الجمعة، 22 فبراير 2013

حدث في الرابع عشر من ربيع الآخر


في الرابع عشر من ربيع الآخر من سنة 529 قُتِل في دمشق، عن 23 عاماً، ملك دمشق، شمس الملوك، إسماعيل بن بوري بن الأتابك طُغتكين التركي.
وقُتِل شمس الملوك بأمر والدته التي رأته قد تمادى في غيه وكثر فساده وتواطأ مع الفرنج على بلاد المسلمين، فأمرت غلمانها أن يقتلوه، فقتلوه وأجلست أخاه شهاب الدين محمود بن بوري مكانه، ثم قتل أخوه هذا سنة 533.
وسيرة شمس الملوك وأسرته تعطي فكرة عن حقبة سادت المشرق العربي بل العالم الإسلامي قبل سيطرة نور الدين زنكي ومن بعده صلاح الدين على المشرق العربي، وهي حقبة أشبه ما تكون بما كان عليه أمراء الطوائف في الأندلس من تناحر وحروب واستعانة بالفرنج، ولو لم يقيض الله لها نور الدين زنكي لكانت العاقبة وخيمة.
ولد شمس الملوك في سنة 506، لأب ينتمي إلى أسرة من الملوك الشجعان المجاهدين، وأم صالحة تقية عالمة مدبرة حازمة.
أما أمه فهي الخاتون زُمُرد بنت الأمير جاولي بن عبد الله، الملقبة بصفوة الملك، وهي أخت ملك: دقاق بن تتش الذي ملك دمشق وتوفي سنة 497، وزوجة ملك: بوري بن طغتكين، وأم ملكين إسماعيل ومحمود ابني بوري.
سمعت الحديث واستنسخت الكتب. وحفظت القرآن، وبنت بدمشق مدرسة كبيرة تسمى الخاتونية البرانية -  وقد دَرَست - ووقفتها على الحنفية، وكانت كبيرة القدر وافرة الحرمة، وبعد وفاة زوجها في سنة 526 تزوجها الأتابك قسيم الملك زنكي والد نور الدين في سنة 532 مؤملاً أن يأخذ بسببها دمشق، فلم يظفر بذلك، بل ذهبت إليه إلى حلب ثم عادت إلى دمشق بعد وفاته سنة 541، ثم تقلبت بها الأحوال، فتوجهت إلى بغداد، ثم إلى مكة، وجاورت بالمدينة، وقل ما بيدها، فكانت تغربل القمح والشعير وتطحن وتتقوت بأجرة ذلك، إلى أن توفيت سنة 557 ودفنت بالبقيع.
وكان  جده طُغتِكين الملقب بظهير الدين من مماليك الملك تاج الدولة تُتُش بن ألب أرسلان السلجوقي، وكان مقرّباً من تتش حتى إنه أعتقه وزوّجه بأم ولده دقاق، وكان تتش قد تملك دمشق سنة 471، ثم قُتِل تتش في معركة في إيران مع ابن أخيه بَركْيَارُوق في سنة 488، وخلَّف ولدين: أحدهما فخر الملوك رضوان، والآخر شمس الملوك أبو نصر دُقاق، فاستقل رضوان بمملكة حلب، ودقاق بمملكة دمشق، وصار طغتكين أتابك ملكها دقاق بن تتش، والأتابك: لفظه تركية مركبة من أتا: وهو الأب، وبك: وهو الأمير، وكان الأتابك يكلف من قبل السلطان الحاكم بالوصاية على واحد أو أكثر من أبنائه الذين لم يبلغوا سن الرشد.
ولما مات دقاق سنة 497 أوصى أن يكون طغتكين أيضاً القائم بدولته، وملك دمشقَ بعده ابنُه تُتُش وعمره 12 عاماً، فقام طغتكين بأمره، ثم أراد أن يتولى الملك رجل فاستقدم أخاً لدقاق يدعى أرتاش، وكان مسجوناً ببعلبك، ونصبه ملكاً على دمشق، فبقي ثلاثة أشهر، ثم تضايق من طغتكين وأراد القضاء عليه، فذهب بجهله إلى الملك الفرنجي بغدوين صاحب القدس Baldwin I، لكي ينصره، فلم يستجب له، فتوجّه شرقاً إلى العراق فهلك في رحلته.
وتملك ظهير الدين طغتكين دمشق وبقي فيها إلى أن أدركته الوفاة سنة 522، فكان عملياً حاكماً لدمشق مدة 35 عاماً، وكان عاقلاً خبيراً، حسن السيرة في رعيته، مؤثراً للعدل، شهماً مهيباً، ظهيراً للدين مثل اسمه، شديداً على الفرنج والمفسدين، كثير الغزوات والجهاد للفرنج، وتحالف مع ملوك المدن الإسلامية من حوله في الموصل وماردين، ومع الفاطميين في مصر لمقاومة الفرنج ودفع اعتدائهم، ولما توفي حزن عليه أهل دمشق بأسرهم.
ونذكر على سبيل المثال إحدى الوقائع التي خاضها هذا القائد الشجاع، ففي سنة 510 جاء إلى دمشق سيف الدين آقسنقر البرسقي صاحب الموصل مع بعض عسكره لمعونة ظهير الدين على الفرنج، وبالغ طغتكين في إكرامه وتعظيمه.
وصادف في ذلك الوقت ورود الخبر أن الفرنج في طرابلس ينوون مهاجمة سهل البقاع، فاجتمع رأي طغتكين وآقسنقر على مهاجمتهم على الفور، فسارا بقواتهما وأغذا السير ليلاً ونهاراً بحيث هجموا عليهم بغتة وهم في مخيمهم، فلم يتمكنوا من ركوب خيلهم ولا أخذ سلاحهم، فمنحهم الله النصر عليهم، وقتلوا كثيراً من الرجالة وأغلبهم من المزراعين والعمال الذي حشروا لهذا الهجوم، وأسروا وجوه فرسانهم، وأفلت منهم مقدمهم بدران بن صنجيل Bertrand son of Raymond St. Gillesونفر يسير ممن نجا به جواده، وقُدِرَ عدد القتلى من الفرنج بما يزيد على ثلاثة آلاف نفس، ولم يقتل من المسلمين أحد، وعاد ظهير الدين وسيف الدين آقسنقر في عسكريهما إلى دمشق مسرورين بالظفر ووصلا البلد بالأسرى ورؤوس القتلى، وخرج الناس من البلد لمشاهدتهم وحمدوا الله على النصر المبين.
وأقام آقسنقر البرسقي أياماً بعد ذلك، وتوجه عائداً إلى بلده بعد استحكام المودة والمصافاة بينه وبين ظهير الدين، واتفقا على الاعتضاد في الجهاد متى حدث أمر أو حزب خطب.
وملك بعد طُغتكين ابنُه بوري أكبر أولاده بوصية منه، وتولى بوري الملك وعمره 44 عاماً، وكان كذلك كثير الجهاد، شجاعاً، مقداماً، سدَّ مسد أبيه، وتفوق عليه، ومن أول التحديات التي واجهها تحالف الإسماعيلية مع الفرنج والذي كادت معه أن تقع دمشق بيد الفرنج.
وكان أحد دعاة الإسماعيلية ويدعى بهرام الأسدآبادي قد جاء إلى الشام وتقرب من طغتكين حتى ولاّه بانياس، وملك بهرام بعدها عدّة حصون بساحل الشام، وأقام له داعياً بدمشق فكثر أتباعه بها، وصار منهم طاهر بن سعد المزدقاني وزير طغتكين وابنه بوري، وقُتِل بهرام في معركة مع قبائل عربية في وادي التيم، فتولى الحكم من بعده إسماعيل العجمي.
