الخميس، 31 يناير 2013

حدث في الثالث عشر من ربيع الأول

في الثالث عشر من ربيع الأول من عام 132 بويع بالخلافة في مسجد الكوفة الأعظم، وعمره 28 سنة، أبو العباس السفاح، عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله ابن العباس بن عبد المطلب، أول خلفاء بني العباس، وأحد الجبارين الدهاة من ملوك العرب، لُقِّب بالسفاح لكثرة ما سفك من دماء بني أمية.
ولد أبو العباس السفاح سنة 104 في الحميمة من إقليم الشراة، وهو إقليم في جنوب الأردن قاعدته مدينة معان، أقام به جده علي، وكان والده محمد بن علي، المولود بالشراة سنة 62 والمتوفى بها سنة 125، وأمه رَيطة بنت عبيد الله بن عبد الله ابن عبد المَدان الحارثي، وهي بنت خال أبيه، ولذا كان السفاح يُعرف بابن الحارثية. وكانت زوجة عبد الله بن عبد الملك بن مروان، فهلك عنها، فخلف عليها الحجاج بن عبد الملك، فطلقها قبل أن يدخل عليها، فقدم محمد بن علي، على عمر بن العزيز، وقال: ابنة خالي كانت متزوجة فيكم، فإن تأذن أتزوجها. قال عمر: ومن يحول بينك وبينها، وهي أملك بنفسها؟ فتزوجها.
وفي المؤرخين من يرى أن عروبة أم السفاح كانت السبب في تقدمه على أخيه المنصور الذي كان يكبره في السن، واسمه كذلك عبد الله، فإن أم المنصور بربرية، اسمها سلامة. والسفاح أول ثلاثة من خلفاء بني العباس ولدوا لأم عربية.
وكانت طائفة من الشيعة ترى أن أمر الشيعة بعد مقتل الحسين صار إلى أخيه محمد ابن الحنفية، وأنه انتقل من محمد إلى ابنه عبد الله، وأن عبد الله وفد على الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك، فأعجب به كثيراً وخشيه على ملكه، ودس له من سقاه السم في طريق عودته إلى المدينة، فلما أحس بالموت مال إلى الحُميمة وبها ابن عمه ووالد السفاح: محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، المولود سنة 61، فعرفه حاله، وصرف إليه شيعته، وأعطاه كتبا كانت عنده، وأفضى إليه بأسراره، وذلك في سنة 99، ومما ذُكر أنه قاله له: يا ابن عم، إني ميت وأنت صاحب هذا الأمر، وولدك عبد الله بن الحارثية هو القائم به، ثم أخوه من بعده، والله لا يتم هذا الأمر حتى تخرج الرايات السود من خراسان، ثم ليغلبن على ما بين حضرموت وأقصى أفريقية وما بين الهند وأقصى فرغانة، فعليك بهؤلاء الشيعة فهم دعاتك وأنصارك، ولتكن دعوتك خراسان، واستبطن هذا الأمر الحيَّ من اليمن، فإن كل مُلك لا يقوم بهم، فأمره إلى انتقاض.
فبدأ محمد بن علي بالدعوة، وسيرَّ الرجال إلى الأفاق يؤلبهم على بني أمية ويدعوهم إلى بني هاشم، وجبى الخُمْس من الأموال من الشيعة، ثم  ولي رسمياً إمامة الهاشميين سراً في أواخر الدولة الأموية، بعد سنة 120، ولما اقتربت منيته سنة 124 أوصى إلى ابنه إبراهيم، المولود سنة 82، فتابع أمر الدعوة وهو الذي وجَّه أبا مسلم الخراساني في سنة 128 إلى خراسان، وعمره 29 سنة، فبدأ في إظهار الدعوة في منطقة مرو، واصطدم مع حاكمها نصر بن سيّار وتغلب عليه، ودخل مرو ونزل قصر الإمارة في سنة 130، وبدأت مدن خراسان تدين له وتسقط في يديه واحدة تلو الأخرى، ثم عضده إبراهيم بقحطبة بن شبيب الطائي، وكان قائداً عسكرياً محنكاً، فتابع الاستيلاء على خراسان ثم تابع المسير نحو العراق وقتل فيها سنة 132، وكان قبل موته قد أوصى أن يكون بديله أبو سلمة حفص بن سليمان الهمداني الخلال، وبدأت مدن العراق تنحاز كذلك إلى العباسيين أو تسقط في أيديهم، وكانت الكوفة أول مدينة تنحاز إليهم في عاشوراء من المحرم من عام 132.
