الجمعة، 26 أبريل 2013

حدث في الخامس عشر من جمادى الآخرة

في الخامس عشر من جمادى الآخرة من عام 65 توفي في مصر، عن قرابة 72 عاماً، الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
تزوج والده عمرو بن العاص بأمه ريطة بنت منبه بن الحجاج ين عامر السهمي، وهو معدود في الصحابة، وكان الزواج وهما  في سن صغيرة، فكان أول ولد لهما هو عبد الله، ولد سنة 7 قبل الهجرة، ووالده أكبر منه بحوالي 12 عاماً، وقد كان واعياً منذ صغره لما يدور حوله فقد روى عنه ابن هشام حديثاً عن أكثر ما رآه من إظهار قريش لعداوتها للرسول صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة.
أسلم عبد الله قبل أبيه، وهاجر بعد السنة السابعة للهجرة، وشهد مع رسول الله بعض المغازي، وكان يضرب بسيفين، ويقال إن اسمه كان العاص، فلما أسلم غيَّره النبي صلى الله عليه وسلم بعبد الله. وأسلمت والدته، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: نِعمَ أهل البيت عبد الله، وأبو عبد الله، وأم عبد الله.
وكان عبد الله من الصحابة المقربين إلى رسول الله لرغبته في الدين وإقباله على العبادة، وعهد إليه رسول الله مرة أن يجهز أحد جيوشه، وهذا وسام ثقة من الرسول بأمانته وحسن تدبيره وتقديره، وكان عبد الله أحدَ الذين حفظوا القرآن العظيم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، روي البخاري والنسائي، وهذا لفظه، عن عبد الله بن عمرو قال: جمعت القرآن، فقرأته كله في ليلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأه في شهر. قلت: يا رسول الله، دعني أستمتع من قوتي وشبابي. قال: اقرأه في عشرين. قلت: دعني أستمتع، قال: اقرأه في سبع ليال. قلت: دعني يا رسول الله أستمتع. قال: فأبى. وفي حديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم قال: إنه لن يفقه فيه رجل قرأه في أقل من ثلاث.
 وقد كان عبد الله بن عمرو من المتبتلين في الصيام والقيام، وقد أدى ذلك لإخلاله بواجباته الزوجية فشكاه أبوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عبد الله بن عمرو: زوَّجني أبي امرأة من قريش، فلما دخَلَتْ عليَّ، جعلت لا أنحاش لها مما بي من القوة على العبادة، فجاء أبي إلى كنَّته، فقال: كيف وجدت بعلك؟ قالت: خير رجل من رجل لم يفتِش لها كَنفا، ولم يقرب لها فراشا، قال: فأقبل علي، وعضَّني بلسانه، ثم قال: أنكحتك امرأة ذات حسب، فعضلتَها وفعلت، ثم انطلق، فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ولما بلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وجهه للاعتدال في العبادة في مجموعة من الأحاديث رواها عنه البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله: ألم أُخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار؟ قلت: إني أفعل ذلك، قال: فإنك إذا فعلت ذلك، هجمت عينك ونفِهَت نفسك، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، وإن لزَوْرِك عليك حقا، وإن بحسبك أن تصوم كل شهر ثلاثة أيام، فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها، فإن ذلك صيام الدهر كله. فصم وأفطر، وقم ونَم. قال عبد الله: فشدَّدت فشدَّد علي، قلت: يا رسول الله إني أجد قوة، قال: فصم صيام نبي الله داود عليه السلام ولا تزد عليه، قلت: وما كان صيام نبي الله داود عليه السلام؟ قال رسول الله في حديث آخر: أحبُّ الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام، وأحبُّ الصيام إلى الله صيام داود، وكان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، ويصوم يوما ويفطر يوما. فكان عبد الله يقول بعد ما كبر: يا ليتني قبلت رخصة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومع ما سبق فإن رسول الله حذَّر عبد الله بن عمرو من أن يتهاون فيترك قيام الليل بعد أن نبهه الرسول الكريم إلى أهمية التوازن والاعتدال، فيضيع خيراً كثيراً، فقد حدث عبد الله قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عبد الله بن عمرو، لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل. وفي هذا الحديث بيان لاهتمام الرسول بعبد الله بن عمرو وتوجيهه له على ديمومة العمل وحرصه عليه أن يبقى من القائمين الليل والمستغفرين بالأسحار. ويضاف إلى هذا اهتمام الرسول بالمظهر الشخصي لعبد الله بن عمرو أن يكون متميزاً في لباسه فلا يلبس ما هو خاص بالكفار وشعار لهم، فقد ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى عليه ثوبين معصفرين فقال: إن هذه الثياب ثياب الكفار فلا تلبسها. وفي رواية أن عبد الله سأله: أغسلهما يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حرِّقهما.
ومع كل هذه العبادة كان قلب عبد الله بن عمرو لا يزال يخشى النار ويتطلع أن يضمن أن يكون من أهل الجنة، ولذلك نراه يبحث ويدقق مسلك صحابي أنصاري وصفه الرسول بأنه من أهل الجنة، روى أنس بن مالك قال: كنا جلوساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة. فطلع رجل من الأنصار، تنطف لحيته من وضوئه، قد تعلق نعليه في يده الشمال، فلما كان من الغد، قال النبي مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث، قال النبي مثل مقالته أيضاً، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم، تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال: إني لاحَيتُ أبي، فأقسمتُ أن لا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضيَ، فعلتُ. قال: نعم.
قال أنس: وكان عبد الله يحدِّثُ أنه بات معه تلك الليالي الثلاث، فلم يره يقوم من الليل شيئاً، غير أنه إذا تعارَّ وتقلب على فراشه ذكر الله عز وجل وكبّر، حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً، فلما مضت الثلاث ليالٍ، وكدتُ أن أحقرَ عمله، قلت: يا عبد الله، إني لم يكن بيني وبين أبي غضبٌ ولا هجرٌ ثَم، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرار: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة. فطلعت أنت الثلاث مرارٍ، فأردت أن آوي إليك، لأنظر ما عملك، فأقتدي به، فلم أرك تعمل كثيرَ عملٍ، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله؟ فقال: ما هو إلا ما رأيت، قال: فلما وليت دعاني، فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً، ولا أحسد أحداً على خيرٍ أعطاه الله إياه، فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق.
وعبد الله بن عمرو من المكثرين للرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى عنه قرابة 700 حديث، وروى له البخاري ومسلم، وتتنوع مواضيع الأحاديث التي يرويها عبد الله بن عمرو تنوعاً ملحوظاً مما يدل على فقه وطول صحبة، وقد كان له ذلك لأنه توجه لكتابة حديث الرسول في وقت لم يتجه أحد إلى ذلك، وقد شهد له مكثِرٌ آخر بذلك هو أبو هريرة فقد قال: ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى الصحابة في بدء الوحي أن يكتبوا حديثه ليتفرغوا لحفظ القرآن وفهمه وتطبيقه، ولكنه في مرحلة تالية رخَّص لهم في الكتابة، واستأذنه عبد الله بن عمرو فأذن له، روى أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش وقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر، وأنت تكتب كل ما تسمعه منه، وهو يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بإصبعه إلى فيه، وقال: اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا الحق.
قال الإمام الذهبي في السِّير: والظاهر أن النهي كان أولا لتتوفر هممهم على القرآن وحده، وليمتاز القرآن بالكتابة عما سواه من السنن النبوية، فيؤمن اللبس، فلما زال المحذور واللبس، ووضح أن القرآن لا يشتبه بكلام الناس أذن في كتابة العلم، والله أعلم.
وفي كتابة عبد الله بن عمرو لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدر الأول ردٌّ على بعض المستشرقين ومن سايرهم في أن تدوين السنة النبوية كان متأخراً فعمدة الحديث الرواية الشفاهية، ولم يكن عبد الله وحده الذي كتب ما سمعه من الرسول بل كان معه عدد من الصحابة والتابعين مثل سمرة بن جندب، وجابر بن عبد الله، وزيد بن ثابت وكتابه في الفرائض، والأشج الكوفي الأشجعي، وهمّام بن منبّه.
وكان عبد الله قد جمع ما كتب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيفة سماها الصادقة، وكان حريصاً على أن تبقى معه أشد الحرص، قال التابعي الجليل مجاهد: دخلت على عبد الله بن عمرو، فتناولت صحيفة تحت رأسه، فتمنَّع عليّ، فقلت: تمنعني شيئاً من كتبك! فقال: إن هذه الصحيفة الصادقة التي سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس بيني وبينه أحد، فإذا سلم لي كتاب الله، وسلمت لي هذه الصحيفة والوهط، بستان له بالطائف، لم أبال ما ضيعت الدنيا.  وقوله: ليس بيني وبينه حد. يبين أن لعبد الله بن عمرو سبقاً في التنبه لأهمية الإسناد والمشافهة، وتلك لَبِنَةٌ هامة في أساس علم الحديث الشريف.
ولم يقتصر عبد الله بن عمرو في روايته عما سمعه من رسول الله، بل روى حديثه كذلك عن أبي بكر، وعمر، ومعاذ، وسراقة بن مالك، وأبيه عمرو، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي الدرداء، وأبي ذر، وكان يسعى للسماع منهم والاستفادة مما حملوه من حديث وتعلموه من علم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروي عنه أنه قال: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف مَثَل.
 وتعلم عبد الله بن عمرو اللغة السريانية وكان ينظر في كتب الأقدمين، واعتنى بذلك، وقيل إنه أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب فكان يحدِّث منهما المعروف والمشهور والمنكور والمردود، وروى كثيراً مما ورد فيها عن أخبار أنبياء بني إسرائيل وتاريخ مصر مثل بناء مدينة الإسكندرية.
وروى أحاديث عبد الله بن عمرو عدد كبير من التابعين أبرزهم من أقاربه حفيده شعيب بن محمد الذي توفي والده في حياة أبيه عبد الله فتربى الحفيد في حجر الجد، وخدمه ولزمه، فأكثر عنه الرواية، وتوفي شعيب سنة 118 بالطائف.
وممن حدث عنه من كبار التابعين: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والشعبي، وعكرمة وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، وأمم كثير غيرهم، في الحرمين والشام ومصر، وبخاصة مواليه وموالي أهله، بل روى عنه عدد من أقرانه من شباب الصحابة وعلى رأسهم الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه. وقالت عائشة رضي الله عنها لعروة بن الزبير: يا ابن أخت، إني قد أُخبِرتُ أن عبد الله بن عمرو حاجٌ في عامه هذا، فالقه، فإنه قد حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرةً.
ومن أشهر الأحاديث المروية عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما حديث الرحمة المسلسل بالأولية، والذي تداوله طلبة العلم المتزينين برواية الحديث والإجازات، ليكون أول حديث سمعوه من الشيخ أو المحدث، ولذا سمي المسلسل بالأولية، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.
