات القطر ومراكزه، فكان يختار ذوي الكفايات يتحرى فيهم النجابة والذكاء والديانة، ويحامي عنهم لدى الحكام، ويشد أزرهم، فحصل له بذلك مقام لدى أهل العلم المرشحين لهذه المناصب، وقصدوه ووجهوا وجوههم شطر داره، وهو مع ذلك لا يميل مع الهوى في تنصيبهم، ولو كان ممن يمد اليد لجمع من هذا الوجه شيئاً كثيراً، ثم رأت الحكومة أن يكون أمر تنصيبهم منوطاً بلجنة تؤلف من بنظارة الحقانية برياسة وكيلها إذ ذاك بطرس غالي باشا، وعرضوا على المترجم أن يكون من أعضاء تلك اللجنة فأبى.

وكان له في المحاماة عن أهل الأزهر ومساعدتهم القدح المعلى، ونروي عنه مواقف في ذلك: منها أن الشيخ مصطفى العروسي مدة توليه على الأزهر استصدر من الخديو إسماعيل باشا أمراً بنفي الشيخ حسن العدوى الحمزاوي إلى أسنا وكاد ينفذ فيه لولا أنه استغاث بالشيخ العباسي فقام بناصره وذهب للخديو مستشفعاً، ولجّ وألحّ حتى عفى عن الشيخ، والعدوي المولود سنة 1220 والمتوفى سنة 1303، له شرح على البخاري اسمه النور الساري من فيض صحيح البخاري.

رحمهم الله تعالى وبارك في الأزهر وعلمائه الأفاضل.

 

الجمعة، 17 مايو 2013

حدث في السادس من رجب



في السادس من رجب من عام 516 توفي في البصرة، عن 90؟ عاماً، العلامة الأديب اللغوي البارع أبو محمد الحريري، القاسم بن علي بن محمد بن عثمان البصري الحرامي الحريري، مؤلف مقامات الحريري. والحرامي نسبة إلى محلة بالبصرة سكنتها قبيلة بنو حرام من العرب، فنسبت إليهم. والحريري عربي يعود نسبه إلى ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان المعروف بربيعة الفَرَس.

ولد الحريري في قرية المَشَّان، وهي بليدة قريبة من البصرة كثيرة التمر والرطب والفواكه، تتصف بوخامة الهواء وملوحة الماء وكثرة المرض، ودرس في البصرة على أبي تمام محمد بن الحسن بن موسى، وأبي القاسم الفضل بن محمد القصباني الضرير، المتوفى سنة 444، وكان عالماً باللغة والأدب، واسع العلم، غزير الفضل، إماماً في علم العربية، وإليه كانت الرحلة في زمانه، وبه تخرج الحريري في الأدب.

وهناك إشكال في تاريخ ولادة الحريري، الذي هو فيما يبدو مبني على قول ابن السمعاني المولود سنة 506 والمتوفى سنة 562: سألت أبا القاسم بن أبي محمد الحريري عن وفاة أبيه، فقال: توفي سنة 516 ببني حرام، من البصرة، وسألته عن مولده، فقال: لا أدري، غير أنه كان له وقت أن توفي سبعون سنة. وهذا يقتضي أنه ولد في سنة 546، فكيف يدرس على أبي القاسم القصباني الضرير المتوفى قبل ذلك بسنتين؟! ولعله توفي وهو في التسعين التي تصحفت إلى السبعين، فهو على الأغلب مولود سنة  526، والله أعلم.