وإزاء هذا التدهور الخطير أرسل الخليفة الأموي مروان بن محمد للقبض على إبراهيم بن محمد في الحميمة، فكان ذلك آخر العهد به، وتختلف الروايات اختلافاً شديداً في صورة موته، ولكنه لما قُبِضَ عليه نعى نفسه إلى أهل بيته، وأمرهم بالمسير إلى الكوفة مع أخيه أبي العباس عبد الله، وأوصاهم بالسمع والطاعة له، وأوصاه وجعله الخليفة من بعده.
وسار أبو العباس من الحميمة إلى الكوفة ومعه أهل بيته وأخوه أبو جعفر المنصور، وعبد الوهاب ومحمد ابنا أخيه إبراهيم، وأعمامه بنو علي بن عبد الله بن عباس: داود، وعيسى، وصالح، وإسماعيل، وعبد الله، وعبد الصمد، وموسى ابن عمه داود، وابن أخيه عيسى بن موسى بن محمد بن علي، وتردد عمه داود في الذهاب إلى الكوفة وقال له: يا أبا العباس تخرج بالكوفة وشيخ بني أمية مروان مطل على العراق في أهل الشام والجزيرة، وشيخ العرب ابن هبيرة في جلة العرب بالعراق؟! فقال أبو العباس: يا عم من أحب الحياة ذَلّ! فقال داود لولده: صدق ابن عمك، فامض بنا معه نحيا أعزاء أو نموت كراما.
ولما وصل السفاح وجمعه الكوفة أنزلهم أبو سلمة الخلال داراً وكتم أمرهم عن جميع القواد نحو أربعين ليلة، ويقال إنه فعل ذلك ليحوِّل الأمر إلى أولاد علي بن أبي طالب بعد أن بلغه موت إبراهيم الإمام، ولكن محاولته لم تنجح فقد اكتشف بعض القادة بمحض الصدفة وجود أبي العباس بينهم فالتفوا حوله على مضض من أبي سلمة الخلال، وجرت مبايعته في المسجد في الثالث عشر من ربيع الأول، وقد لبس الناس السلاح، واصطفوا لخروجه، وركب معه أهل بيته فدخلوا دار الإمارة، ثم خرج إلى المسجد فخطب وصلى بالناس، ثم صعد المنبر ثانية فقام في أعلاه، وصعد عمه داود فقام دونه، وألقى أبو العباس خطبة قال فيها:
الحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه، فكرمه وشرفه وعظمه، واختاره لنا وأيده بنا وجعلنا أهله وكهفه وحصنه والناصرين له، وألزمنا كلمة التقوى وجعلنا أحق بها وأهلها، وخصنا برحم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابته، وأنشأنا من آبائه، وأنبتنا من شجرته، ووضعنا من الإسلام وأهله بالموضع الرفيع، وأنزل بذلك كتاباً على أهل الإيمان يتلى عليهم فقال تبارك وتعالى فيما أنزل في محكم كتابه: " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً " وقال تعالى: " قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى " فأعلَمَهم جلَّ ثناؤه فضلَنا، وأوجب حقنا ومودتنا، والله ذو الفضل العظيم، وزعمت السبئية الضُّلال أن غيرنا أحق بالرياسة والسياسة والخلافة منا فشاهت وجوههم، ثم ولم أيها الناس؟ وبنا هدى الله الناس بعد ضلالتهم، وبصرهم بعد جهالتهم، وأنقذهم بعد هلكتهم، وأظهر بنا الحق وأدحض بنا الباطل، وأصلح بنا منهم ما كان فاسداً، ورفع بنا الخسيسة، وتمم بنا النقيصة، وجمع الفرقة، حتى عاد الناس بعد العداوة أهل تعاطف وبر ومواساة في دينهم، وإخواناً على سرر متقابلين في آخرتهم، منح الله ذلك منه منحة لمحمد صلى الله عليه وسلم، فلما قبضه الله قام بالأمر من بعده أصحابه شورى بينهم، فحووا مواريث الأمم فعدلوا فيها، ووضعوها مواضعها، وأعطوها أهلها، وخرجوا خماصاً منها، ثم وثب بنو حرب وبنو مروان فابتزوها وتداولوها، فجاروا فيها واستأثروا بها وظلموا أهلها، فأملى الله لهم حيناً حتى آسفوه، فلما آسفوه انتقم منهم بأيدينا، ورد علينا حقنا، وتدارك بنا أمتنا، وولى نصرنا والقيام بأمرنا، ليمن بنا على الذين استضعفوا في الأرض، وختم بنا كما افتتح بنا، وإني لأرجو ألا يأتيكم الجور من حيث جاءكم الخير، ولا الفساد من حيث جاءكم الصلاح، وما توفيقنا أهل البيت إلا بالله.