ويضيق المقام هنا عن إيراد كل ما صح من الأحاديث التي رواها عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، ولكنها تعطي لمن يتأملها صورة واضحة عن منهج المدرسة المحمدية في الصلة بالله والأذكار والدعاء والتربية والأخلاق والتيسير والتي تخرَّج منها هذا الصحابي الجليل وإخوانه، فها هو يقول كما في صحيح البخاري: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً، وكان يقول: إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً. وها هما الشيخان يرويان له أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه. وها هو يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روى الإمام أحمد وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً من الأيام لأصحابه: كيف بكم وبزمان يغربل الناس فيه غربلة، وتبقى حثالة من الناس قد مَرَجَت عهودهم وأماناتهم واختلفوا فصاروا هكذا، وشبك النبي صلى الله عليه وسلم بين أصابعه هكذا، فقال له عبد الله بن عمرو بن العاص : يا رسول الله! بم تأمرني حينئذٍ؟ قال: تأخذون ما تعرفون، وتذرون ما تنكرون، وتقبلون على أمر خاصتكم، وتذرون أمر عامتكم. وسأل رجلٌ عبد الله بن عمرو بن العاص: أي المجاهدين أفضل؟ قال: من جاهد نفسه في ذات الله عز وجل، قال: أنت قلت يا عبد الله بن عمرو؟ أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بل رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله.
ولما توفي كبار الصحابة من الرعيل الأول صارت الفتوى إلى أبناء الصحابة وشبابهم ومنهم عبد الله بن عمرو، وقد أورد ابن سعد في الطبقات قول زياد بن ميناء: كان عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص، وجابر بن عبد الله، ورافع بن خديج، وسلمة بن الأكوع، وأبو واقد الليثي، وعبد الله بن بجينة مع أشباه لهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتون بالمدينة ويحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من لدن توفي عثمان إلى أن توفوا.
إن فضل ابن عباس معلوم، ودعاء الرسول له مشهور، وقد شهد ابن عباس لعبد الله بن عمرو بالعلم والتفقه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عكرمة البربري مولى عبد الله بن عباس: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: ابن عباس أعلمنا بما مضى، وأفقهنا فيما نزل مما لم يأت فيه شيء. قال عكرمة: فأخبرت ابن عباس بقوله فقال: إنَّ عنده لعلما، ولقد كان يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحلال والحرام. وقد مدحه من قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال سليمان بن الربيع العَدَوي: لقينا عمر، فقلنا: إن عبد الله بن عمرو حدثنا بكذا وكذا، فقال عمر: عبد الله بن عمرو أعلم بما يقول؛ قالها ثلاثاً.
وقد عدَّ ابن حزم في كتاب الإحكام لأصول الأحكام عبد الله بن عمرو من المتوسطين من الصحابة فيما روي عنهم من الفتاوى، ومن فقه عبد الله بن عمرو أن رجلاً أتاه فقال: إنى أريد أن أقيم هذا الشهر هاهنا عند بيت المقدس، فقال: أتركت لأهلك ما يقوتهم؟ قال: لا، قال: فارجع فاترك لهم ما يقوتهم، فإني سمعت، رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت.
شهد عبد الله بن عمرو بن العاص مع أبيه فتح الشام، وكانت معه راية أبيه يوم اليرموك سنة 13، وقد تنقل عبد الله بن عمرو بعد المدينة في الشام وبيت المقدس ومصر، وشارك مكرهاً في معركة صِفِّين سنة 37 بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبين معاوية، وكانت مشاركته على كره منه وبإلزام من والده، ولذا كان يعتذر عن ذلك ويود أنه لو كان حجراً جلموداً ولم يشارك فيها، وكان يقول: ما لي ولصفين؟! ما لي ولقتال المسلمين؟! لوددت أني مت قبله بعشر سنين! أما والله على ذلك ما ضربت بسيف، ولا طعنت برمح، ولا رميت بسهم، وما رجل أجهد مني من رجل لم يفعل شيئا من ذلك، كانت بيده الراية فقدم الناس منزلة أو منزلتين.
ويقال إنه لما اتفق علي ومعاوية على التحكيم جرى ذكر عبد الله بن عمرو فيمن جرى ذكره من الصحابة الصالحين لقيادة الأمة بدلاً من المختلِفَين علي ومعاوية، وهذا إن صح فيدل على أنه وصل إلى مقام مشهور بين المسلمين من العلم والاجتهاد والثقة بدينه ورأيه.
وكان عبد الله بن عمرو يرى أنه أخطأ في القتال مع معاوية ولا يتردد في تبيان ذلك رغم أنه كان في جانبه، فقد كان عند معاوية إذ جاءه رجلان يختصمان في رأس عمار بن ياسر رضي الله عنهما، كل واحد يقول: أنا قتلته. يطلب بذلك الجائزة، فقال عبد الله بن عمرو: ليطب أحدكما به نفساً لصاحبه، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقتله الفئة الباغية، بشِّر قاتل عمار بالنار. فلما رأى ذلك معاوية أقبل على عبد الله بن عمرو فقال: ما يدعوك إلى هذا؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قولاً، فأحببت أن أقوله. فقال معاوية: يا عمرو ألا ترد عنا مجنونك! فما بالك كنت معنا؟! قال: إن أبي شكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي:  أطع أباك ما دام حياً. فأنا معكم، ولست أقاتل.
وفي سنة 41 استقل معاوية بالخلافة بعد نزول الحسن له عنها، وسمي ذلك العام عام الجَمَاعة، فولى معاوية على الكوفة عبد الله بن عمرو بن العاص، فأتاه المغيرة بن شعبة متنصحاً، وقال: عمرو بمصر وابنه بالكوفة، فأنت بين فكي الأسد، فعزل معاوية حينئذ عبد الله بن عمرو عن الكوفة، وولاها المغيرة بن شعبة، ولم يدخل عبد الله الكوفة.
ويبدو أن عبد الله بن عمرو استقر بمصر بعد ولاية  والده لها عام 38، وبث فيها علمه وتبع أهلها فتواه، ذلك أنه كان فيها لما توفى والده يوم الفطر من سنة 43، وحضر احتضاره، وقام بتجهيزه ودفنه بالمقطم ثم صلى بالناس العيد، وولاه معاوية مصرا بعد وفاة أبيه فوليها إلى سنة 47.
وورث عبد الله من أبيه قناطير مقنطرة من الذهب، فكان من أثرياء الصحابة، وكان له بستان عنب بالطائف يسمى الوَهْط تكلف على عرائشه ألف ألف درهم، وكانت أكوام زبيبه أشبه بالتلال، ولكن ثروته كانت في خدمة الناس ومعونتهم، فقد زاره في أكثر من مناسبة بعض الصالحين الزهاد فهالهم ما رأوا من مظاهر ثرائه، وهو المعروف بشدة تواضعه، فلما رأوه تبين لهم صدق ذلك، قال سلمان بن ربيعة الغنوي: حججت زمن معاوية في عصابة من القراء، فحُدِّثنا أن عبد الله في أسفل مكة، فعمدنا إليه، فإذا نحن بثقل عظيم يرتحلون ثلاث مئة راحلة، منها مئة راحلة ومئتا زاملة، بعير يحمل الأثقال، وكنا نحدث أنه أشد الناس تواضعا. فقلنا: ما هذا؟ قالوا: لإخوانه يحملهم عليها ولمن ينزل عليه. فعجبنا، فقالوا: إنه رجل غني. ودلونا عليه أنه في المسجد الحرام، فأتيناه، فإذا هو رجل قصير أرمص، بين بردين وعمامة، قد علق نعليه في شماله.
وما كان عبد الله بن عمرو ليفوته أن حب الدنيا شاع بين الجيل الثاني من المسلمين فأقبلوا عليها وانغمسوا في ملذاتها، وغفلوا عن الآخرة وقربها، قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: لخيرٌ أعملُه اليوم أحب إليَّ من ضعفه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنا كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تهِمُّنا الآخرة ولا تهمنا الدنيا، وإنَّا اليوم قد مالت بنا الدنيا. ولذلك كان ميالاً للمساكين لا يملُّ من الصدقة عليهم والإحسان إليهم، وكان يقول: لأن أكون عاشر عشرة مساكين يوم القيامة، أحب إلي من أن أكون عاشر عشرة أغنياء، فإن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة، إلا من قال هكذا وهكذا، يقول: يتصدق يميناً وشمالاً. وكان عبد الله بن عمرو يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث المشهور في إنصاف الضعيف: لا تقدَّسٌ أمةٌ لا يُقضى فيها بالحق، ويأخذ الضعيف حقه من القوي غير  متَعْتَع.
ومرَّ عبد الله بن عمرو بن العاص بالمقبرة، فلما نظر إليها نزل، فصلى ركعتين، فقيل له: هذا شيءٍ لم تكن تصنعه، فقال: ذكرت أهل القبور، وما حيل بينهم وبينه فأحببت أن أتقرب إلى الله عز وجل بهما.
وفي سنة 60 توفي معاوية رضي الله عنه في دمشق، وكان قد استخلف ابنه يزيد، وكان والي مصر مَسْلمة بن مُخلَّد الصحابي الأنصاري، فجاء الكتاب بذلك إلى مصر ومسلمة في الإسكندرية واستخلف على مصر عابس بن سعيد، وأقره يزيد في الكتاب على مصر، وطلب منه أخذ البيعة له، فندب مسلمة عابساً وكتب إليه من الإسكندرية بذلك؛ فطلب عابس أهل مصر وبايع ليزيد فبايعه الجند والناس إلا عبد الله بن عمرو بن العاص، فدعا عابس بالنار ليحرق عليه بابه، فحينئذ بايع عبد الله بن عمرو ليزيد على كره منه.
كان عبد الله بن عمرو رجلاً طِوالا عظيم البطن أبيض الرأس واللحية، يعتم بعمامة حَرَقانية ويرخيها شبرا أو أقل من شبر، وكفَّ بصرُه في آخر حياته، وتزوج بعمرة بنت عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب، وله منها ولده الكبير محمد.
توفي عبد الله بن عمرو في مصر في 15 من جمادى الآخرة من عام 65، وجاءت وفاته في يوم قتل الوالي الأموي المعين الأكدرَ بن حمام اللَّخَمي، وكان ممن شاركوا في قتل عثمان رضي الله عنه، فشغب عليه جنده، فلم يُستطع أن يخرج بجنازة عبد الله بن عمرو إلى المقبرة، فدفن في داره رضي الله عنه.
تزوج عبد الله بن عمرو زوجتين له منهما 4 أولاد و3 بنات منهن ابنته أم عثمان، التي تزوجها سَلَم بن زياد بن أبيه، ولاه يزيد على خراسان وسجستان سنة 61وعمره 24 عاماً، فعبر النهر مع زوجته فكانت أول امرأة من العرب قطع بها النهر، وولدت هناك ولدا أسموه صُغدى، على اسم جبل هناك، وفتح  سلم سمرقند، وكان عادلاً عاقلاً سخياً، لم يحب أهل خراسان أميراً قط حبهم سلم بن زياد، فسُمِّي في السنين التي كان بها بينهم أكثر من عشرين ألف مولود بسلم. وتوفي سنة 73 بالبصرة، وفيه يقول يزيد:
عتبت على سلم فلما فقدته ... و جربت أقواماً بكيت على سلم
ومن بناته أم عبد الله التي تزوجها عبد العزيز بن مروان بن الحكم، والد الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، وكان ولي عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، وواليه على مصر، الذي توفي بمصر سنة 85.
لعبد الله بن عمرو كلمات قيمة في تهذيب النفوس وإصلاح الأخلاق، قال رضي الله عنه: مَن سُئلَ عما لا يَدري فقال: لا أدري، فقد أَحرَزَ نِصْفَ العِلم. وقال: أربع خلالٍ إن أُعطيتهنّ فلا يضرّك ما عدل به من الدّنيا: حسن خليقةٍ، وعفاف طعمةٍ، وصدق حديثٍ، وحفظ أمانة.
وقال: النوم على ثلاثة أوجه: نوم خُرْق، ونوم خَلْق، ونوم حُمْق . فأما النوم الخُرْق فنومة الضحى يقضي الناس حوائجهم وهو نائم، وأما النوم الخلق فنوم القائلة نصف النهار، وأما نوم الحمق فنوم حين تحضر الصلاة.
وسأل رجلٌ عبدَ الله بن عمرو بن العاص: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم. قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم. قال: فأنت من الأغنياء. قال: وإن لي خادماً. قال: فأنت من الملوك.
قال التابعي المفسر الإمام مجاهد بن جبر كان عبد الله بن عمرو بن العاص يضرب فسطاطه في الحِلِّ ويجعل مصلاه في الحرم، فقيل له: لم تفعل ذلك؟ قال: لأن الذنوب في الحرم أشد منها في الحل.