وجرت مراسلات بين الفرنج والإسماعيليين على أن يسلِّم الوزير المزدقاني دمشق  للفرنج ويعوّضوهم عنها بصور، وقرر مع الباطنيّة بدمشق أن يغلقوا أبواب الجامع والناس في الصلاة، ووعد الفرنج أن يهجموا على البلد ساعتئذ، وبلغت أخبار المؤامرة بوري فقتل الوزير وعلّق رأسه على باب دمشق، وقتل أشياعه فيها، وعين وزيراً له من خيار الناس هو أحمد بن عبد الرزاق الملقب بكريم الملك، وتوفي في سنة 525.
ولما سمع  إسماعيل الداعي المقيم ببانياس بفشل المؤامرة ومقتل أشياعه، أُسقِط في يده وانخذل وذل، وأدرك أن لا نجاة له إن أقام ببانياس، فأنفذ إلى الفرنج يبذل لهم تسليم بانياس إليهم ليأمن بهم، فسلمها إليهم وذهب هو وجماعة إلى أراضي الفرنج، على غاية من الذلة، ثم مات إسماعيل بعلة الذَرَب في سنة 524.
وحشد الفرنج جيشاً يتكون من قوات من إمارات الرها وأنطاكية وطرابلس والساحل، وقدر عدده بما يزيد على ستين ألف فارس وراجل وأكثرهم الرجالة، واستعد لهم بوري بعسكره وضم له قوات من البادية والتركمان، وأرسل في طلب النجدات من العراق، ووصل الجيش الفرنجي وخيم بظاهر دمشق ولكنه لم يهاجمها ولم يشتبك مع جيش بوري، فاستغرب ذلك بوري واستطلع الخبر فعرف أنهم يعانون من نقص في الأعلاف وأنهم سيروا قوات إلى سهول حوران لتأتيهم بها مع أمداد من الفرنج في فلسطين، فجرد بوري قوة مشتركة من عناصر جيشه وأرسلها على وجه السرعة إلى حوران فاشتبكت معهم في معركة قاسية وتم لها النصر في النهاية، ولما بلغ خبر الكسرة إلى الفرنج المعسكرين خارج دمشق بادروا بالانسحاب وحرقوا ما لم يستطيعوا حمله، وانطلق الجيش وراءهم فقتلوا وأسروا.
وكان ابن الصباح مقدم الإسماعيلية في قلعة الألموت بإيران قد ندب طائفة لقتل بوري بعد فتكه بأتباعه في دمشق، وفي سنة 525 وثب شخصان يرتديان زي الجند على بوري، فضربه أحدهما يقصد رأسه، فجرحه في رقبته جرحا سليما، وضربه الآخر بسكين في خاصرته، فمرت بين الجلد واللحم، وشفي بوري من الجراح، ثم ما لبث أن توفي بعد ذلك بسنة، ويعزو المؤرخون وفاته في سنة 526 إلى أن جرحه قد انتقض عليه، ووصى بوري بالملك بعده لولده شمس الملوك إسماعيل، ووصى بمدينة بعلبك وأعمالها لولده شمس الدولة محمد.
تملك شمس الملوك بعد وفاة أبيه في سنة 526، وكان في العشرين من عمره، وأظهر عزيمة ماضية وشجاعة فائقة في بسط سلطانه وتوطيد ملكه واستعادة ما فقده والده من البلاد، فلم يمض على توليه الحكم أربعة شهور إلا وشنَّ أول حملاته واستولى على حصن اللبوة وحصن رأس، ثم حاصر أخاه في بعلبك.
وكان سبب ذلك أنه بلغه أن أخاه شمس الدولة محمداً، صاحب بعلبك، قد راسل مستحفظي الحصن واستمالهما إليه، فسلما الحصنين إليه، وجعل فيهما من الجند ما يكفيهما، فلم يُظهر شمس الملوك تأثراً بذلك  بل راسل أخاه بلطف يقبح هذه الحال، ويطلب أن يعيدهما إليه، فلم يفعل، فأغضى على ذلك، وتجهز من غير أن يعلم أحداً.
وخلال أيام سار هو وعسكره شمالاً ثم اتجه غرباً فلم يشعر من بحصن اللبوة إلا وقد نزل عليهم، وزحف لوقته، فلم يتمكنوا من نصب منجنيق ولا غيره، فطلبوا الأمان، فبذله لهم، وتسلم الحصن من يومه، وسار من آخر النهار إلى حصن راس، فبغتهم، فاستسلموا،  وتسلم الحصن وجعل في الحصنين من يحفظهما.
ثم رحل إلى بعلبك وحصرها، وفيها أخوه شمس الدولة محمد، وقد استعد، وجمع في الحصن ما يحتاج إليه من رجال وذخائر، فحصرهم شمس الملوك، وزحف في الفارس والراجل، وقاتله أهل البلد على السور، ثم زحف عدة مرات، فملك البلد بعد قتال شديد وقتلى كثيرة، وبقي الحصن وفيه أخوه، فقاتله ونصب المنجانيق ولازم القتال، فلما رأى أخوه شمس الدولة شدة الأمر أرسل يبذل الطاعة، ويسأل أن يُقَرَّ على ما بيده، وجعله أبوه باسمه، فأجابه إلى مطلوبه، وأقر عليه بعلبك وأعمالها، وتحالفوا وعاد شمس الملوك إلى دمشق وقد استقامت له الأمور.
وبعد شهرين وفي أوائل سنة 527 اتجه شمس الملوك لاستعادة حصن بانياس الذي كانت الإسماعيلية قد تنازلت عنه للفرنج سنة 523، وواته الفرصة بسرعة لأن الفرنج نقضوا الهدنة التي بينه وبينهم واستضعفوه وطمعوا فيه، فتعرضوا إلى أموال جماعة من تجار دمشق بمدينة بيروت وأخذوها، فشكا التجار إلى شمس الملوك، فراسل الفرنج في إعادة ما أخذوه، وكرر القول فيه، فلم يردوا شيئاً، فحملته الأنفة والغيظ من هذه الحالة على أن جمع عسكره وتأهب، ولا يعلم أحد أين يريد.
ثم سار ونزل على بانياس، وقاتلها لساعته، وزحف إليها زحفاً متتابعاً، وكانوا غير متأهبين، وليس فيها من المقاتلة من يقوم بها، واقترب بنفسه من سور المدينة وترجل عن جواده فترجل الجنود بأَسْرِهم لترجله، ورشقوا المدافعين على السور بالنشاب فاستتروا ولم يبق أحد يظهر برأسه عليه لكثرة الرماة، ووصلوا إلى السور فنقبوه ودخلوا البلد عنوة، والتجأ من كان من جند الفرنج إلى الحصن وتحصنوا به، فقتل من البلد كثير من الفرنج، وأسر كثير، ونهبت الأموال، وقاتل شمس الدين القلعة قتالاً شديداً ليلاً ونهاراً، فملكها بعد يومين بالأمان، وعاد إلى دمشق ظافراً بعد حوالي عشرة أيام من خروجه، وكان الفرنج لما سمعوا نزوله على بانياس شرعوا يجمعون عسكراً يسيرون به إليه، فأتاهم خبر فتحها، فتركوا ذلك.
وبعد قرابة ستة أشهر شنَّ شمس الملوك حملة أخرى أخذ فيها مدينة حماة وقلعتها، وكانت تخضع للأتابك زنكي بن آقسنقر والد نور الدين، أخذها سنة 523 من والده بوري بن طغتكين وأسر في حينها أخاه سونج بن بوري.