يا أهل الكوفة، أنتم أهل محبتنا، ومنزل مودتنا، أنتم الذين لم تتغيروا عن ذلك، ولم يثنكم عنه تحامل أهل الجور عليكم، حتى أدرككم زماننا، وأتاكم الله بدولتنا، وأنتم أسعد الناس بنا وأكرمهم علينا، وقد زدتكم في أعطياتكم مئة درهم، فاستعدوا فأنا السفاح المبيح، والثائر المنيح.
وكان أبو العباس موعكاً فاشتد عليه الوعك، فجلس على المنبر وقام عمه داود على مراقي المنبر، فقال خطبة أخرى لا يتسع المقام لإيرادها، ولما صعد المنبر خطب قائماً، فقال الناس: يا ابن عم رسول الله أحييت السنة. وكانت بنو أمية يخطبون قعوداً، ثم عادوا إلى قصر الإمارة وأجلس أخاه أبا جعفر المنصور يأخذ البيعة على الناس في المسجد، فلم يزل يأخذها عليهم حتى صلى بهم العصر ثم المغرب وجنَّهم الليل.
وخرج أبو العباس فعسكر بظاهر الكوفة، وأرسل الولاة إلى المدن التي دانت له، والقواد لمحاربة جيوش بني أمية، وكان أول انتصار حققه حين هزم عمُّه عبدُ الله بن علي جيشَ الخليفة الأموي مروان بن محمد بن مروان بن الحكم، على نهر الزاب شمالي العراق، بعد معركة تأرجح فيها النصر بين الطرفين، وغنم فيها العباسيون سلاحاً كثيراً وأموالاً، وأمر السفاح لكل من شهد الوقعة بخمسمئة درهم، ورفع أرزاقهم.
واتخذ أبو العباس قراراً صائباً باستثمار الانتصار المبدئي الذي حققه، فأمر عمه عبد الله بن علي بملاحقة مروان بن محمد فاستمر في مطاردته وهو يهرب أمامه، من الموصل إلى حران فحمص فدمشق ففلسطين، وانتهى إلى بوصير في الفيوم بمصر حيث لقي مصرعه في آخر سنة 132، وعمره 59 عاماً، وحمل رأسه إلى السفاح، وانتهت بمقتله دولة بني أمية في المشرق العربي. وكان مروان حازما مدبرا شجاعا، إلا أن ذلك لم ينفعه عند إدبار الملك وانحلال السلطان، وكان يقال له الحمار لجرأته في الحروب.
وظهر من العباسيين حقد كبير على بني أمية، أمواتهم وأحيائهم، إذ أمر عبد الله بن علي بنبش قبور خلفاء بني أمية بدمشق، فنبش قبر معاوية بن أبي سفيان فلم يجدوا فيه إلا خيطاً مثل الهباء، ونبش قبر يزيد بن معاوية فوجدوا فيه حطاماً كالرماد، ونبش قبر عبد الملك بن مروان فوجدوا فيه جمجمة، وكان يوجد في القبر العضو بعد العضو، غير هشام بن عبد الملك فإنه وجد صحيحاً، لم يبل منه إلا أرنبة أنفه، فضربه بالسياط ثم صلبه ثم حرقه وذراه في الريح. ودخل شبل بن عبد الله مولى بني هاشم على عبد الله بن علي وعنده من بني أمية نحو تسعين رجلاً على الطعام، فأقبل عليه شبل فقال:
أصبح الملك ثابت الأساس ... بالبهاليل من بني العباس
طلبوا وَتر هاشم فشفوها ... بعد مَيل من الزمان وباس
لا تقيلن عبد شمس عثارا ... واقطعن كل رقلة وغراس
ذلُّها أظهرَ التوددَ منها ... وبها منكم كحر المواسي
فلقد غاظني وغاظ سوائي ... قربهم من نمارق وكراسي
أنزلوها بحيث أنزلها الله بذات الهوان والإتعاس
واذكروا مصرع الحسين وزيداً ... وقتيلاً بجانب المهراس
والقتيل الذي بحران أضحى ... ثاوياً بين غربة وتناسي
فأمر بهم عبد الله فضربوا بالعمد حتى قتلوا، وبسط عليهم الأنطاع فأكل الطعام عليها، وهو يسمع أنين بعضهم حتى ماتوا جميعاً.