وتابع الحريري طلب العلم في بغداد، فرحل إليها، وقرأ النحو على الإمام النحوي المفسر علي بن فضال المُجاشعي، صاحب التفاسير، المتوفى سنة 479، ودرس الفقه الشافعي على الفقيه الكبير ابن الصباغ، عبد السيد بن محمد، المولود سنة 400 والمتوفى سنة 477، وهو أول من درِّس بالمدرسة النظامية ببغداد، ودرس الحريري الفقه كذلك على الأستاذ أبي إسحاق الشيرازي، إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزآبادي الشيرازي، العلامة المناظر، والزاهد الصابر، والشاعر الناثر، المولود سنة 393 والمتوفى سنة 476، وأخذ علم الفرائض والمواريث عن الفقيه عبد الله الخبري، عبد الله بن إبراهيم، المتوفى سنة 476.

وقد عُرِف الحريري رحمه الله بمقاماته، وهي قصص مسجوعة، تقع حوادث كل قصة في مكان تنسب إليه المقامة، وهي من قمم الأدب في الصنعة اللغوية والإتقان، إلى جانب السبك القوي وامتلاك ناصية الكلام، ولا يتسع المقام للحديث عن المقامات التي ينبغي ألا يغفل عن قراءتها متأدب أو متعلم، وأكتفي بإيراد قصيدة زهدية للحريري في المقامة البصرية أدعوك أن تقراها بتمهل وتدبر لتستجلب معانيها وتتمع بمغانيها:

خلِّ ادّكارَ الأرْبُعِ ... والمعْهَدِ المُرتَبَعِ... والظّاعِنِ المودِّعِ ... وعدِّ عنْهُ ودَعِ

وانْدُبْ زَماناً سلَفا ... سوّدْتَ فيهِ الصُّحُفا ... ولمْ تزَلْ مُعتكِفا ... على القبيحِ الشّنِعِ

كمْ ليلَةٍ أودَعْتَها ... مآثِماً أبْدَعْتَها... لشَهوَةٍ أطَعْتَها ... في مرْقَدٍ ومَضْجَعِ

وكمْ خُطًى حثَثْتَها ... في خِزْيَةٍ أحْدَثْتَها... وتوْبَةٍ نكَثْتَها ... لمَلْعَبٍ ومرْتَعِ

وكمْ تجرّأتَ على ... ربّ السّمَواتِ العُلى... ولمْ تُراقِبْهُ ولا ... صدَقْتَ في ما تدّعي

وكمْ غمَصْتَ بِرّهُ ... وكمْ أمِنْتَ مكْرَهُ... وكمْ نبَذْتَ أمرَهُ ... نبْذَ الحِذا المرقَّعِ

وكمْ ركَضْتَ في اللّعِبْ ... وفُهْتَ عمْداً بالكَذِبْ... ولمْ تُراعِ ما يجِبْ ... منْ عهْدِهِ المتّبَعِ

فالْبَسْ شِعارَ النّدمِ ... واسكُبْ شآبيبَ الدّمِ... قبلَ زَوالِ القدَمِ ... وقبلَ سوء المصْرَعِ

واخضَعْ خُضوعَ المُعترِفْ ... ولُذْ مَلاذَ المُقترِفْ... واعْصِ هَواكَ وانحَرِفْ ... عنْهُ انحِرافَ المُقلِعِ

إلامَ تسْهو وتَني ... ومُعظَمُ العُمرِ فَني... في ما يضُرّ المُقْتَني ... ولسْتَ بالمُرْتَدِعِ

أمَا ترَى الشّيبَ وخَطْ ... وخَطّ في الرّأسِ خِطَطْ... ومنْ يلُحْ وخْطُ الشّمَطْ ... بفَودِهِ فقدْ نُعي

ويْحَكِ يا نفسِ احْرِصي ... على ارْتِيادِ المَخلَصِ... وطاوِعي وأخْلِصي ... واسْتَمِعي النُّصْحَ وعي

واعتَبِرِي بمَنْ مضى ... من القُرونِ وانْقَضى... واخْشَيْ مُفاجاةَ القَضا ... وحاذِري أنْ تُخْدَعي

وانتَهِجي سُبْلَ الهُدى ... وادّكِري وشْكَ الرّدى... وأنّ مثْواكِ غدا ... في قعْرِ لحْدٍ بلْقَعِ