فقد بلغ شمس الملوك أن الخليفة المسترشد بالله في بغداد قد توجه لحصار الموصل عاصمة زنكي وقاعدة ملكه، فاستغل فرصة انشغال الخواطر بهذا الحدث وترقبها لنتائجه، فسار بجيشه في همة وعزيمة في رمضان إليها، ولم يصغ لإجماع حاشيته على الإشارة له بتركها لأن والي حماة كان - إزاء أخبار حصار سيده في الموصل - قد تحصن واستكثر من الرجال والذخائر.
ولما وصل إليها في يوم العيد زحف إليها من وقته، فتحصنوا منه وقاتلوه فعاد عنهم ذلك اليوم، فلما كان الغد بكر إليهم وزحف إلى البلد من جوانبه فملكه قهراً وعنوة، وطلب من به الأمان فأمنَّهم، وحصر القلعة، فعجز الوالي بها عن حفظها فسلمها إليه، فاستولى عليها وعلى ما بها من ذخائر وسلاح وغير ذلك، وتابع استغلال انتصاره في ضم بلد آخر مهم في المنطقة، وهو قلعة شيزر وبها صاحبها من بني منقذ فحصرها ونهب نواحيها، فراسله صاحبها وصانعه بمال حمله إليه، ثم عاد شمس الملوك إلى دمشق بعد هذه الحملة التي دامت قرابة الشهر.
ولم يمض شهران حتى شن حملة جديدة في أول سنة 528 على جبل الشقيف المطل على بيروت وصيدا، وكان بيد الضحاك بن جندل رئيس وادي التيم، قد تغلب عليه وامتنع به، فتحاماه المسلمون والفرنج، يحتمي على كل طائفة بالأخرى، فسار شمس الملوك إليه وأخذه منه في أيام، وعَظُمَ أخذُه على الفرنج لأن الضحاك كان لا يتعرض لشيء من بلادهم المجاورة له.
وأراد الفرنج ردع شمس الملوك، فقرروا شن حملة على حوران في جنوبي دمشق ومصدر الغلال الرئيس في المنطقة، فجمعوا عساكرهم وساروا إلى حوران فخربوا ما استطاعوا الوصول إليه، ونهبوا ما أمكنهم نهبه نهبة عظيمة.
وكان شمس الملوك على معرفة باستعدادهم وحشدهم، فجمع جيوشه وحضر عنده جمع كثير من التركمان وغيرهم، فنزل بإزاء الفرنج، وجرت بينهم مناوشة عدة أيام، ثم إنه غافل الفرنج وهاجم منطقة الجليل الأعلى في حركة ذكية جسورة، ذلك أنه اختار مجموعة منتخبة من عسكره، وترك الباقي قبالة الفرنج، وقصد - وهم لا يشعرون - طبرية والناصرة وعكا وما يجاورها من البلاد، فنهب وخرب وأحرق وأهلك أكثر البلاد وسبى النساء والذرية، وامتلأت أيدي من معه من الغنائم.
واتصل الخبر بالفرنج، فانزعجوا ورحلوا في الحال لا يلوي أخ على أخيه، وتجنب شمس الملوك الاصطدام مع الفرنج الموتورين، وعاد إلى عسكره على غير الطريق الذي سلكه الفرنج، فوصل سالماً ووصل الفرنج إلى بلادهم ورأوها خراباً ففت في أعضادهم، وعادوا فراسلوه بطلب تجديد الهدنة، فوافقهم على ذلك وجددت في أواخر سنة 528.
على أن هذا القائد الشاب، على شجاعته وإقدامه، كان حاكماً سيئاً يعامل رعيته بالشدة والعسف، ويصادر العمال وغيرهم من أعيان البلد، ويبالغ في العقوبات لاستخراج الأموال، وظهر منه بخل زائد ودناءة نفس بحيث أنه لا يأنف من أخذ الشيء الحقير بالعدوان، فكرهه أهل بيته وأصحابه ورعيته.
وبسبب ذلك تعرض شمس الملوك في اوائل سنة 528 لمحاولة اغتيال قام بها أيلبا أحد مماليك جده طُغتِكين، وذلك حين خرج إلى الصيد بناحية صيدنايا غربي دمشق، فقد انتهز أيلبا انفراد شمس الملوك عن غلمانه وخواصه، فجرى إليه وهو على فرسه وضربه بالسيف يريد قطع رأسه، فانقلب السيف من يده ولم يعمل شيئاً، ورمى شمس الملوك بنفسه إلى الأرض في الحال، فضربه القاتل ثانيةً فوقعت الضربة في عنق الفرس فقتلته، ثم وصل الحرس وتوافدوا، فانهزم  القاتل وأنهض في أثره من الخيل من يتعقبه ويطلبه، فلحقوه فجرح جماعةً بالنشاب إلى أن أمسكوه فلما أحضروه إلى شمس الملوك وقرره وسأله: ما الذي حملك على هذا الفعل؟ فقال: لم أفعله إلا تقرباً إلى الله تعالى بقتلك وراحة الناس منك لأنك قد ظلمت المساكين والضعفاء من الناس والصناع والمتعيشين والفلاحين وامتهنت العسكر والرعية. وذكر القاتل جماعةً من الغلمان أبرياء أوقعهم في التهمة بأنهم وافقوه على هذا، فقَبَض عليهم شمس الملوك وأضافهم إليه وقتل الجميع في الحال، ثم اتهم أخاه الكبير سونج بأنه كان وراء محاولة اغتياله فقتله بأن سجنه في بيت ومنع عنه الطعام حتى مات.
واستهجن الناس قتل هؤلاء الغلمان بقول الجاني من غير بينة قامت ولا دلالة ظهرت، وأنه اتهم أخاه سونج وقتله أشنع قتلة، وزاد في استياء الناس أن شمس الملوك استخدم كردياً من ناحية حمص يعرف ببدران الكافر، لا يعرف الإسلام ولا قوانينه، ولا الدين وشروطه، ولا يرقب في مؤمن إلاًّ ولا ذمة، كان يستخرج مال المصادَرين من كبار الموظفين والأغنياء بأساليب قبيحة وأنواع مستبشعة في التهديد والعقوبات.
ويبدو أن شمس الملوك بعد هذه الحوادث قد سيطرت عليه هواجس نفسية سوداوية، فبدأ يتوهم خيانة كل من حوله، ونصحته أمه فتهددها بالقتل، وتبين أنه نقل كل أمواله من دمشق إلى قلعة صرخد في حوران، وكان أمير الموصل عماد الدين زنكي لا يزال يطمح إلى الاستيلاء على دمشق، فلما عرف بهذه الأخبار عزم على قصدها وبلغت الأخبار بذلك إلى دمشق، فكتب شمس الملوك إلى عماد الدين زنكي، يحثه على سرعة الوصول إليها ليسلمها إليه طائعاً بشرط أن يمكنه من الانتقام من كل من يكرهه من المقدمين والأمراء والأعيان بإهلاكهم وأخذ أموالهم وإخراجهم من منازلهم، كل ذلك لما سيطر عليه من الأوهام والهذيان النفسي، ولما تردد زنكي في الاستجابة لهذه الدعوة غير المتوقعة، تابع في إرسال الرسل إلى زنكي يحثه على الوصول إليه وكتب له بيده يقول: إن تأخرت في المجيء سلمت دمشق إلى الفرنج بما فيها!
فسار زنكي إلى دمشق، وظهر خبر مسيره فيها فامتعض أصحاب أبيه وجده لذلك وأقلقهم، وأنهوا الحال لوالدته فساءها وأشفقت منه، ووعدتهم بالراحة من هذا الأمر، ثم إنها ارتقبت فرصة خلوه من غلمانه، فلما أمكنتها أمرت غلمانها بقتله فقتل في الرابع عشر من ربيع الآخر من سنة 529، وأمرت بإلقاءه في موضع من الدار ليشاهده غلمانه وأصحابه، فلما رأوه قتيلاً سُّروا لمصرعه وبالراحة من شره.
وتملك بعد شمس الملوك أخوه محمود الملقب بشهاب الدين، ولم يمض أسبوعان إلا وقد وصل زنكي إلى دمشق، وكان لما عبر الفرات أرسل رسلاً إلى دمشق لترتيب تسليمها، فوصلوا وقد فات الأمر، إلا أن أخاه محمود أكرمهم وأحسن إليهم وأعادهم بأجمل جواب، وعرَّف زنكي قتل شمس الملوك، وأن الملك قد استقر له والكلمة متفقة على طاعته، فلم يحفل زنكي بهذا الجواب، وسار إلى دمشق فنازلها، وأجفل أهل النواحي إلى دمشق، واجتمعوا فيها على محاربته.
وزحف زنكي على دمشق فقاتله أهلها فرأى قوة ظاهرة وشجاعة عظيمة واتفاقاً تاماً على محاربته، وبينما هو يحاصرها وصل أبو بكر بن بشر الجزري رسولاً من الخليفة المسترشد بالله بخُلَعٍ له ويأمره بصلح صاحب دمشق والرحيل عنها، فصالحه ورحل.
ولم تمض شهور حتى وقعت اضطرابات في سنة 530 عندما قام الأمير بزواش الأتابكي بقتل الحاجب يوسف بن فيروز، وكان أكبر حاجب في الدولة البورية، وكان الحاجب قد خاف على نفسه من شمس الملوك، وهرب منه إلى تدمر، فلما كانت هذه السنة التمس أن يرجع إلى دمشق، فتوجس الأمراء والمماليك من عودته لأنه كان يسيء إليهم ويعاملهم أقبح معاملة، وكان له دور شرير بعد محاولة اغتيال شمس الملوك، إذ أشار عليه بقتل بعض الأبرياء وبقتل أخيه سونج، فصاروا كلهم له أعداء مبغضين.
فلما طلب الآن الحضور إلى دمشق بدأ في إصلاح علاقاته معهم، وحلف لهم أنه لا يتولى من الأمور شيئاً، ولكنه ما إن عاد حتى بدأ يتدخل في كثير من الأمور، فاتفقوا على قتله، فقتله بزواش ثم انزوى مع المماليك إلى ظاهر دمشق وطالبوا بتغيير كثير من الأمور، فأجابهم محمود إلى بعضها، فلم يقبلوا منه وساروا إلى بعلبك فصاروا مع أخيه شمس الدولة محمد، والتحق بهم كثير من التركمان وغيرهم، وشرعوا في العيث والفساد، واقتضت الحال مراسلتهم وملاطفتهم وإجابتهم إلى ما طلبوا، وصار بزاوش مقدم العسكر وإليه الحل والعقد.
وفي سنة 532 أرسل عماد الدين زنكي إلى شهاب الدين يخطب إليه أمه زمرد خاتون ليتزوجها، وحُمِلتْ خاتون إليه في رمضان، ويعتقد بعض المؤرخين أن ما حمله على التزوج بها ما رأى من تحكمها في دمشق فظن أنه يملك البلد بالاتصال بها، فلما تزوجها خاب أمله ولم يحصل على شيء، فأعرض عنها.
ولم يطل الأمر بأخيه محمود فقد قتل في أواخر سنة 533، قتله ثلاثة من غلمانه غيلة على فراشه، فجاء أخوه جمال الدين محمد بن بوري من بعلبك وكان صاحبها، فملك دمشق وأقام بها إلى أن توفي سنة 534، وتولى بعده الحكم ابنه مجير الدين أبق بن محمد بن بوري بن طغتكين، إلى أن نزل عليها نور الدين محمود بن زنكي في سنة 549 وأخذها منه، فانتهى بذلك حكم الأسرة في دمشق.