الجمعة، 19 أبريل 2013

حدث في الثامن من جمادى الآخرة


في الثامن من جمادى الآخرة من السنة الرابعة للهجرة توفي في المدينة المنورة الصحابي الجليل أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي رضي الله، وزوج أم المؤمنين أم سلمة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، واسمها  هند بنت أبي أمية رضي الله عنها.

والد أبي سلمة هو عبد الأسد بن هلال بن عمر بن مخزوم، ووالدته بَرة بنت عبد المطلب بن هاشم عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو ابن عمة الرسول، وأخوه من الرضاعة أرضعتهما ثويبة جارية أبي لهب.

تزوج أبو سلمة قريبته أم سلمة هند بنت أبي أمية، ووالدها أبو أمية اسمه حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكان كذلك زوجاً لعاتكة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان والد أم سلمة سرياً في قومه مشهوراً بالكرم، يقال له زادُ الراكب لأنه كان يُطعم من صحبه في سفره ويمونهم، وهو الذي أشار على قريش عندما اختلفوا على وضع الحجر الأسود أن يجعلوا بينهم أول من يدخل من باب الحرم، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما رأوه، قالوا: هذا الأمين رضينا به. ومات أبو أمية بن المغيرة في الجاهلية على ما يبدو.  وأم سلمة كذلك أخت عمار بن ياسر رضي الله عنهما لأمه. وفي الغالب كان زواجها من أبي سلمة بعد إسلامهما جميعاً، وكانت ثمرة هذا الزواج أربعة أولاد: سلمة وعمر وزينب ودُرَّة.

كان أبو سلمة من أوائل المسلمين، إذ أسلم قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، وهو أول من هاجر إلى الحبشة، هاجر إليها الهجرتين ومعه امرأته أم سلمة، وولد فيها ابنه سلمة وعمر.

وجاء أبو سلمة من الحبشة إلى مكة ثم هاجر منها إلى المدينة المنورة وكان ثالث المهاجرين كما قال أبو أمامة بن سهل بن حنيف رضي الله عنه: أول من قدم علينا المدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم للهجرة أبو سلمة. أما وقت هذه الهجرة فيختلف المؤرخون فيه، فمنهم من يقول بعد بيعة العقبة، ومنهم من يقول قبل بيعة العقبة بسنة، ومنهم من يقول قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم بشهرين، وأياً كان وقت هجرته، فمن الثابت أنه نزل في قباء على مبشِّر بن عبد المنذر، وهو صحابي أنصاري كريم نزل عليه أغلب المهاجرين الأوائل واستشهد في بدر، ولما أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم الدور بالمدينة جعل لأبي سلمة داراً عند بني زُهرة.

ولما آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين وبين الأنصار آخى بين أبي سلمة وبين الصحابي الأنصاري سعد بن خيثمة بن الحارث السلمي، وهو من أوائل مسلمي الأنصار، شهد بيعة العقبة وكان أحد النقباء الأثني عشر من الأنصار، وعليه نزل كذلك عدد من عزاب المهاجرين، حتى كان يقال لمنزله منزل العزاب.

ومنعت قريش أبا سلمة من أن يصطحب معه زوجته أم سلمة وابنه الصغير سلمة، فبقيت قرابة سنة بعده حتى لحقت به، وكان أبو سلمة لما أراد الهجرة، رحّل لها بعيراً وحملها عليه، وفي حجرها ابنها سلمة، فلما رآه رجال بني المغيرة قالوا: هذه نفسك قد غلبتنا عليها؛ فما بال صاحبتنا؟ لا ندعك وتسييرها في البلاد. ثم انتزعوا خطام البعير من يده، وأخذوها إليهم، فغضب عند ذلك بنو عبد الأسد بن هلال، وقالوا: والله لا نترك ابنها عندكم إذا نزعتموها من يد صاحبنا، يعنون أبا سلمة. وتجاذبوا سلمة بينهم، حتى خلعوا يده، فكانت مخلوعة حتى مات. ثم انطلقوا به. فكانت، وهي عند أهلها من بني المغيرة، تخرج فتقعد على الصفا، ثم تقول:

يا رَخَّم الجوّ ألا استقلّي ... وفي بني عبد الأسد فحلّي

                                                                                                                                                                                                       ثم هلالا وبنيه فلّي

تدعو على بنى هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم أن تأكل الرَّخَم لحومهم، فروي عنها أنها قالت: جلست بالأبطح أبكي، وكنت أفعل ذلك كثيراً، فرآني ابن عم لي، فكلم بني المغيرة فيّ وقال: ألا ترون ما بهذه المسكينة من الجهد لتفريقكم بينها وبين زوجها وولدها؟ فقالوا لي: الحقي بزوجك إن شئت. وردَّ علىَّ بنو عبد الأسد ابني، فرحلت بعيري، ووضعت ابني في حجري، ثم خرجت أريد أبا سلمة بالمدينة، فلما كنت بالتنعيم، لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، أخا بني عبد الدار، وكان آنذاك مشركاً، فقال: أين تريدين يا ابنة أبي أمية؟ قلت: أريد زوجي بيثرب. فقال: أو ما معك أحد؟ قلت: لا والله. فقال: مالك مَتْرَك. وأخذ بخطام البعير وانطلق معي يقودني، فوالله ما رأيت أكرم مصاحبة منه: كنت أبلغ المنزل، فينيخ جملي ثم يستأخر عني. فإذا نزلت، حط عن بعيري، وقيده، ثم أتى شجرة فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح، قدم البعير فرحله ثم استأخر وقال: اركبي. فإذا استويت على البعير، قادني. فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة. فلما رأى قرية بني عمرو بن عوف بقباء، قال: زوجك في هذه القرية فادخليها على بركة الله، ثم انصرف راجعاً إلى مكة.