وقتل عمُّه داودُ بن علي أميرُ مكة والمدينة من ظفر فيهما من بني أمية، بحيث قال له عبد الله بن الحسن بن الحسن: يا أخي إذا قتلت هؤلاء، فبمن تباهي بملكك؟ أما يكفيك أن يروك غادياً ورائحاً فيما يسرك ويسوءهم؟ فلم يقبل منه وقتلهم. وكذلك قتل عمُّه سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس بالبصرة جماعة من بني أمية، وألقاهم على الطريق فأكلتهم الكلاب، ولم يخل من ذلك أبو العباس نفسه الذي قال في ذلك شعراً:
أحيا الضغائن آباءٌ لنا سلفوا ... ولن تموت وللآباء أبناءُ
وقال أيضاً:
تناولت ثأري من أمية عنوةً ... وحزت تراثي اليوم عن سلفي قسرا
وألقيت ذلاًّ من مفارق هاشمٍ ... وألبستها عزاً وأعليتها قدرا
وكان السفاح وهذه حاله يستجيب لتحريض المحرضين، فقد دخل عليه  سديف مولاه وعنده سليمان بن هشام بن عبد الملك وقد أكرمه السفاح، فقال سديف:
لايغرنك ما ترى من رجال ... إن تحت الضلوع داءً دويا
فضع السيف وارفع السوط حتى ... لا ترى فوق ظهرها أمويا
فقال سليمان: قتلتني يا شيخ! ودخل السفاح، وأُخِذَ سليمان فقتل.
وبقي بنو أمية في هرب واختفاء وتشتت شمل، حتى ثاب إلى رشده عم السفاح سليمان بن علي حين قصده عمرو بن معاوية بن عمرو بن سفيان بن عتبة بن أبي سفيان، قال عمرو: كنت لا آتي مكاناً إلا عُرِفتُ فيه، فضاقت علي الأرض فقصدت سليمان بن علي، وهو لا يعرفني، فقلت له: لفظتني البلاد إليك، ودلني فضلك عليك، فإما قتلتني فاسترحت، وإما رددتني سالماً فأمنت، فقال: من أنت؟ فعرفته بنفسي فعرفني، فقال: مرحباً بك، حاجتك؟ فقلت: إن الحَرم التي أنت أولى الناس بهن، وأقربهم إليهن قد خفن لخوفنا، ومن خاف خيف عليه! فبكى كثيراً ثم قال: بل يحقن الله دمك، ويوفر مالك، ويحفظ حرمك، ثم كتب إلى السفاح: يا أمير المؤمنين، إنه قد وفد وافد بني أمية علينا، وإنا إنما قتلناهم على عقوقهم لا على أرحامهم، فإنا يجمعنا وإياهم عبد مناف، فالرحم تبل ولا تفل، وترفع ولا توضع، فإن رأى أمير المؤمنين أن يهبهم لي فليفعل، وإن فعل فليجعل كتاباً عاماً إلى البلدان، شكراً لله تعالى على نعمه عندنا وإحسانه إلينا، فأجابه إلى ذلك. وكتب لهم أماناً، وكان هذا أول أمان بني أمية.