الجمعة، 8 فبراير 2013

حدث في السابع والعشرين من ربيع الأول


في السابع والعشرين من ربيع الأول من عام 155 اشتبك جيش العباسيين بقيادة يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة التميمي الأزدي مع جيش الخوارج الإباضية من البربر بقيادة أبي حاتم الإباضي يعقوب بن حبيب الكندي، وذلك في منطقة جبال نفوسة في شرقي ليبية اليوم، وانجلت المعركة عن هزيمة الإباضية وانتهاء دولتهم التي دامت قرابة أربع سنوات.
ويعود تغلب البربر على أفريقية إلى سنة 140، ولكننا نعود قبلها إلى سنة 126 حين ثار عبد الرحمن بن حبيب على الوالي الأموي  حنظلة بن صفوان الكلبي واستقل بملك أفريقية سنة 127، فأقره عليها مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، ثم لما جاءت دولة بني العباس أقره عليها السفاح ثم المنصور، ثم اغتيل حبيب بالقيروان في سنة 137، اغتاله أخوه إلياس فيما نسميه اليوم محاولة انقلابية فاشلة قام بها أخواه إلياس وعبد الوارث، وتلاه ابنه حبيب سنة 138، وهرب عمه عبد الوارث إلى قبيلة بربرية تدعى ورفجومة، ونزل على رئيسها عاصم بن جميل الورفجومي، فكتب إليه حبيب يأمره أن يوجه بهم إليه، فلم يفعل، فنهد إليه حبيب واقتتلوا فانهزم حبيب، وقوي أمر ورفجومة، وكاتبهم بعض وجوه القيروان خوفاً منهم على أنفسهم. فزحف عاصم بن جميل إلى القيروان، وهزموا أهلها الذين خرجوا إليهم، ودخلوا القيروان فاستحلوا المحارم وارتكبوا العظائم، وقتلوا من بها من قريش وساموهم سوء العذاب، وربطوا دوابهم في المسجد الجامع. وندم الذي أعانوهم أشد ندامة.
ولحق حبيب بأخوال أبيه في جبل أوراس، فسار عاصم في طلبه إلى أوراس، والتقوا واقتتلوا، فهُزِم عاصم وقتل هو وأكثر أصحابه، وعاد حبيب إلى القيروان واشتبك مع واليها الورفجومي الذي هزمه، وقُتِل حبيب في سنة 140، ودخل رجل من الإباضية القيروان فرأى ناساً من الورفحوميين قد أخذوا امرأة وأرادوها على نفسها، والناس ينظرون، فترك حاجته التي أتي فيها، وخرج إلى رئيس الإباضية أبي الخطاب عبد الأعلى بن السّمح المعافري، وكان بطلاً شجاعاً، فأعلمه بالذي رأى، فخرج وهو يقول: لبيك اللهم لبيك. فاجتمع إليه أصحابه من كل مكان، وتوجهوا نحو طرابلس ثم القيروان وهزموا ورفجومة في أول سنة 141، وصارت طرابلس وما يليها وإفريقية كلها في يد الإباضية.
والإباضية، فرقة من الخوارج تنسب إلى عبد الرحمن بن إباض، الذي خرج في أيام مروان بن محمد، يقولون إن مخالفيهم من أهل القبلة كفارٌ غير مشركين، ومناكحتهم جائزة، ومواريثهم حلال، ولا يجوز قتلهم إلا بعد إقامة الحجة ونصب القتال.
وكانت جماعة من عرب أفريقية قد خرجت إلى أبي جعفر المنصور لما استولى البربر على القيروان يستنصرون به ويصفون له ما نالهم منهم، فولى محمد بن الأشعث على مصر سنة 141 وأمره بإعادة إفريقية إلى حوزة العباسيين، فوجه جيشاً في سنة 142 بقيادة أبي الأحوص، عمر بن الأحوص العِجلي، فهزمه أبو الخطاب، فكتب أبو جعفر إلى ابن الأشعث أن يسير بنفسه، فخرج إلى أفريقية في 40000 مقاتل،  فالتقوا بأبي الخطاب، وكان قد جمع أصحابه في كل ناحية، ومضوا في عدد عظيم، فكادت الدائرة تدور على ابن الأشعث، ولكن قبيلتنا زناتة وهوارة اللتين كانتا مع أبي الخطاب اختلفتا، وفارقه بعضهم بسبب ذلك، فوهنت  أمور أبي الخطاب، وفاجأه ابن الأشعث في سِرت على حين غرة في سنة 144، فقتله ومن بقي معه من أصحابه، ووجه برأسه إلى بغداد، ودخل ابن الأشعث القيروان سنة 145 وبنى سورها، وقاتل البربر حتى أذعنوا بالطاعة، فهدأت الأمور قليلاً وعادت الناس إلى زراعتها وأعمالها.  
ولم تستتب الأمور في أفريقية، فقد ثار الجيش على ابن الأشعث وأخرجوه بلا قتال من القيروان سنة 148، وولوا عليهم عيسى بن موسى الخراساني، فولى أبو جعفر المنصور عليها الأغلب بن سالم التميمي، ثم قُتل سنة 150 في تمرد قام به الحسن بن حرب الكندي.
ولما بلغ المنصور قتل الأغلب، بعث مكانه في سنة 151 عمر بن حفص بن قبيصة ابن أبي صُفرة التميمي، ومكث في ولايته 3 سنوات والأمور مستقيمة له، ثم أراد إخضاع البربر وسار إلى أراضيهم في شرقي الجزائر، فانتقضت بربر أفريقية من ورائه، وكاد أن يهزمه مَن أمامه، فاستعمل السياسة والاستمالة حتى فرقهم واستطاع هزيمة من بقي منهم، ورجع إلى القيروان، وقد علم أن أبا حاتم يعقوب بن حبيب سيهاجمه، فحصنها وشحنها بالأرزاق، وجاءه أبو حاتم في ألوف مؤلفة فحاصر القيروان، وكان عمرو يخرج إليهم في كل يوم فيحاربهم، وطال الحصار وضاق أمر المحاصرين، واضطرب علي عمر بن حفص أمره، وساء خلقه، ولما وصلت أنباء ذلك إلى المنصور ولى على أفريقية يزيد بن حاتم، وأرسله في 60000 مقاتل، وبلغه خبر المدد الذي أرسله أبو جعفر المنصور لنصرة القيروان، فقال: لا خير في الحياة بعد أن يقال: يزيد أخرجه من الحصار! إنما هي رقدة وأبعث إلى الحساب! وخرج، فجعل يطعن ويضرب حتى قتل في أواخر سنة  154، وصالح أهل القيروان أبا حاتم على ألا يخلعون السلطان العباسي، فغضب وأحرق أبواب البلد وأجلى أغلب أهلها إلى الزاب وهي اليوم منطقة قسنطينة في الجزائر.
وبلغ أبا حاتم خبر قدوم يزيد بن حاتم فتوجه للقائه نحو طرابلس، فثار في القيروان عمر بن عثمان وقتل الإباضية، فأرسل أبو حاتم قوة لإخضاعها فهزمها عمر بن عثمان، وبقي أبو حاتم بطرابلس في انتظار الجيش القادم بقيادة يزيد بن حاتم، الذي التقى مع جيش القيروان في سرت، وتوجه منها إلى طرابلس.
وأدرك أبو حاتم أن لا طاقة له بهذا الجيش فخرج جنوباً إلى جبال نفوسة، فأرسل وراءه يزيد مقدمة جيشه بقيادة سالم بن سوادة التّميمي، فالتقى مع أبي حاتم، واقتتلوا قتالاً شديداً. فانهزم سالم وأصحابه، ورجعوا إلى عسكر يزيد.
ولم ينخدع أبو حاتم بهذا الانتصار المؤقت، ولجأ إلى الدفاع والاستنزاف، فطلب أوعر المنازل وأمنعها، فعسكر فيها، وخندق على عسكره، فما كان من يزيد إلا أن اقتحم الخندق في هجوم عنيف انجلى غباره عن مقتل أبي حاتم وأهل البصائر من أصحابه، وانهزم الباقون، وكان ذلك في السابع والعشرين من ربيع الأول من عام 155.