وبذلك كانت أم سلمة أول مهاجرة من النساء إلى المدينة، وكانت تقول: والله ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة! وما رأيت صاحبا قط كان أكرم من عثمان بن طلحة.

وأسلم عثمان بن طلحة في هدنة الحديبية، وهاجر قبل الفتح مع خالد بن الوليد، ودفع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وإلى ابن عمه شيبة والد بنى شيبة مفاتيح الكعبة، أقرها عليهم في الإسلام كما كانت في الجاهلية، ونزل في ذلك قوله تعالى: ﴿إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وقُتِل رحمه الله شهيدا بأجنادين في أول خلافة عمر .

كان أبو سلمة من كبار صحابة رسول الله ممن يثق بحكمتهم وحسن تصرفهم، يدل على ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم استخلفه على المدينة المنورة يوم خرج في جمادى الأولى من السنة الثانية للهجرة في غزوة ذات العشيرة يعترض قافلة لقريش خرجت إلى الشام، وشهد أبو سلمة بدراً وكان أخوه لأبيه الأسود بن عبد الأسد ممن خرج مع قريش يوم بدر، وكان قد حلف ليكسرن حوض النبي صلى الله عليه وسلم فقاتل حتى وصل إلى الحوض، فأدركه حمزة بن عبد المطلب،وهو يكسر الحوض، فقتله، واختلط دمه بالماء، وقيل هو أحد المستهزئين الذين عناهم الله في آخر سورة الحجر في القرآن الكريم ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ* إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾، وقيل إن أبا سلمة وأخاه الأسود هما الذين نزلت فيهما هذه الآيات من سورة الكهف التي أولها:﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا

وابنة أخي أبي سلمة الأسود هذا هي المخزومية التي سرقت فشفع فيها أسامة بن زيد فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشفع في حد من حدود الله؟! ثم قام فخطب قال: يا أيها الناس إنما ضل من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم سرقت لقطع محمد يدها!

وفي يوم أُحد أصاب أبا سلمة سهم في عضده رماه به أبو أسامة الجشمي، فرجع إلى منزله فجاءه الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سار إلى حمراء الأسد، فركب حمارا وخرج يعارض رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقيه حين هبط من العصبة بالعقيق فسار مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة انصرف مع المسلمين ورجع من العصبة.

وأقام أبو سلمة شهرا يداوي جرحه حتى رأى أن قد برأ ودمل الجرح على بغي لا يدرى به، فلما كان هلال المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهرا من الهجرة شكل رسول الله سرية من 150 مقاتلاً، ودعا أبا سلمة فقال اخرج في هذه السرية فقد استعملتك عليها، وعقد له لواءً، وقال سر حتى ترد أرض بني أسد، فأغِرْ عليهم قبل أن تلاقى عليك جموعُهم. وأوصاه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا.

وكان سبب هذه السرية أن رسول الله بلغه أن أن طليحة وسلمة ابني خويلد قد سارا في قومهما ومن أطاعهما للهجوم على المدينة المنورة، وقالوا: نسير إلى محمد في عقر داره، ونصيب من أطرافه فإن لهم سَرْحاً يرعى جوانب المدينة، ونخرج على متون الخيل فقد أربعنا خيلنا ونخرج على النجائب، فإن أصبنا نهبا لم نُدرك وإن لاقينا جمعهم كنا قد أخذنا للحرب عدتها؛ معنا خيل ولا خيل معهم، ومعنا نجائب أمثال الخيل، والقوم منكوبون قد أوقعت بهم قريش حديثا، فهم لا يستبلون دهرا ولا يثوب لهم جمع.

فخرج أبو سلمة في أصحابه فأغذوا السير، وتنكب بهم عن سنن الطريق وعارض الطريق وسار بهم ليلا ونهارا فسبقوا الأخبار وانتهوا إلى أول ماء من مياه بني أسد يدعى قَطَن، كانوا مجتمعين عليه ويبعد 300 كيل شرقاً عن المدينة المنورة، فوجدا سرحاً للمتآمرين فأغاروا عليه فضموه وأخذوا رعاء لهم مماليك ثلاثة وأُفلِت سائرهم، فجاءوا جمعَهم فخبروهم الخبر، وحذروهم جمع أبي سلمة وكثَّروه عندهم، فتفرق الجمع في كل وجه.

وورد أبو سلمة الماء فوجد الجمع قد تفرق، فعسكر وفرق أصحابه فجعلهم ثلاث فرق، فرقة أقامت معه وفرقتان أغارتا في ناحيتين شتى، وأوعز إليهما ألا يمعنوا في طلب، وألا يبيتوا إلا عنده إن سلموا، وأمرهم ألا يفترقوا، واستعمل على كل فرقة عاملا منهم، فآبوا إليه جميعاً سالمين غانمين، وعاد السرية ظافرة منتصرة وقد كسرت شوكة عدو الله ورسوله.

ولما مرض أبو سلمة جاءه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فوافق دخوله عليه خروج نفسه، وبينه وبين النساء ستر مستور فبدأ بعض النسوة في الدعاء على أنفسن، كأن يقلن ويحي أو يا شؤم حظي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا حضرتم الميت فلا تدعون على أنفسكن إلا بخير فإن الملائكة يؤمِّنون على ما تقولون. فلما فاظت نفسه بسط النبي صلى الله عليه وسلم كفيه على عينيه فأغمضهما، ودعا له هذا الدعاء العظيم: اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافْسَحْ له في قبره، ونوِّر له فيه.

وقيل فيه نزلت الآيات من سورة الحاقّة: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ* إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾، وغُسِّل أبو سلمة بالعالية، وكان ينزل هناك حين تحول من قباء، من بئر اسمها اليسيرة لبني أمية بن زيد، غُسِّل بين قرني البئر، وكان اسم البئر في الجاهلية العبير فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم اليسيرة.

روى مسلم وابن ماجة عن أم سلمة قالت: لما مات أبو سلمة أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إن أبا سلمة قد مات، ما أقول؟ قال: قولي: اللهم اغفر لي وله، وأعقبني منه عُقبى حسنة. قالت: فقلتُ فأعقبني الله من هو خير لي منه محمدا صلى الله عليه وسلم

كان وقع وفاة أبي سلمة قاسياً على أم سلمة رضي الله عنهما، روى الإمام مسلم عنها قالت رضي الله عنها: لما مات أبو سلمة قلت غريبٌ وفي أرض غربة، لأبكينه بكاء يُتحدث عنه، فكنت قد تهيأت للبكاء عليه إذ أقبلت امرأة من الصعيد تعني العالية في المدينة المنورة -  تريد أن تسعدني أي تشاركني النوح -  فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتريدين أن تُدخِلي الشيطانَ بيتا أخرجه الله منه؟ مرتين، وكففت عن البكاء فلم أبك.

روى مسلم وابن ماجة وهذا لفظه عن أم سلمة رضي الله عنها أن أبا سلمة حدثها أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من مسلم يصاب بمصيبة فيفزع إلى ما أمر الله به من قوله ﴿إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم عندك احتسبت مصيبتي فأْجُرني فيها، وعوضني منها، إلا آجره الله عليها وعاضه خيراً منها.

قالت: فلما توفي أبو سلمة ذكرت الذي حدثني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم عندك احتسبت مصيبتي هذه فأجرني عليه،ا فإذا أردت أن أقول وعِضْني خيرا منها، قلت في نفسي: أُعاض خيراً من أبي سلمة؟ من خيرٌ من أبي سلمة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قلتها فعاضني الله محمدا صلى الله عليه وسلم وآجرني في مصيبتي.

وكان أبو سلمة فيما يبدو لا مال له، لأن أم سلمة وجدت نفسها مضطرة للإنفاق على أولادها وأولاده، روت ابنتها زينب أن أمها سألت الرسول: يا رسول الله! إن بني أبي سلمة في حجري، وليس لهم إلا ما أنفقت عليهم، ولست بتاركتهم هكذا وهكذا، إنما هي بنيّ، أفلي أجر ما أنفقت عليهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنفقي عليهم، فإن لك أجر ما أنفقت عليهم.

واعتَّدت أم سلمة ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد تمنع منها احتراماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فصدّق قولها ودعا لها وتزوجها حتى مات عنها، وتوفيت أم سلمة رضي الله عنها سنة 59، وهي أكبر زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم وآخرهن وفاة.

ذكرنا أن ثمرة زواج أبي سلمة وأم سلمة أربعة أولاد هم سلمة وعمر وزينب ودرة، ولد سلمة في أرض الحبشة، وزوجه الرسول أمامة بنت حمزة بن عبد المطلب، وتوفيت قبل أن يدخل بها، وولد عمر في المدينة المنورة، ونشأ في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونال من توجيه الرسول الكريم ما رواه هو في الحديث الصحيح المشهور: كنت غلاما في حِجْر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصَّحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا غلام، سمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك. فما زالت تلك طِعمتي بعد.

ويقول أغلب المؤرخين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وعمر ابن 9 سنين، ولكن الإمام الذهبي وهو الناقد البصير في الرواية والدراية، تعقب ذلك وبين أنه ولد قبل ذلك بكثير لأنه تزوج في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وحفظ عمر القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد موقعة الجمل مع علي رضي الله عنه، بعثت به معه أمه، وقالت: قد دفعته إليك وهو أعز عليّ من نفسي، فليشهد مشاهدك حتى يقضي الله ما هو قاض، فلولا مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لخرجتُ معك كما خرجت عائشة مع طلحة والزبير. واستعمله عليّ على البحرين، ثم عزله وولاه فارس، وتوفي عمر بن أبي سلمة بالمدينة سنة 83.

أما زينب فكان اسمها بَرة، فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب، روى مسلم عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: سميت ابنتي بَرة، فقالت لي زينب بنت أبي سلمة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم، وسُمِّيتُ برة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزكوا أنفسكم، الله أعلم بأهل البر منكم، فقالوا: بم نسميها؟ قال: سموها زينب. وأرضعتها أسماء بنت أبي بكر فكانت أخت عبد الله وعروة بني الزبير من الرضاعة.