آهاً لهُ بيْتِ البِلَى ... والمنزِلِ القفْرِ الخَلا... وموْرِدِ السّفْرِ الأُلى ... واللاّحِقِ المُتّبِعِ

بيْتٌ يُرَى مَنْ أُودِعَهْ ... قد ضمّهُ واسْتُودِعَهْ... بعْدَ الفَضاء والسّعَهْ ... قِيدَ ثَلاثِ أذْرُعِ

لا فرْقَ أنْ يحُلّهُ ... داهِيَةٌ أو أبْلَهُ... أو مُعْسِرٌ أو منْ لهُ ... مُلكٌ كمُلْكِ تُبّعِ

وبعْدَهُ العَرْضُ الذي ... يحْوي الحَييَّ والبَذي... والمُبتَدي والمُحتَذي ... ومَنْ رعى ومنْ رُعي

فَيا مَفازَ المتّقي ... ورِبْحَ عبْدٍ قد وُقِي... سوءَ الحِسابِ الموبِقِ ... وهوْلَ يومِ الفزَعِ

ويا خَسارَ مَنْ بغَى ... ومنْ تعدّى وطَغى... وشَبّ نيرانَ الوَغى ... لمَطْعَمٍ أو مطْمَعِ

يا مَنْ عليْهِ المتّكَلْ ... قدْ زادَ ما بي منْ وجَلْ... لِما اجتَرَحْتُ من زلَلْ ... في عُمْري المُضَيَّعِ

فاغْفِرْ لعَبْدٍ مُجتَرِمْ ... وارْحَمْ بُكاهُ المُنسجِمْ... فأنتَ أوْلى منْ رَحِمْ ... وخيْرُ مَدْعُوٍّ دُعِي

وأنشأ الحريري مقاماته، فاشتُهرت بين أهل العلم والأدب، وكان وقعها في المجتمع - ولا مقارنة - أشبه بالمسلسلات التلفازية التي يعكف عليها الناس اليوم، ففي كل مقامة قصة، تنتهي بموقف غير متوقع من بطل المقامات أبي زيد السَّروجي، وهو شخص حقيقي شاهده الحريري يستجدي المحسنين في فصاحة وبلاغة، فبنى على شخصه المقامات، وسروج بلد في جنوب تركية مقابل عين العرب السورية لا يزال اسمها اليوم Suruç، قال عبد الله ابن الحريري: كان أبي جالسا في مسجده ببني حرام فدخل شيخ ذو طمرين عليه أهبة السفر، رث الحال، فصيح الكلام، حسن العبارة، فسألته الجماعة: من أين الشيخ؟ فقال: من سروج، فاستخبروه عن كنيته فقال: أبو زيد. قال الحريري نفسه: كان أبو زيد السروجي شحاذا بليغا، ومُكديا فصيحا، ورد البصرة علينا، فوقف في مسجد بني حرام، فسلم، ثم سأل، وكان الوالي حاضرا، والمسجد غاص بالفضلاء، فأعجبتهم فصاحته، وذكر أسر الروم ولده كما ذكرنا في المقامة الحرامية، فاجتمع عندي جماعة، فحكيت أمره، فحكى لي كل واحد أنه شاهد منه في مسجد مثل ما شاهدت، وأنه سمع منه معنى في فصل، وكان يغير شكله، فتعجبوا من جريانه في ميدانه، وتصرفه في تلونه، وإحسانه، وعليه بنيت هذه المقامات.

واختار الحريري لمقاماته راوياً يقصها على المستمعين أسماه حارث بن همَّام، واستقى ذلك من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصدق الاسماء حارث وهمام. لأن كل أحد إما حارث وهو الفاعل، أو همام من الهمة.