وأقام يزيد بمكانه ذلك نحواً من شهر، وبعث خيله إلى كل ناحية في طلب الخوارج الإباضية، فقتلهم قتلاً ذريعاً، وقيل كان عدة من قتل منهم ثلاثين ألفاً، ثم رحل حتى نزل قابس، ثم منها إلى القيروان، وثار عليه في سنة 156 بعض الهوارة بناحية طرابلس فقضى على تمردهم، وكانت تلك خاتمة وقائع بين العرب وبين البربر قيل إنها بلغت 375 موقعة.
استقامت الأمور ليزيد بن حاتم، وعاد الاستقرار إلى تلك الربوع، فأدار البلاد إدارة حكيمة، فنادى بالأمان للناس جميعاً، واهتم كثيراً بالقيروان وتطويرها، فجدد جامعها الأعظم الذي بناه عقبة بن نافع سنة 53، ورتب أسواقها، وجمع كل صناعة مع مثيلاتها في مكان واحد، فجعلها حاضرة مزدهرة تمد من حولها بصناعاتها وتجاراتها.
ويزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب ابن أبي صفرة الأزدي، أمير شجاع، من أسرة عريقة في الشجاعة وشؤون الحرب، جده القائد المقاتل الفاتح المهلب بن أبي صفرة، المولود سنة 7 والمتوفى سنة 83، وكان من قواد أبي جعفر المنصور الثقات، شارك سنة 132 في جيش قحطبة بن شبيب في استيلاء العباسيين على خراسان، أرسله سنة 137 لمقاتلة ملبد بن حرملة الشيباني، لما خرج في الجزيرة الفراتية، ثم ولاه آخر سنة 144 على مصر، صلاتها وخراجها، وما مضت سنة على ولايته حتى ظهرت في أواخر سنة 145 بمصر الدعوة لبني الحسن بن علي رضي الله عنهما، وتكلم بها الناس. وبايع كثير منهم لعلي بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وهو أول علوي قدم مصر، وقام بأمر دعوته خالد بن سعيد بن ربيعة بن حبيش الصدفي، وكان جده من خاصة علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، واتفقوا على الخروج في يوم محدد من المسجد الجامع، ونقل رجل منهم أخبار المؤامرة إلى يزيد في ليلة خروجهم، فلم يتوفر للمتآمرين عنصر المفاجأة، وانطلقوا في منتصف الليل إلى المسجد الجامع ثم انتهبوا بيت المال فتضاربوا عليه بسيوفهم، واستطاع يزيد إحباط التمرد برياطة جأشه وحضور ذهنه، فقد سأل إن كان عدد من وجوه القوم مشتركين في التمرد، فلما أخبر أنهم في بيوتهم أو على بابه ينتظرون أمره، قال: الأمر يسير. ووزع أعوانه على مفارق مصر فتسلل المتآمرون مخذولين خائفين، وأمر يزيد بن حاتم في اليوم التالي أن يطلق سراح كل من اعتقل في الليلة الماضية، فهدأت الخواطر واطمأن الناس.
وكان إبراهيم بن عبد الله بن حسن، قد قام خرج في البصرة على أبي جعفر المنصور، وحقق انتصارات في بداية أمره، ثم هُزِم وأتي برأسه للمنصور فأمر بأن بطاف به في الشام ومصر، كبتاً لشيعة العلويين، فوصل إلى مصر بعد شهر من التمرد، ونُصِب في المسجد الجامع بمصر، فانكسرت شوكة العلويين فيها، وكان يزيد قد منع أهل مصر من الحج سنة 145، فلم يحج منهم أحد ولا من أهل الشام، لِما كان بالحجاز من الاضطراب بثورة محمد بن عبد الله بن الحسن، وخشية من تجنيدهم هناك، فلما أخمدت الثورة سمح بالحج ثم حج يزيد بن حاتم سنة 147.
وفي سنة 147 خرج بعض المتمردين في بلاد النوبة، فأرسل يزيد قوة من الفرسان قمعت التمرد، وأرسل يزيد برؤوس زعمائها إلى المنصور مع حفيده المهلب بن داود بن يزيد بن حاتم، فضم الخليفة أبو جعفر المنصور في سنة 149 ليزيد بَرقة زيادة على عمل مصر، وهو أول من ضُمَّ له برقة على مصر.
وفي سنة 150 خرج القبط على يزيد بن حاتم بسخا، ونابذوا العمال وأخرجوهم، وتوسع التمرد فأرسل يزيد جيشاً كثيفاً عليه كبار قواده، فقاتله القبط وكسروه، فعزله أبو جعفر المنصور عن إمرة مصر في أوائل سنة 152، فكانت ولايته على مصر سبع سنين، وولى بعده عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية بن حديج وكان صاحب شرطته.
ولما بلغت المنصور أخبار هزيمة عمر بن حفص ومقتله وانتصار الخوارج الإباضية اهتم لها كثيراً، ولم يجد خيراً من يزيد بن حاتم ليرسله إلى أفريقية، فولاه أفريقية سنة 154، وأرسله على رأس جيش جرار أنفق عليه 60 مليون درهم، مع شُحه بالمال.
وكان المنصور في دمشق فخرج إلى ظاهرها يودع الأمير الجديد، وأثار هذا حسد بعض الأمراء، الذين طعنوا في آل المهلب، فأجابهم المنصور مبيناً فضلهم وسابقتهم منذ أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن تأسست الدولة العباسية، والقصة تبين مكانة يزيد بن حاتم من المنصور.
قال يزيد بن حاتم: ولاني المنصور المغرب وهو بدمشق، وخرج معي يشيعني، فتغير لذلك أقوام منهم شبيب بن شيبة، وشبة بن عقال التميميان، ورفعا إلى المنصور كتاباً، لم يألوا فيه الحمل علينا والذكر لمساوئنا، وتخويف المنصور منا، فأقرأني المنصور كتابهما، ثم قال لي: إني لم أدفعه إليك، لتحتج وقد كفيتك الحِجاج، إني لما دفعا إلي هذا الكتاب أعلمتهما أنك غائب عن الحجة، وأني أقوم بها عنك، خبرتهما ببدء أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعائه الناس إلى الله، وإلى دينه، وامتناعهم منه غيرك وغير قومك، فلما قبض الله رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج الأمر عن أهله بغيرك وغير قومك، فلما أراد الله أن يظهر حقهم أجراه على يديك، وأيدي قومك، وكان لك ولأهل بيتك حظ غير مجهول، حتى بلغ الله في ذلك ما بلغ، وقلت لهما: أردتما أن تجعلا لأنفسكما في هذا الأمر حظاً كحظ يزيد، وحقاً كحقه؟! وقلت لهما: لولا أني لم أتقدم إليكما لأحسنت أدبكما، ولئن بلغني أنه جرى لهذا ذكر على ألسنتكما بعد يومي هذا لأوقعكن بكما، ثم دفع إلي الكتاب فشكرته على ذلك ودعوت له.
فلما صرت بإفريقية وجه إليَّ المنصور شبيب بن شيبة في بعض ما كان يتوجه في مثله الخطباء، فلم أعرِّفه شيئاً من ذلك، ولم أؤاخذه، وبلغت به بعض ما أمَّل عندي، فلما أراد الانصراف ذكر أنه لم يكن قط إلا على مودتي أهل بيتي فقلت له: ولا يوم دفعت الكتاب إلى أمير المؤمنين! ودعوت بالكتاب، فأقر، وسأل الإقالة، وحسن الصفح، فقلت له: لو لا أنك ذكرت ما ذكرت، ولولا أني كرهت أنك تستغبيني، وتظن أني جاهل بك لم أوقفك على هذا. وسأل شبيب دفع الكتاب إليه، فلم آمن أن يرجع به إلى المنصور، فأمرت بتخريقه.
كان يزيد شديد الشبه بجده المهلب في الدهاء والشجاعة، وكان غاية في الجود، وهو القائل:

لا يألف الدرهم المضروب خرقتنا ... إلا لماماً قليلاً ثم ينطلق
يمر مرا عليها وهي تلفظه ... إني امرؤ لم يحالف خرقتي الورِق