ونشأت زينب في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يناديها زِناب، وكان لها طرائف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كانت أمها أم سلمة إذا دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يغتسل تقول: ادخلي عليه. فإذا دخلت عليه نضح في وجها من الماء ويقول: ارجعي. وبقيت زينب رضي الله عنها وهي عجوز كبيرة  لا يتبين عليها الكبر، ولم يزل وجهها طريا بمائه. وصلى النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أم سلمة مرة، فجاء عمر بن أبي سلمة يمر بين يديه، فأشار إليه فرجع، فجاءت زينب بنت أبي سلمة، فأشار إليها فاستمرت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هنَّ أغلب.

وقد جعل رسول الله أم سلمة وابنتها زينب من آل البيت، فقد روت زينب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند أم سلمة، فدخل عليها بالحسن، والحسين، وفاطمة، فجعل الحسن من شق، والحسين من شق، وفاطمة في حجره، ثم قال: رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت، إنه حميد مجيد. وأنا وأم سلمة جالستين، فبكت أم سلمة فنظر إليها، فقال: ما يبكيك؟ فقالت: يا رسول الله، خصصتَ هؤلاء وتركتني وابنتي، فقال: أنت وابنتك من أهل البيت.

وتزوج زينب ابن خالتها عبد الله بن زَمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزَّى، فولدت له، وكانت من أفقه نساء زمانها، وروت زينب عن أمها.

أما درة فلا نجد لها ذكراً في كتب السيرة والحديث والتاريخ إلا الحديث الصحيح المشهور الذي روته اختُها زينب عن أم حبيبة بنت أبي سفيان، ويتعلق بإشاعة دارت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيتزوج درة، قالت أم  حبيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد تُحدِّثَ أنك ناكح درة بنت أبي سلمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بنت أم سلمة؟ قالت أم حبيبة: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعلى أم سلمة؟ لو أني لم أنكح أم سلمة ولم تكن ربيبتي في حجري ما حلَّت لي، إن أباها أخي من الرضاعة، أرضعتني أنا وأبا سلمة ثويبة، فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن.

اللهم ارض عنهم واجمعنا مع نبيك سيدنا وسيدهم برحمتك يا أكرم الأكرمين.