ولم تكن في البداية 50 مقامة كما هي اليوم، بل كانت أولها المقامة الحرامية نسبة إلى أن أحداثها جرت في بني حرام، وهي المقامة الثامنة والأربعون، وتذكر كثير من المراجع أن الوزير شرف الدين أنوشروان بن خالد القاشاني وزير الخليفة المسترشد، المتوفى سنة 533، اطلع عليها وأعجبته فأشار عليه بأن يعمل غيرها على منوالها، ويقتفي أثر رائد أدب المقامات: بديع الزمان الهمذاني، أحمد بن الحسين المولود سنة 358 والمتوفى سنة 398، وأنهما المعنيان بقول الحريري في خطبة الكتاب، أي مقدمته: فأشار من إشارته حُكْم، وطاعته غُنم، إلى أن أنشئ مقامات أتلو فيها البديع، وإن لم يدرك الظالع شأو الضليع. والضليع الذي يعنيه الحريري هنا هو بديع الزمان الهمذاني الذي كتب أكثر مقاماته ارتجالاً، وكان ربما يكتب الكتاب مبتدئا بآخر سطوره ثم هلم جرا إلى السطر الأول فيخرجه ولا عيب فيه!

ولكن ابن خلكان يقول في وفيات الأعيان: وجدت في عدة تواريخ أن الحريري صنف المقامات بإشارة أنوشروان، إلى أن رأيت بالقاهرة نسخة بخط المصنف، وقد كتب أنه صنفها للوزير جلال الدين أبي علي الحسن بن صدقة وزير المسترشد، المتوفى سنة 522، فهذا أصح، لأنه بخط المصنف. ويؤيد ما ذهب إليه ابن خلكان أن الوزير أنوشروان ولي وزارة السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه سنة 517، أي بعد وفاة الحريري، رحم الله الجميع.

كان الحريري رحمه الله متواضعاً على نهج السلف الصالح؛ كلما ازدادوا علماً ازدادوا تواضعاً، لم يكتف بما قال في المقدمة من أنه لن يدرك شأو بديع الزمان، بل أتبع ذلك بقوله: هذا مع اعترافي بأن البديع رحمه الله سبَّاق غايات، وصاحب آيات، وأن المتصدي بعده لإنشاء مقامة، ولو أوتي بلاغة قُدامة، لا يغترف إلا من فُضالته، ولا يسري ذلك المسرى إلا بدَلالته.

وقد ختم الحريري المقامات بقوله: هذا آخر المقامات التي أنشأتها بالاغترار،. وأمليتها بلسان الاضطرار، وقد أُلجِئتُ الى أن أرصدتُها للاستعراض، وناديتُ عليها في سوق الاعتراض، هذا مع معرفتي بأنها من سقَط المتاع، ومما يستوجب أن يباع ولا يبتاع، ولو غشيني نورُ التوفيق، ونظرت لنفسي نظرَ الشفيق، لسترتُ عَواري الذي لم يزل مستورا. ولكنْ كان ذلك في الكتاب مسطورا، وأنا أستغفر الله تعالى مما أودعتها من أباطيل اللغو، وأضاليل اللهو، وأسترشده الى ما يعصم من السهو، ويحظي بالعفو، إنه هو أهل التقوى وأهل المغفرة، ووليُّ الخيرات في الدنيا والآخرة.

وقد كانت مقامات الحريري أمراً عجباً دان الأدباء بفضلها وإعجازها، وحمل الحريري أربعين مقامة من البصرة إلى بغداد وعرضها على أدبائها، فلم يصدِّقه جماعة منهم، وقالوا: إنها ليست من تصنيفه، بل هي لرجل مغربي من أهل البلاغة مات بالبصرة ووقعت أوراقه إليه فادعاها، فاستدعاه الوزير إلى الديوان وسأله عن صناعته، فقال: الأدب، فاقترح عليه إنشاء رسالة في واقعة عينها، فانفرد في ناحية من الديوان، وأخذ الدواة والورقة ومكث زمانا كثيرا فلم يفتح الله سبحانه عليه بشيء من ذلك، فقام وهو خجلان، فقال أحد الشعراء يعرض به إذ يأتيه الإلهام في بلده مَشان وهو عيٌّ في بغداد:

شيخ لنا من ربيعة الفَرَس ... ينتف عُثنونه من الهوس

أنطقه الله بالمشان كما ... رماه وسط الديوان بالخرس

فلما رجع الحريري إلى بلده عمل عشر مقامات أُخر وسيرهن، واعتذر من عيه وحصره في الديوان بما لحقه من المهابة، وكان الحريري مولعاً بنتف لحيته إذا أخذ في التفكير، ولهذا أشار الشاعر، ويقال إن الأمير نهاه عن نتف لحيته وتوعده، فتكلم يوما بشئ أعجب الأمير، فقال: سلني ما شئت، قال: أقطعني لحيتي! فضحك، وقال: قد فعلت.

والمقامات في ثيابها القشيبة المنسوجة في دار الطراز البلاغية، والمستمدة وشيها من ثراء اللغة العربية بالألفاظ والمترادفات، لم تكن معزولة عن واقعها كما يظلمها بقوله بعض منتقديها في العصر الحديث، فقد كتبها الحريري تعبيراً عن مجتمع متعدد الوجوه، وذكر فيها كثيراً من شخصيات تلك الحقبة

وقدم الحريري إلى بغداد سنة 500، وحدث بها بجزء من حديثه وبمقاماته، ومَثَلُها مثل الأعمال الخالدة لم تخل المقامات من منتقد ومعترض، وكان أول من اعترض عليه معاصره ابن الخشاب النحوي اللغوي المتهتك، عبد الله بن أحمد المتوفى سنة 567، حيث أبرز ما اعتبره أخطاء للحريري، فتصدى له معاصره الإمام النحوي اللغوي ابن بري، أبو محمد عبد الله بن بري المقدسي المصري، المتوفى سنة 576 أو 582، ثم جاء بعده بقرابة قرنين شهاب الدين الحجازي، أحمد بن محمد الأنصاري الخزرجي المصري الشافعي الأديب البارع المفنن، المولود سنة 790 والمتوفى سنة 875، فانتصر كذلك للحريري وكتب كتابا أسماه أجوبة اعتراضات ابن الخشاب على الحريري.

وكان معاصره الإمام جار الله الزمخشري، محمود بن عمر، المولود سنة 467 والمتوفى سنة 538، من أئمة العلم بالدين والتفسير واللغة والآداب، فلما اطلع على المقامات استحسنها وكتب على نسخة منها:

                                                                                                                                                                                          أقسم بالله وآياته... ومَشعر الحج وميقاته

إن الحريري حري بأن... نكتب بالتبر مقاماته

وتناقل المتأدبون وطلبة العلم هذه المقامات، وحرصوا على سماعها من منشئها، حتى قال هو: كتبت خطي إلى هذا اليوم على 700 نسخة قرئت علي، وانتقلت المقامات في أنحاء بلاد الإسلام من خراسان إلى الأندلس بالرواية المثبتة الموثقة السند، فقد سمعها من الحريري كبار أدباء عصره وكثير من متأدبته، ونقلها العلماء والأدباء طبقة إلى طبقة، وتنقل كتب التراجم والتاريخ أن آخر من رواها عن الحريري كان الشيخ أبا الطاهر بركات الخُشوعي الرّفاء الدمشقي، وأن الحريري أجازه سنة 512 من البصرة،  ثم تذكر هذه المراجع نفسها أن أبا الطاهر ولد بدمشق سنة 510، وتوفي سنة 598، فهذه إجازة لصغير غير مميز تخل بمفهوم الإجازة المتبع في ذلك الزمان، على أن من أورد ذلك لا يشير إلى ذلك من قريب أو بعيد.