وليزيد بن حاتم أخبار تدل على كرمه وبعد همته، فمنها أن بعض وكلائه أتاه يوماً فقال: أعز الله الأمير! أُعطيتُ في الفول الذي زرعناه بفحص القيروان كذا وكذا! وذكر مالا جليلاً. فسكت وأمر قهرمانه وطباخه أن يخرجا إلى ذلك الموضع، وأمر فراشيه أن يضربوا قبة، فضربوا مضارب كثيرة. وخرج مع أصحابه فتنزه فيه وأطعم، فلما أراد الانصراف دعا بالوكيل وأمر بتأديبه وقال له: يا ابن اللّخناء، أردت أن أعيّر بالبصرة فيقال: يزيد بن حاتم باقلاني! أمثلي يبيع الفول، لا أمّ لك؟! ثم أمر بإباحته للناس فخرجوا إليه من بين آكل وشارب ومتنزه حتى أتوا على جميعه.
وكان لا يرضى ذلك لأبنائه لتبقى همتهم متعلقة بمعالي الأمور، خرج يوماً متنزهاً إلى منية الخيل، فنظر في طريقه إلى غنم كثيرة، فقال: لمن هذه؟ قالوا: لابنك إسحاق، فدعا به فقال له: ألك هذه الغنم؟ قال: نعم، قال: لم أردتَها؟ قال: آكل من خرافها وأشرب من ألبانها وأنتفع بأصوافها، قال: فإذا كنت أنت تفعل هذا، فما بينك وبين الغنامين والجزارين فرق! وأمر أن تُذبح وتباح للناس، فانتهبوها وذبحوها وأكلوا لحومها، وجعلوا جلودها على كَدية، فهي تعرف بكدية الجلود.
ورحل الشاعر ربيعة بن ثابت الرَّقي، المتوفى سنة 198، إلى أرمينية يريد الرفد من أميرها يزيد بن أُسيد السُّلمي، فأقام عنده حولاً فوهب له 500 درهم، ما كانت لتفي برحلته، ثم قصد يزيد بن حاتم أيام إمرته على مصر، فشُغِل عنه يزيد وبقي ببابه شهراً حتى ضجر ونفد ماله، فخرج وهو يقول:

أراني ولا كُفران لله راجعاً ... بخفي حُنين من نوال ابن حاتم

فلما فرغ يزيد من شغله سأل عنه فأُخبر عنه أنه خرج وهو يقول هذا البيت، فأرسل من يجدُّ في طلبه فأتى به فقال كيف قلت فأنشد البيت فقال: شُغِلنا عنك وعجِلتَ علينا، ثم أمر بخفيه فخلعتا من رجليه، وهو خائف، فأمر بملئها مالا وقال: ارجع بهما بدلا من خفي حنين، فلما عزل يزيد عن إمرة مصر قال ربيعة الرقي قصيدة مشهورة قال فيها:

بكى أهل مصر بالدموع السواجم... غداة غدا عنها الأغر ابن حاتم
حلفت يمينا غير ذي مثنوية ... يمين أمرئ آلى وليس بآثم
لشتان ما بين اليزيدين في الندى:  ... يزيدِ سُليم، والأغر ابن حاتم
يزيدُ سُليمٍ سالَمَ المالَ، والفتى ... أخو الأزدِ للأموال غير مُسالِمِ
فَهَمُّ الفتى الأزديّ إتلافُ ماله ... وهَمُّ الفتى القيسيِّ جمع الدراهمِ

ومن شعراء ذلك الزمان الشاعر ابن المولى المدني، محمد بن عبد الله بن مسلم، مولى بني عمرو ابن عوف من الأنصار، المتوفى سنة 170، وفد على يزيد ين حاتم فمدحه بقصيدة قال فيها:

يا واحد العرب الذي ... أضحى وليس له نظير
لو كان مثلك آخرٌ ... ما كان في الدنيا فقير

فدعا يزيد بخازنه وقال: كم في بيت مالي؟ فقال له: من الورِق والعين بقي عشرون ألف دينار، فقال: ادفعها إليه، ثم قال: يا أخي، المعذرة إلى الله و إليك، والله لو أن في ملكي أكثر لما احتجبتها عنك. فمدحه بقصيدة أخرى أحسن فيها كل الإحسان قال فيها:

وإذا تباع كريمة أو تُشترى ... فسواك بائعها وأنت المشتري
وإذا تخيل من سحاب لامع ... سبقت مخيلته يد المستطمر
وإذا صنعت صنيعة أتممتَها ... بيدين ليس نداهما بمكدر
وإذا الفوارس عددت أبطالها ... عدوك في أبطالهم بالخنصر

وكان يزيد بن حاتم يراقب الله في الرعية، وبخاصة من لا ناصر له ولا معين من بين العباد، وكان يقول: ما هبت شيئاً قط هيبتي من رجل ظلمته وأنا أعلم أن لا ناصر له إلا الله فيقول: حسبك الله، الله بيني وبينك. وكان يقرب العلماء والصلحاء، وكان وكيله على ضياعه في العراق الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي، العالم النحوي الجليل، وكان متعبداً زاهداً، وكان يزيد يجري عليه في كل شهر مئتي درهم، وكان من ندمائه معمر بن سنان أتى به يزيد معه إلى أفريقية، وكان زميله في طريقه إذا ركب في عماريته، لأُنسه به واستماعه من حديثه، وكان أعلم الناس بأيام العرب وأخبارها ووقائعها وأشعارها، وعنه أخذ أهل أفريقية حرب غطفان وغيرها من وقائع العرب. وكتب إلى يزيد بن حاتم رجلٌ من العلماء يستوصله، فبعث إليه ثلاثين ألف درهم، وكتب إليه: أما بعد فقد بعثت إليك ثلاثين ألفاً لا أكثرِّها امتناناً، ولا أُقلِّها تحقيراً، ولا أستثنيك عليها ثناءً، ولا أقطع لك بها رجاءً. والسلام.
واشترى يزيد بن حاتم أدرعا فبالغ في تفحصها لعل فيها خللاً، وكانت جياداً،  فقال أحد خواصه: أصلح الله الأميرَ، فعلامَ نلوم السُّوقة؟ فقال: ويحَك!! إني لست أشتري أدراعاً إنما أشتري أعماراً!
توفي يزيد بن حاتم في رمضان من سنة 170، وخرج إليه رجل من الشعراء يمدحه، فلما بلغ مصر وجده قد مات، فقال فيه:

لئن مصر فاتتني بما كنت أرتجي ... وأخلفني منها الذي كنت آمل
فما كل ما يخشى الفتى بمصيبهِ ... ولا كل ما يرجو الفتى هو نائل
وما كان بيني لو لقيتك سالماً ... وبين الغنى إلا ليال قلائل

ولما بلغ هارون الرشيد موت يزيد بن حاتم، عين محله أخاه روح بن حاتم، وكان من كبار القادة، صاحب رأى وحزم وشجاعة وجود وصرامة، وهو أسنّ من أخيه يزيد وأنبه منه ذكراً بالمشرق، وقال له: أعرِفُ أن لأخيك حاتم صنائع بالمغرب، ولا آمنُ عليهم متى ولّيت غيرك، ولكن اخرج من فورك إلى إفريقية، وحطّ صنائعه. فخرج من فوره وشيّعه الرشيد وودعه وانصرف، ثم لحقه وقال له: عليك بالزاب، املأه خيلاً ورجلاً.
ومن عجيب الأخبار وطريف الآثار أن المنصور وجّه يزيد بن حاتم إلى إفريقية وروحاً أخاه إلى السّند، فقيل له: يا أمير المؤمنين، لقد باعدت بين قبريهما! فقضى الله أن ماتا جميعاً بالقيروان، ودفن روح إلى جانب أخيه يزيد، وكانت وفاته سنة 174.
وليزيد بن حاتم المهلبي أبناء كانوا كلهم قادة على خطى أبيهم وعشيرتهم، وأهمهم ابنه داود، الذي استخلفه في حياته، وهي عادة سار عليها لقرون الولاة والقضاة، فلما توفي يزيد تولاها داود فأحسن تدبيرها، وبقي في إمارتها 9 أشهر إلى أن وصل عمه روح بن حاتم سنة 172، فسار داود إلى المشرق فأكرمه الرشيد وولاه مصر في أواخر 173 فقدمها في أوائل 174 وكان أمرها مضطربا، فهدأت في أيامه، واستمر سنة ونصف شهر، وعزل سنة 175 ثم ولاه الرشيد السند سنة 184 فاتسقت له أمورها وتوفي فيها.