الجمعة، 12 أبريل 2013

حدث في الثلاثين من جمادى الأولى

في الثلاثين من جمادى الأولى من عام 917 الموافق 24/8/1511م استكمل البرتغاليون استيلاءهم على مضيق مالقة في الملايو، وقضوا على سلطنة مالقة الإسلامية التي حكمت المنطقة أكثر من مئة عام، والتي كان عصرها العصر الذهبي في تاريخ الملايو ولا تزال آثارها وذكرها لا يمحى من الذاكرة الملاوية وتقاليد شعوب الملايو.
ويقع مضيق مالقة في أقصى جنوب آسيا، ويحده شرقاً شبه جزيرة الملايو وغرباً جزيرة سوماطرة، أي بين ماليزيا وبين أندونيسيا اليوم، ويصل بين المحيط الهندي وبين بحر الصين الجنوبي، ويمتد قرابة 800 كيلاً ويتراوح عرضه من 250 كيلاً إلى 65 كيلاً، وقد اكتسب اسمه من ميناء مالقة الواقع في الطرف الماليزي، وهو مضيق هام لكونه أقصر الطرق البحرية من الهند إلى الصين، وكان في السابق كما هو اليوم أحد أكثر الممرات المائية العالمية ازدحاماً.
تأسست سلطنة مالقة سنة 806 على يد السلطان باراميسفارا الذي كان في الأصل أميراً من سوماطرة ولكن هرب منها عندما هاجمها الجاويين من الجنوب، واستقر أول الأمر في توماسيك، وهي جزيرة سنغافورة اليوم، ثم استقر في مالقة لكونها ميناء طبيعياً جيداً يتحكم بالطريق البحري الرئيس بين الهند وبين الصين، واعتنق باراميسفارا الإسلام سنة 817 وتسمى السلطان إسكندر شاه، وأقام علاقات وثيقة مع إمبراطورية المينغ في الصين التي جعلت سلطنته أحد ركائزها التجارية في تجارتها الغربية، واتسمت هذه الإمبراطورية بالتنظيم والعدل ورعاية مصالح الشعب مما جعل الصين تشهد ازدهاراً صناعياً تجارياً واجتماعياً لا مثيل له، وأصبحت أكبر دولة تجارية في العالم، وقد أشاد الرحالة والتجار المسلمون بهذه الدولة وارتاحوا للسفر إليها والتعامل مع تجارها.
وتوفي السلطان إسكندر شاه سنة 827، وخلفه السلطان محمد شاه الذي استمر في الحكم 20 عاماً، وركز فيها على ترسيخ الأنظمة الإدارية في الدولة لتواكب النمو السريع في التجارة والزيادة السكانية، ولضمان الاستقرار والأمن في الدولة، ذلك إن مالقة أصبحت بحلول سنة 834 أهم مركز تجاري في جنوب شرق آسيا، ويتردد عليها التجار من المناطق المجاورة ومن التجار العرب والهنود والفرس، كما قصدتها الأساطيل التجارية الصينية التي كانت تنطلق في شكل بعثات منظمة تشرف عليها الحكومة، وقد تردد عليها عدة مرات الأدميرال الصيني الشهير شينغ هو في الحملات التجارية التي خرجت من الصين إلى المحيط الهندي، ووصل عدد التجار المقيمين فيها إلى 15000 تاجر، وكان عدد السفن في مرساها أكثر من أي ميناء في العالم في ذلك الوقت، وذلك بفضل العدل والإنصاف والاستقرار الذي تمتعت به هذه السلطنة واتباعها لسياسة التجارة الحرة واكتفائها بنزر معقول من الضرائب على التجارة التي تمر بمينائها.
وجعلت السلطنة لكل فئة من التجار بحسب بلادها رئيساً منها أسمته شاهبندر، وهي لفظة فارسية، كان مسؤولاً عن رسو السفن واستيفاء الضرائب، فكان هناك أربع شاهبندرات:للملايو والصين وغربي الهند وجنوبي شرق الهند، ولأن التجارة الخارجية كانت أساس ثراء ورفاه السلطنة فقد أصبح لهذه الوظيفة أهمية كبيرة في الدولة تلي مباشرة مستشاري السلطان، وبقي هذا المنصب قائماً في الملايو إلى القرن التاسع الميلادي.
وفي سنة 849 تولى الحكم السلطان مظفر شاه، وفي عهده الذي دام قرابة 15 عاماً أصبحت مالقة قوة سياسية إلى جانب قوتها التجارية، وصارت مصدراً لنشر الإسلام في أرخبيل الملايو وأندونيسيا، وبدأ مظفر شاه في حركته الاستقلالية برفض دفع الجزية المعهودة لملك تايلاند أيوتهايا، واستطاعت قواته صد حملتين انطلقتا براً وبحراً من سيام، تايلاند اليوم، في سنتي 849 و860، ثم توسع مظفر شاه فاستولى على سيلانجور في الشمال للاستفادة من أراضيها الزراعية الخصبة في تأمين الغذاء للسلطنة وللسيطرة على مزيد من الشواطىء في المضيق.
وانضم إلى السلطان مظفر شاه الأمير تون بيراك، الذي كان زعيماً بارعاً في الحرب، فجعله وزيره سنة 860، وصار الشخص الأقوى في الدولة والذي أشرف على انتقال السلطنة من السلف إلى الخلف، واتبع سياسة خارجية جعلت من السلطنة إمبراطورية محلية تضم كل شبه جزيرة الملايو ومعظم سوماطرة الشرقية، وتوفي الأمير تون بيراك سنة 903.
وتوفي مظفر شاه سنة 863، وخلفه السلطان منصور شاه الذي تزوج من أميرة صينية من الأسرة الإمبراطورية، فوطد العلاقات مع الصين وردَعَ سيام من الاعتداء عليه، وتوفي منصور شاه سنة 881 وخلفه السلطان علاء الدين شاه إلى أن توفي سنة 893، وجاء من بعده السلطان محمود شاه الذي بقي في الحكم 24 عاماً حتى عام 917، وكل هؤلاء السلاطين يمتون بالقرابة للأمير تون بيراك.
وقد شهدت هذه الحقبة ازهاراً اقتصادياً وعلمياً لم تعهده من قبل، وبخاصة في ظل السلطان منصور شاه الذي شجع التعليم والآداب، فشهد عصره نهضة دينية وأدبية وتأريخية احتفت بها الحوليات الملاوية المسماة شجرة الملايو Sejarah Mealyu، والتي تحدثت عن إنجازات سلاطين الملايو وسياساتهم الداخلية وعلاقاتهم الخارجية الدبلوماسية والتجارية، وكانت السلطنة تخضع لقوانين مكتوبة سميت قانون الحكم في مالقة Hukum Kanun Melaka، وتشتمل على قانون بحري ينظم التجارة البحرية وأمور الموانيء والسفن، وكان السلطان بصفته راعياً للإسلام يرسل الدعاة إلى أرخبيل الملايو لنشر الإسلام وكانت أغلب هذه المناطق على الديانة الهندوسية، كذلك كان السلطان يبني المدارس الشرعية ويشجع طلب العلم، وكان منصب القاضي من أعلى مناصب الدولة وأقربها إلى السلطان، ومهمته إضافة إلى الإشراف على المحاكم ونحقيق العدل، والتأكد من أن القوانين التي يسنها السلطان تتطابق مع الشريعة الإسلامية.
وتكونت الوطنية الملاوية في هذه الحقبة من مكوناتها الحالية: الإسلام واللغة، وتأسست عليهما لا على العرق أو القبيلة، وأتاح هذا لسكان تلك البلاد من الوثنيين والبوذيين الذين أسلموا على مدار الأيام أن يندمجوا في العنصر الملاوي دون أية اعتبارات أو عوائق عنصرية.
وكان من الطبيعي أن تصل شهرة مالقة إلى أوروبا، كأهم ملتقى تجاري في آسيا، وبخاصة في ميدان التجارة مع الصين وبضائعها النفيسة المتميزة، وكان القرنان الخامس عشر والسادس عشر الميلاديان قد شهدا توسعاً أوروبياً في مجال التجارة البحرية وبناء الأساطيل، بدأته أسبانيا والبرتغال ثم تبعتها بريطانية وفرنسا وهولندا، وحققت البرتغال نجاحاً كبيراً في هذه المجال فسيطرت بحراً على التجارة الأوروبية مع الهند والصين، وتجنبت الطريق البرية التي كانت تمر بمصر ويتحكم فيها ملوك المماليك معتدلين في ضريبتهم أحياناً وجشعين أحياناً أخرى، وكان فاسكو دي جاما قد عاد للبرتغال سنة905=1499م من رحلته حول القارة الإفريقية بطريق جديد إلى الهند، فقام الملك البرتغالي مانويل الأول على الفور بإرسال إسطول آخر بقيادة الأدميرال بيدرو الفاريز كابرال، مهمته تأسيس علاقات تجارية مع أمراء الهند وسلاطينها، وكسر احتكار تجارة التوابل الذي تمتع به المسلمون لقرون مضت، وكانت الخطة تقضي باحتلال عدن للقضاء على الطريق التجاري إلى مصر، واحتلال مضيق هرمز لقطع التجارة من البصرة إلى الشام فالبحر المتوسط، واحتلال مالقة للسيطرة على التجارة مع الصين، وحيث كانت جمهورية البندقية في إيطالية هي الطرف الأوربي المتعامل مع العرب والمسلمين، فقد كانت المتضرر الأكبر من هذه المخطط على صعيد أوروبا.
وخلال بضع سنوات قادمة أرسلت البرتغال الحملة تلو الأخرى لتأسيس قواعد بحرية تجارية وعسكرية في الهند وبحر العرب والمحيط الهندي، وفي سنة 914=1508 عين الملك مانويل الأدميرال ألفونسو دي البوكركي قائداً للأسطول البرتغالي في الهند، وكان الاستيلاء على مالقة نصب عينه فقد نُقِل عنه قولُه: لو استطعنا انتزاع مالقة من أيدي المور - أي المسلمين- فإن الخراب سيعم أرجاء القاهرة ومكة، ولن تستطيع البندقية شراء أية توابل إلا ما قد يشتريه تجارها من البرتغال.
فاستولى من المسلمين على ميناء جوا Goa في الهند، ويقع على بعد 400 كيلاً جنوبي مومباي، واتخذه قاعدة له، بعد أن دحر محاولات المسلمين لاسترجاعه، ثم اتجه شرقاً لغزو مالقة والسيطرة على تجارة التوابل الشرقية، فوصلها في سنة 915، وتوجس السلطان محمود خيفة من البرتغاليين، فقد وصلته أخبار استيلائهم على جوا من المسلمين، ولذا اعتبرهم بمثابة العدو فأسر بعضهم وهربت سفنهم بالباقين.
وعاد البرتغاليون بعد أن حشدوا أسطولاً يتكون من 18 سفينة و1200 جندي، وشنوا سلسلة من الهجمات على مالقة استمرت 40 يوماً، وصدَّها السلطان وجيشه بفضل استبسالهم وتفوق مدفعيتهم، ولكن نزاعاً نشب بين السلطان محمود وابنه أحمد فتَّ في معنويات الجانب المسلم، كما ساعد البرتغاليين بعض الهنود والصينين وقدموا لهم سفناً صغيرة أتاحت لهم دخول الميناء، واستطاعوا الاستيلاء على المدينة في 30 جمادى الأولى من سنة917، وأباح القائد البرتغالي المدينة لجنوده ينهبونها، وقتل وسبى سكانها المسلمين، ولكنه لم يتعرض لسكانها من الهندوس أو الصينين والبورميين، أما السلطان محمود شاه فانسحب جنوباً مع ابنه علاء الدين وأسس عاصمة جديدة في بنتان واستمر يقاوم البرتغاليين الذي شنوا حرب إبادة عليه ودمروا عاصمته سنة 932، فقام ابنه علاء الدين رياض شاه الثاني بالانسحاب جنوباً وأسس حاضرة جوهور، وهي مدينة تقابل سنغافورة اليوم، واستمر بها حتى وفاته سنة 924.
وكان هذا أعظم نصر حققه البرتغاليون في الشرق الأقصى، وانتهت عظمة مالقة وازدهارها مع الاحتلال البرتغالي، ذلك إن ألفونسو دي البوكركي كان يعتبر حملته حرباً دينية وامتداداً للحملات الصليبية، ولذا فإن مهمته الأساسية ليست تجميع الغنائم وتكديس الثروات بل الانتقام من المسلمين، وكان من جملة أحلامه أن يؤلب الفرس على الأتراك، وأن يدمر مصر بتحويل مجرى النيل، وأرسل البرتغاليون أخبار هذا الانتصار للبابا ليو العاشر في روما مع أثمن الهدايا من غنائم مالقة ومنها فيل أسماه البابا هانّو.
وانفض التجار المسلمون عن ميناء مالقة إزاء هذا العداء الصريح للإسلام الذي واكبه زيادة البرتغاليين للضرائب على البضائع العابرة، وسوء إدارتهم، ورداً على هذا الاعتداء حظرت الحكومة الصينية التعاون مع البرتغاليين أو الاتجار معهم، فقاموا بقرصنة بعض السفن الصينية، فردت الصين على ذلك بأن قتلت البرتغاليين الموجودين في أراضيها، ووجهت رعاياها للتعاون مع سلطان الملايو تجارياً ودعمه في تصديه للبرتغاليين، فانتقلت التجارة لمناطق أخرى، مثل جوهور، بدلاً من مالقة التي كانت سلطتها المركزية القوية توفر الإبحار الآمن والتخزين المضمون والضرائب العادلة والعدل والإنصاف لقاصديها من التجار، فخبا بريق مالقة وانتهى عصرها الذهبي، وبقيت في ذاكرة الملايو رمزاً لعصر ذهبي تأسس فيه الإسلام في تلك الديار وأتى معه الازدهار والتقدم.
ولم يمر الاحتلال البرتغالي دون مقاومة، فقد تصدت له سلطنة آشه Achehمن شمالي سومطرة، والتي اعتنقت الإسلام منذ أكثر من 100 عام، وهاجمت البرتغاليين في مالقة عدة مرات كان النصر منها أحياناً قاب قوسين أو أدنى، وطلبت المساعدة من السلطان العثماني لدحر البرتغاليين، ولكنه لم يستجب لذلك، وبقي الوجود البرتغالي جزيرة كاثوليكية وسط بحر مسلم يموج بالعداء والرفض للاحتلال.
ملأت آشه الفراغ الناجم عن سقوط سلطنة مالقة، واستمر الإسلام في الانتشار في الملايو، وتأسست في أرخبيل الملايو سلطنات إسلامية في الموانىء الواقعة على مصبات الأنهار حتى عم تلك الديار وأصبح أهلوها جزءاً هاماً من الأمة الإسلامية، ووفقاً لمصادر الكنيسة الكاثوليكية فإن عدد الكاثوليك يبلغ اليوم 1.4% من السكان.
استمر حكم البرتغاليين لمالقة حتى سنة 1051=1641 حين تنازلت البرتغال عنها لهولندا، ولم تهتم هولندا بإحياء دور مالقة التجاري فبقيت خاملة، وتنازل الهولنديون عن مالقة للبريطانيين سنة 1308=1824 وبقيت كذلك إلى أن انضمت إلى الاتحاد الماليزي سنة1957م، ثم صارت عام 1963م إحدى ولايات ماليزيا، ويبلغ عدد سكانها اليوم قرابة800000 نسمة، ويطل مسجدها الضخم المميز على مضيق مالقة شاهداً على العصر الذهبي الذي شهدته المنطقة في ظل الدولة المسلمة الغابرة.