وكثيراً ما تكون الرواية مبنية على التحرير والبحث والاستفادة، والقصد منها تدريب اللسان على النطق الصحيح، وضبط الألفاظ، وتطويع الملكة الأدبية، وتعلم اللغة والنحو والأدب، فدرَّسها العلماء والأدباء في دروسهم للتلاميذ على اختلاف دراساتهم ومشاربهم، يتوافدون عليهم سنة بعد سنة ينهلون من هذا المعين الثّر.

وأصبحت المقامات كتاباً يحفظه المتأدبون لما فيه من القصص اللطيفة والنكت اللغوبة والفوائد العلمية والمحسنات البديعية، وبقي هذا ديدنهم جيلاً بعد جيل واستمر بعد وفاة الحريري بقرون، ويروي الزركلي أن الأستاذ محمد كرد علي، المولود سنة 1293= 1876 والمتوفى سنة 1372 = 1953، كان يحفظ أكثر شعر المتنبي ومقامات الحريري، ثم كانت مفردات المقامات، تضايقه حين يكتب.

وتولى مقامات الحريري بالشرح علماء اللغة والأدب قرناً بعد قرن، من الهند إلى الأندلس، مذهولين ببراعتها مأخوذين بجمالها معجبين بدقائقها اللغوية، فلا يخلو جيل من شرح لها جديد يحل مشكلها ويبرز محاسنها بما يناسب العصر وأهله، من تطويل وتقصير، واهتمام بالبلاغة أو النحو أو اللغة، ولا نبالغ إن قلنا أن لها ما ينوف على مئة شرح، ومن أبرز شراحها أحمد بن عبد المؤمن القيسي الشريشي الأندلسي، المولود سنة 557 والمتوفى سنة 619، وله ثلاثة شروح أشهرها الكبير في مجلدين، ووسط وهو اللغوي، والثالث صغير، وهو المختصر.

وغني عن القول أن كثيرين من أدباء عصر الحريري ومن تلاهم إلى يومنا هذا، حذوا حذو الحريري، فأنشأوا مقامات، قصيرة القامات، تحمل ذات الإسم ولكنها تخالفها في الجسم، وقد قال المتنبي:

وقد يتقارب الوصفان جدّاً ... وموصوفاهما متباعدان

وينبغي أن نذكر هنا الطبيب النصراني أبا العباس ابن ماري،  يحيى بن سعيد بن ماري، المتوفى بالبصرة سنة 589، الذي أنشأ ستين مقامة على نسق مقامات الحريري، تعرف بالمقامات النصرانية، جاء في مقدمتها: أما بعد فيقول الفقير إلى سوابغ آلاء الباري، أبو العباس، يحيى بن سعيد ابن ماري، العربي نسبا، النصراني مذهبا.

وذكر ياقوت الحموي في معجم الأدباء في ترجمة شميمٍ الحلى، على بن الحسن، اللغوي الشاعر، المتوفى سنة 601: وكنت قد وردت إلى آمد في شهور سنة 544، فرأيت أهلها مطبقين على وصف هذا الشيخ، فقصدت إلى مسجد الخضر ودخلت عليه فوجدته شيخا كبيراً قضيف الجسم في حجرة من المسجد، وبين يديه جامدان مملوء كتباً من تصانيفه فحسب، فسلمت عليه وجلست بين يديه ... فلما ذكرت له المعرى نهرني وقال لي: ويلك كم تسيء الأدب بين يدي، من ذلك الكلب الأعمى حتى يذكر بين يدي في مجلسي؟ فقلت: يا مولانا ما أراك ترضى عن أحد ممن تقدم؟ فقال: كيف أرضى عنهم وليس لهم ما يرضيني؟ قلت: فما فيهم قط أحد بما يرضيك؟ فقال: لا أعلمه إلا أن يكون المتنبي في مديحه خاصة، وابن نباتة في خطبه، وابن الحريري في مقاماته فهؤلاء لم يقصروا. قلت له: يا مولانا قد عجبت إذ لم تصنف مقامات تدحض بها مقامات الحريري، فقال لي: يابني اعلم إن الرجوع إلى الحق خير من التمادي على الباطل، عملت مقاماتٍ مرتين فلم ترضني فغسلتها، وما أعلم إن الله خلقني إلا لأظهر فضل ابن الحريري. ولشميم الحلي شرح لمقامات الحريري مخطوطته موجودة في تركية.