ولم يتمتع السفاح رغم قضائه على الأمويين بالاستقرار، ذلك إن المدن التي دخلت في الطاعة سريعاً عادت عنها بسرعة كذلك، وواجه السفاح حركات تمرد في قنسرين ودمشق وحمص والجزيرة الفراتية وبخارى، وانتهت كلها بهزيمة جيوش المتمردين على يد قواده من أمثال عمه عبد الله بن علي وأخيه أبي جعفر المنصور، ولكن قادة السفاح تعاملوا مع المتمردين بعد انتصارهم عليهم بالتسامح والأمان، وكان من أشهر هؤلاء إسحاق بن مسلم العقيلي وكان من خيرة قواد بني أمية شجاعة وحكمة، خرج لما أتاه الأمان إلى أخي السفاح أبي جعفر المنصور وكان عنده من آثر أصحابه، فاستقام أهل الجزيرة والشام، واستعمل أبو العباس السفاح أخاه أبا جعفر على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان، فلم يزل عليها حتى مات السفاح وصار هو الخليفة.
ولم يلقب أبو العباس بالسفاح إلا عن جدارة لا يحسد عليها، فقد كان وأعوانه جبارين سريعين إلى سفك الدماء بأدنى سبب، ومن أسوء تصرفاته نقضه عهد من استأمن، فقد أعطى أبو جعفر الأمان للأمير يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري، المولود سنة 87، وكان والي العراقين، البصرة والكوفة، في أيام مروان بن محمد، فرحل إلى واسط وتحصن بها، فمكث أبو جعفر زمنا يقاتله، حتى أعياه أمره فكتب إليه بالأمان والصلح، وأقام ابن هبيرة بواسط، ثم أراد السفاح قتله بإشارة أبي مسلم الخراساني، فأمر أبا جعفر بقتله، فتردد وألح عليه السفاح حتى كتب له: والله لتقتلنه أو لأرسلن إليه من يخرجه من حجرتك ويتولى قتله. فقتله أبو جعفر في سنة 132 ومعه عدد من وجوه من كانوا معه، فقال بعضهم: أعطيتمونا عهد الله وغدرتم، إنا لنرجو أن يدرككم الله.
وفي سنة 132 استعمل السفاح أخاه يحيى على الموصل، بعد امتناع أهلها من طاعة عاملهم محمد بن صول، وقالوا: لا يلي علينا مولى لخثعم، وأخرجوه عنهم، وسير السفاح أخاه إليها في اثني عشر ألفاً، فنزل قصر الإمارة ولم يظهر لهم ما يكرهونه ولا عارضهم في أمر، ثم دعاهم فقتل منهم اثني عشر رجلاً، فنفر أهل البلد وحملوا السلاح فأعطاهم الأمان، وأمر فنودي من دخل الجامع فهو آمن، فأتاه الناس يهرعون، فأقام يحيى الرجال على أبواب الجامع فقتلوا الناس قتلاً ذريعاً، قيل إنه قتل عشرين ألفاً ممن له خاتم، ومن ليس له خاتم ما شاء الله، فلما كان الليل سمع يحيى صراخ النساء يبكين رجالهن، فقال: إذا كان الغد فاقتلوا النساء والصبيان، فقتلوا منهم ثلاثة أيام، وكان في عسكره قائد معه أربعة آلاف زنجي، فأخذوا النساء قهراً، فلما فرغ يحيى من قتل أهل الموصل ركب في اليوم الرابع، وبين يديه الحراب والسيوف مصلتة، فاعترضته امرأة وأخذت بعنان دابته، فأراد أصحابه قتلها فنهاهم، فقالت له: ألست من بني هاشم؟! ألست من بني عم رسول الله؟! أما تأنف للعربيات المسلمات أن ينكحهن الزنج؟!! فأمسك عن جوابها وبعث معها من أبلغها مأمنها، فلما كان الغد جمع الزنج للعطاء فاجتمعوا، فأمر بهم فقتلوا عن آخرهم.