الجمعة، 5 أبريل 2013

حدث في الثالث والعشرين من جمادى الأولى

في الثالث والعشرين من جمادى الأولى من سنة 1332=1914 توفي في دمشق، عن 49 عاماً، الشيخ جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم القاسمي، إمام الشام في عصره، علماً بالدين وتضلعاً من فنون الأدب.
ولد الشيخ القاسمي سنة 1283=1866 في دمشق لأسرة عريقة في العلم والأدب، عُرفت كذلك بآل الحلاق، والقاسمي نسبة للجد الشيخ قاسم، وكان والده الشيخ محمد سعيد المولود سنة 1259=1843 والمتوفى سنة 1317= 1900، أديباً عالماً، كان إمام جامع السنانية وكانت له فيه دروس نهارية ومسائية، ومن أبرز كتبه كتاب بدائع الغرف في الصناعات والحِرف، رتبه على الحروف، وبلغ فيه أواخر حرف السين، فأكمله ابنه الشيخ جمال الدين مشتركا مع خليل بن أسعد العظم، وسمياه قاموس الصناعات الشامية، وله كتاب سفينة الفرج فيما هب ودب ودرج، وقد هذبه وحققه الأستاذ محمد خير رمضان يوسف، ونشره فضيلة الشيخ نظام يعقوبي.
أما قاسم جد الشيخ جمال الدين، المولود سنة 1221=1806 والمتوفى سنة 1284=1867، فكان من مشايخ دمشق وفقهائها، ألف منسكاً في فقه الحج، وكان كذلك إماماً في جامع حسان ثم في جامع السنانية، وقد ألف ابنه محمد سعيد كتاباً في سيرته أسماه الثغر الباسم في سيرة الشيخ قاسم.
نشأ الشيخ جمال الدين القاسمي في كنف والده، وتلقى عنه مبادئ العلوم العربية والشرعية، وما أن أكمل الثالثة عشرة حتى كان قد حفظ القرآن الكريم وأتقن الخط العربي، ودرس على كثير من علماء دمشق في زمانه من أبرزهم الشيخ بكري بن حامد العطار، المتوفى سنة 1321، وهو محدث من أشهر علماء دمشق وفقهاء الشافعية فيها، وصحب الأستاذ الشيخ طاهر الجزائري، المولود سنة 1252=1858 والمتوفى سنة 1338=1920، فاستفاد من صحبته علماً بحال العصر، ومعرفة بنوادر الكتب وغرائب المسائل، وحضر مجالس الشيخ عبد الرزاق البيطار، المولود سنة 1253=1837 والمتوفى سنة 1335=1916، وتأثر به في منهجه السلفي، وصحب العالم المفتي الشيخ سليم البخاري، المولود سنة 1268= 1851 والمتوفى سنة 1348= 1928.
وأخذ القاسمي الطريقة النقشبندية عن الشيخ المحقق محمد بن محمد الخاني، ولازم حلقته مدة ثم تركها لأمر لم يوضحه هو، ولكنه قال عن الشيخ الخاني: من أفضل أشياخي الذين انتفعت بمجالسهم ... وكان يحضني دائماً على تأليف رسائل في بعض مباحث علمية، وأريته كثيراً مما جمعته فسُرَّ به.
وكان من لِدات جمال الدين القاسمي في شبابه رجالُ النهضة العلمية مثل الأستاذ المحقق المفكر رفيق بك العظم، المولود بدمشق سنة 1284=1867 والمتوفى بالقاهرة سنة 1343=1925، والأستاذ العلامة محمد كرد علي، المولود سنة 1293=1876 والمتوفى سنة 1372=1953، الذي نشر للقاسمي في مجلته المقتبس كثيراً من كتبه، وكان يرسل إليه المجلة لينظر في أخطائها النحوية والصرفية.
وانتدب الوالي العثماني الشيخ القاسمي سنة 1308 ليرحل في القرى والبلاد السورية وإلقاء الدروس الدينية العامة، فأقام في عمله هذا أربع سنوات، ثم عاد إلى دمشق، وشارك في جلسة علمية مع بعض علماء دمشق وطلبة العلم فيها، فاتهمهم بعض الحساد لدى الوالي العثماني في دمشق ببعض التهم الباطلة، وعلى رأسها تأسيس مذهب جديد في الدين، فاستدعي في سنة 1313 للتحقيق أمام مفتي دمشق وقاض من قضاتها، وتشدد المفتي معه، ولم يقبل منه ما قاله من ردٍّ للتهمة، وأوقع العقوبة به لكونه أصغر المشاركين، ولكن القاضي كان منصفاً عادلاً فنقل للوالي زيف الادعاء وبطلان التهمة، فأخلي سبيله، واعتذر إليه والي دمشق. وقد رد رحمه الله هذه التهمة مبيناً أن غرضه إحياء الاجتهاد العلمي فقال في كتابه إرشاد الخلق إلى العمل بخبر البرق، والذي كتبه عندما تردد بعض العلماء في الأخذ بالاتصالات السلكية وسيلة لنقل الكلام والمعلومات من بلد إلى آخر: وإن مراد الإصلاح العلمي بالاجتهاد ليس القيام بمذهب خاص والدعوة له على انفراد، وإنما المراد إنهاض رواد العلم، لتعرف المسائل بأدلتها.
وحول تهمة المذهب الجمالي نظم الشيخ القاسمي رحمه الله هذه الأبيات:
زعم الناس بأني مذهبي يدعى الجمالي
وإليه حينما أفتي الورى أعزو مقالي
لا وعمر الحق إني ... سلفيّ الانتحال
مذهبي ما في كتاب الله ربي المتعالي
ثم ما صح من الأخبار، لا قيل وقال
أقتفي الحق ولا ... أرضى بآراء الرجال
وأرى التقليد جهلاً ... وعمى في كل حال
وبعد هذه المحنة الوجيزة توجه نشاط الشيخ للتحقيق العلمي وانقطع في منزله للتصنيف إلى جانب خطبة الجمعة وبعض الدروس في التفسير والعلوم الشرعية والعربية، ونشر بحوثا كثيرة في المجلات والصحف، وقد وصفه بذلك السيد محمد رشيد رضا في معرض حديثه عن زيارته لدمشق سنة 1326= 1908فقال: الأستاذ العامل المجِدُّ الذي يقتل وقته كله في التدريس والتصنيف وتصحيح الكتب النافعة: الشيخ جمال الدين القاسمي، أدام اللهُ النفعَ بعلمه وعمله.
وقد جعلت هذه المحنة القاسمي يلاحظ الجمود الذي صار إليه كثير من علماء عصره، واعتمادهم على أقوال الفقهاء من قبلهم دون بحث أو مراجعة، فأدرك أن إصلاح هؤلاء يتم ليس بالاستشهاد بالقرآن الكريم والسنة النبوية فحسب، بل بأقوال الفقهاء الأقدمين، لذلك عمد إلى الإكثار من النقل عنهم، فإذا اعترض خصومه على أقواله فما كان لهم أن يعترضوا  على أقوال أئمة السلف من الفقهاء الكبار.
كان القاسمي مثالا لعلماء السلف في تعدد معارفه، وإلمامه بكل ما ينبغي علمه للمجتهد، دون أن يشغله ذلك عن التدريس والوعظ واللقاء بالناس، قال الأستاذ محمد كرد علي: وبينما ترى القاسمي على قدم السلف الصالح، عالما كبيرا بين الفقهاء، والأصوليين، والمحدثين، والمفسرين، إذا هو من المختصين بالأدب، وبينما تراه يؤلف إذا بك تراه يواظب على التدريس لطلبته، أو وعظه المستمعين في دروسه وخطبه، ومع كل هذه الأعمال تراه يهش ويبش كل ساعة، ويفسح من وقته شطرا ليغشى مجلسه أخلاؤه وطلاب الفوائد منه.
زار القاسمي مصر سنة 1321 مع الشيخ عبد الرزاق البيطار والتقى بالإمام محمد عبده، فاغتبطا بلقائه واغتبط بلقائهما، وصارت المكاتبة بعد ذلك متصلة بينه وبينهما، وزار المدينة المنورة في سنة 1328، مع صهره خليل بك العظم، والتقى فيها بالسيد أحمد البرزنجي مفتي الشافعية فيها، وكعادة العلماء زار فيها مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمة والمكتبة المحمودية، وتمنى لو يتاح له الإقامة في المدينة المنورة نحو عام، لينسخ تلك الكتب المهمة الموجودة فيها، ولا يفوته بروح الرحالة الدقيق أن يذكر في مذكراته عن الرحلة عدد ما في هذه المكتبات وغيرها، نذكرها هنا للفائدة: مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمة 5404 كتب، المكتبة المحمودية 4569 كتاباً، مكتبة بشير آغا عند باب السلام 2063 كتاباً، مكتبة شيخ الإسلام فيض الله أفندي 1246 كتاباً، مكتبة عمر أفندي قره باش 1269 كتاباً.
وقد أخرج الشيخ جمال الدين القاسمي في عمره الذي لم يتجاوز 50 عاماً مجموعة من الكتب والرسائل، وهي مجموعة مباركة في هذا العمر غير الطويل، لمن له زوجة وسبعة أولاد، وإمامة للأوقات الخمس، سيما إذا عرفنا أنه كتب تفسيره بيده؛ الآيات القرانية بالأحمر والتفسير بالأسود، وهذه بركة من الله وفضل يؤتيه من يشاء، وقد أورد السيد محمد رشيد رضا في مجلة المنار قرابة 80 مؤلفاً للشيخ القاسمي ما بين كتب كبيرة ورسائل صغيرة، وأشار أن له رسائل مختصرات لا تغني عنها المطولات، وقد ذكرنا من قبل إكماله لكتاب والده عن الصناعات الدمشقية، ونورد هنا بعض مؤلفاته متوخين إظهار تنوع مواضيعها وشمولها للتفسير وأصول الفقه والفقه ومصطلح الحديث والحديث والعقائد والأدب: تفسيره المسمى محاسن التأويل،  وهو في 17 مجلدًا، وأشرف على طباعته الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، كتاب موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين، كتاب إصلاح المساجد من البدع والعوائد، كتاب قواعد التحديث من فن مصطلح الحديث، كتاب تاريخ الجهمية والمعتزلة، كتاب العقود النظيمة في ذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه العظيمة، ومحاسن شريعته القويمة، رسالة في أوامر من مشايخ الإسلام بالحكم بغير المذهب الحنفي، بيت القصيد في ديوان الإمام الوالد السعيد، تعطير المشامّ في مآثر دمشق الشام، في أربع مجلدات، كتاب شرف الأسباط.