وقد قام عدد من الخطاطين الفنانين بكتابة نسخ مصورة من المقامات، تصور أبطال المقامة أو بعض مشاهد قصصها، منها مخطوطة نفيسة في المكتبة الوطنية بباريس، وأخرى في المتحف البريطاني رسمها عمر بن علي بن المبارك الموصلي، المتوفى سنة 654، وثالثة في مكتبة فيينا.

وكان القاضي العلامة أحمد بن عمر المدحجي الشافعي الزبيدي الشهير بالمُزَجَّد، المولود سنة 847 والمتوفى بزبيد في اليمن سنة 930، إذا سئم من القراءة والمطالعة استدعى بمقامات الحريري فيطالع فيها ويسميها طبق الحلوى، وقال فيها:

أحب مقامات الحريري لأنها ... لدى مسمعي أحلى من المن والسلوى

وقد قال قبلي ابن العجيل لصحبه ... بغير تحاش هذه طبق الحلوى

وما قال إلا الحق والله أنها ... لأحلى من الحلوى ومِن وصل من أهوى

وبعد هذا كله يحق لنا أن نقول إن الحريري ينافس المتنبي أو يسبقه في أن يكون مالئ الدنيا وشاغل الناس، وليست مقامات الحريري مؤلفه الوحيد، بل له مجالس أدبية أملاها بالبصرة كان نتاجها كتابه اللطيف الذي تناول ما يقع به المتأدبون من أخطاء والذي أسماه درة الغواص في وهم الخواص، وبيَّن سبب تأليفه في خطبة الكتاب: رأيت كثيرا ممن تسنموا أسنمة الرتب، وتوسموا بسمة الأدب، قد ضاهوا العامة في بعض ما يفرط من كلامهم، وترعف به مراعف أقلامهم... فدعاني الأَنف لنباهة أخطارهم والكلف بإطابة أخبارهم، إلى أن أدرأ عنهم الشبه، وأبين ما التبس عليهم واشتبه، لألتحق بمن زكى أكل غرسه، وأحب لأخيه ما يحب لنفسه... فإن حلى بعين الناظر فيه و الدارس، وأحله محل القادح لدى القابس، وإلا فعلى الله تعالى أجر المجتهد وهو حسبي وعليه أعتمد.

وله كذلك كتاب مُلحة الإعراب، وكتاب توشيح البيان، وله شعر حسن في ديوان، وديوان رسائل. وقد نسب له الأستاذ الزركلي خطأ أوسهواً كتاب صدور زمان الفتور وفتور زمان الصدور، في التاريخ، وهو للوزير أنوشروان.

وإلى جانب مؤلفاته الخالدة خلَّف الحريري ولدين هما: أبو العباس محمد، وعبد الله المولود سنة 490، ونزل بغداد وسكنها، وروى بها عن والده كتبه  مثل المقامات ودرة الغواص وملحة الإعراب.

كان الحريري زري اللباس فيه بخل، مع أنه كان غنياً له 18000 نخلة، وذكروا أنه جاء غريب يزوره، ويأخذ عنه شيئا، فلما رآه استقبح منظره، واستزراه، ففهم ذلك الحريري منه، فأملى عليه قوله:

ما أنت أول سارٍ غرَّه قمرٌ ... ورائد أعجبته خضرة الدمن

فاختر لنفسك غيري إنني رجل ... مثل المُعيدي فأسمع بي ولا ترني



 

 
log analyzer