وفي سنة 132 اغتيل وزيره أبي سلمة الخلال، وهو أول من لقب بالوزارة في الإسلام، وهو من قدامى العاملين في الدعوة، من أيام إبراهيم بن محمد، وأنفق فيها أموالا كثيرة، واتهم بقتله الخوارج، وصلى عليه يحيى بن محمد أخو السفاح، وفي المؤرخين من يتهم السفاح بذلك، ولكن الأصح أن ذلك كان من فعل أبي مسلم الخراساني الذي حرض السفاح على قتله ليخلو له الجو، وقال له: قد أحَلَّ اللّه لك دمه، لأنه قد نكث وغيَّر وبدل، فقال السفاح: ما كنت لأفتتح دولتى بقتل رجل من شيعتي، لاسيما مثل أبي سَلَمة، وهو صاحب هذه الدعوة، وقد عرض نفسه، وبذل مهجته، وأنفق ماله، وناصح إمامه، وجاهد عدوه، وما كنت لأفسد كثير إحسانه وعظيم بلائه وصالح أيامه بزلّةٍ كانت منه، وهي خَطْرة من خطرات الشيطان، وغفلة من غفلات الإنسان. وزاد هذا في حقد أبي مسلم على أبي سلمة الخلال، وخاف أن يكيد له بمكروه، فوجَّه جماعة من ثقات أصحابه لقتله، وكان السفاح يأنس بأبي سَلَمة ويسامره، وكان أبو سَلَمة فكهاً ممتعاً أديباً عالماً بالسياسة والتدبير، فيقال: إن أبا سَلمة انصرف ليلة من عند السفاح من مدينته بالأنبار، وليس معه أحد، فوثب عليه أصحاب أبي مسلم فقتلوه. قيل: لما اتصل خبره بالسفاح أنشأ يقول:
إلى النار فليذهب، ومن كان مثله ... على أي شيء فَاتَنَا منه نأسَف
واستوزر السفاح بعده خالد بن برمك، المولود سنة 90 والمتوفى سنة 165، وكان على ديوان الخراج والجند من قبل، وكانت سجلات الدواوين في صحف مُدْرَجة، فجعلها خالد دفاتر من الجلود، وبقي الأمر كذلك إلى أن جعلها جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك دفاتر من الورق في أيام الرشيد. وبوزارة خالد سقطت دواوين العرب، وغلب عجم خراسان على الأمر، وقد أرضعت زوجة خالد ريطة بنت أبي العباس السفاح، وأرضعت أم سلمة زوجة السفاح ابنة خالد، دخل خالد يوماً على أبي العباس فقال له: يا ابن برمك أما رضيت حتى استعبدتني؟ ففزع خالد لذلك، قال: وكيف يا أمير المؤمنين؟! بل أنا عبدك! فضحك أبو العباس، وقال: ريطة بنت أمير المؤمنين وأم يحيى بنت خالد: تبيتان في فراش واحد فاتعارُّ من الليل فأجدهما قد تكشفتا فأمد اللحاف عليهما! فقبل خالد يده وتشكر ذلك له.
واستقدم السفاح عالمَ المدينة ربيعة الرأي من المدينة إلى الأنبار ليوليه القضاء فتوفي فيها سنة 136.
ودعاه أخوه أبو جعفر إلى قتل أبي مسلم الخراساني، مؤسس الدعوة العباسية، وقال له: لستَ خليفةً ولا أمرُك بشيء إن تركتَ أبا مسلم ولم تقتله، والله ما يصنع إلا ما أراد! قال السفاح: فاكتمها. ومات السفاح فقام أبو جعفر المنصور فقتل أبا مسلم الخراساني في سنة 137، وكان بمثابة السلطان لا يرد أمره.
حاول أبو العباس السفاح أن يستميل بني الحسن بن علي رضي الله عنهما، فدفع أرض فَدَك إلى الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب فكان هو القيِّم عليها يفرقها في بني علي بن أبي طالب، وجلس السفاح مرة في مجلس أحشد ما كان ببني هاشم والشيعة ووجوه الناس، فدخل عبد الله بن حسن بن حسن ومعه مصحف، فقال: يا أمير المؤمنين: أعطنا حقنا الذي جعله الله لنا في هذا المصحف، فأشفق الناس من أن يعجل السفاح بشيء عليه، ولا يريدون ذلك في شيخ بني هاشم في وقته، أو يعي بجوابه فيكون ذلك عاراً عليه، فأقبل السفاح عليه غير مغضب ولا مزعج، فقال: إن جدك علياً، وكان خيراً مني وأعدل، ولي هذا الأمر فما أعطى جديك الحسن والحسين، وكانا خيراً منك، شيئاً، وكان الواجب أن أعطيك مثله، فإن كنت فعلت فقد أنصفتك، وإن كنت زدتك فما هذا جزائي منك، فما رد عبد الله جواباً، وانصرف الناس يعجبون من جوابه له. ومع ذلك قال له السفاح: احتكمْ عليّ، قال: يا أميرَ المؤمنين، بألف ألف درهم، فإني لم أرها قط. فاستقرضها أبو العباس من صَّيرفيّ وأَمر له بها. وأتى السفاح بجَوهر مَروان، فجعل يُقلِّبه وعبد الله بن الحَسن عنده، فَبَكى عبدُ الله، فقال له: ما يُبكيك؟ قال: هذا عند بنات مَروان وما رأت بناتُ عمك مثلَه قطّ. فحبَاه به. ثم أمر ابنَ مُقرِّن الصّيرفيّ أن يَصل إليه ويبتاعه منه، فاشْتراه منه بثمانين ألف دينار.