الجمعة، 1 فبراير 2013

حدث في العشرين من ربيع الأول

في العشرين من ربيع الأول من سنة 47 عزل الخليفة الأموي معاوية الصحابيَّ الجليل عقبةَ بن عامر الجهني رضي الله عنه عن إمارة مصر، بعد أن كان عليها والياً مدة سنتين وثلاثة أشهر، جمع له فيها بين الخراج والصلاة، أي الناحية المالية والإدارية.
وجاء عزل عقبة بن عامر وتعيين مسلمة بن مخلد الخزرجي الأنصاري بطريقة يتجلى فيها دهاء معاوية، وكونه خائفاً من أن يكون لعزل عقبة عواقب لا يحمدها، فقد قال معاوية لمسلمة أن يكتم أمر تعيينه، وأرسل إلى عقبة فجعله على البحر وأمره أن يغزو جزيرة رودس، فلما توجه سائراً، استوى مسلمة على سرير إمرته، فلما بلغ ذلك عقبة فقال: ما أنصفَنا أميرُ المؤمنين؛ عزلنا وغرَّبنا! والأمير الجديد مسلمة كان كذلك رجلاً صالحاً عابداً، حسن التلاوة لآيات الله، طويل الصلاة، زاد في مسجد عمرو بن العاص، وأمر ببناء منارات المساجد  كلها، وأن يؤذن المؤذنون في الليل في وقت واحد، وتوفى وهو أميرمصر في سنة 62.
وعقبة بن عامر صحابي جليل، له فضل الهجرة والصحبة والسابقة، آمن بُعيد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتزم معه البقاء في المدينة، روى الإمام أبو جعفر الطحاوي في مشكل الآثار والطبراني في الأوسط عن عقبة قال: بلغني قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا في غنم لي أرعاها، فتركتها ثم أتيته، فقلت: جئت أبايعك، فقال: بيعةً أعرابية تريد أو بيعةَ هجرة؟قلت: بيعة هجرة، فبايعته، وأقمت.
ويبدو أنه مع إقامته كان يذهب في البادية مع أصحابه وبقي وراءهم فيها ليتعلموا من رسول الله ثم كره ذلك فانضم إليهم في المدينة فاضطروا إلى العودة إلى إبلهم في البادية، فلم يعجب ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى عقبة رضي الله عنه قال: جئت في اثني عشر راكباً حتى حللنا برسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال أصحابي: من يرعى لنا إبلنا، وننطلق فنقتبس من نبي الله صلى الله عليه وسلم فإذا راح ورحنا أقبسناه مما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ففعلت ذلك أياماً، ثم إني فكرت في نفسي، فقلت: لعلّي مغبون يسمع أصحابي ما لم أسمع، ويتعلمون ما لم أتعلم من نبيّ الله صلى الله عليه وسلم.
فحضرت يوماً، فسمعت رجلاً يقول: قال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم: من توضأ وضوءاً كاملاً كان من خطيئته كيوم ولدته أمه. فتعجبت لذلك؛ فقال عمر بن الخطاب: فكيف لو سمعت الكلام الأول كنت أشد عجباً، فقلت: اردد عليّ جعلني الله فداك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مات لا يشرك بالله شيئاً فتح الله له أبواب الجنة، يدخل من أيها شاء، ولها ثمانية أبواب.
قال: فخرج علينا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، فجلست مستقبله، فصرف وجهه عني، حتى فعل ذلك مراراً، فلما كانت الرابعة، قلت: يا نبيّ الله بأبي وأمي، لم تصرف وجهك عني؟ فأقبل عليّ فقال: واحدٌ أحبّ إليك أم اثنا عشر؟ فلما رأيت ذلك رجعت إلى أصحابي.
وكان عقبة فقيراً من أهل الصفة الذين كان أغلبهم لا يفارقون المسجد، وقد نذروا أنفسهم للعلم والذكر، وأقرهم على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل شجعهم على أن تكون مجالسهم لحفظ القرآن، فقد روى عقبة فقال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصّفّة فقال: أيّكم يحب أن يغدو إلى بطحان أو العقيق فيأتي كلّ يوم بناقتين كوماوين زهراوين يأخذهما من غير إثم ولا قطع رحم؟ قلنا: كلنا يحب ذلك يا رسول الله، قال: فلان يغدو أحدكم إلى المسجد، فيقرأ أو يتعلم آيتين خير له من ناقتين، وثلاثاً خير له من ثلاث، وأربعاً خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل.
وصار عقبة بن عامر صاحب بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الشهباء التي يقودها في الأسفار، وأتاحت له هذه المهمة الشريفة فرصة أن يرتوي من معين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتوشح بتوجيهه ويتسم بأدبه، روى الطبراني في الكبير عن عقبة قال: قدت برسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو على راحلته، رَتوة من الليل، وإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: أَنِخْ. فأنخت، فنزل عن راحلته ثم قال: اركب يا عقبة. فقلت: سبحان الله! أعلى مركبك يا رسول الله وعلى راحلتك؟! فأمرني فقال: اركب. فقلت أيضاً مثل ذلك، ورددت ذلك مراراً حتى خفت أن أعصي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فركبت راحلته ورحله، ثم زجر الناقة فقامت، ثم قادني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ناداني رسول الله صلى الله عليه وسلم في نَقَب من النِّقاب، فقال: يا عقبة، ألا أعلمك سورتين من القرآن هما أفضل القرآن، أو من أفضله؟  فقلت: بلى، بأبي أنت وأمي، فعلمني المعوذتين، ثم قال: يا عقبة، إذا رأيت الفجر فأعلمني. فلما رأيت الفجر قلت: يا رسول الله، هذا الفجر. فأناخ راحلته، ثم توضأ، ثم أقام الصلاة، ثم أخذ بيدي، فجعلني عن يمينه، فقرأ بهما في صلاة الصبح، ثم التفت إلي، فقال: يا عقبة، اقرأ بهما كلما قمت ونمت.
قال عقبة: ثم لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فابتدأته فأخذت بيده فقلت: يا رسول الله، أخبرني بفواضل الأعمال، فقال: يا عقبة صل من قطعك، وأعط من حرمك، وأعرض عمن ظلمك. ومن توجيهات رسول الله صلى الله عليه وسلم لعقبة بن عامر عندما سأله: يا رسول الله ما النجاة؟ قال: يا عقبة، أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك.
بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عقبة أن يقضي بين متخاصمين وفي حضوره، وهذا شرف عظيم، وثقة كبيرة من الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الصحابي، وتشجيع وتدريب له، روى الإمام أحمد في مسنده والطبراني في الأوسط عن عقبة بن عامر قال: جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده خصمان يختصمان، فقال لي: اقض بينهما، فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أنت أولى، قال: اقض بينهما، قلت: على ماذا يا رسول الله؟ قال: اجتهد، فإن أصبت فلك عشر حسنات، وإن أخطأت فلك حسنة.
وكان آخر لقاء لعقبة بن عامر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيل وفاته، عندما زار الرسول قتلى أُحد ثم اعتلى المنبر فخطب الناس مودعاً، وروى ذلك عقبة في الحديث الذي رواه له البخاري ومسلم، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر فقال: إني بين أيديكم فَرَطٌ، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها. قال عقبة: فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر.
وكان عقبة بن عامر من أحسن الناس صوتاً بالقرآن، فقال له عمر بن الخطاب: اعرض عليّ، فقرأ عليه سورة براءة، فبكى عمر، وبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عقبة بن عامر أحد الصحابة الذين قاموا بجمع القرآن، وذلك لمعرفته بالذكر الحكيم، وحفظه لأماكن السور، وكتب مصحفاً بمصر بيده، قال مؤرخ مصر عبد الرحمن بن أحمد بن يونس بن عبد الأعلى الصدفي المتوفى سنة 347: رأيت مصحفه بمصر على غير تأليف مصحف عثمان، وفي آخره: كتبه عقبة بن عامر بيده. ولذلك عده بعض المؤرخين - بحق - من أوائل القراء الذين جاءوا مصر.
وكان رامياً لا يترك الرمي والتدرب عليه حتى في شيخوخته، وكيف يتركه وقد رويت عنه أكثر الأحاديث المتعلقة بالرمي، روى له مسلم أنه  سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر ، يقول:﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي.