وحول هذا الكتاب الأخير كتب الأستاذ محمد رشيد رضا: ووالدته علوية يتصل نسبها بنسب الشيخ إبراهيم الدسوقي الشهير، وقد عُنيَ الفقيد في آخر عمره بإثبات هذا النسب، وكتب له شجرة، وجاء مصر في العام الماضي لشؤون تتعلق بذلك فسررنا بلقائه، وجددنا ما لا تُخلِقه الأيام من عهود إخائه، وكتبنا له كما أحب كلمات على نسبه. وقد صار بعض تلاميذه وأصحابه يطلقون عليه لقب (السيد) بعد تحرير هذا النسب؛ بناء على القول بعموم شرف الأسباط، ولكن العرف الذي عليه أكثر المسلمين على خلاف هذا القول، والشيخ غني عن هذا اللقب، الذي لا يفهم المراد منه أحد.
وقد تتلمذ على الشيخ جمال الدين القاسمي عدد غفير من علماء وطلبة العلم في الشام ومن دمشق بخاصة،  ومنهم العلم مؤلف الأعلام الأستاذ خير الدين الزركلي الذي وصفه ترجمته بإمام الشام في عصره، وأشار إليه في أكثر من موضع بلفظ شيخنا، ومنهم الفقيه المؤرخ محمد جميل الشطي، المولود سنة 1300= 1882 والمتوفى سنة 1379=1959، وممن درس عليه وينبغي الإشارة له الشيخ محمد بن عبد العزيز ابن مانع المولود في عنيزة بنجد سنة 1300=1883 والمدفون بقطر سنة 1385=1965، والذي انتهت به مسيرته في التعليم والقضاء أن صار رئيس الإفتاء والقضاء في قطر.
واجه الشيخ جمال الدين معارضة من المشايخ التقليديين في دمشق، وذلك لاعتراضه على الأسلوب السائد بينهم والذي يعتمد على اتباع أقوال كتب المذاهب الفقهية دون الرجوع إلى مصادر الاستدلال أومقارنة الأدلة، ومن الطبيعي أن مثل هذه الدعوة لو اتسع نطاقها لتشمل كل القضايا الفقهية لأدت إلى نشوء مذهب فقهي جديد، في حين أن القاسمي في نظر نفسه ونظر معاصريه لم يكن إماماً ممن يحق لهم فتح باب الاجتهاد والاستدلال، ورأى كثير من المشايخ في اجتهادات القاسمي تحقيراً للأئمة وكثير من علماء الأمة، والحق أن الشيخ جمال الدين القاسمي كان بحاثة محققاً يحق له الاجتهاد فيما بحث من قضايا، ولكن أسلوب معارضيه خرج بالقضية من اجتهاد علمي إلى خصومة عبثية لا طائل من ورائها، وقضية الاجتهاد خارج المذهب قضية تكررت في كل بلد وتعود في كل بضعة عقود، وهناك إشكالان كبيران فيها يساهمان في جعلها قضية حساسة لدى قطاع كبير من العلماء: أولهما الأسلوب الهجومي الذي يتبعه عادة الطرف المجتهد ويستهدف في الغالب آراء المذهبين الحنفي ثم الشافعي، والثاني اتجاهها في الغالب للقضايا الثانوية، وتركها القضايا الأساسية والجوهرية في مصالح البلاد والعباد.
والشيخ جمال الدين القاسمي رحمه الله تعالى مجتهد في بعض كتبه، مقلد في بعضها، فقيه دقيق في بعضها، وأديب مسترسل في بعضها، ولكنه مصلح اجتماعي في كلها، فكتبه ليست على نسق واحد أو منهج التزمه فلم يحد عنه، وقد تحدث عن ذلك السيد محمد رشيد رضا فقال: سيقول كثير من الناس: إنك عددت القاسمي من رجال الإصلاح، وإن أسماء كثير من هذه الكتب التي صنفها أو شرحها تدل على أنها ليست من الإصلاح في ورد ولا صدر، ولا تشتمل على عين منه ولا أثر؛ فكيف يضيع العالم المصلح وقته في شرح لغز، أو ما يعد أبعد عن الإصلاح من اللغز؟
ثم أجاب السيد عن ذلك بقوله: إن الرجل كان من خيار مصلحي المسلمين في هذا العصر، وإن لم يدخل كل ما كتبه في باب الإصلاح الذي يفهمه قراء المنار، فمسمى الإصلاح ومفهومه واسع، وهو يختلف باختلاف الزمان والمكان ... فهل يطلب ممن عاش خمسين، ترك فيها من هذه الكتب والرسائل نحوًا من سبعين، أن يكون جميع ما كتبه أو شرحه إصلاحاً في الدنيا والدين، مرضياً عند الكهول المجربين، والشيوخ المحنكين؟
وقد يكون التفسير الأقرب لاختلاف المنهج في مؤلفات الشيخ القاسمي أنه ابتدأ تقليدياً وانتهى مجتهداً، وأيا كان فلا شك أن عدداً من مؤلفاته تحمل سمة التفكير والبحث المستقل بعيداً عن التأثر بآراء الآخرين، وأبرزها في هذا المجال كتابيه تاريخ الجهمية والمعتزلة وكتاب ميزان الجرح والتعديل، فقد تناول الموضوع بطريقة علمية بحتة تبتعد عن الأحكام المسبقة والأقوال الشائعة، فأحسن فيه وأنصف، قال السيد محمد رشيد رضا عن كتاب تاريخ الجهمية والمعتزلة: لم يكتب أحد في هذا العصر كتابة أعدل منها في التأليف بين فرق المسلمين الكبرى، وهم أهل السنة الأثرية والأشاعرة والمعتزلة والشيعة والخوارج ... وقد اتهم الفقيد بعض السلفيين بأنه خالف مذهب السلف في رسالته، وقد كتب بعض علماء الشيعة ردًّا عليها قبل إتمام نشرها.
أما كتاب ميزان الجرح والتعديل، فلعل من الخير أن ندل عليه بفقرة منه، قال الشيخ رحمه الله: وقد تجافى أرباب الصحاح الرواية عن أهل الرأي، فلا تكاد تجد اسمًا لهم في سند من كتب الصحاح أو المسانيد أو السنن، وإنْ كنت أعدّ ذلك في البعض تعصبًا، إذ يرى المنصف عند هذا البعض من العلم والفقه ما يجدر أن يتحمل عنه، ويستفاد من عقله وعلمه، ولكن لكل دولة من دول العلم سلطة وعصبة ذات عصبية، تسعى في القضاء على من لا يوافقها ولا يقلدها في جميع مآتيها، وتستعمل في سبيل ذلك كل ما قدر لها من مستطاعها كما عرف ذلك من سبر طبقات دول العلم، ومظاهر ما أوتيته من سلطان وقوة، ولقد وجد لبعض المحدثين تراجم لأئمة أهل الرأي يخجل المرء من قراءتها فضلاً عن تدوينها، وما السبب إلا تخالف المشرب على توهم التخالف، ورفض النظر في المآخذ والمدارك، التي قد يكون معهم الحق في الذهاب إليها، فإن الحق يستحيل أن يكون وقفاً على فئة معينة دون غيرها، والمنصف من دقق في المدارك غاية التدقيق ثم حكم بعد.
تعرض الشيخ جمال الدين القاسمي في رمضان سنة 1327، قبل وفاته بخمس سنوات، إلى إشكال آخر مع الحكومة العثمانية، فقد جرت الإطاحة بالسلطان عبد الحميد قبل بضعة أشهر فيما سمي بالانقلاب العثماني، وجاء السلطان محمد رشاد الذي أعلن الدستور العثماني، وأعقب هذا عودة كثير من الحريات التي كانت مقيدة، ومعها كثير من الفوضى والاضطراب، وانتهز بعض الخصوم في الشام الوضع ليتهموا خصومهم بالتآمر على الدولة، وكان سهم الاتهام موجهاً إلى الأستاذ محمد كرد علي ومجلة المقتبس، ولكنه طال القاسمي والشيخ عبد الرزاق البيطار والوجيه عبد الرحمن بك اليوسف الزركلي، ومدار التهمة أنهم يسعون لتكوين دولة عربية وخلافة جديدة، فبادر الوالي العثماني إلى استجوابهم والتحقيق العلني في القضية، دون تروٍ أو تأمل، مما سبب لغطاً كبيراً وإحراجاً شديداً للمتهمين، ثم ما لبث أن تبين زيف هذه الادعاءات وبعد هؤلاء عنها، فطوي التحقيق واندثرت المسألة.
وصف الشيخَ القاسمي الأستاذُ محمد رشيد رضا في تأبينه له في مجلة المنار فقال: كان من أكمل ما رأيت في أخلاقه وآدابه وشمائله: كان أبيض اللون نحيف الجسم ربعة القد، أقرب إلى القصر منه إلى الطول، غضيض الطرف، كثير الإطراق، خافض الصوت، ثقيل السمع، خفيف الروح، دائم التبسم. وكان تقيًّا ناسكًا، واسع الحلم، سليم القلب، نزيه النفس واللسان والقلم، برًّا بالأهل، وفيًّا للإخوان، يأخذ ما صفا ويدع ما كدر، عائلاً عفيفاً قانعاً.
كان له رحمه الله تعالى دروع سابغات من أخلاقه وسيرته تقيه بغي أعداء العلم والإصلاح من حسّاده؛ إذ كان نزيه اللسان، بعيداً عن المراء والجدال، متجنباً للإزراء بغيره، والتعريض بغميزة خصمه أو مدح نفسه، غير مزاحم لوارثي العمائم على الحطام، ولا مسابق لهم إلى أبواب الحكام، إلى ما كان عليه من العبادة، والعفة والاستقامة.
ومن أبرز أولاد الشيخ جمال الدين ابنه الأستاذ ظافر القاسمي رحمه الله تعالى، الذي ولد في سنة 1331=1913 قبيل وفاة والده، ودرس المحاماة في دمشق، وانتخب نقيباً للمحامين في سورية سنة 1375=1955، وتوفي سنة 1404=1984، وكان من أصدقاء والدي رحمهما الله تعالى، وقد تابع نشر كتب والده فنشر سنة 1353كتاب قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث، وألف كتاباً عن والده، أورد فيه بعضاً من أقوال والده تدل على روحه ومشربه نوردها لتكون مسك الختام:
لا نسرُّ بشيء مطلقاً كما نسر بالانتقاد، لأنه إما أن يبين خطأ ارتكبناه نحن فنصلحه، أو خطأً ارتكبه المنتقد في إدراك غرضنا فنصلحه له.
الحق يُصرع إذا عُمِد إلى إظهاره بالسباب والشتائم.
العاقل لا ينتصر لرأيه الذاتي، ولا يصر عليه، بل يعتبره خاطراً سنح له، فربما كان صواباً أو خطأً.

 
log analyzer