أصيب أبو العباس السفاح بالجدري وتوفي بالأنبار في 13 ذي الحجة من عام 136، وصلى عليه عمه عيسى بن علي، ورثاه أبو دلامة زَنْد بن الجَون، وكان منقطعاً إليه، فقال:
أمسيتَ بالأنبار يا ابن محمد ... لا تستطيع إلى البلاد حويلا
ويلي عليك وويل أهلي كلهم ... ويلاً يكون إلى الممات طويلاً
ولقد أردت الصبر عنك فلم يكن ... جزعي ولا صبري عليك جميلا
يجدون أبدالاً سواك وإنني ... لو عشت دهري ما أصبت بديلا
مات الندى إذ مت يا بن محمد ... فجعلتَه لك في التراب عديلا
إني سألت الناس بعدك كلهم ... فوجدت أسمح من رأيت بخيلا
ألشقوتي أُخرتُ بعدك للذي ... يدع السمين من العيال هزيلا
فأبكى الناس قوله، فغضب المنصور غضباً شديداً وقال: لئن سمعتك بعدها تنشد هذه القصيدة لأقطعن لسانك. ومن الطريف أن أبا دلامة دخل على أم سلمة زوجة أبي العباس السفاح يعزيها بزوجها، فبكى وبكت، فلما أنشدها قالت أم سلمة: ما أصيب به غيري وغيرك، فقال: لا والله! ولا سواء رحمك الله! لك منه ولد وليس لي أنا منه ولد، فضحكت منه أم سلمة، ولم تكن ضحكت قبل ذلك، وقالت: لو حدَّث الشيطان لأضحكه.
تولى الخلافة بعد أبي العباس السفاح وبعهد منه أخوه أبو جعفر المنصور، فكان أول من خرج عليه عمه عبد الله بن علي، وقال إن السفاح انتدب أهل بيته لقتال مروان بن محمد، وقال لهم: من سار إليه فهو ولي عهدي. وعلى هذا خرجت من عنده، وقتلت من قتلت، فوجه إليه المنصور أبا مسلم الخراساني فحاربه بنصيبين فانهزم عبد الله بن علي واختفى، وصار إلى أخيه والي البصرة سليمان بن علي، فأشخصه إلى بغداد فحبسه أبو جعفر المنصور، ولم يزل في حبسه ببغداد، حتى وقع عليه البيت الذي حبس فيه فقتله.
خلف السفاح في خزائنه تسع جباب، وأربعة أقمصة، وخمسة سراويل، وأربعة طيالسة، وثلاثة مطارف خزّ. ورغم تقشفه في نفسه فقد كان السفاح سخياً جداّ، وهو وهو أول خليفة وصل بمليوني درهم، ومع ذلك توفي وبيوت الأموال ممتلئة.