وروى الإمام أحمد في مسنده والطبراني في المعجم الكبير عن خالد بن زيد الجهني قال: كنت رجلاً رامياً، وكان عقبة بن عامر الجهني رجلاً يحب الرمي، إذا خرج خرج بي معه، فدعاني يوما فأبطأت عليه، فقال: تعال أقول لك ما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما حدثني: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله عز وجل يُدخِل بالسهم الواحد ثلاثةَ نفر الجنة: صانعَه المحتسب في صنعته الخير، والرامي به، ومنبله. وقال: ارموا واركبوا، ولأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا، وليس من اللهو إلا ثلاث: تأديب الرجل فرسه، وملاعبته امرأته، ورميه بقوسه، ومن ترك الرمي بعدما علمه رغبة عنه فإنها نعمة تركها. ولهذا توفي عقبة عن أكثر من ستين قوساً بجعابها ونبالها، وأوصى بهن في سبيل الله.
جاهد عقبة في فتوح الشام، وكان هو البريد إلى عمر بفتح دمشق سنة 14، وحدَّث عقبة أنه قدم على عمر وعليّه خفّان، فقال لي عمر: كم لك يا عقبة مذ لم تنزع خفيك؛ تمسح عليهما؟ قلت: من الجمعة إلى الجمعة: ثمانية أيام، قال: أحسنت وأصبت السنة.
وسكن عقبة بن عامر دمشق وكانت داره من نواحي باب توما، ثم استدعاه عمر بن الخطاب إلى المدينة مع النفر الذي استدعاهم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لكثرة روايتهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم، قال إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: ما مات عمر بن الخطاب حتى بعث إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجمعهم من الآفاق، عبد الله وحذيفة وأبي الدّرداء وأبي ذر وعقبة بن عامر، فقال: ما هذه الأحاديث التي قد أفشيتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآفاق؟ قالوا: أتنهانا؟ قال: لا، أقيموا عندي، لا والله لا تفارقوني ما عشت، فنحن أعلم ما نأخذ ونرد عليكم. فما فارقوه حتى مات.
ولما وقعت الفتنة الكبرى بين علي ومعاوية، شهد صفين مع معاوية، ثم تحول إلى مصر، وطلب من معاوية أن يقطعه أرضاً ليترزق منها، فمنحة مساحة ألف ذراع في ألف ذراع، فلما خرج ينتقيها كان حريصاً على ألا يخل بشروط العهد بين المسلمين وأهل مصر، قال ابن عبد الحكم: كتب عقبة بن عامر إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، يسأله أرضاً يسترفق فيها، فكتب له معاوية بألف ذراع في ألف ذراع، فقال له مولى له كان عنده: انظر أصلحك الله أرضاً صالحة، فقال عقبة: ليس لنا ذلك، إنَّ في عهدهم شروطاً ستة منها، أن لا يؤخذ من أرضهم شيء، ولا من ذراريهم، ولا يكلفوا غير طاقتهم، ولا يُزاد عليهم، وأن يقاتل عاملُهم عدوَّهم من ورائهم، وأنا شاهد لهم بذلك. وعُرِفت الأرض التي اقتطعها عقبة بمُنية عقبة في الجيزة، ومما فعله عقبة في إمارته أنه أمر أهل الجيزة أن يجمعوا، أي يصلوا الجمعة، في مسجد همدان الذي بناه مزاحف بن عامر، وذلك تخفيفاً عليهم من الذهاب إلى مسجد عمرو بن العاص في الفسطاط.
تولى عقبة بن عامر أول منصب له في سنة 35، لما بدأت الفتنة في مصر وتكلم الناس بالطعن على عثمان في مصر، وذهب أميرها عبد الله بن سعد إلى أمير المؤمنين عثمان في المدينة، واستخلف على مصر عقبة بن عامر، ولم تمض هذه الولاية بالوكالة دون مشاكل، فقد توثب عليه محمد بن أبي حذيفة زعيم التمرد، وأخرجه من الفسطاط، ودعا إلى خلع عثمان وأسعر البلاد وحرض الناس على عثمان، ولم يقم عقبة بمقاومته بالسلاح، ولكنه عارضه وبيَّن أن طلاوة لسانه تحمل وراءها الفتنة والخروج على الدين، خرج عقبة بن عامر إلى الجمعة فجلس بقرب المنبر، فخرج محمد بن أبي حذيفة، فاستوى على المنبر، فخطب، وقرأ سورة - وكان من أقرأ الناس - فقال عقبة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ليقرأن القرآن رجال لا يجاوز تَراقِيَهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة. فسمعها محمد بن أبي حذيفة، وكان سريع البديهة حاضر الجواب، فقال: والله لئن كنتَ صادقا - وإنك ما علمتُ لكذوب - إنك لمنهم.
وانتهت فتنة محمد بن أبي حذيفة في سنة 43 حين عين معاوية بن أبي سفيان أخاه عتبة أميراً على مصر، ودامت ولايته عليها سنة وأشهراً ثم توفاه الله فاستخلف على مصر عقبة بن عامر.
شارك عقبة بن عامر بعد عزله في الجهاد، فخرج رئيساً على جند مصر في سنة 52 في الجيش الذي غزا القسطنطينية في خلافة معاوية، والذي كان فيه أبو أيوب الأنصاري.
روى عقبة بن عامر أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى له أئمة الحديث الستة أحاديث في مواضيع متنوعة وبألفاظ مختلفة وروايات متعددة، يتضح منها فضله وحرصه وفقهه، واستفادته من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إن صحابياً جليلاً مكثراً مثل جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما، المتوفى سنة 78، رحل من المدينة إلى مصر، في أيام مسلمة بن مخلد، ليسأل عقبة بن عامر عن حديث انفرد به عقبة، ثم عاد إلى المدينة، فقد جاء جابر بن عبد الله على مسلمة بن مخلد، وهو أمير على مصر، فقال له: أرسل إلى عقبة بن عامر الجهني حتى أسأله عن حديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه. والحديث الذي أراد جابر سماعه، هو ما رواه كاتب عقبة دخين بن عامر قال: قلت لعقبة بن عامر: إن لنا جيراناً يشربون الخمر وأنا داع لهم الشُرَط فيأخذوهم. قال: لا تفعل ولكن عِظْهم وتهددهم. قال: ففعل، فلم ينتهوا، فجاء دخين إلى عقبة فقال: إني نهيتهم فلم ينتهوا وأنا داع لهم الشرط. فقال عقبة: ويحك لا تفعل فأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من ستر عورة فكأنما استحيا موؤدة من قبرها.
وكان مما حمله عن رسول الله حديث بثه في مصر ولم يصل إلى إمام جليل مثل الإمام مالك بن أنس رحمه الله، قال الإمام عبد الله بن وهب بن مسلم الفهري تلميذ الإمام مالك، المولود سنة 125 والمتوفى سنة 197: كنت عند مالك، فسئل عن تخليل الأصابع، فلم ير ذلك، فتركت حتى خفَّ المجلس، فقلت: إن عندنا في ذلك سنَّة: حدثنا الليث وعمرو بن الحارث، عن أبي عشانة، عن عقبة بن عامر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا توضأتَ، خلل أصابع رجليك. فرأيته بعد ذلك يسأل عنه، فيأمر بتخليل الأصابع، وقال لي: ما سمعت بهذا الحديث قط إلى الآن. فانظر رحمك الله إلى أدب التابعين وتأمل أين نحن منهم اليوم!
وقد أخذ الحديث عنه الصحابي الجليل عبد الله بن عباس، وأخذ عنه كثير من التابعين في الشام ومصر، منهم أبو إدريس الخولاني، عائذ الله بن عبد الله، المتوفى سنة 80، وأبو الخير مرثد بن عبد الله اليزني مفتي أهل مصر في وقته، المتوفى سنة 90، وأبو ليلى دخين بن عامر الحجري، وكان كاتبه، وتوفي سنة 100، وأبو عمران التجيبي أسلم بن عمر، وعابس بن سعدي المرادي قاضي مصر المتوفى سنة 68، الذي تولى القضاء سنة 60، وكان أعرابياً غير معروف من قبل بالعلم، ولكنه جالس عقبة بن عامر وعبد الله بن عمرو حتى استفرغ علمهما. وأخذ عنه كذلك عبد الرحمن بن جبير المصري المؤذن، المتوفى سنة 97، وكان عبد الله بن عمر معجباً به ويقول إنه من المخبتين.
وكان عقبة لا يألو من حوله من الشباب نصحاً، قال قال عامر بن ذريح الحميري: بتّ عند عقبة بن عامر أنا وجابر بن سهل، فقال له عقبة: لئن دخلت الجنة لتندمنّ، قال: فقلت له: ولِمَ أندمُ إن دخلتُ الجنة؟ فقال: لعلك أن ترى عبد بني فلان فوقك، فتندم من أن لا تكون أعطيتَ ثوباً أو رغيفاً فتلحق به.
توفي عقبة بن عامر سنة 58 بمصر، عن عمر ودفن فيها وفي القاهرة الآن مسجد عقبة بن عامر بجوار قبره، ودفن شهاب الدين أحمد بن يحيى بن أبي حجلة التلمساني، المتوفى سنة 776، أحدَ أولاده في جوار عقبة بن عامر، فحفزه ذلك على أن يصنف كتاباً في مناقبه أسماه: جوار الأخيار في دار القرار.
رحمه الله ونفعنا ببركاته.

 
log analyzer