تزوج أبو العباس السفاح قبل الخلافة من أم سلمة بنت يعقوب بن سلمة بن عبد الله بن الوليد بن المغيرة المخزومي، وكانت قبله زوجة عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك، ثم خلف عليها مسلمة بن هشام بن عبد الملك، ثم طلقها فعادت إلى منزلها في فلسطين، ثم خرجت مرة إلى بادية الشراة، فبينا هي جالسة ذات يوم، مر بها أبو العباس السفاح وهو يومئذ عزب، فأرسلت إليه مولاةً لها تعرض عليه أن يتزوجها، فأبلغته الجارية السلام، وأدت إليه الرسالة. فقال: أبلغيها السلام وأخبريها برغبتي فيها، وقولي لها: لو كان عندي من المال ما أرضاه لك فعلت. فقالت لها: قولي له: هذه سبعمئة دينار أبعث بها إليك. وكان لها مال عظيم، وجوهر وحشم كثير، فأتته المرأة فعرضت ذلك عليه فأنعم لها، فدفعت إليه المال، فخطبها من أخيها، فزوجها إياه، فأرسل إليها بصداقها خمسمئة دينار، وأهدى إليها مئتي دينار، ولم يتزوج عليها، ولم يتسرَّ، إلى أن مات، وكان يحبها كثيراً، كان يوماً مشرفا على صحن داره ومعه امرأته أم سلمة يتحادثان، فعبثت بخاتمها، فسقط من يدها إلى الدار، فألقى السفاح أيضا خاتمه. فقالت: يا أمير المؤمنين! ما دعاك إلى هذا؟ قال: خشيت أن يستوحش خاتمك، فآنسته بخاتمي غيرة عليه من انفراده، فبكت أم سلمة فرحا. وتزوجت من بعده عبد الله بن علي بن عبد الحميد المخزومي، وكانت مائلة إليه، ثم إنها اتهمته بجاريةٍ لها فاحتجبت عنه، فلم تعد إليه حتى مات.
رُزق السفاح من الولد اثنين: محمد الذي تولى البصرة لأبي جعفر المنصور وتوفي سنة 149،  وابنة سمَّاها رَيطة، تزوَّجها الخليفة المهديُّ وأولدها عليّاً وعُبيد الله. 
ولمِ يكن أحد من الخلفاء يحب مسامرة الرجال مثل أبي العباس السفَّاح، وكان كثيراَ ما يقول: إنما العجب ممن يترك أن يزداد علماً، ويختار أن يزداد جهلاً، فقال له أبو بكر الهذلي وكان جليسه المفضل: ما تأويل هذا الكلام يا أمير المؤمنين؟ قال: يترك مجالسة مثلك وأمثال أصحابك، ويدخل إلى امرأة أو جارية، فلا يزال يسمع سخفاً، ويروي نقصاً، فقال له الهذلي: لذلك فضلكم اللّه على العالمين، وجعل منكم خاتم النبيين.
أما أخلاق السفاح، إذا كان بعيداً عن السياسة والفتك، فقد كانت من مكارم الأخلاق، ومن كلامه: إذا عظمت القدرة قلت الشهوة، والتغافل عن ذنوب الناس وعيوبهم من أخلاق الكرام، والتهاون بمفاضحتهم من أخلاق اللئام. وكان إذا تعادى اثنان من أهل بطانته لا يسمع من أحد منهما في صاحبه شيئاً، وإن كان عدلا، ويقول: العداوة تزيل العدالة. وكان لا يؤخر إحسان محسن لغد، ويقول: العجب من إنسان يفرِّح إنساناً فيتعجل السرور ويؤخر ثواب مَنْ سره تسويفاً وعِدَةً.
التوقيعات جمل مختصرة يرد بها الخليفة على  يعرض عليه من رقاع، وكان السفاح مشهوراً بتوقيعاته، كتب إليه جماعة من أهل الأنبار يذكرون أنّ منازلهم أُخذت منهم وأُدخلت في البناء الذي أمر به ولم يُعطوا أثمانها، فوقع: هذا بناء أسس على غير تَقْوى. ثم أَمر بدَفع قيم منازلهم إليهم. وإلى عامل تُظلِّم منه: وما كنتُ متّخذَ المضلّين عَضُداً. ووقع إلى من كتب له بوشاية: تقربت إلينا بما باعدك عن الله، ولا ثواب لمن خالف الله. وكان نقشُ خاتمه: الله ثقة عبد الله وبه يؤمن.
  ولما دخل عليه الطبيب وهو في مرض الموت قال:
أنظر إلى ضعف الحِراك وذله بين السكون
ينبيك أن بيانه ... هذا مقدمة المنون
ولما وقع في النزع كان آخر كلامه: إليك يا رب لا إلى النار.

 
log analyzer